ﰡ
قال الله تعالى: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (١٤) وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٥)
المختار عند أهل التأويل أنّ قوله تعالى: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إلى آخر الآيتين كلام مستأنف من الله تعالى، جاء معترضا بين وصايا لقمان لابنه، ولهذا الاعتراض من البلاغة أحسن موقع، ذلك لأنّ الفائدة فيه توكيد ما تضمّنته أولى وصايا لقمان، وهو النهي عن الشرك، وتقرير أنّه ظلم عظيم، فإنه قيل: حقّا إنّ الشرك لمنهي عنه، وإنّه لظلم عظيم مهما كانت أسبابه، ومهما كان الحامل عليه، فمع أننا وصّينا الإنسان بوالديه أن يبرّهما، ويحسن إليهما، فقد نهيناه عن إطاعتهما في الشرك لو فرض أنهما طلباه منه بإلحاح وجهد.
حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ هذا اعتراض أيضا بين قوله تعالى: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ وقوله تعالى: أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ لبيان العلة في الوصية، أو في وجوب امتثالها. وقوله تعالى: وَهْناً عَلى وَهْنٍ حال من فاعل حَمَلَتْهُ على التأويل بالمشتق، أي حملته أمه حال كونها ذات وهن على وهن، أي ذات ضعف على ضعف متتابع متزايد من حين الحمل إلى الوضع.
وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ الفصال الفطام، أي وفطامه يكون في انقضاء عامين، أي في أوّل زمان انقضائهما.
استدل العلماء غير أبي حنيفة بقوله تعالى: وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ على أنّ مدة الرضاع الذي يتعلق به التحريم عامان، ومثل هذه الآية في ذلك قوله في سورة البقرة: وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ [البقرة: ٢٣٣]. وعلم [من] هذه [الآية] فائدة [فقد] استنبط علي وابن عباس وكثير غيرهما من قوله تعالى في سورة الأحقاف: وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً [الأحقاف: ١٥] أنّ أقل مدة الحمل ستة أشهر.
روي أنّ عثمان أمر برجم امرأة قد ولدت لستة أشهر، فقال له علي كرّم الله وجهه: قال الله تعالى: وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً وقال: وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ.
وذهب أبو حنيفة رحمه الله إلى أن مدة الرضاع المحرّم ثلاثون شهرا «٢». لقوله تعالى: وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً وسنبينه إن شاء الله. ثم إنه رحمه الله يحمل الآية التي معنا على الكثير الغالب في الفطام، إذ إنه لا يتجاوز به في العادة عامين، ويقول في آية البقرة إنها لبيان المدة التي تستحق فيها المطلقة أجرا على الإرضاع، إذ إنها لا تستحق أجرا فيما وراء العامين، وذلك لا ينفي أن يكون ما بعد العامين إلى تمام الثلاثين شهرا من مدة الرضاع المحرّم.
وللحنفية في وجه الدلالة من قوله تعالى: وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً على مذهب الإمام طريقتان:
الأولى: أنّه ذكر في الآية أمران متعاطفان أعقبا ببيان مدتهما، فتكون هذه المدة لكلّ من الأمرين استقلالا على ما يشهد به كلام الفقهاء في مثل قول المقرّ: عليّ لكلّ من فلان وفلان مئة إلى سنة أنّ السنة أجل كلّ من الدينين، فتكون الثلاثون شهرا مدة كل من الحمل والرضاع، غير أنّه قد ثبت في الحمل ما أوجب نقصه من الثلاثين شهرا، وهو ما روي عن عائشة رضي الله عنها أنّ الولد لا يبقى في بطن أمه أكثر من سنتين، ولو بقدر فلكة مغزل، ومثل هذا لا يقال بالرأي، فله حكم الحديث المرفوع، وإذا كان الأمر كذلك بقيت مدة الفصال على ظاهرها.
والطريقة الثانية: في معنى قوله تعالى: وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً هي أن ليس المراد بالحمل هنا حمل الجنين في البطن، بل حمل الولد بعد الولادة في مدة الرضاع، وحينئذ تكون المدة المضروبة في الآية إنما هي لشيء واحد، هو ذلك الحمل الذي ينتهي بالفصال.
وأنت تعلم أن العلماء ومنهم أبو حنيفة متفقون فيما حكى الجصاص على أنّ أقل مدة الحمل ستة أشهر، وأنهم استنبطوا ذلك من قوله تعالى: وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً وقوله تعالى: وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ.
فتأويل الحنفية آية الأحقاف وحملهم لها على الوجهين المتقدمين ينافي ما اتفق عليه الفقهاء جميعا ويلزمهم حينئذ أحد أمرين: إما أن الإمام لم يوافق الجماعة في أنّ أقل
(٢) الهداية شرح بداية المبتدي للإمام المرغيناني (١- ٢/ ٢٤٣).
أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ أَنِ هنا على ما اختاره الزمخشري «١» وغيره تفسيرية، فما بعدها بيان لفعل التوصية، إذ هو متضمّن معنى القول. أي قلنا له: اشكر لي ولوالديك، وإنما وسّط الأمر بشكر الله تعالى مع أنّ الوصية في الآية مخصوصة بالوالدين، لإفادة أنّ لا يقع شكر الوالدين موقعه إلا بعد الشكر لله.
فشكر الله تعالى حسن رعاية النّعم التي أنعم بها على الإنسان، وصرفها فيما خلقت له بالطاعة، وإخلاص العبادة لله، وفعل ما يرضيه. وشكر الوالدين إطاعتهما، وبرهما، والقيام بكل ما يرضيهما، إلا أنّ يكون فيه معصية لله.
وعن سفيان بن عيينة: من صلّى الصلوات الخمس فقد شكر الله، ومن دعا لوالديه في أدبارها فقد شكرهما. ولعل هذا بيان لبعض أفراد الشكر إِلَيَّ الْمَصِيرُ أي إنّ مرجع الناس جميعا في الآخرة إلى الله وحده، فهو الذي يحاسب العباد، ويجازيهم على ما قدّموا من أعمال.
وهذا ظاهر في التهديد والتخويف من عاقبة المخالفة والعقوق والعصيان، كما هو وعد بالجزاء الحسن على امتثال أمر الله وطاعته وبر الوالدين وصلتهما.
وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما الجهاد والمجاهدة بذل الجهد، واستفراغ الوسع للوصول إلى الغرض. وهو هنا الإشراك بالله. وأراد سبحانه بنفي العلم نفي الشريك، أي لتشرك بي ما ليس بشيء، يريد الأصنام، كقوله سبحانه في شأنها ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ [العنكبوت: ٤٢].
وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً قيّد الصحبة بأنها في الدنيا. مع أنّ ذلك معروف، إذ الدنيا هي دار التكليف، لتهوين أمر الصحبة، والإشارة إلى أنّها في أيام قلائل، سريعة الانقضاء، فلا يضرّ تحمل مشقتها، لقلّة أيامها، ووشك انصرامها.
و (المعروف) هنا ما يعرفه الشرع ويرتضيه، وما يقضي به الكرم والمروءة في إطعامهما وكسوتهما، وعدم جفائهما وانتهارهما، وعيادتهما إذا مرضا، ومواراتهما إذا ماتا، إلى ما هو معروف من خصال البر بهما وصلتهما.
أبان قوله تعالى: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إلى آخر الآيتين أنّ أمر الله بالإحسان إلى الوالدين عامّ في الوالدين المسلمين والكافرين، وأن طاعة الوالدين على أي دين كانا واجبة، إلّا إذا أمرا بمعصية، فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. وأنّ طلب
ودلّ قوله تعالى: وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً على أنّ الولد لا يستحق القود على أحد والديه، وأنّه لا يحد له إذا قذفه، ولا يحبس له بدين عليه، وأن على الولد نفقة كلّ منهما إذا احتاجا إليه، إذ كان جميع ذلك من الصحبة بالمعروف، وفعل ضده ينافي مصاحبتهما بالمعروف.
وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ أي اتبع سبيل من رجع إليّ بالتوحيد والإخلاص بالطاعة، لا سبيل والديك اللذين يأمرانك بالشرك.
أخرج الواحدي «١» عن عطاء عن ابن عباس أنه قال: يريد بمن أناب أبا بكر رضي الله عنه. فإنّ قوله تعالى: وَإِنْ جاهَداكَ إلخ نزل في سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه. وإسلام سعد كان بسبب إسلام أبي بكر رضي الله عنه. وذلك كما روي عن ابن عباس أنه حين أسلم أبو بكر رآه سعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف، وسعيد بن زيد، وعثمان، وطلحة، والزبير، فقالوا لأبي بكر: آمنت وصدّقت محمدا صلّى الله عليه وسلّم؟ فقال أبو بكر: نعم، فأتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فآمنوا وصدّقوا، فأنزل الله تعالى يقول لسعد: وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ يعني أبا بكر رضي الله عنه.
وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج أنه كان يقول: من أناب هو محمد صلّى الله عليه وسلّم، لكنّ جمهور المفسرين على أنّ المراد العموم، كما هو ظاهر اسم الموصول، ولذلك قالوا:
إنّ قوله تعالى: وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ يدل على صحة إجماع المسلمين، وأنّه حجة لأمر الله تعالى إيانا باتباعهم. وهو مثل قوله تعالى: وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً [النساء: ١١٥].
ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي إليّ مرجع من آمن منكم، ومن أشرك، ومن برّ، ومن عقّ، فأنبئكم عند رجوعكم بما كنتم تعملون بأن أجازي كلّا منكم بما صدر عنه من الخير والشر.
والجملة مقرّرة لما قبلها، ومؤكدة لوجوب الإحسان إلى الوالدين وبرهما وطاعتهما فيما يأمران به، ما دام ليس فيه معصية لله تعالى، فإذا أمرا بمعصية فلا طاعة لهما، لأنّه
«لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق» «٢».
(٢) سبق تخريجه.