تفسير سورة سبأ

تفسير السمعاني
تفسير سورة سورة سبأ من كتاب تفسير السمعاني المعروف بـتفسير السمعاني .
لمؤلفه أبو المظفر السمعاني . المتوفي سنة 489 هـ
تفسير سورة سبأ وهي مكية.

﴿الْحَمد لله الَّذِي لَهُ مَا فِي السموت وَمَا فِي الأَرْض﴾ أَي: لَهُ ملك السَّمَوَات وَالْأَرْض. وَيُقَال: خلق مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْض.
وَقَوله: ﴿وَله الْحَمد فِي الْآخِرَة﴾ فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن مَعْنَاهُ لَهُ الْحَمد فِي الأولى وَالْآخِرَة على مَا قَالَ فِي مَوضِع آخر. وَفِي الأولى وَالْآخِرَة وَجْهَان: أَحدهمَا: أَنَّهُمَا الدُّنْيَا وَالْآخِرَة، وَالْآخر: أَنَّهُمَا السَّمَوَات وَالْأَرْض.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن قَوْله: ﴿وَله الْحَمد فِي الْآخِرَة﴾ وَهُوَ مَا جَاءَ من ذكر الْحَمد عَن أهل الْجنَّة، وَهُوَ فِي قَوْله تَعَالَى: ﴿وَآخر دَعوَاهُم أَن الْحَمد لله رب الْعَالمين﴾، وَفِي قَوْله: ﴿الْحَمد لله الَّذِي أذهب عَنَّا الْحزن﴾، وَفِي قَوْله: ﴿الْحَمد لله الَّذِي صدقنا وعده﴾.
وَقَوله: ﴿وَهُوَ الْحَكِيم الْخَبِير﴾ أَي: الْحَكِيم فِي ملكه، الْخَبِير بخلقه.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿يعلم مَا يلج فِي الأَرْض﴾ أَي: يدْخل فِيهَا من الْمَطَر.
وَقَوله: ﴿وَمَا يخرج مِنْهَا﴾ أَي: من الزَّرْع، وَيُقَال: إِن المُرَاد مِنْهُ الْأَمْوَات يدْخلُونَ إِذا قبروا، وَيخرجُونَ إِذا حشروا.
وَقَوله: ﴿وَمَا ينزل من السَّمَاء﴾ أَي: من الْمَطَر وَالْمَلَائِكَة وَالْأَحْكَام والأقضية.
وَقَوله: ﴿وَمَا يعرج فِيهَا﴾ أَي: يصعد إِلَيْهَا من الْمَلَائِكَة والأعمال والأدعية
315
﴿فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيم الغفور (٢) وَقَالَ الَّذين كفرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَة قل بلَى وربي لتأتينكم عَالم الْغَيْب لَا يعزب عَنهُ مِثْقَال ذرة فِي السَّمَوَات وَلَا فِي الأَرْض وَلَا أَصْغَر من ذَلِك وَلَا أكبر إِلَّا فِي كتاب مُبين (٣) ليجزي الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات أُولَئِكَ﴾ المقبولة.
وَقَوله: ﴿وَهُوَ الرَّحِيم الغفور﴾ قد بَينا.
316
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَقَالَ الَّذين كفرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَة﴾ قَالُوا هَذَا تَكْذِيبًا بِالْبَعْثِ.
وَقَوله: ﴿قل بلَى وربي لتأتينكم عَالم الْغَيْب﴾ فِيهِ تَقْدِيم وَتَأْخِير، وَمَعْنَاهُ: قل بلَى وربي عَالم الْغَيْب لتأتينكم السَّاعَة، وَقَرَأَ حَمْزَة: " علام الْغَيْب ".
وَقَوله: ﴿لَا يعزب عَنهُ﴾ أَي: لَا يغيب عَنهُ، وَقَرَأَ يحيى بن وثاب: " لَا يغرب عَنهُ " بالغين الْمُعْجَمَة وَالرَّاء.
وَقَوله: ﴿مِثْقَال ذرة فِي السَّمَوَات وَلَا فِي وَالْأَرْض﴾ أَي: وزن ذرة ﴿وَلَا أَصْغَر من ذَلِك وَلَا أكبر﴾ أَي: أَصْغَر من الذّرة إِلَى أَن لَا يُحِيط بِهِ الْعقل، وأكبر إِلَى أَلا يُحِيط بِهِ الْعقل، وَالْمعْنَى أَن كل ذَلِك فِي علمه.
وَقَوله: ﴿إِلَّا فِي كتاب مُبين﴾ أَي: بَين.
قَوْله تَعَالَى: ﴿ليجزي الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات﴾ أَي: ليثيب الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات.
وَقَوله: ﴿أُولَئِكَ لَهُم مغْفرَة ورزق كريم﴾ أَي: الْعَيْش الهنيء.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَالَّذين سعوا فِي آيَاتنَا معاجزين﴾ مَعْنَاهُ: اضْطَرَبُوا وَعمِلُوا فِي التَّكْذِيب بِآيَاتِنَا.
وَقَوله: ﴿معاجزين﴾ أَي: مشاقين، وَيُقَال: مسابقين، وَيُقَال: فائتين، وَقُرِئَ: " معجزين " أَي: مثبطين، وَقيل: ظانين أَنا نعجز عَنْهُم، فَيكون معنى معجزين أَنهم نسبوا الْعَجز إِلَيْنَا.
316
﴿لَهُم مغْفرَة ورزق كريم (٤) وَالَّذين سعوا فِي آيَاتنَا معاجزين أُولَئِكَ لَهُم عَذَاب من رجز أَلِيم (٥) وَيرى الَّذين أُوتُوا الْعلم الَّذِي أنزل إِلَيْك من رَبك هُوَ الْحق وَيهْدِي إِلَى صِرَاط الْعَزِيز الحميد (٦) وَقَالَ الَّذين كفرُوا هَل ندلكم على رجل ينبئكم إِذا مزقتم كل ممزق إِنَّكُم لفي خلق جَدِيد (٧) أفترى على الله كذبا أم بِهِ جنَّة بل الَّذين﴾
وَقَوله: ﴿أُولَئِكَ لَهُم عَذَاب من رجز أَلِيم﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
317
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَيرى الَّذين أُوتُوا الْعلم﴾ قَالَ بَعضهم: هَذَا فِي مؤمني أهل الْكتاب مثل عبد الله بن سَلام وَغَيره، وَالصَّحِيح أَن الْآيَة فِي الَّذين آمنُوا بِالنَّبِيِّ من أهل مَكَّة وَغَيرهم، وَهُوَ بِمَكَّة؛ لِأَن السُّورَة مَكِّيَّة، وَعبد الله بن سَلام وأشباهه إِنَّمَا آمنُوا بِالْمَدِينَةِ.
وَقَوله: ﴿الَّذِي أنزل إِلَيْك من رَبك هُوَ الْحق﴾ يَعْنِي: أَنه من الله تَعَالَى.
وَقَوله: ﴿وَيهْدِي إِلَى صِرَاط الْعَزِيز الحميد﴾ يَعْنِي: أَن الْقُرْآن الَّذِي أنزلهُ الله يهدي إِلَى صِرَاط الْعَزِيز الحميد، وَهُوَ الله تَعَالَى.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَقَالَ الَّذين كفرُوا هَل ندلكم على رجل ينبئكم﴾ أَي: يُخْبِركُمْ.
وَقَوله: ﴿إِذا مزقتم كل ممزق﴾ أَي: إِذا فرقتم كل تَفْرِيق، وقطعتم كل تقطيع، وَالْمعْنَى: إِذا أكلْتُم الأَرْض، وصرتم رفاقا وترابا ينبئكم مُحَمَّد إِنَّكُم لفي خلق جَدِيد، قَالُوا ذَلِك على طَرِيق الْجحْد والتكذيب.
وَقَوله: ﴿أفترى على الله كذبا﴾ وَقُرِئَ بِنصب الْألف وَكسرهَا، أما من قَرَأَ بِالْكَسْرِ فَهُوَ رَاجع إِلَى الْحِكَايَة عَن الْكفَّار، كَأَنَّهُمْ قَالُوا: افترى مُحَمَّد على الله كذبا.
وَقَوله: ﴿أم بِهِ جنَّة﴾ مَعْنَاهُ: أَو بِهِ جُنُون لَا يدْرِي مَا يَقُول.
وَأما من قَرَأَ بِالنّصب فَفِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا مَعْنَاهُ: أفترى على الله كذبا يَعْنِي: لم يفتر، وَيكون ابْتِدَاء كَلَام من الله تَعَالَى. قَالَ الشَّاعِر:
317
﴿لَا يُؤمنُونَ بِالآخِرَة فِي الْعَذَاب والضلال الْبعيد (٨) أفلم يرَوا إِلَى مَا بَين أَيْديهم وَمَا خَلفهم من السَّمَاء وَالْأَرْض إِن نَشأ نخسف بهم الأَرْض أَو نسقط عَلَيْهِم كسفا من السَّمَاء إِن فِي ذَلِك لآيَة لكل عبد منيب (٩) وَلَقَد آتَيْنَا دَاوُود منا فضلا يَا جبال أوبي﴾
(استحدث الْقلب من أشياعهم خَبرا أم رَاجع الْقلب من أطرابهم طرب)
وَمَعْنَاهُ: استحدث. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن معنى قَوْله: ﴿أفترى على الله كذبا﴾ أَي أفترونه افتراء على الله كذبا.
وَقَوله: ﴿بل الَّذين لَا يُؤمنُونَ بِالآخِرَة فِي الْعَذَاب والضلال الْبعيد﴾ فعلى الْقِرَاءَة الأولى وَهُوَ بِالْكَسْرِ هَذَا ابْتِدَاء كَلَام من الله تَعَالَى ردا عَلَيْهِم، وعَلى الْقِرَاءَة الثَّانِيَة هُوَ مسوق على مَا تقدم.
وَقَوله: ﴿فِي الْعَذَاب والضلال الْبعيد﴾ أَي: الشَّقَاء الطَّوِيل؛ ذكره السّديّ، وَقَالَ: فِي الْخَطَأ الْبعيد من الْحق.
318
قَوْله تَعَالَى: ﴿أفلم يرَوا إِلَى مَا بَين أَيْديهم وَمَا خَلفهم من السَّمَاء وَالْأَرْض﴾ قَالَ أهل التَّفْسِير: إِنَّمَا ذكر هَذَا؛ لِأَن الْإِنْسَان إِذا خرج من دَاره لَا يرى إِلَّا السَّمَاء وَالْأَرْض وَمَا فيهمَا. وَيُقَال: إِنَّمَا قَالَ هَذَا؛ لِأَن السَّمَاء وَالْأَرْض محيطتان بالخلق، فَكَأَن أَحدهمَا بَين أَيْديهم، وَالْأُخْرَى خَلفهم بِمَعْنى الْإِحَاطَة.
وَقَوله: ﴿إِن نَشأ نخسف بهم الأَرْض﴾ أَي: يغيبهم فِي الأَرْض.
وَقَوله: ﴿أَو نسقط عَلَيْهِم كسفا من السَّمَاء﴾ أَي: جانبا من السَّمَاء. وَقيل: قِطْعَة من السَّمَاء.
وَقَوله: ﴿إِن فِي ذَلِك لآيَة لكل عبد منيب﴾ أَي: رَاجع إِلَى الله تَعَالَى بِقَلْبِه. وَقيل: منيب: أَي: مُجيب.
قَالَ الشَّاعِر:
318
﴿مَعَه وَالطير وألنا لَهُ الْحَدِيد (١٠) أَن اعْمَلْ سابغات وَقدر فِي السرد وَاعْمَلُوا صَالحا﴾
319
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلَقَد آتَيْنَا دَاوُد منا فضلا﴾ اخْتلف القَوْل فِي الْفضل الَّذِي أُوتِيَ دَاوُد؛ فَقَالَ بَعضهم: هُوَ النُّبُوَّة. وَقَالَ بَعضهم: هُوَ الْملك. وَيُقَال: الْقَضَاء بِالْعَدْلِ. وَقيل: حسن الصَّوْت. وَقيل: تليين الْحَدِيد لَهُ، وَجَمِيع مَا أعطي وَخص بِهِ.
وَقَوله: ﴿يَا جبال أوبي مَعَه﴾ أَكثر أهل التَّفْسِير على أَن مَعْنَاهُ: سبحي مَعَه؛ وَهُوَ عَن ابْن عَبَّاس وَغَيره، وَيُقَال: رَجْعِيّ مَعَه.
وَقَرَأَ الْحسن: " أوبي مَعَه " بِضَم الْألف وَسُكُون الْوَاو، وَهُوَ فِي معنى الأول.
وَفِي بعض التفاسير: أَن دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ إِذا لحقه فتور أسمعهُ الله تَعَالَى تَسْبِيح الْجبَال منشطا لَهُ.
وَقَوله: ﴿وَالطير﴾ أَي: وأمرنا الطير أَن تسبح مَعَه.
وَقَوله: ﴿وألنا لَهُ الْحَدِيد﴾ قَالَ قَتَادَة: كَأَن الْحَدِيد جعل لَهُ كالعجين، فَيعْمل الدرْع من غير نَار وَلَا مطرقة.
وَقَوله: ﴿أَن اعْمَلْ سابغات﴾ أَي: الدروع الكوامل. وَيُقَال: الطوَال الَّتِي تسحب فِي الأَرْض.
قَالَ الشَّاعِر:
(أناب إِلَى قولي فَأَصْبَحت مرْصدًا لَهُ بالمكافأة المنيبة وَالشُّكْر)
(وَأَكْثَرهم دروعا سابغات وأمضاهم إِذا طعنوا سِنَانًا)
وَقَوله: ﴿وَقدر فِي السرد﴾ أَي: عدل فِي السرد، وَمَعْنَاهُ: قدر المسامير فِي حلق الدروع حَتَّى يكون بِمِقْدَار لَا يغلظ المسمار ويضيق الْخلق فتفصم الْحلقَة، وَلَا توسع الْحلقَة وتدقق المسمار فيسلس ويقلق وَهَذَا قَول مُجَاهِد، وَقَالَ: قدر فِي السرد أَي: احكم نسج الدرْع. وَقَالَ قَتَادَة: السرد: المسامير فِي الْحلق. وَهُوَ قريب من قَول مُجَاهِد، وأنشدوا:
(أَجَاد المسدي سردها وأذا لَهَا)
319
﴿إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير (١١) ولسليمان الرّيح غدوها شهر ورواحها شهر وأسلنا لَهُ عين الْقطر وَمن الْجِنّ من يعْمل بَين يَدَيْهِ بِإِذن ربه وَمن يزغ مِنْهُم عَن أمرنَا نذقه من عَذَاب﴾
يَقُول: وسعهَا وأجاد حلقها يُقَال: درع مسرودة إِذا كَانَت مسمورة الْحلق، وَيُقَال: قدر فِي السرد أَي: اجْعَلْهُ على الْقَصْد وَقدر الْحَاجة.
وَقَوله: ﴿وَاعْمَلُوا صَالحا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
وَفِي الْقِصَّة: أَن دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ يعْمل كل يَوْم درعا، ويبيعه بِسِتَّة آلَاف دِرْهَم، فينفق أَلفَيْنِ مِنْهَا على نَفسه وَعِيَاله، وَيتَصَدَّق بأَرْبعَة آلَاف على فُقَرَاء بني إِسْرَائِيل. وَفِي بعض التفاسير: أَنه عمل ألف درع.
320
قَوْله تَعَالَى: ﴿ولسليمان الرّيح غدوها شهر﴾ أَي: وسخرنا لِسُلَيْمَان الرّيح.
وَقَوله: ﴿غدوها شهر ورواحها شهر﴾ أَي: مسيرَة غدوها شهر، ومسيرة رواحها شهر، وَمَعْنَاهُ: أَنه كَانَ يسير مسيرَة شَهْرَيْن فِي يَوْم وَاحِد. وَفِي الْقِصَّة: أَنه كَانَ يسير من بَيت الْمُقَدّس إِلَى اصطخر مسيرَة شهر للراكب المسرع غدْوَة، ويقيل بهَا ثمَّ يروح مسيرَة شهر إِلَى بابل مسيرَة شهر للركب المسرع. وَقيل: كَانَ يتغدى بِالريِّ، ويتعشى بسمرقند. وَقيل: كَانَ يتغدى بِصَنْعَاء، ويتعشى بِبَابِل وَهُوَ الْعرَاق وَالله أعلم.
وَفِي التَّفْسِير: أَن الرّيح كَانَت تحمله وَجُنُوده وَلَا تثير تُرَابا وَلَا تقلب ورقة على الأَرْض، وَلَا تؤذي طائرا فِي السَّمَاء.
وَقَوله: ﴿وأسلنا لَهُ عين الْقطر﴾ أى: أسلنا لَهُ عين النّحاس.
وَفِي التَّفْسِير: أَن الله تَعَالَى أذاب لَهُ النّحاس، وَجعل يسيل ثَلَاثَة أَيَّام من كل شهر مثل المَاء.
وَقَوله: ﴿وَمن الْجِنّ من يعْمل بَين يَدَيْهِ بِإِذن ربه﴾ أَي: بِأَمْر ربه.
وَقَوله: ﴿وَمن يزغ مِنْهُم عَن أمرنَا﴾ أَي: يعدل مِنْهُم عَن أمرنَا فَلَا يعْمل لِسُلَيْمَان.
وَقَوله: ﴿نذقه من عَذَاب السعير﴾ أَي: فِي الْآخِرَة، هَذَا أحد الْقَوْلَيْنِ، وَالْقَوْل
320
﴿السعير (١٢) يعْملُونَ لَهُ مَا يَشَاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور﴾ الآخر: أَنه كَانَ (يكون) عِنْد سُلَيْمَان ملك قَائِم بِيَدِهِ سَوط من نَار، فَإِذا عصى أحد من الشَّيَاطِين ضربه فيحرقه، فَهُوَ معنى قَوْله: ﴿نذقه من عَذَاب السعير﴾.
321
قَوْله تَعَالَى: ﴿يعْملُونَ لَهُ مَا يَشَاء من محاريب﴾ أَي: الْمَسَاجِد، وَيُقَال: الْأَبْنِيَة المرتفعة. وَفِي الْقِصَّة: أَنه أَمرهم بِبِنَاء الْحُصُون بالصخر، فبنوا بِالْيمن حصونا كَثِيرَة عَجِيبَة، وَهِي صرواح ومرواح وفلتون وهندة وهنيدة وغمدان وَغير ذَلِك.
وَقَوله: ﴿وتماثيل﴾ أَي: الصُّور. فَإِن قَالَ قَائِل: أَلَيْسَ أَن عمل الصُّور مَكْرُوه؟ قُلْنَا: هُوَ فِي هَذِه الشَّرِيعَة، وَيحْتَمل أَنَّهَا كَانَت مُبَاحَة فِي شَرِيعَته، وَقد كَانَ عِيسَى يصور من الطين وينفخ فِيهِ فَيَجْعَلهُ الله طيرا. وَاخْتلف القَوْل فِي الصُّور الَّتِي اتخذتها الشَّيَاطِين؛ فأحد الْقَوْلَيْنِ: أَنَّهَا صُورَة السبَاع والطيور من العقبان والنسور، وَمَا أشبه ذَلِك.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنه أَمرهم باتخاذ صُورَة الْأَنْبِيَاء والزهاد والعباد، حَتَّى إِذا نظرت بَنو إِسْرَائِيل إِلَيْهِم ازدادوا عبَادَة.
وَقَوله: ﴿وجفان كالجواب﴾ أَي: كالحياض، والجفان جمع جَفْنَة. وَفِي الْقِصَّة: أَن كل جَفْنَة كَانَ يقْعد عَلَيْهَا ألف إِنْسَان. وَأنْشد حسان فِي الْجَفْنَة شعرًا:
(لنا الجفنات الغر يلمعن بالضحى وأسيافنا من نجدة تقطر الدما)
وأنشدوا فِي الْجَابِيَة:
(كجابية الشَّيْخ الْعِرَاقِيّ تفهق)
أَي: تمتلئ.
وَحكى عُثْمَان بن عَطاء عَن أَبِيه أَنه رأى مرّة من هَذِه القصاع الصغار فَقَالَ: وَالله لقد ذهبت الْبركَة من كل شَيْء، وَقَرَأَ قَوْله: ﴿وجفان كالجواب﴾.
وَفِي الْقِصَّة: أَنه كَانَ لِسُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام سماط يسع أَرْبَعمِائَة ألف إِنْسَان،
321
﴿راسيات اعْمَلُوا آل دَاوُود شكرا وَقَلِيل من عبَادي الشكُور (١٣) فَلَمَّا قضينا عَلَيْهِ الْمَوْت مَا دلهم على مَوته إِلَّا دَابَّة الأَرْض تَأْكُل منسأته فَلَمَّا خر تبينت الْجِنّ أَن لَو كَانُوا﴾ وَكَانَ يَأْكُل خبز الشّعير، وَيطْعم أَهله وحاشيته خبز الخشكار وَيطْعم الْفُقَرَاء الدَّرْمَك، وَهُوَ الْخبز النقي.
وَقَوله: ﴿وقدور راسيات﴾ أَي: ثابتات مرتفعات، وَمِنْه الْجبَال الرواسِي. وَفِي الْقِصَّة، أَنه كَانَ يصعد إِلَيْهَا بالسلاليم.
وَقَوله: ﴿اعْمَلُوا آل دَاوُد شكرا﴾ قَالَ: تقدر اشكروا الله شكرا، وَيُقَال: إِن الشُّكْر هُوَ تقوى الله وَالْعَمَل بِطَاعَتِهِ. وَقيل: إِن آل دَاوُد هُوَ دَاوُد نَفسه، وَيُقَال: دَاوُد وَسليمَان وَأهل بَيته. وَفِي الْقِصَّة: أَنه لما نزل هَذَا على دَاوُد قَالَ: وَالله لَا يزَال منا بِاللَّيْلِ وَالنَّهَار قَائِم وصائم، فَكَانَ لَا يَأْتِي يَوْم إِلَّا وَمن آل دَاوُد فِيهِ صَائِم، وَلَا تَأتي سَاعَة من اللَّيْل إِلَّا وَمن آل دَاوُد فِيهَا قَائِم. وروى أَنه ناوب سَاعَات اللَّيْل وَكَانَ يقوم مَا شَاءَ الله، فَإِذا أَرَادَ أَن يرقد أيقظ بعض أَهله.
وروى أَنه قَالَ لِسُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام يَا بني، اكْفِنِي أَمر النَّهَار يَعْنِي: فِي الْعِبَادَة أكفك أَمر اللَّيْل، فَقَالَ سُلَيْمَان: لَا أقدر، فَقَالَ: اكْفِنِي أول النَّهَار وأكفك الْبَاقِي. وروى أَنه قَالَ: يَا رب، كَيفَ أشكرك وشكري لَك نعْمَة مِنْك عَليّ؟ فَقَالَ: الْآن شكرتني.
وَقَوله: ﴿وَقَلِيل من عبَادي الشكُور﴾ ظَاهر الْمَعْنى. وَالْفرق بَين الشاكر والشكور: أَن الشكُور هُوَ الَّذِي يتَكَرَّر مِنْهُ الشُّكْر، والشاكر الَّذِي يشْكر مرّة. وَقيل: هما وَاحِد.
322
قَوْله تَعَالَى: ﴿قَلما قضينا عَلَيْهِ الْمَوْت﴾ أَي: على سُلَيْمَان الْمَوْت.
وَقَوله: ﴿مَا دلهم على مَوته إِلَّا دَابَّة الأَرْض﴾ قَالَ بعض الْمُفَسّرين: كَانَت الْجِنّ تعْمل لِسُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام فِي بِنَاء مَسْجِد بَيت الْمُقَدّس؛ فَقرب موت سُلَيْمَان وَقد بَقِي من الْعَمَل بَقِيَّة، فَقبض الله روح سُلَيْمَان وَهُوَ متكئ على عَصا، وَكَانُوا يظنون أَنه حَيّ، ويجتهدون فِي الْعَمَل، فَأكلت الأرضة الْعَصَا فَخر سُلَيْمَان عَلَيْهِ
322
السَّلَام مَيتا بعد حول، وَقد فرغوا من الْعَمَل؛ فَلَمَّا عرفُوا مَوته تفَرقُوا بعد أَن بقوا فِي الْعَمَل سنة بعد مَوته. قَالَ ابْن عَبَّاس: فَشَكَرت الْجِنّ ذَلِك للأرضة، فهم يأتونه بالطين وَالْمَاء فِي جَوف الْخشب. وَذكر بَعضهم: أَن سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ إِذا رأى شَجَرَة نابتة سَأَلَهَا: مَا اسْمك؟ فتخبره إِن كَانَت للغرس غرست، وَإِن كَانَت للدواء كتب اسْمهَا، فصلى مرّة فَرَأى شَجَرَة نَبتَت فِي مصلاة، فَقَالَ لَهَا: مَا اسْمك؟ قَالَت: الخروب، فَقَالَ: لم نبت؟ قَالَت: لخراب هَذِه الأَرْض، فَعلم أَن مَوته قد قرب، فَسَأَلَ الله تَعَالَى أَن يعمي على الْجِنّ مَوته. فَقَالَ أهل التَّفْسِير: وَكَانَت الْجِنّ تزْعم أَنهم يعلمُونَ الْغَيْب، فَأمر الله تَعَالَى سُلَيْمَان أَن يتَّخذ عَصا ويتوكأ عَلَيْهَا. وَقيل: اتخذها من تِلْكَ الشَّجَرَة فَقبض الله تَعَالَى روحه وَهُوَ قَائِم متوكئ على الْعَصَا، فَكَانَت الْجِنّ ينظرُونَ إِلَيْهِ ويظنون أَنه حَيّ، ويعملون إِلَى أَن سقط بعد حول. وَأَرَادَ الله تَعَالَى بذلك أَن يعلم الْجِنّ أَنهم لَا يعلمُونَ الْغَيْب، وَقيل: ليعلم الْإِنْس أَن الْجِنّ لَا يعلمُونَ الْغَيْب وَكَانُوا قد شبهوا على الْإِنْس ذَلِك، فَإِن قيل على التَّأْوِيل الأول: كَيفَ يشْتَبه على أحد أَنه يعلم الْغَيْب أَو لَا يعلم الْغَيْب؟ وَإِن خَفِي عَلَيْهِ أَمر غَيره لَا يخفى عَلَيْهِ أَمر نَفسه؟ وَالْجَوَاب: أَن مَرَدَة الْجِنّ كَانُوا صوروا لِضُعَفَاء الْجِنّ أَنهم يعلمُونَ الْغَيْب، وَكَانَ يَقع بعض الاتفاقات، فَكَانُوا يظنون أَنهم يعلمُونَ الْغَيْب لغَلَبَة الْجَهْل، وَعند بَعضهم: أَن عَمَلهم لم يكن فِي بِنَاء مَسْجِد بَيت الْمُقَدّس، فَإِنَّهُ قد كَانَ وَقع الْفَرَاغ عَن فعل ذَلِك بسنين، وَإِنَّمَا كَانُوا يعْملُونَ غير ذَلِك من الْأَعْمَال.
وَقَوله: ﴿تَأْكُل منسأته﴾ أَي: عصاته، والمنسأة: الْعَصَا بلغَة الْحَبَشَة، وَقُرِئَ: " منسأته " بِسُكُون الْهمزَة، وَهِي مَا بَينا.
قَالَ الشَّاعِر:
(إِذا ادببت على المنساة من كبر فقد تبَاعد عَنْك اللَّهْو والغزل)
وَيُقَال كِلَاهُمَا بِالْعَرَبِيَّةِ. وَيُقَال: نسأت الْغنم إِذا زجرتها وسقتها وَيُقَال: نسأ الله فِي أَجلك أَي: أَخّرهُ.
وَقَوله: ﴿فَلَمَّا خر تبينت الْجِنّ﴾ أَي: تبينت الْجِنّ للإنس أَن لَو كَانُوا يعلمُونَ
323
﴿يعلمُونَ الْغَيْب مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَاب المهين (١٤) لقد كَانَ لسبأ فِي مسكنهم آيَة جنتان﴾ الْغَيْب مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَاب المهين أَي: التَّعَب والشقاء الطَّوِيل، ذكره الْأَزْهَرِي على هَذَا التَّقْرِير. وَأما المتقدمون قَالُوا مَعْنَاهُ: تبينت الْإِنْس أَن الْجِنّ لَو كَانُوا يعلمُونَ الْغَيْب مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَاب المهين، وَالْقِرَاءَة هَكَذَا فِي مصحف ابْن مَسْعُود، وَهَكَذَا قَرَأَ ابْن عَبَّاس أَيْضا. والتأويل الثَّالِث: أَن، معنى الْآيَة: ﴿تبينت الْجِنّ﴾ أَي: عرفت الْجِنّ أَن لَو كَانُوا يعلمُونَ الْغَيْب مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَاب المهين. وروى الضَّحَّاك عَن ابْن عَبَّاس فِي رِوَايَة أُخْرَى: أَن سُلَيْمَان لم يكن متوكئا على الْعَصَا، وَإِنَّمَا كَانَ فِي بَيت مغلق وتوفاه الله تَعَالَى، وأكلت الأرضة عتبَة الْبَاب، فَسقط الْبَاب بعد حول، وَظهر للجن مَوته.
وَأشهر الْقَوْلَيْنِ هُوَ الأول، وَفِي الْقِصَّة: أَن سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام لما فرغ من بِنَاء الْمَسْجِد ذبح [اثْنَتَيْ عشرَة] ألف بقرة وَمِائَة وَعشْرين ألف شَاة تقربا إِلَى الله تَعَالَى وأطعمها النَّاس، وَكَانَ بناه بالصخر والقار، وزخرف الْحِيطَان، وزين الْمِحْرَاب بالجواهر واليواقيت، وَعمِلُوا شَيْئا عجيبا، ثمَّ إِنَّه قَامَ على الصَّخْرَة وَقَالَ: اللَّهُمَّ، أَنْت أَعْطَيْتنِي هَذَا السُّلْطَان الْعَظِيم، وسخرت لي مَا سخرت، فأوزعني أَن أشكر نِعْمَتك الَّتِي أَنْعَمت عَليّ، وَلَا تزغ قلبِي بعد إِذْ هديتني وتوفني مُسلما، وألحقني بالصالحين، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسأَلك لمن دخل هَذَا الْمَسْجِد ليُصَلِّي فِيهِ خمس خِصَال: إِن كَانَ مذنبا تغْفر لَهُ ذَنبه، وَإِن كَانَ فَقِيرا أغنيته، وَإِن كَانَ سقيما شفيته، وَإِن كَانَ خَائفًا أمنته، وَأَسْأَلك أَلا تصرف بَصرك عَمَّن دخله حَتَّى يخرج مِنْهُ، إِلَّا من دخله بإلحاد أَو ظلم.
324
قَوْله تَعَالَى: ﴿لقد كَانَ لسبأ﴾ أَكثر أهل التَّفْسِير على أَن سبأ اسْم رجل، ونسبت الْقَبِيلَة إِلَيْهِ، كَمَا أَن تميما اسْم رجل، ونسبت الْقَبِيلَة إِلَيْهِ. وروى فَرْوَة بن (مسيك الغطيفي) أَن رَسُول الله قَالَ: سبأ اسْم رجل ولد عشرَة من الذُّكُور
324
﴿عَن يَمِين وشمال من رزق ربكُم واشكروا لَهُ بَلْدَة طيبَة وَرب غَفُور (١٥) فأعرضوا فَأَرْسَلنَا عَلَيْهِم سيل العرم وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط وأثل﴾ فتيامن مِنْهُم سِتَّة، وتشام أَرْبَعَة، وَأما السِّتَّة الَّذين تيامنوا: فحيمر، وَكِنْدَة، ومذحج، والأزد، والأشعر، وأنمار، وَأما الْأَرْبَعَة الَّذين تشاموا: فعاملة، وغسان، ولخم، وجذام ". وَأما سبأ فَهُوَ ابْن يشخب بن يعرب بن قحطان. وَقد قيل: إِن سبأ اسْم بلد، وَالأَصَح هُوَ الأول.
وَقَوله: ﴿فِي مساكنهم آيَة﴾ وَقُرِئَ: " فِي مسكنهم " وَالْآيَة هِيَ الْعَلامَة، وَمَعْنَاهَا: أَنا جعلنَا لَهُم آيَة تدلهم على أَن النعم الَّتِي لَهُم من الله تَعَالَى.
وَقَوله: ﴿جنتان عَن يَمِين وشمال﴾ فِي الْقِصَّة: أَنه كَانَ لَهُم وَاد يسيل، وعَلى يَمِين الْوَادي جنَّات مصطفة أَي: الْبَسَاتِين وَكَذَلِكَ على يسَار الْوَادي.
وَقَوله: ﴿كلوا من رزق ربكُم﴾ أَي: قُلْنَا لَهُم كلوا من رزق ربكُم.
وَقَوله: ﴿واشكروا لَهُ﴾ أَي: واشكروا الله على نعمه.
وَقَوله: ﴿بَلْدَة طيبَة﴾ أَي: طيبَة الْهَوَاء، عذبة المَاء، كَثِيرَة الْفَوَاكِه، وَذكر ابْن زيد: أَنه لم يكن بهَا بعوض وَلَا بق وَلَا ذُبَاب وَلَا عقرب وَلَا حَيَّة وَلَا شَيْء من أَمْثَال هَذَا، وَكَانَ الرجل الْغَرِيب يدخلهَا وَفِي ثِيَابه الْقمل، فَيَمُوت الْقمل فِي ثِيَابه من صِحَة الْهَوَاء وطيبه.
وَقَوله: ﴿وَرب غَفُور﴾ أَي: وَرب غَفُور للذنوب إِن شكرتم نعمه.
فَإِن قيل: أَي فَائِدَة لتخصيصهم بِهَذَا، وَالله غَفُور لكل الْعباد؟ وَالْجَوَاب عَنهُ: أَن مغْفرَة الرب مَعَ طيب الْبَلدة على تِلْكَ الْغَايَة لم تكن إِلَّا لَهُم.
325
قَوْله تَعَالَى: ﴿فأعرضوا﴾ أَي: فأعرضوا عَن شكر النعم.
وَقَوله: ﴿فَأَرْسَلنَا عَلَيْهِم سيل العرم﴾ اخْتلفُوا فِي العرم على أَرْبَعَة أقاويل: أَولهَا:
325
أَنه اسْم الْوَادي، وَالْآخر: أَنه اسْم المسنأة، وَقد كَانُوا بنوا المسناة بالصخر والقار بَينه وَبَين المَاء، وَجعلُوا على المسناة أبوابا تفتح وتسد، فَإِذا احتاجوا إِلَى المَاء فتحُوا، وَإِذا استغنوا سدوا.
وَذكر النقاش: أَنه كَانَ ذَلِك من عمل بلقيس، وَكَانَت جعلت على المسناة اثْنَي عشرَة مخرجا، يخرج مِنْهَا اثْنَا عشر نَهرا، وَكَانَت المسناة سدا بَين جبلين، والمياه وَرَاء السد تَجْتَمِع من السُّيُول. وَالْقَوْل الثَّالِث: أَن العرم هُوَ السَّيْل الشَّديد أَي: أرسلنَا عَلَيْهِم السَّيْل الشَّديد. وَالْقَوْل الرَّابِع: أَن العرم هُوَ اسْم الجرذ، وَهُوَ الْفَأْرَة، وَقيل: كَانَ اسْم الْخلد، وسلطه الله تَعَالَى على المسناة حَتَّى نقبها، وَدخل المَاء وغرق الْبَلَد والبساتين. قَالَ ابْن الْأَعرَابِي: العرم وَالْبر من أَسمَاء الْفَأْرَة، وَمِنْه قَوْلهم: فلَان لَا يعرف هرا من برا أَي: السنور من الْفَأْرَة، وَذكر أَبُو (الْحُسَيْن) بن فَارس فِي تَفْسِيره: أَن الْقَوْم كَانُوا قد سمعُوا أَن هَلَاك بلدهم بالفأر من كهانهم، فَجَاءُوا بالسنانير وربطوها عِنْد كل جرف (فِي المسناة)، فَجَاءَت فَأْرَة حَمْرَاء كَبِيرَة وساورت السنور وهزمته وَدخلت فِي الجرف، وتغلغلت المسناة حَتَّى نقبتها وخرقتها.
وَقَوله: ﴿وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي﴾ أَي: بَدَّلْنَاهُمْ بجنتيهم اللَّتَيْنِ كَانَتَا ذواتي فَاكِهَة بجنتين ذواتي ﴿أكل خمط﴾ بتنوين اللَّام، وَقُرِئَ: " أكل خمط " بِغَيْر التَّنْوِين على الْإِضَافَة، وَالْقِرَاءَة على الْإِضَافَة أظهر القرائتين فِي الْمَعْنى لِأَن الخمط اسْم لشجر لَهُ شوك. قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: كل شجر لَهُ شوك فَهُوَ خمط إِذا لم يكن لَهُ ثَمَر. وَعَن بَعضهم: أَن الخمط شجر لَهُ ثَمَر يُسمى فسوة الضبع، لَا ينْتَفع بِهِ ويتفرك إِذا أدْرك من غير أَن ينفع أحدا، وَالْمَعْرُوف فِي التَّفْسِير أَن ثَمَر الخمط هُوَ البربر، والبربر ثَمَر الْأَرَاك، فالخمط هُوَ الْأَرَاك، فَهُوَ معنى قَوْله: ﴿أكل خمط﴾. وَالْأكل هُوَ الثَّمر.
326
﴿وَشَيْء من سدر قَلِيل (١٦) ذَلِك جريناهم بِمَا كفرُوا وَهل نجازي إِلَّا الكفور (١٧) وَجَعَلنَا بَينهم وَبَين الْقرى الَّتِي باركنا فِيهَا قرى ظَاهِرَة وقدرنا فِيهَا السّير سِيرُوا فِيهَا﴾
وَأما قِرَاءَة التَّنْوِين: قَالَ الْفراء والزجاج: كل نبت لَهُ مرَارَة وعصوفة فَهُوَ خمط، فعلى هَذَا قَوْله: ﴿خمط﴾ صفة الْأكل، وَمَعْنَاهُ: ذواتي ثَمَر على هَذَا الْوَصْف، وَهُوَ المرارة والعفوصة.
وَقَوله: ﴿ [وأثل] وَشَيْء من سدر قَلِيل﴾ السدر: شجر مَعْرُوف، وَهُوَ شجر النبق. وَقيل: إِن هَذَا السدر كَانَ بريا لَا ينْتَفع بِهِ، وَأما السدر الَّذِي ينْتَفع بِهِ لغسل الْيَد وَغَيره، فَهُوَ الَّذِي كُنَّا نَعْرِف فِي الْبَسَاتِين، وَلم يكن لَهُم ذَلِك.
327
وَقَوله: ﴿ذَلِك جزيناهم بِمَا كفرُوا﴾ النِّعْمَة.
وَقَوله: ﴿وَهل نجازي إِلَّا الكفور﴾ يُقَال فِي الْعقُوبَة: نجازي، وَفِي المثوبة: نجزي، يَعْنِي: وَهل نجازى مثل هَذِه المجازاة إِلَّا من كفر النعم؟ وَيُقَال: وَهل نجازى إِلَّا الكفور؟ أى: هَل نحاسب إِلَّا الكفور؟ وَقد ثَبت بِرِوَايَة عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا أَن النَّبِي قَالَ: " من نُوقِشَ الْحساب عذب ". قَالَت عَائِشَة: فَقلت يَا رَسُول الله: أَلَيْسَ قَالَ الله تَعَالَى: ﴿فَأَما من أُوتِيَ كِتَابه بِيَمِينِهِ فَسَوف يُحَاسب حسابا يَسِيرا﴾ فَقَالَ: ذَلِك الْعرض، وَمن نُوقِشَ [الْحساب] عذب ".
فَإِن قيل: قد قَالَ: ﴿بَدَّلْنَاهُمْ بجنتيهم جنتين﴾ وَالْأَرْض الَّتِي فِيهَا أَشجَار الأثل والخمط لَا تسمى جنَّة؟ وَالْجَوَاب عَنهُ: إِنَّمَا سمي ذَلِك على طَرِيق الْمُقَابلَة، وَهُوَ مثل قَوْله تَعَالَى: ﴿فَمن اعْتدى عَلَيْكُم فاعتدوا عَلَيْهِ بِمثل مَا اعْتدى عَلَيْكُم﴾ وَقَوله: ﴿وَجَزَاء سَيِّئَة سَيِّئَة مثلهَا﴾.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَجَعَلنَا بَينهم وَبَين الْقرى الَّتِي باركنا فِيهَا قرى ظَاهِرَة﴾ الْقرى الَّتِي
327
﴿ليَالِي وأياما آمِنين (١٨) فَقَالُوا رَبنَا باعد بَين أسفارنا وظلموا أنفسهم فجعلناهم﴾ باركنا فِيهَا (هِيَ) الشَّام، وَمعنى الْقرى الظَّاهِرَة أَي: الْمُتَّصِلَة، وَقيل: ظَاهِرَة يَعْنِي: [للرائي]، على معنى أَنهم كَانُوا إِذا نزلُوا بقرية رَأَوْا قَرْيَة أُخْرَى.
وَقَوله: ﴿وقدرنا فِيهَا السّير﴾ أَي: السّير أَي: قَدرنَا سيرهم بَين هَذِه الْقرى، وَالْمعْنَى: أَنهم كَانُوا إِذا غدوا يقيلون بقرية، وَإِذا رجعُوا يبيتُونَ بقرية. وَقيل: تَقْدِير السّير أَن سيرهم كَانَ فِي الرواح والغدو على قدر نصف يَوْم، فَكَانُوا إِذا (جازوا) نصف يَوْم وصلوا إِلَى قَرْيَة ذَات مياه وأشجار. قَالَ قَتَادَة: كَانُوا لَا يَحْتَاجُونَ أَن يحملوا زادا. وَقَالَ أَيْضا: كَانَت الْمَرْأَة تضع مكتلها على رَأسهَا، وتمر تَحت الْأَشْجَار فيمتلئ المكتل من الثِّمَار من غير اجتناء.
وَقَوله: ﴿سِيرُوا فِيهَا ليَالِي وأياما آمِنين﴾ أَي: قُلْنَا لَهُم سِيرُوا فِيهَا بالليالي وَالْأَيَّام آمِنين من الْخَوْف والجوع والظمأ، وَمعنى قَوْله: ﴿سِيرُوا﴾ أَي: مكناهم من السّير. وَيُقَال: إِن معنى قَوْله: ﴿سِيرُوا﴾ أَي: يَسِيرُونَ، أَمر بِمَعْنى الْخَبَر، وَمَعْنَاهُ: يَسِيرُونَ فِيهَا ليَالِي وأياما آمِنين، وعَلى مَا ذكرنَا.
328
قَوْله تَعَالَى: ﴿فَقَالُوا رَبنَا باعد بَين أسفارنا﴾ وَقُرِئَ: " بعد بَين أسفارنا " بِغَيْر ألف، وَقَرَأَ يحيى بن يعمر: " رَبنَا باعد بَين أسفارنا " بِنصب الْعين وَالدَّال، فعلى الْقِرَاءَة الْمَعْرُوفَة معنى الْآيَة سُؤال، وعَلى الْقِرَاءَة الشاذة معنى الْآيَة على وَجه الْخَبَر. قَالَ مُجَاهِد: بطروا النِّعْمَة وسأموا الرَّاحَة. وَمثله عَن ابْن عَبَّاس فَقَالُوا: [رَبنَا] بعد بَين الْقرى لنركب الرَّوَاحِل، ونحمل الأزواد فِي الفلوات، وَهَذَا مثل قَول بني إِسْرَائِيل: ﴿وَإِذ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لن نصبر على طَعَام وَاحِد﴾ الْآيَة. وَأما الْقِرَاءَة الشاذة فكأنهم استبعدوا الْقَرِيب على مَا يَفْعَله الجهلة.
وَقَوله: ﴿وظلموا أنفسهم﴾ أَي: بترك الشُّكْر.
328
﴿أَحَادِيث ومزقناهم كل ممزق إِن فِي ذَلِك لآيَات لكل صبار شكور (١٩) وَلَقَد صدق عَلَيْهِم إِبْلِيس ظَنّه فَاتَّبعُوهُ إِلَّا فريقا من الْمُؤمنِينَ (٢٠) وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِم من سُلْطَان إِلَّا﴾
وَقَوله: ﴿فجعلناهم أَحَادِيث ومزقناهم كل ممزق﴾ أَي: أَحَادِيث فِي الْقُرُون الَّتِي تَأتي، وفرقناهم وبددناهم كل مفرق ومبدد. قَالَ الشّعبِيّ: تفَرقُوا فِي الْبِلَاد لما غرقت قراهم وَهَلَكت جناتهم، فَمر الأزد إِلَى عمان، وخزاعة إِلَى تهَامَة، وغسان إِلَى الشَّام، وَآل (خُزَيْمَة) إِلَى الْعرَاق، والأوس والخزرج إِلَى يثرب. وَكَانَ الَّذِي قدم الْمَدِينَة مِنْهُم عَمْرو بن عَامر وَهُوَ جد الْأَوْس والخزرج.
وَفِي بعض التفاسير: أَن قراهم كَانَت [أَربع] آلَاف وَسَبْعمائة قَرْيَة، وَكَانَت مُتَّصِلَة من سبأ إِلَى الشَّام قَرْيَة قَرْيَة. وَعَن بَعضهم فِي معنى قَوْله: ﴿فجعلناهم أَحَادِيث﴾ أَن النَّاس يضْربُونَ بهم الْمثل فِي التمزق والتفرق، وَالْعرب تَقول: صَارَت بَنو فلَان أَيدي سبأ وأيادي سبأ إِذا تفَرقُوا وتبددوا. وَأنْشد الْأَزْهَرِي:
(غيبا نرى النَّاس إِلَيْهِ تنسبا من صادر أَو وَارِد أَيدي سبا)
وَقَوله: ﴿إِن فِي ذَلِك لآيَات لكل صبار شكور﴾ أَي: صبار على الْبلَاء، شكور للنعمة.
329
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلَقَد صدق عَلَيْهِم إِبْلِيس ظَنّه﴾ وَقُرِئَ: " صدق " بِالتَّخْفِيفِ أما بِالتَّشْدِيدِ فَمَعْنَاه: أَنه ظن ظنا وَصدقه، وظنه فِي قَوْله تَعَالَى: ﴿ثمَّ لآتينهم من بَين أَيْديهم وَمن خَلفهم﴾ إِلَى قَوْله: ﴿وَلَا تَجِد أَكْثَرهم شاكرين﴾ وَيُقَال: إِنَّه ظن أَنه إِذا أغواهم اتَّبعُوهُ، وَكَانَ كَذَلِك.
وَفِي التَّفْسِير أَن إِبْلِيس قَالَ: لقد أخرجت آدم من الْجنَّة مَعَ كَثْرَة علمه وأغويته، فَأَنا على ذُريَّته أقدر.
329
﴿لنعلم من يُؤمن بِالآخِرَة مِمَّن هُوَ مِنْهَا فِي شكّ وَرَبك على كل شَيْء حفيظ (٢١) قل ادعوا الَّذين زعمتم من دون الله لَا يملكُونَ مِثْقَال ذرة فِي السَّمَوَات وَلَا فِي الأَرْض وَمَا﴾
وَأما قِرَاءَة التَّخْفِيف فَمَعْنَاه: صدق عَلَيْهِم فِي ظَنّه.
وَقَوله: ﴿فَاتَّبعُوهُ إِلَّا فريقا من الْمُؤمنِينَ﴾ يَعْنِي: إِلَّا كل الْمُؤمنِينَ، هَكَذَا قَالَه أَكثر أهل التَّفْسِير؛ لِأَن الْمُؤمنِينَ لم يتبعوه فِي أصل الدّين، وَقد قَالَ الله تَعَالَى: ﴿إِن عبَادي لَيْسَ لَك عَلَيْهِم سُلْطَان﴾ يَعْنِي: الْمُؤمنِينَ وَعَن بَعضهم: إِلَّا فريقا من الْمُؤمنِينَ: خَواص الْمُؤمنِينَ؛ وهم الَّذين يطيعون الله وَلَا يعصونه.
قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: وَالله إِنَّه لم يسل عَلَيْهِم سَيْفا وَلَا ضَربهمْ بِسَوْط، وَإِنَّمَا وعدهم ومناهم فاغتروا.
330
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِم من سُلْطَان﴾ أَي: من سُلْطَان على الْمُؤمنِينَ.
وَقَوله: ﴿إِلَّا لنعلم﴾ مَعْنَاهُ: لكَي نعلم ﴿من يُؤمن بِالآخِرَة مِمَّن هُوَ مِنْهَا فِي شكّ﴾ أَي: لنعلم الْمُؤمن من الْكَافِر علم وُقُوع، وَقد علم علم الْغَيْب، وَقد بَينا هَذَا من قبل. قَالَ ابْن فَارس: هَذَا على عَادَة كَلَام الْعَرَب مَعَ الجهلة، فَإنَّك لَو قلت: السكين تقطع اللَّحْم، أَو اللَّحْم يقطع السكين، وَقد علم قطعا أَن السكين هُوَ الَّذِي يقطع اللَّحْم، وَلَكِن يخرج الْكَلَام على خطاب الْجَاهِل، وَتَقْرِير الْأَمر لَهُ.
وَقَوله: ﴿وَرَبك على كل شَيْء حفيظ﴾ أَي: رَقِيب.
قَوْله تَعَالَى: ﴿قل ادعوا الَّذين زعمتم من دون الله﴾ أَي: الَّذين زعمتم [أَنهم] آلِهَة من دون الله. وَفِي الْآيَة حذف، والمحذوف ادعوهُمْ ليكشفوا عَنْكُم الضّر الَّذِي نزل بكم، وَذَلِكَ فِي سني الْجُوع، وَكَانَ الله تَعَالَى ضَربهمْ بِالْجُوعِ حَتَّى أكلُوا الميتات يَعْنِي قُرَيْش ثمَّ قَالَ: ﴿لَا يملكُونَ مِثْقَال ذرة﴾ أَي: الْأَصْنَام لَا تملك مِثْقَال ذرة أَي: وزن ذرة من النَّفْع والضر، والذرة هِيَ النملة الْحَمْرَاء.
330
﴿لَهُم فيهمَا من شرك وَمَا لَهُ مِنْهُم من ظهير (٢٢) وَلَا تَنْفَع الشَّفَاعَة عِنْده إِلَّا لمن أذن لَهُ حَتَّى إِذا فزع عَن قُلُوبهم قَالُوا مَاذَا قَالَ ربكُم قَالُوا الْحق وَهُوَ الْعلي الْكَبِير (٢٣) قل﴾
وَقَوله: ﴿فِي السَّمَوَات وَلَا فِي الأَرْض﴾ ظَاهر.
وَقَوله: ﴿وَمَا لَهُم فيهمَا من شرك﴾ أَي: مَا للآلهة الَّتِي تدعون من دون الله شركَة فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض.
وَقَوله: ﴿وَمَا لَهُ مِنْهُم من ظهير﴾ أَي: معِين.
331
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلَا تَنْفَع الشَّفَاعَة عِنْده إِلَّا لمن أذن لَهُ﴾ أَي: أذن الله لَهُ، وَقُرِئَ: " إِلَّا لمن أذن لَهُ " أَي: إِلَّا لمن أذن لَهُ فِي شَفَاعَته.
وَقَوله: ﴿حَتَّى إِذا فزع عَن قُلُوبهم﴾ لَا بُد أَن يكون هَا هُنَا مَحْذُوف؛ لِأَن حَتَّى من ضَرُورَته أَن يتَّصل بِمَا تقدم، وَلم يُوجد شَيْء يتَّصل بِهِ، فَيجوز أَن يكون الْمَحْذُوف إِثْبَات فزع وَالْمَلَائِكَة وخوفهم إِذا قضى الله تَعَالَى بِأَمْر من السَّمَاء إِلَى الأَرْض.
وَقَوله: ﴿فزع عَن قُلُوبهم﴾ أَي: كشف الْفَزع عَن قُلُوبهم.
وَقُرِئَ فِي الشاذ: " فزع عَن قُلُوبهم " أَي: فرغت قُلُوبهم عَن الْخَوْف.
وَقد ثَبت عَن النَّبِي بِرِوَايَة أبي هُرَيْرَة: " أَن الْمَلَائِكَة تسمع صَوت الْوَحْي شبه السلسلة على الصفوان فيصعقون، ويضربون بأجنحتهم خضعانا لله تَعَالَى ".
وَفِي رِوَايَة: " يخرون على جباههم، فَإِذا كشف الْفَزع عَنْهُم ﴿قَالُوا مَاذَا قَالَ ربكُم﴾ " أَي: قَالَ بَعضهم لبَعض: مَاذَا قَالَ ربكُم؟
وَقَوله: ﴿قَالُوا الْحق﴾ أَي: قَالُوا: قَالَ الله تَعَالَى الْحق أَي: الْوَحْي وَذكر السّديّ وَغَيره: أَنه لما كَانَ زمَان الفترة بَين عِيسَى وَمُحَمّد عَلَيْهِمَا الصَّلَاة وَالسَّلَام وَكَانَت بِمِقْدَار سِتّمائَة سنة، فَلم تسمع الْمَلَائِكَة وَحيا فِي هَذِه الْمدَّة، فَلَمَّا بعث مُحَمَّد
331
﴿من يرزقكم من السَّمَوَات وَالْأَرْض قل الله وَإِنَّا أَو إيَّاكُمْ لعلى هدى أَو فِي ضلال مُبين﴾ نزل جِبْرِيل بِالْوَحْي، ففزعوا لذَلِك خوفًا من قيام السَّاعَة، فَلَمَّا كشف الْفَزع عَن قُلُوبهم سَأَلُوا عَمَّا قَضَاهُ الله من أمره، فَذكر لَهُم أَن الله تَعَالَى أوحى إِلَى مُحَمَّد.
وَقَوله: ﴿وَهُوَ الْعلي الْكَبِير﴾ أَي: المتعالي الْعَظِيم فِي صِفَاته.
332
قَوْله تَعَالَى: ﴿قل من يرزقكم من السَّمَوَات وَالْأَرْض﴾ فالرزق من السَّمَوَات هُوَ الْمَطَر، وَمن الأَرْض هُوَ النَّبَات.
وَقَوله: ﴿قل الله﴾ يَعْنِي: إِن لم يَقُولُوا: إِن رازقنا هُوَ الله تَعَالَى، فَقل أَنْت إِن رازقكم هُوَ الله تَعَالَى.
وَقَوله: ﴿وَإِنَّا أَو إيَّاكُمْ لعلى هدى أَو فِي ضلال مُبين﴾ فَإِن قيل: " أَو " فِي كَلَام الْعَرَب للشَّكّ، فَكيف تستقيم كلمة أَو فِي هَذَا الْموضع؟ وَلَا يجوز لأحد أَن يشك أَنه على الْهدى أَو على الضلال، وَالْجَوَاب عَنهُ من وُجُوه: أَحدهَا: مَا ذكره الْفراء وَهُوَ: أَو هَا هُنَا بِمَعْنى الْوَاو، وَالْألف صلَة، فَكَأَنَّهُ قَالَ: " وَإِنَّا وَإِيَّاكُم لعلى هدى أَو فِي ضلال مُبين " يَعْنِي: نَحن على الْهدى وَأَنْتُم فِي الضلال. قَالَ أَبُو الْأسود الدؤَلِي شعرًا:
(يَقُول الأرذلون بَنو قُشَيْر طوال الدَّهْر لَا تنسى عليا؟)
(أحب مُحَمَّدًا حبا شَدِيدا وعباسا وَحَمْزَة والوصيا)
(فَإِن يَك حبهم رشدا أصبه وَفِيهِمْ أُسْوَة إِن كَانَ غيا)
فَقيل: مَا شَككت، وَقَرَأَ قَوْله تَعَالَى: ﴿وَإِنَّا أَو إيَّاكُمْ لعلى هذى أَو فِي ضلال مُبين﴾. وروى معنى هَذَا القَوْل عَن عِكْرِمَة.
وَالْجَوَاب الثَّانِي: أَن قَوْله: ﴿وَإِنَّا أَو إيَّاكُمْ﴾ خرج على شدَّة الاستبصار، وعَلى طَرِيق المناصفة فِي الْكَلَام، كَالرّجلِ يَقُول لغيره: أَحَدنَا كَاذِب، فَهَل من سامع؟ وَهُوَ مُتَيَقن أَن الصَّادِق هُوَ، والكاذب صَاحبه. وَكَذَلِكَ يَقُول الْمولى لعَبْدِهِ عِنْد شدَّة الْغَضَب: تعال نَنْظُر أَيّنَا يضْرب صَاحبه، وَهُوَ يعلم أَنه هُوَ الَّذِي يضْرب غُلَامه.
وَالثَّالِث: مَا رُوِيَ عَن قَتَادَة أَنه فال معنى الْآيَة: مَا نَحن وَأَنْتُم على طَريقَة وَاحِدَة،
332
( ﴿٢٤) قل لَا تسْأَلُون عَمَّا أجرمنا وَلَا نسْأَل عَمَّا تَعْمَلُونَ (٢٥) قل يجمع بَيْننَا رَبنَا ثمَّ يفتح بَيْننَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الفتاح الْعَلِيم (٢٦) قل أروني الَّذين ألحقتم بِهِ شُرَكَاء كلا بل هُوَ الله الْعَزِيز الْحَكِيم (٢٧) وَمَا أَرْسَلْنَاك إِلَّا كَافَّة للنَّاس بشيرا وَنَذِيرا وَلَكِن أَكثر النَّاس﴾ بل أَحَدنَا على الْهدى، وَالْآخر على الضَّلَالَة، ثمَّ المهتدى من الْفَرِيقَيْنِ مَعْلُوم، والضال من الْفَرِيقَيْنِ مَعْلُوم، وَهَذَا القَوْل قريب من الأول، وَهُوَ حسن.
333
قَوْله تَعَالَى: ﴿قل لَا تسْأَلُون عَمَّا أجرمنا﴾ أَي: عَن جرمنا.
وَقَوله: ﴿وَلَا نسْأَل عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ أَي: عَن عَمَلكُمْ من الْكفْر والمعاصي.
قَوْله تَعَالَى: ﴿قل يجمع بَيْننَا رَبنَا﴾ يَعْنِي: يَوْم الْقِيَامَة.
وَقَوله: ﴿ثمَّ يفتح بَيْننَا﴾ أَي: يحكم بَيْننَا، وَالْعرب تسمي الْحَاكِم فتاحا، وَقد ذكرنَا.
وَقَوله: ﴿وَهُوَ الفتاح الْعَلِيم﴾ ظَاهر. وَيُقَال: هُوَ الْحَاكِم الْعَالم بِوُجُوه الْمصلحَة.
قَوْله تَعَالَى: ﴿قل أروني الَّذين ألحقتهم بِهِ شُرَكَاء﴾ أَي: ألحقتموهم بِاللَّه شُرَكَاء.
وَقَوله: ﴿أروني﴾ أَي: أعلموني مَاذَا خلقُوا؟ وماذا صَنَعُوا؟
وَقَوله: ﴿كلا﴾ يَعْنِي: فَإِن لم تجيبوا بِالْحَقِّ، فَقل: كلا أَي: لَيْسَ الْأَمر على مَا زعمتم.
وَقَوله: ﴿بل هُوَ الله الْعَزِيز الْحَكِيم﴾ أَي: الْغَالِب على أمره، الْحَكِيم فِي تَدْبيره.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاك إِلَّا كَافَّة للنَّاس﴾ أَي: جَامعا بالإنذار والإبلاغ. وَقيل: وَمَا أَرْسَلْنَاك إِلَّا للنَّاس كَافَّة، على التَّقْدِيم وَالتَّأْخِير، وَقد ثَبت عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " بعثت إِلَى الْأَحْمَر وَالْأسود ".
وَعَن ابْن زيد: كَافَّة للنَّاس أَي: كافا للنَّاس عَن الْكفْر، وَالْهَاء للْمُبَالَغَة.
وَقَوله: ﴿بشيرا وَنَذِيرا﴾ أى: مبشرا ومنذرا.
وَقَوله: ﴿وَلَكِن أَكثر النَّاس لَا يعلمُونَ﴾ أَي: لَا يعلمُونَ أَنَّك نَبِي. وَفِي بعض التفاسير: أَن أجل فَائِدَة للعباد من الله هُوَ الْعلم وَالْقُدْرَة؛ لِأَن بهما يكْتَسب الْإِنْسَان
333
﴿لَا يعلمُونَ (٢٨) وَيَقُولُونَ مَتى هَذَا الْوَعْد إِن كُنْتُم صَادِقين (٢٩) قل لكم ميعاد يَوْمًا لَا تستأخرون عَنهُ سَاعَة وَلَا تستقدمون (٣٠) وَقَالَ الَّذين كفرُوا لن نؤمن بِهَذَا الْقُرْآن وَلَا بِالَّذِي بَين يَدَيْهِ وَلَو ترى إِذْ الظَّالِمُونَ موقوفون عِنْد رَبهم يرجع بَعضهم إِلَى بعض القَوْل يَقُول الَّذين استضعفوا للَّذين استكبروا لَوْلَا أَنْتُم لَكنا مُؤمنين (٣١) قَالَ الَّذين استكبروا للَّذين استضعفوا أَنَحْنُ صددناكم عَن الْهدى بعد إِذْ جَاءَكُم بل كُنْتُم مجرمين﴾ مَا يوصله إِلَى رضَا الله تَعَالَى، قَالَ: وَالْعلم أَكثر فَائِدَة من الْقُدْرَة؛ لِأَن الْعلم يتمخض نفعا، وَالْقُدْرَة قد يكْتَسب بهَا الْمعْصِيَة.
334
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَيَقُولُونَ مَتى هَذَا الْوَعْد إِن كُنْتُم صَادِقين﴾ يَعْنِي: الْقِيَامَة.
وَقَوله: ﴿قل لكم ميعاد يَوْم لَا تستأخرون عَنهُ سَاعَة وَلَا تستقدمون﴾ قد فسر هَذَا بِيَوْم الْبَعْث، وَقد فسر بِيَوْم الْمَوْت، وَكِلَاهُمَا صَحِيح.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَقَالَ الَّذين كفرُوا لن نؤمن بِهَذَا الْقُرْآن﴾ إِي: أشركوا.
وَقَوله: ﴿وَلَا بِالَّذِي بَين يَدَيْهِ﴾ يَعْنِي: من التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل.
وَقَوله: ﴿وَلَو ترى إِذْ الظَّالِمُونَ موقوفون عِنْد رَبهم﴾ أَي: محبوسون عِنْد رَبهم.
وَقَوله: ﴿يرجع بَعضهم إِلَى بعض القَوْل﴾ أَي: يُجَادِل بَعضهم بَعْضًا.
وَقَوله: ﴿يَقُول الَّذين استضعفوا﴾ أَي: استحقروا، وهم الأتباع.
وَقَوله: ﴿للَّذين استكبروا﴾ أَي: تجبروا، وهم القادة والأشراف.
وَقَوله: ﴿لَوْلَا أَنْتُم لَكنا مُؤمنين﴾ أَي: لَوْلَا أَنكُمْ كُنْتُم قادتنا ورؤساءنا لآمَنَّا بِاللَّه وبرسوله.
قَوْله تَعَالَى: ﴿قَالَ الَّذين استكبروا﴾ أَي: تكبروا.
وَقَوله: ﴿للَّذين استضعفوا﴾ أَي: الأتباع.
وَقَوله: ﴿أَنَحْنُ صددناكم عَن الْهدى بعد إِذْ جَاءَكُم﴾ أَي: منعناكم.
334
( ﴿٣٢) وَقَالَ الَّذين استضعفوا للَّذين استكبروا بل مكر اللَّيْل وَالنَّهَار إِذْ تأمروننا أَن نكفر بِاللَّه ونجعل لَهُ أندادا وأسروا الندامة لما رَأَوْا الْعَذَاب وَجَعَلنَا الأغلال فِي أَعْنَاق الَّذين كفرُوا هَل يجزون إِلَّا مَا كَانُوا يعْملُونَ (٣٣) وَمَا أرسلنَا فِي قَرْيَة من نَذِير إِلَّا قَالَ مترفوها إِنَّا بِمَا أرسلتم بِهِ كافرون (٣٤) وَقَالُوا نَحن أَكثر أَمْوَالًا وأولادا وَمَا نَحن﴾
وَقَوله: ﴿بل كُنْتُم مجرمين﴾ أَي: الجرم كَانَ لكم فِي اتباعكم أهواءكم.
335
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَقَالَ الَّذين استضعفوا للَّذين استكبروا بل مكر اللَّيْل وَالنَّهَار﴾ أَي: مكركم بِنَا فِي اللَّيْل وَالنَّهَار. وَالْعرب قد تضيف الْفِعْل إِلَى اللَّيْل وَالنَّهَار على توسع الْكَلَام، قَالَ الشَّاعِر:
(لقد لمتنا يَا أم غيلَان فِي السرى ونمت وَمَا ليل الْمطِي بنائم)
وَقيل: بل مكر اللَّيْل وَالنَّهَار مَعْنَاهُ: طول الأمل، وَطول الأمل هُوَ مكر اللَّيْل وَالنَّهَار على طَرِيق الْمجَاز، وَقُرِئَ فِي الشاذ: " بل مكر اللَّيْل وَالنَّهَار " أَي: كرور اللَّيْل وَالنَّهَار.
وَقَوله: ﴿إِذْ تأمروننا أَن نكفر بِاللَّه ونجعل لَهُ أندادا﴾ أَي: أشباها.
وَقَوله: ﴿وأسروا الندامة﴾ قد بَينا أَن قَوْله: ﴿وأسروا﴾ قد يكون بِمَعْنى أخفوا، وَقد يكون بِمَعْنى أظهرُوا.
قَوْله: ﴿لما رَأَوْا العاب﴾ أَي: عاينوه.
وَقَوله: ﴿وَجَعَلنَا الأغلال فِي أَعْنَاق الَّذين كفرُوا﴾ هُوَ فرع من عَذَاب أهل النَّار.
وَقَوله: ﴿هَل يجزون إِلَّا مَا كَانُوا يعْملُونَ﴾ أَي: يعْملُونَ من الْكفْر والمعاصي.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَمَا أرسلنَا فِي قَرْيَة من نَذِير إِلَّا قَالَ مترفوها﴾ أَي: منعموها وأغنياؤها، والترفة: النِّعْمَة.
وَقَوله: ﴿إِنَّا بِمَا أرسلتم بِهِ كافرون﴾ أَي: جاحدون.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَقَالُوا نَحن أَكثر أَمْوَالًا وأولادا﴾ يَعْنِي: قَالَ المترفون للْفُقَرَاء الَّذين آمنُوا نَحن أَكثر أَمْوَالًا وأولادا.
335
﴿بمعذبين (٣٥) قل إِن رَبِّي يبسط الرزق لمن يَشَاء وَيقدر وَلَكِن أَكثر النَّاس لَا يعلمُونَ (٣٦) وَمَا أَمْوَالكُم وَلَا أَوْلَادكُم بِالَّتِي تقربكم عندنَا زلفى إِلَّا من آمن وَعمل صَالحا﴾
وَقَوله: ﴿وَمَا نَحن بمعذبين﴾ الْعَذَاب الَّذِي يُعَذبُونَ بِهِ فِي الدُّنْيَا، وَهُوَ الْفقر. وَالْقَوْل الثَّانِي وَهُوَ أظهر الْقَوْلَيْنِ أَن الَّذِي خولنا وأعطانا الْأَمْوَال وَالْأَوْلَاد فِي الدُّنْيَا لَا يعذبنا فِي الْآخِرَة.
336
قَوْله تَعَالَى: ﴿قل إِن رَبِّي يبسط الرزق لمن يَشَاء وَيقدر﴾ الْآيَة. وَردت لرد قَوْلهم، وَمَعْنَاهُ: يبسط الرزق امتحانا وابتلاء، ويضيق الرزق (نظرا).
وَقَوله: ﴿وَلَكِن أَكثر النَّاس لَا يعلمُونَ﴾ ظَاهر.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَمَا أَمْوَالكُم وَأَوْلَادكُمْ بِالَّتِي تقربكم عندنَا زلفى﴾ أَي: قربى. وروى عَن طَاوس الْيَمَانِيّ أَنه كَانَ يَدْعُو، وَيَقُول: اللَّهُمَّ جنبني المَال وَالْولد، وارزقني الْإِيمَان وَالْعَمَل.
وَفِي الْأَخْبَار أَن النَّبِي قَالَ: " اللَّهُمَّ من أَحبَّنِي فارزقه العفاف والكفاف، وَمن أبغضني فَأكْثر مَاله وَولده ".
وَقَوله: ﴿إِلَّا من آمن وَعمل صَالحا﴾ فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن هَذَا اسْتثِْنَاء مُنْقَطع، وَمَعْنَاهُ: لَكِن [من] آمن وَعمل صَالحا.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن معنى الْآيَة ﴿إِلَّا من آمن وَعمل صَالحا﴾ فَأُولَئِك تقربهم أَمْوَالهم وَأَوْلَادهمْ إِلَى طَاعَة الله، وَهَذَا أظهر الْقَوْلَيْنِ.
336
﴿فَأُولَئِك لَهُم جَزَاء الضعْف بِمَا عمِلُوا وهم فِي الغرفات آمنون (٣٧) وَالَّذين يسعون فِي آيَاتنَا معاجزين أُولَئِكَ فِي الْعَذَاب محضرون (٣٨) قل إِن رَبِّي يبسط الرزق لمن يَشَاء﴾
وَقَوله: ﴿فَأُولَئِك لَهُم جَزَاء الضعْف﴾ أَي: التَّضْعِيف، وَيُقَال: جَزَاء المضاعفة. والمضاعفة هُوَ أَنه يَجْزِي بِالْوَاحِدِ عشرا إِلَى سَبْعمِائة.
وَقَوله: ﴿وهم فِي الغرفات آمنون﴾ أَي: (فِي) غرفات الْجنَّة آمنون من الْعَذَاب، وَقيل: من الْمَوْت، وَقيل: من الأحزان.
337
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَالَّذين يسعون فِي آيَاتنَا معاجزين﴾ قد بَينا معنى قَوْله: ﴿معاجزين﴾ و ﴿معجزين﴾.
وَقَوله: ﴿أُولَئِكَ فِي الْعَذَاب محضرون﴾ أَي: مدخلون.
قَوْله تَعَالَى: ﴿قل إِن رَبِّي يبسط الرزق لمن يَشَاء من عباده وَيقدر لَهُ﴾ فَإِن قيل: هَذَا تكْرَار لِلْآيَةِ الأولى فَلَا يكون فِيهِ فَائِدَة؟ وَالْجَوَاب عَنهُ: أَن فِيهِ فَائِدَة، وَهُوَ أَن الْآيَة الأولى فِيمَن لَا يعلم؛ لِأَنَّهُ قَالَ: ﴿وَلَكِن أَكثر النَّاس لَا يعلمُونَ﴾ وَالْآيَة الثَّانِيَة فِيمَن يعلم حِكْمَة الله تَعَالَى (فِي) الْبسط وَالتَّقْدِير.
وَقَوله: ﴿وَمَا أنفقتم من شَيْء فَهُوَ يخلفه﴾ أَي: يُعْطي خَلفه. وَاخْتلف القَوْل فِي مَوضِع إِعْطَاء الْخلف فالأكثرون أَن (ذَلِك) فِي الْآخِرَة أَو الدُّنْيَا.
روى أَبُو هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " مَا من صباح إِلَّا وينادي ملكان، يَقُول أَحدهمَا: اللَّهُمَّ أعْط منفقا خلفا، وَيَقُول الآخر: اللَّهُمَّ أعْط ممسكا تلفا ".
وَعَن الْحسن الْبَصْرِيّ قَالَ: هُوَ فِي الدُّنْيَا خَاصَّة، وَلَو لم يكن يخلف فِي الدُّنْيَا لبقي العَبْد بِلَا رزق. وَالْقَوْل الأول أحسن.
337
﴿من عباده وَيقدر لَهُ وَمَا أنفقتم من شَيْء فَهُوَ يخلفه وَهُوَ خير الرازقين (٣٩) وَيَوْم يحشرهم جَمِيعًا ثمَّ يَقُول للْمَلَائكَة أَهَؤُلَاءِ إيَّاكُمْ كَانُوا يعْبدُونَ (٤٠) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْت ولينا من دونهم بل كَانُوا يعْبدُونَ الْجِنّ أَكْثَرهم بهم مُؤمنُونَ (٤١) فاليوم لَا يملك بَعْضكُم لبَعض نفعا أَو ضرا ونقول للَّذين ظلمُوا ذوقوا عَذَاب النَّار الَّتِي كُنْتُم بهَا﴾
وَقَوله: ﴿وَهُوَ خير الرازقين﴾ أَي: خير من يرْزق وَيُعْطِي.
338
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَيَوْم يحشرهم جَمِيعًا ثمَّ يَقُول للْمَلَائكَة أَهَؤُلَاءِ إيَّاكُمْ كَانُوا يعْبدُونَ﴾ يَقُول الله تَعَالَى ذَلِك للْمَلَائكَة توبيخا لمن عبدهم، وَهُوَ مثل قَوْله تَعَالَى: ﴿وَإِذ قَالَ الله يَا عِيسَى ابْن مَرْيَم أَأَنْت قلت للنَّاس اتخذوني وَأمي إِلَهَيْنِ من دون الله﴾ وَالْمعْنَى على مَا بَينا.
قَوْله تَعَالَى: ﴿قَالُوا سُبْحَانَكَ﴾ تَسْبِيح الله: تَعْظِيم لَهُ على وَجه يَنْفِي عَنهُ كل سوء.
وَقَوله: ﴿أَنْت ولينا من دونهم﴾ أَي: نَحن نتولاك وَلَا نتولاهم.
وَقَوله: ﴿بل كَانُوا يعْبدُونَ الْجِنّ﴾ (فَإِن قيل: كَيفَ يَصح قَوْله: ﴿بل كَانُوا يعْبدُونَ الْجِنّ﴾ ) وهم عبدُوا الْمَلَائِكَة؟ وَالْجَوَاب من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَنه قَالَ: ﴿بل كَانُوا يعْبدُونَ الْجِنّ﴾ لِأَن الْجِنّ هم الَّذين زَينُوا لَهُم عبَادَة الْمَلَائِكَة، (وَالْمرَاد من الْجِنّ الشَّيَاطِين، وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنهم صوروا صور الْجِنّ، وَقَالُوا: هَؤُلَاءِ الْمَلَائِكَة) فاعبدوهم.
وَقَوله: ﴿أَكْثَرهم بهم مُؤمنُونَ﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
قَوْله تَعَالَى: ﴿فاليوم لَا يملك بَعْضكُم لبَعض نفعا وَلَا ضرا﴾ أَي: جلب نفع وَدفع ضرّ.
وَقَوله: ﴿ونقول للَّذين ظلمُوا ذوقوا عَذَاب النَّار الَّتِي كُنْتُم بهَا تكذبون﴾ أَي:
338
﴿تكذبون (٤٢) وَإِذ تتلى عَلَيْهِم آيَاتنَا بَيِّنَات قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رجل يُرِيد أَن يصدكم عَمَّا كَانَ يعبد آباؤكم وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إفْك مفترى وَقَالَ الَّذين كفرُوا للحق لما جَاءَهُم إِن هَذَا إِلَّا سحر مُبين (٤٣) وَمَا آتَيْنَاهُم من كتب يدرسونها وَمَا أرسلنَا إِلَيْهِم قبلك من نَذِير (٤٤) وَكذب الَّذين من قبلهم وَمَا بلغُوا معشار مَا آتَيْنَاهُم فكذبوا رُسُلِي فَكيف﴾ تجحدون.
339
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَإِذا تتلى عَلَيْهِم آيَاتنَا بَيِّنَات﴾ أَي: واضحات.
وَقَوله: ﴿قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رجل يُرِيد أَن يصدكم﴾ أَي: يمنعكم ﴿غما كَانَ يعبد آباؤكم﴾ أَي: من الْأَصْنَام.
وَقَوله: ﴿وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إفْك مفترى﴾ يَعْنِي: الْقُرْآن كذب مختلق.
وَقَوله: ﴿وَقَالَ الَّذين كفرُوا للحق لما جَاءَهُم إِن هَذَا إِلَّا سحر مُبين﴾ أَي: بَين.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَمَا آتَيْنَاهُم من كتب يدرسونها﴾ أَي: يقرءونها.
وَقَوله: ﴿وَمَا أرسلنَا إِلَيْهِم قبلك من نَذِير﴾ أَي: لم يَأْتِ الْعَرَب قبلك نَبِي، وَلَا ينزل عَلَيْهِم كتاب، وَالْمرَاد مِنْهُ قُرَيْش.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَكذب الَّذين من قبلهم﴾ مَعْنَاهُ: الَّذين مضوا من قبلهم، وهم عَاد وَثَمُود وَقوم مُوسَى وَقوم إِبْرَاهِيم وَقوم لوط وَغَيرهم.
وَقَوله: ﴿وَمَا بلغُوا معشار مَا آتَيْنَاهُم﴾ أَكثر أهل التَّفْسِير أَن المُرَاد من الْآيَة هُوَ أَن هَؤُلَاءِ الْكفَّار وهم قُرَيْش مَا بلغُوا معشار مَا آتَيْنَا الَّذين من قبلهم فِي الْقُوَّة وَالْمَال والآلة. وَالْقَوْل الثَّانِي أَن مَعْنَاهُ: وَمَا بلغ الَّذين من قبلهم معشار مَا آتَيْنَا هَؤُلَاءِ يَعْنِي: أَن كتاب هَؤُلَاءِ أبين كتاب، ورسولهم أفضل رَسُول، وَالْقَوْل الأول هُوَ الْمَعْرُوف. وَأما المعشار فَهُوَ الْعشْر، وَقيل: عشر الْعشْر، وَذَلِكَ جُزْء من مائَة (جُزْء)، وَقيل: هُوَ عشر عشر الْعشْر، وَهُوَ جُزْء من ألف جُزْء.
339
﴿كَانَ نَكِير (٤٥) قل إِنَّمَا أعظكم بِوَاحِدَة أَن تقوموا لله مثنى وفرادى ثمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بصاحبكم من جنَّة إِن هُوَ إِلَّا نَذِير لكم بَين يَدي عَذَاب شَدِيد (٤٦) قل مَا سألتكم من أجر فَهُوَ لكم إِن أجري إِلَّا على الله وَهُوَ على كل شَيْء شَهِيد (٤٧) قل إِن رَبِّي يقذف﴾
وَقَوله: ﴿فكذبوا رُسُلِي فَكيف كَانَ نَكِير﴾ أَي: إنكاري وتغييري.
340
قَوْله تَعَالَى: ﴿قل إِنَّمَا أعظكم بِوَاحِدَة﴾ وَقَالَ مُجَاهِد: بِطَاعَة الله. وَقيل: بتوحيد الله، وَهُوَ قَوْله لَا إِلَه إِلَّا الله. وَذكر أهل الْمعَانِي مثل الْفراء والزجاج وَغَيرهمَا أَن معنى قَوْله: ﴿أعظكم بِوَاحِدَة﴾ أَي: آمركُم بخصلة وَاحِدَة، ثمَّ بَين الْخصْلَة (فَقَالَ) :﴿أَن تقوموا لله مثنى وفرادى﴾ أَي: تجتمعون فتنظرون وتحاورون وتنفردون، وتخلون فتتفكرون وَالْمعْنَى: انْظُرُوا فِي حَال مُحَمَّد عِنْد الِاجْتِمَاع وَعند الْخلْوَة فتعرفوا أَنه لَيْسَ بساحر، وَلَا بكاهن، وَلَا بِهِ جُنُون، وَلَا الَّذِي أَتَى بِهِ شعرًا.
وَقَوله: ﴿تقوموا لله﴾ قَالَ أهل التَّفْسِير: لَيْسَ المُرَاد مِنْهُ الْقيام الَّذِي هُوَ ضد الْجُلُوس، وَإِنَّمَا هُوَ مثل قَوْله تَعَالَى: ﴿وَأَن تقوموا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ﴾.
وَقَوله: ﴿ثمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بصاحبكم من جنَّة﴾ أَي: جُنُون.
وَقَوله: ﴿إِن هُوَ إِلَّا نَذِير لكم بَين يَدي عَذَاب شَدِيد﴾ أَي: عَظِيم.
قَوْله تَعَالَى: ﴿قل مَا سألتكم من أجر﴾ أَي: من جعل فَهُوَ لكم أَي: تركته لكم. وَالْمعْنَى: أَنِّي مَا سألتكم من جعل، لَا أَنه سَأَلَ وَترك.
وَقَوله: ﴿إِن أجري إِلَّا على الله﴾ أَي: مَا ثوابي إِلَّا على الله.
وَقَوله: ﴿وَهُوَ على كل شَيْء شَهِيد﴾ أَي: شَاهد.
قَوْله تَعَالَى: ﴿قل إِن رَبِّي يقذف بِالْحَقِّ﴾ أَي: يَأْتِي بِالْحَقِّ.
وَقَوله: ﴿علام الغيوب﴾ مَنْصُوب بِأَن، وَقُرِئَ: " علام الغيوب " بِالرَّفْع أَي: هُوَ علام الغيوب.
340
﴿بِالْحَقِّ علام الغيوب (٤٨) قل جَاءَ الْحق وَمَا يبدئ الْبَاطِل وَمَا يُعِيد (٤٩) قل إِن ضللت فَإِنَّمَا أضلّ على نَفسِي وَإِن اهتديت فبمَا يوحي إِلَيّ رَبِّي إِنَّه سميع قريب﴾
341
قَوْله تَعَالَى: ﴿قل جَاءَ الْحق﴾ أَي: الْقُرْآن، وَقيل: الرَّسُول.
وَقَوله: ﴿وَمَا يبدئ الْبَاطِل﴾ قَالَ قَتَادَة: الْبَاطِل هُوَ الشَّيْطَان هَا هُنَا أَي: مَا يبدئ الشَّيْطَان شَيْئا [ ﴿وَمَا يُعِيد﴾ ]. وَفِي الْآيَة قَول آخر: وَهُوَ أَن الله تَعَالَى يقذف بِالْحَقِّ على الْبَاطِل، فَيذْهب الْبَاطِل وَلَا يبْقى مِنْهُ بَقِيَّة تبدئ شَيْئا أَو تعيده. وَقيل: الْبَاطِل هُوَ الْأَصْنَام.
قَوْله تَعَالَى: ﴿قل إِن ضللت فَإِنَّمَا أضلّ على نَفسِي﴾ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: لما بعث رَسُول الله وَجعل يعيب الْأَصْنَام، قَالَ لَهُ الْمُشْركُونَ: إِنَّك قد ضللت بتركك دين آبَائِك؛ فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة.
وَقَوله: ﴿فَإِنَّمَا أضلّ على نَفسِي﴾ أَي: إِثْم ضلالتي عَليّ.
وَقَوله: ﴿وَإِن اهتديت فبمَا يوحي إِلَيّ رَبِّي﴾ أَي: من الْقُرْآن والحجج.
وَقَوله: ﴿إِنَّه سميع قريب﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلَو ترى إِذْ فزعوا﴾ مَعْنَاهُ: وَلَو ترى إِذْ فزعوا حِين يبعثون، وَفِي الْآيَة جَوَاب مَحْذُوف، والمحذوف: وَلَو ترى إِذا فزعوا حِين يبعثون لرأيت عِبْرَة يعتير بهَا، وَيُقَال: وَلَو ترى إِذْ فزعوا أَرَادَ بِهِ وَقت الْمَوْت.
وَقَوله: ﴿فَلَا فَوت﴾ أى: لَا يفوتون من الله، كَمَا قَالَ الله فِي مَوضِع آخر: ﴿ولات حِين مناص﴾.
وَقَوله: ﴿وَأخذُوا من مَكَان قريب﴾ فِي التَّفْسِير: أخذُوا من تَحت أَقْدَامهم. وَيُقَال: أخذُوا من بطن الأَرْض (إِلَى ظهرهَا).
341
( ﴿٥٠) وَلَو ترى إِذْ فزعوا فَلَا فَوت وَأخذُوا من مَكَان قريب (٥١) وَقُولُوا آمنا بِهِ وأنى لَهُم التناوش من مَكَان بعيد (٥٢) وَقد كفرُوا بِهِ من قبل ويقذفون بِالْغَيْبِ من مَكَان﴾
341
قَوْله: ﴿وَقَالُوا آمنا بِهِ﴾ يَعْنِي: فِي الْقِيَامَة، وَقيل: عِنْد الْمَوْت، وَهُوَ فِي معنى قَوْله تَعَالَى: ﴿فَلَمَّا رَأَوْا بأسنا قَالُوا آمنا بِاللَّه وَحده﴾.
وَقَوله: ﴿وأنى لَهُم التناوش﴾ قَالَ مُجَاهِد وَقَتَادَة وَكثير من الْمُفَسّرين: التناوش هُوَ التَّنَاوُل قَالَ الشَّاعِر:
(وَهِي تنوش الْحَوْض نوشا من علا
(نوشا بِهِ تقطع) أجواز الفلا)
وَمعنى الْآيَة على هَذَا أَنهم يُرِيدُونَ أَن يتناولوا الْإِيمَان، وَقد بعد عَنْهُم ذَلِك وفاتهم، فَأنى لَهُم ذَلِك. وَقُرِئَ " وأنى لَهُم التناوش " بِالْهَمْز، وَذكر أهل اللُّغَة أَن النئيش هُوَ الْحَرَكَة فِي إبطاء، فَالْمَعْنى على هَذَا أَنه من أَنى لَهُم حركتهم فِيمَا لَا حِيلَة لَهُم فِيهِ. وَعَن ابْن عَبَّاس قَالَ: معنى قَوْله: ﴿وأنى لَهُم التناوش﴾ أَنهم يسْأَلُون الرَّد إِلَى الدُّنْيَا، وأنى لَهُم الرَّد.
وَقَوله: ﴿من مَكَان بعيد﴾ أى: من الْآخِرَة إِلَى الدُّنْيَا.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿وَقد كفرُوا بِهِ من قبل﴾ أَي: بِالْقُرْآنِ، وَقيل: بِمُحَمد.
وَقَوله: ﴿من قبل﴾ أَي: فِي الدُّنْيَا.
وَقَوله: ﴿ويقذفون بِالْغَيْبِ﴾ أَي: يظنون ظن الْغَيْب، وَمعنى ظن الْغَيْب: أَنهم يَقُولُونَ مَا لَا يعلمُونَ؛ وَقَوْلهمْ فِيمَا لَا يعلمُونَ هُوَ أَنهم قَالُوا: مُحَمَّد سَاحر، وكاذب، وكاهن، وشاعر، وَيُقَال: قَوْلهم فِيمَا لَا يعلمُونَ أَنهم يَقُولُونَ: (لَا بعث وَلَا جنَّة) وَلَا نَار.
341
﴿بعيد (٥٣) وحيل بَينهم وَبَين مَا يشتهون كَمَا فعل بأشياعهم من قبل إِنَّهُم كَانُوا فِي شكّ مريب (٥٤).
وَقَوله: {من مَكَان بعيد﴾
أَنهم يَقُولُونَ: مَا أبعد هَذَا، (وَيُقَال) : من مَكَان بعيد أَي: بعيد من (علمهمْ). وَالْقَذْف هُوَ الرَّجْم وَالرَّمْي، وَجُمْلَة الْمَعْنى أَنهم يَخُوضُونَ فِيمَا لَا علم لَهُم بِهِ.
343
قَوْله تَعَالَى: ﴿وحيل بَينهم وَبَين مَا يشتهون﴾ قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: هُوَ الْإِيمَان وَقبُول التَّوْبَة. وَيُقَال: المَال وَالْولد. (وَقيل) : نعْمَة الدُّنْيَا وزهوتها. وَعَن إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ أَنه قَالَ: مَا تَلَوت هَذِه الْآيَة إِلَّا وَذكرت المَاء الْبَارِد.
وَقَوله: ﴿كَمَا فعل بأشياعهم من قبل﴾ أَي: الْأُمَم الْمَاضِيَة. وَقيل: بأصحاب الْفِيل. والأشياع: جمع شيعَة، وهم الْفرق.
وَقَوله: ﴿إِنَّهُم كَانُوا فِي شكّ مريب﴾ أَي: فِي شكّ مرتابين، وَفِي الْآيَة دَلِيل على أَن الشاك كَافِر بِخِلَاف مَا قَالَه بعض النَّاس، وَهُوَ غلط عَظِيم فِي الدّين، وَقد دلّت هَذِه الْآيَة على أَن الشاك كَافِر وَهُوَ فِي النَّار، وَكَذَلِكَ دلّ على هَذَا قَوْله تَعَالَى: ﴿وَمَا خلقنَا السَّمَاء وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا بَاطِلا ذَلِك ظن الَّذين كفرُوا فويل للَّذين كفرُوا من النَّار﴾ فقد أوجب لَهُم الْكفْر وَالنَّار بِالظَّنِّ. وَقد رُوِيَ عَن سعيد بن جُبَير فِي قَوْله تَعَالَى: ﴿وَقَالُوا آمنا بِهِ وأنى لَهُم التناوش﴾ قَالَ: هَذِه الْآيَة نزلت فِي جَيش السفياني، وَهُوَ رجل [يخرج] فِي أَخْوَاله من كلب، فَخسفَ الله بهم بِالْبَيْدَاءِ إِلَّا رجلا وَاحِدًا يخبر النَّاس مَا صنع الله بهم، وَفِيه قصَّة.
343

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم

﴿الْحَمد لله فاطر السَّمَوَات وَالْأَرْض جَاعل الْمَلَائِكَة رسلًا أولي أَجْنِحَة مثنى وَثَلَاث﴾
تَفْسِير سُورَة فاطر
وَهِي مَكِّيَّة
344
Icon