تفسير سورة سبأ

تفسير النيسابوري
تفسير سورة سورة سبأ من كتاب غرائب القرآن ورغائب الفرقان المعروف بـتفسير النيسابوري .
لمؤلفه نظام الدين القمي النيسابوري . المتوفي سنة 850 هـ
سورة سبأ وهي مكية حروفها ثلاثة ألاف وخمسمائة واثنا عشر كلمها ثمانمائة وثلاث وثمانون آياتها أربع وخمسون.

(سورة سبأ)
(وهي مكية حروفها ثلاثة آلف وخمسمائة واثنا عشر كلمها ثمانمائة وثلاث وثمانون آياتها أربع وخمسون)
[سورة سبإ (٣٤) : الآيات ١ الى ٢١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (١) يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (٢) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٣) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٤)
وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (٥) وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (٦) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (٧) أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ (٨) أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (٩)
وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (١٠) أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١) وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ (١٢) يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ (١٣) فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ (١٤)
لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (١٥) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (١٦) ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلاَّ الْكَفُورَ (١٧) وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ (١٨) فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (١٩)
وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢٠) وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (٢١)
481
القراآت:
عالم الغيب بالرفع: أبو جعفر ونافع وابن عامر ورويس. علام بالجر وبناء المبالغة: حمزة وعلي. الباقون عالِمِ بالجر وبدون المبالغة. مُعاجِزِينَ بالألف وقد روي عن ابن كثير وأبي عمرو معجزين بالتشديد رِجْزٍ أَلِيمٌ بالرفع صفة العذاب وكذلك في «الجاثية» : ابن كثير وحفص ويعقوب وجبلة. الآخرون: بالجر إن يشأ يخسف أو يسقط على الغيبة فيهما: حمزة وعلي وخلف. الباقون: بالنون نَخْسِفْ بِهِمُ بإدغام الفاء في الباء: علي كِسَفاً بفتح السين: حفص غير الخزاز والطير بالرفع حملا على لفظ المنادى: يعقوب غير رويس الآخرون: بالنصب حملا على المحل أو لأنه مفعول معه أو معطوف على فَضْلًا بمعنى وسخرنا له الطير الريح بالرفع:
أبو بكر وحماد والمفضل بتقدير: ولسليمان الريح مسخرة أو سخرت الريح له الرياح بالرفع أيضا ولكن مجموعا: يزيد. الباقون: موحدا منصوبا كالجوابي بالياء في الحالين: ابن كثير وسهل ويعقوب وافق أبو عمرو وورش في الوصل عِبادِيَ الشَّكُورُ بسكون الياء: حمزة والوقف بالياء لا غير مِنْسَأَتَهُ بالألف: أبو جعفر ونافع وأبو عمرو وابن فليح وزيد عن يعقوب. وقرأ ابن ذكوان ساكنة الهمزة. الآخرون: بفتح الهمزة تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ على البناء للمفعول: يعقوب غير زيد لِسَبَإٍ غير مصروف: أبو عمرو والبزي لِسَبَإٍ بهمزة ساكنة: ابن مجاهد وأبو عون عن قنبل لِسَبَإٍ بالألف: ابن فليح وزمعة والقواس غير ابن مجاهد وأبي عون مَسْكَنِهِمْ بفتح الكاف: حمزة وحفص، وبكسرها علي وخلف الباقون: مساكنهم مجموعة بِجَنَّتَيْهِمْ بضم الهاء: سهل ويعقوب أُكُلٍ خَمْطٍ بضم الكاف والإضافة: أبو عمرو وسهل ويعقوب. الآخرون: بالسكون والتنوين نُجازِي بضم النون وكسر الزاي إِلَّا الْكَفُورَ بالنصب: حمزة وعلي وخلف وحفص ويعقوب. الآخرون: بضم الياء وفتح الزاي وبرفع الْكَفُورَ ربنا بالرفع باعد بلفظ
482
الماضي من المفاعلة: سهل. الآخرون: رَبَّنا بالنصب على النداء باعِدْ على الأمر.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وهشام بعد أمرا من التبعيد صَدَّقَ بالتشديد: عاصم وعلي وخلف. الباقون: بالتخفيف أي صدق في ظنه أو صدق يظن ظنا نحو «فعلته جهدك».
الوقوف:
فِي الْآخِرَةِ ط الْخَبِيرُ هـ فِيها ط الْغَفُورُ هـ السَّاعَةُ ط لَتَأْتِيَنَّكُمْ هـ لمن قرأ عالِمِ بالرفع أي هو عالم ومن خفض جعله نعتا لربي فلم يقف ب الْغَيْبِ ج لأن قوله لا يَعْزُبُ يصلح حالا واستئنافا مُبِينٍ هـ لا لتعلق اللام أبو حاتم يقف الصَّالِحاتِ ط كَرِيمٌ هـ أَلِيمٌ هـ الْحَقَّ ج لأن قولهن وَيَهْدِي عطف على المعنى أي يحق قبوله ويهدي الْحَمِيدِ هـ مُمَزَّقٍ ط لأن ما بعده في حكم المفعول لأنه مفعول ثان ل يُنَبِّئُكُمْ وإنما كسرت لدخول اللام في خبرها جَدِيدٍ هـ ج للآية ولاتحاد المقول جِنَّةٌ ط الْبَعِيدِ هـ الْأَرْضِ ط السَّماءِ ط مُنِيبٍ هـ فَضْلًا ط وَالطَّيْرَ ج لأن ما يتلوه يصلح حالا واستئنافا الْحَدِيدَ هـ لا لتعلق «أن» صالِحاً ط بَصِيرٌ هـ وَرَواحُها شَهْرٌ ط لأن قوله وَأَسَلْنا عطف على محذوف أي وسخرنا لسليمان الريح الْقِطْرِ ط رَبِّهِ ط السَّعِيرِ هـ راسِياتٍ ط شُكْراً ط الشَّكُورُ هـ مِنْسَأَتَهُ هـ الْمُهِينِ هـ آيَةٌ ج لاحتمال أن يكون التقدير هي جنتان وأن يكون بدلا من آية وَشِمالٍ ط لَهُ ط أي لكم بلدة غَفُورٌ هـ قَلِيلٍ هـ كَفَرُوا ط الْكَفُورَ هـ السَّيْرَ ط آمِنِينَ هـ مُمَزَّقٍ ط شَكُورٍ هـ الْمُؤْمِنِينَ هـ شَكٍّ ط حَفِيظٌ هـ.
التفسير:
قال في التفسير الكبير: السور المفتتحة بالحمد خمس: ثنتان في النصف الأول «الأنعام» و «الكهف»، وثنتان في النصف الأخير هذه «والملائكة» والخامسة وهي «الفاتحة» تقرأ مع النصف الأول ومع النصف الأخير، وذلك لأن المكلف له حالتان الإبداء والإعادة وفي كل حالة لله علينا نعمتان: نعمة الإيجاد ونعمة الإبقاء فأشار في أوّل «الأنعام» إلى نعمة الإيجاد الأول بدليل قوله تعالى هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ [الآية: ٢] وأشار في أوّل «الكهف» إلى إنزال الكتاب الذي به يتم نظام العالم ويحصل قوام معاش بني آدم، وأشار في أوّل هذه السورة إلى نعمة الإيجاد الثاني بدليل قوله تعالى وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وأشار في أوّل سورة الملائكة إلى الإبقاء الأبدي بدليل قوله جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا [فاطر: ١] والملائكة بأجمعهم لا يكونون رسلا إلا يوم القيامة يرسلهم الله مسلمين على المسلمين كقوله وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ [الأنبياء: ١٠٣] وقال تعالى في تحيتهم سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ [الزمر: ٧٣] وفاتحة الكتاب حيث تشتمل على نعمة الدنيا بقوله الْحَمْدُ لِلَّهِ
483
رَبِّ الْعالَمِينَ
[الفاتحة: ١] وعلى نعمة الآخرة بقوله مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة: ٣] يقرأ في الافتتاح وفي الاختتام. واعلم أنه تعالى وصف نفسه في أول هذه السورة بأن له ما في السموات وما في الأرض إيذانا بأن كونه مالكا لكل الأشياء يوجب كونه محمودا على كل لسان، لأن الكل إذا كان له فكل من ينتفع بشيء من ذلك كان مستنفعا بنعمه. ثم صرح بأن له الحمد في الآخرة تفضيلا لنعم الآخرة على نعم الدنيا وإيذانا بأنها هي النعمة الحقيقية التي يحق أن يحمد عليها ويثنى عليه من أجلها مع إفادة الاختصاص بتقديم الظرف وَهُوَ الْحَكِيمُ في الابتداء الْخَبِيرُ بالانتهاء. ثم أكد علمه بقوله يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ أي يدخل فيها من المياه والحبات والكنوز والأموات وَما يَخْرُجُ مِنْها من الشجر والنبات ومياه الآبار والجواهر والمعدنيات وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ من الأمطار والأرزاق وأنواع البركات والوحي وَما يَعْرُجُ فِيها من الملائكة وأعمال العباد. وقد أشار بقوله فِيها دون أن يقول «إليها» إلى أن الأعمال الصالحة مقبولة والنفوس الزكية واصلة، فقد ينتهي الشيء إلى الشيء ولا ينفذ فيه ولا يتصل به وَهُوَ الرَّحِيمُ حين الإنزال الْغَفُورُ وقت عروج الأعمال للمفرطين في الأقوال والأفعال. ثم بين أن نعمة الآخرة بإتيان الساعة الآخرة قد ينكرها قوم ثم رد عليهم بقوله بَلى وأكد ذلك بقوله وَرَبِّي ثم برهن على ذلك بقوله عالِمِ الْغَيْبِ لأن العالم بجميع الأشياء عالم بأجزاء الأحياء قادر على جمعها كما بدأها. وفي قوله لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إشارة إلى أن الإنسان له جسم أرضي وروح سماوي، فالعالم بما في العالمين القادر على تأليفهما قادر على إعادتهما على ما كانا عليه. وإنما ذكر الأكبر مع أن الأصغر هو اللائق بالمبالغة لئلا يتوهم متوهم أن الصغار تثبت لكونها تنسى أما الأكبر فلا ينسى فلا حاجة إلى إثباته، بل المراد أن الصغير والكبير مثبت في الكتاب وقد مر نظيره في «يونس». وقدم السموات على الأرض موافقة لقوله لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ بخلاف «يونس» فإن المخاطبين في الأرض فقدمت. ثم ذكر غاية الإعادة بقوله لِيَجْزِيَ إلى قوله مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ ومعنى سَعَوْا فِي آياتِنا أي في إبطال آياتنا معاجزين مريدين تعجيز النبيّ في التقرير والتبليغ، أو يعجزون من آمن بنا. وقيل: أي مسابقين يحسبون أنهم يفوتوننا. وقال ابن زيد: جاهدين وهو قولهم لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ [فصلت: ٢٦] وعن قتادة: الرجز سوء العذاب. وحين بين جزاء المؤمن الصالح عمله والمكذب الساعي العجز علم منه حال غيرهما، فالمؤمن الذي لم يعمل صالحا يكون له مغفرة من غير رزق كريم، والكافر غير المعاند يكون له عذاب وإن لم يكن من أسوأ أنواعه. ثم بين أن الذين أوتوا العلم لا يغترون بشبهات أهل العناد ويرون ما أنزل على محمد ﷺ هو الحق ليس الحق إلا هو
484
والنزاع غير لفظي حتى يمكن تصحيح قول المعاند بوجه. وأولو العلم هم أصحاب الرسول ﷺ والتابعون لهم. وقيل: هم علماء أهل الكتابين الذين أسلموا. ويرى من فعل القلب مفعولاه الذي مع صلته والحق وهو فصل. وقيل: إن يَرَى معطوف على لِيَجْزِيَ فلا وقف
على أَلِيمٌ أي وليعلم أولو العلم عند مجيء الساعة أنه الحق علما لا يزاد عليه في الإيقان ويحتجوا به على المعاند، أو وليعلم من لم يؤمن من الأحبار أنه هو الحق فيزدادوا حسرة. والعزيز إشارة إلى كونه منتقما من الساعين في التكذيب، والحميد إشارة إلى أنه يشكر سعي من يصدق ويعمل صالحا، وقدم صفة الهيبة لأن الكلام مع منكري البعث. ثم قص عناد أهل قريش وخصهم بالتعجيب من حالهم لأنهم تجاهلوا حين قالوا على رجل مع أن النبي ﷺ كان عندهم أظهر من الشمس قصدوا بذلك الطعن والسخرية فأخرجوا الكلام مخرج الحكاية ببعض الأضاحيك والأعاجيب كأن لم يكونوا قد عرفوا منه إلا أنه رجل ما.
ومعنى مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ فرقت أوصالكم كل تفريق وجوّز جار الله أن يكون اسم مكان فمن الأموات ما حصل أجزاؤه في بطون الطير والسباع، ومنها ما مرت به السيول فذهبت به كل مذهب أو سفته الرياح فطرحته كل مطرح. والعامل في «إذا» ما دل عليه قوله إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ وهو تبعثون أو تخلقون، ثم ازدادوا في التجاهل قائلين أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً إن كان يعتقد خلافه أَمْ بِهِ جِنَّةٌ إن كان لا يعتقد خلافه. وفيه أن الكافر لا يرضى بالكذب البحت فيردد كلامه بين الأمرين ولكن أخطأ ابن أخت خالته حين ترك قسما ثالثا وهو أنه عاقل صادق فلذلك ردّ الله عليهم بقوله بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ جعل وقوعهم في العذاب رسلا لوقوعهم في الضلال إذ العذاب من لوازم الظلال وموجباته قابل قولهم أَفْتَرى بالعذاب وقولهم بِهِ جِنَّةٌ بالضلال البعيد لأن نسبة الجنون إلى العاقل أقل في باب الإيذاء من نسبة الافتراء إليه. وقد أسقطت همزة الوصل في قوله أَفْتَرى استثقالا لاجتماع همزتين: همزة الاستفهام المفتوحة وهمزة الوصل المكسورة وهو على القياس. وجوز بعضهم أن يكون هذا الاستفهام من كلام السامع المجيب لمن قال: هل ندلكم؟ وحين قرر دليل الحشر من جهة كونه علام الغيوب أراد أن يذكر دليلا آخر على ذلك من قبل كمال قدرته فقال أَفَلَمْ يَرَوْا معناه أعموا فلم ينظروا، خصت بالفاء وليس غيره في القرآن تعجيلا للجواب وتعقيبا لحل الشبهة نظيره قوله أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ [يس: ٨١] ثم هدّدهم بأنه قادر على أن يجعل عين النافع ضارا بالخسف وإسقاط الكسف. وقال جار الله: أراد فلم ينظروا
485
إلى السماء والأرض وأنهما حيثما كانوا وأينما ساروا أمامهم وخلفهم محيطتان بهم لا يقدرون أن يخرجوا من أقطارهما فلم يخافوا أن يخسف الله بهم، أو يسقط عليهم كسفا لتكذيبهم الآيات وكفرهم بالرسول كما فعل بقارون وأصحاب الأيكة. إِنَّ فِي ذلِكَ النظر والاعتبار لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ لأن الراجع إلى ربه قلما يخلو من الاعتبار والاستبصار. ثم ذكر من عباده المنيبين إليه داود وسليمان كما قال في «ص» فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ [ص: ٢٤] وقال في سليمان وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ [ص: ٣٤] وفي قوله مِنَّا تنويه بالفضل وشأنه. ثم بين الفضل بقوله يا جِبالُ أَوِّبِي لأن هذا القول نوع من إيتاء الفضل، ويجوز أن يكون التقدير: قلنا يا جبال أوّبي أي رجعي معه التسبيح.
قيل: كان ينوح على ذنبه بترجيع وتحزين وكانت الجبال تساعده على نوحه بأصدائها والطير بأصدائها، وقد مر تحقيقه في سورة الأنبياء. والتأويب السير طول النهار والنزول ليلا فكأنه قال: أوّبي النهار كله بالتسبيح معه. وفي خطاب الجماد إشعار بأنه ما من صامت ولا ناطق إلا وهو منقاد لمشيئته. وقد ألان الله له الحديد كالشمع أو لأن الحديد في يده لما أوتي من شدة القوة. و «أن» في قوله أَنِ اعْمَلْ مفسرة لأن إلانة الحديد له في معنى الأمر بأن يستعمل. سابِغاتٍ أي دروعا واسعة وهي من الصفات التي غلبت عليها الاسمية حتى ترك ذكر موصوفها. والسرد نسج الدروع ومعنى التقدير فيه أن لا تجعل المسامير دقاقا فتقلق ولا غلاظا فتفصم الحلق.
يروى أنه كان يخرج حين ملك بني إسرائيل متنكرا فيسأل الناس عن نفسه ويقول لهم: ما تقولون في داود؟ فيثنون عليه فقيض الله تعالى ملكا في صورة آدمي فسأله على عادته فقال: نعم الرجل لولا خصلة فيه. فخاف داود فسأله فقال:
لولا أنه يطعم عياله من بيت المال فطلب عند ذلك من الله أن يغنيه عن أكل بيت المال فعلمه صنعة اللبوس.
وإنما اختار له ذلك لأنه وقاية للروح ويحفظ الآدمي المكرم عند الله من القتل، فالزرّاد خير من القوّاس والسياف. وقيل: إن التقدير في السرد إشارة إلى أنه غير مأمور به أمر إيجاب إنما هو اكتساب يكون بقدر الحاجة إلى القوت وباقي اليوم والليلة للعبادة بدليل قوله وَاعْمَلُوا صالِحاً أي لستم يا آل داود مخلوقين إلا للعمل الصالح فأكثروا منه وأما كسب القوت فاقتصدوا فيه. ثم أكد الفعل الصالح بقوله إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ فإن من يعلم أنه بمرأى من الملك اجتهد في حسن العمل وتزكية الباطن.
ثم ذكر المنيب الآخر وهو سليمان، وحكى ما استفاد هو بالإنابة وهو تسخير الريح له كالمملوك المنقاد لأمره غُدُوُّها شَهْرٌ أي جريها بالغداة مسيرة شهر وجريها بالعشي كذلك. يروى أن بعض أصحاب سليمان كتب في منزل بناحية دجلة: نحن نزلناه وما بنيناه،
486
ومبنيا وجدناه غدونا من إصطخر فقلناه، ونحن رائحون منه وبائتون بالشام إن شاء الله. ومن جملة معجزاته إسالة عين القطر، والقطر النحاس أساله لأجله كما ألان الحديد لداود فنبع كما ينبع الماء من العين فلذلك سماه عين القطر. روي أنه كان يسيل في شهر ثلاثة أيام.
زعم بعض المتحذلقين أن المراد من تسخير الجبال وتسبيحها مع داود أنها كانت تسبح كما يسبح كل شيء بحمده وكان هو عليه السلام يفقه تسبيحهم فيسبح. والمراد من تسخير الريح أنه راض الخيل وهي كالريح. وقوله غُدُوُّها شَهْرٌ أي ثلاثون فرسخا لأن الذي يخرج للتفرج لا يسير في العادة أكثر من فرسخ ثم يرجع. والمراد بإلانة الحديد وإسالة القطر أنهم استخرجوا الحديد والنحاس بالنار واستعمال آلاتها. والمراد بالشياطين ناس أقوياء. ولا يخفى ضعف هذه التأويلات فإن قدرة الله في باب خوارق العادات أكثر وأكمل من أن تحتاج إلى هذه التكلفات. وقال في التفسير الكبير: الجبال لما سبحت تشرفت بذكر الله فلم يضفها إلى داود بلام الملك بل جعلها معه كالمصاحب، والريح لم يذكر فيها أنها سبحت فجعلها كالمملوكة. أو نقول: الجبل في السير ليس أصلا بل هو يتحرك معه تبعا، والريح لا تتحرك مع سليمان بل تتحرك مع نفسها فلم يقل الريح مع سليمان بل سليمان كان مع الريح. وهاهنا نكتة وهي أن الله تعالى ذكر ثلاثة أشياء في حق داود وثلاثة في حق سليمان. لعله كالمصروف عن جهته تأمل فالجبال المسخرة لداود من جنس تسخير الريح لسليمان. إذ كل منهما ثقيل مع خفيف، فالجبال أثقل من الآدمي والآدمي أثقل من الريح. وأيضا تسخير الطير من جنس الجن فإن الطير تنفر من الآدمي والآدمي يتقي مواضع الجن والجن تطلب أبدا اصطياد الناس والإنسان يطلب اصطياد الطير.
وإلانة الحديد شبيهة بإسالة القطر. وفي قوله بِإِذْنِ رَبِّهِ إشارة إلى أن حضور الجن بين يديه كان مصلحة له لا مفسدة. وفي قوله عَنْ أَمْرِنا دون أن يقول «عن أمر ربه» إشارة إلى أن الجن كانوا بصدد التعذيب عند زيغهم عن أمر الله، فإن لفظ الرب ينبىء عن الرحمة، وصيغة جمع المتكلم في مقام الوحدة ينبىء عن الهيبة. قال ابن عباس: عذاب السعير عذاب الآخرة. وعن السدي: كان معه ملك بيده سوط من النار كلما استعصى عليه الجنيّ ضربه من حيث لا يراه الجني. ثم فصل عمل الجن بقوله يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وهي المساجد والمجالس الرفيعة الشريفة المصونة عن الابتذال وقد مر في «آل عمران». والتماثيل صور الملائكة والنبيين كان يأمر بأن تعمل في المساجد من نحاس وصفر وزجاج ورخام ليراها الناس فيعبدوا نحو عبادتهم. عن أبي العالية: لم يكن اتخاذ الصور في تلك الشرائع محرما ولعلها صور غير الحيوان من الأشجار ونحوها. ويروى أنهم عملوا له أسدين في أسفل كرسيه، ونسرين فوقه، فإذا أراد أن يصعد بسط الأسدان له ذراعيهما، وإذا
487
قعد أظله النسران بأجنحتهما. وحين فرغ من تقرير مسكنه ونقوشه شرع في تقرير آلات مجلسه فقدم ذكر الجفان التي بها تظهر عظمة السماط الممدود منه. والجفنة القصعة الكبيرة، والجوابي الحياض الكبار، لأن الماء يجبى فيها أي يجمع جعل الفعل لها مجازا وهي من الصفات الغالبة كالدابة، وكان يقعد على الجفنة ألف رجل. وحين ذكر الجفان كان يقع في النفس أن هذه الأطعمة كيف تكون قدورها فذكر أنها قدور راسيات ثابتات على الأثافي لا تنزل عنها لعظمها. ويعلم من تقرير قصتي داود سليمان أن اشتغال داود بآلة الحرب أكثر لأنه قتل جالوت، ثم أراد تسوية الملك والغلبة على الجبابرة، وأما في زمن سليمان فالملك قد استوى ولم يكن على وجه الأرض أحد يقاومه وكان يفرق الأموال في الإطعام والإنعام.
ثم بين بقوله اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً أن الدنيا عرض زائل وإن كان ملك سليمان فعلى العاقل أن يصرف همته في طلب الآخرة. وانتصب شُكْراً على أنه مفعول له أو حال أي شاكرين، أو مصدرا لأن اعْمَلُوا في معنى الشكر، أو مفعول به لأن الشكر عمل صالح. وقال جار الله: إنه على طريق المشاكلة ومعناه إنا سخرنا لكم الجن يعملون لكم ما شئتم فاعملوا أنتم شكرا. قلت: وفي لفظ العمل إشارة إلى أن الشكر اللساني غير كاف وإنما المعتبر الشكر الفعلي أو هو مع القولي.
يروى أن داود عليه السلام جزّأ ساعات الليل والنهار على أهله فلم تكن تأتي ساعة من الساعات إلا وإنسان من آل داود قائم يصلي.
والشكور هو المتوفر على أداء الشكر الباذل وسعه فيه بالقلب واللسان والجوارح في أكثر الأوقات والأحوال وإنهم لقليل فلذلك قال بعضهم: اللهم اجعلني من الأقلين. وهذا الشكر القليل إنما هو بقدر الطاقة البشرية وأما الذي يناسب نعم الله فلن يقدر الإنسان عليه إلا أن يقول الله: عبدي ما أتيت به من الشكر قبلته منك مع قلته وكتبتك شاكرا لأنعمي بأسرها، وهذا القول نعمة عظيمة لا أكلفك شكرها. وحين بين عظمة سليمان وتسخير الريح والجن له، بين أنه لم ينج من الموت وأنه قضى عليه الموت ولو نجا أحد منه لكان نبي الله أولى بذلك.
يروى أن داود عليه السلام أسس بناء بيت المقدس فمات قبل أن يتمه، فوصى به إلى سليمان فأمر الشياطين بإتمامه، وكان من عادته أن يعتكف فيه أحيانا. فلما دنا أجله لم يصبح إلا رأى في محرابه شجرة نابتة قد أنطقها الله عز وجل فيسألها لأي شيء أنت؟
فتقول: لكذا حتى أصبح ذات يوم فرأى الخروبة فسألها لأيّ شيء أنت؟ فقالت: لخراب هذا المسجد. فقال: ما كان الله ليخربه وأنا حيّ. فقال: اللهم عمّ على الجن موتي حتى يعلم الناس أنهم لا يعلمون الغيب. وقال لملك الموت: إذا أمرت بي فأعلمني. فقال:
488
أمرت بك وقد بقيت في عمرك ساعة. فدعا الشياطين فبنوا عليه صرحا من قوارير ليس له باب؟ فقام يصلي متكئا على عصاه فقبض روحه فبقي كذلك وظن جنوده أنه في العبادة فكانوا يواظبون على الأعمال الشاقة إلى أن أكلت الأرضة عصاه فخرّ ميتا وذلك بعد سنة.
والأرض مصدر أرضت الخشبة أرضا إذا أكلتها الأرضة. والمنسأة العصا لأنه ينسأ بها أي يطرد ويؤخر، وقد يترك همزها. وقرىء من سأته أي طرف عصاه سميت بسأة القوس على الاستعارة. وتبينت بمعنى ظهرت «وأن» مع صلتها بدل من الجن بدل الاشتمال على نحو قولك «تبين زيد جهله» أو هو بمعنى علمت أي علم الجن كلهم بعد التباس الأمر على عامتهم أن كبارهم لا يعلمون الغيب وكان ادعاؤهم ذلك من قبل زورا. أو المراد التهكم بهم وأن الذين ادّعوا منهم علم الغيب اعترفوا بعجزهم مع أنهم كانوا من قبل عارفين عجزهم كما لو قلت لمدعي الباطل إذا دحضت حجته: هل تبينت أنك مبطل. وأنت تعلم أنه لم يزل متبينا لذلك. وكان عمر سليمان ثلاثا وخمسين سنة، ملك وهو ابن ثلاث عشرة وبقي في ملكه إلى أن مات، وابتدأ بناء بيت المقدس لأربع مضين من ملكه. ولما بين حال الشاكرين لأنعمه ذكر حال من كفر النعمة. وسبأ بصرف بناء على أنه اسم للحي أو الأب الأكبر، ولا يصرف بتأويل القبيلة وهو سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان. ثم سميت مدينة مأرب بسبأ، وبينها وبين صنعاء مسيرة ثلاث. من قرأ مساكنهم فظاهر. ومن قرأ على التوحيد فالمراد مسكن كل واحد منهم أو موضع سكناهم وهو بلدهم وأرضهم. عن الضحاك: كانوا في الفترة التي بين عيسى ومحمد عليهما السلام. ومعنى كون الجنتين آية أنه جعل قصتهما عبرة لأهل الكفران، أو علامة دالة على الصانع وكمال اقتداره ووجوب شكره. قال جار الله: لم يرد بستانين اثنين فحسب وإنما أراد جماعتين من البساتين: جماعة عن يمين بلدهم وأخرى عن شمالها، كأن كل واحدة من الجماعتين في تقاربها وتضامها جنة واحدة، أو أراد بستاني كل رجل منهم عن يمين مسكنه وشماله كقوله جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ [الكهف: ٣٢].
وقوله كُلُوا مِنْ رِزْقِ حكاية لسان الحال أو لسان الأنبياء المبعوثين إليهم وهم ثلاثة عشر نبيا على ما روي. وفيه إشارة إلى كمال النعمة حيث لم يمنعهم من أكل ثمارها خوف ولا مرض. وكذا قوله وَاشْكُرُوا لَهُ لأن الشكر لا يطلب إلا على النعمة المعتبرة. وكذا قوله بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ أي عن المؤذيات من العقارب والحيات وسائر الهوام والحشرات، أو المراد أنها ليست بسبخة كقوله وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ [الأعراف: ٥٨] وَرَبٌّ غَفُورٌ أي ربكم الذي رزقكم فطلب شكركم غفور لمن يشكره بقدر طاقته لا يؤاخذه بالتقصير في أداء حق
489
الشكر إذا توجه عليه الشكر وبذل وسعه فيه، أو أراد غفران سائر الذنوب فكأنه وعدهم سعادة الدارين. وعن ثعلب: معناه اسكن واعبد. وحين بين ما كان من جانبه ذكر ما كان من جانبهم وهو قوله فَأَعْرَضُوا أي عن الشكر. ثم ذكر جزاءهم بقوله فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وهو الجرذ.
يروى أن بلقيس الملكة عمدت إلى جبال هناك فسدّت ما بينها من الشعب بالصخر والقار فحقنت به ماء العيون والأمطار وتركت فيه خروقا لها أبواب مترتبة بعضها فوق بعض على مقدار ما يحتاجون إليه في سقي أراضيهم، فلما طغوا سلط الله على سدّهم الخلد فثقبه من أسفله.
وقيل: العرم جمع عرمة وهي الحجارة المركوزة والمراد بها المسناة التي عقدوها سكرا. وقيل: العرم اسم الوادي. وقيل: المطر الشديد. والتركيب يدل على الشكاسة وسوء الخلق ومنه قولهم «صبي عارم» من العرام بالضم أي شرس. ومن ذلك «عرمت العظم» عرقته و «عرمت الإبل الشجر» نالت منه ذَواتَيْ أُكُلٍ صاحبتي ثمر.
والقياس ذاتي إلا أن المستعمل في التثنية هو الجمع. والخمط شجر الأراك. أبو عبيدة: كل شجر ذي شوك. الزجاج: كل نبت أخذ طعما من مرارة حتى لا يمكن أكله. والأثل نوع من الطرفاء لا يكون عليه ثمرة إلا نادرا كالعفص في الطعم والطبع ولكن أصغر. والسدر معروف وهو من أحسن أشجار البادية فلذلك وصفه هاهنا بالقلة. عن الحسن: قلل السدر لأنه أكرم ما بدّلوا، والتحقيق فيه أن البساتين إذا عمرت كل سنة ونقيت من الحشائش كانت ثمارها زاكية وأشجارها عالية، فإذا تركت سنين صارت كالغيضة والأجمة والتفت الأشجار بعضها ببعض فيقل الثمر وتكثر الحشائش والأشجار ذوات الشوك على أنه لا يبعد التبديل تحقيقا فيكون شبه المشخ. من قرأ أُكُلٍ خَمْطٍ بالإضافة فظاهر، ومن قرأ بالتنوين فعلى حذف المضاف أي أكل أكل خمط، أو وصف الأكل بالخمط كأنه قيل: ذواتي أكل بشع.
وتسمية البدل جنتين لأجل المشاكلة أو التهكم. قال في الكشاف: الأثل والسدر معطوفان على أُكُلٍ لا على خَمْطٍ لأن الأثل لا أكل له ذلِكَ الإرسال والتبديل جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا النعمة وغمطوها وَهَلْ نُجازِي مثل هذا الجزاء وهو العقاب العاجل إِلَّا الْكَفُورَ قال بعضهم: المجازاة في النقمة والجزاء في النعمة إلا إذا قيد كقوله سبحانه جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وقال جار الله: الجزاء عام لكل مكافأة يستعمل في المعاقبة تارة وفي الإثابة أخرى، فلما استعمل أوّلا في معنى المعاقبة استعمل ثانيا على نحو ذلك. وقيل: إن المجازاة مفاعلة وهي في الأكثر تكون بين اثنين يوجد من كل واحد جزاء في حق الآخر، ففي النعمة لا يكون مجازاة لأن الله مبتدىء بالنعم. وحين ذكر حال مسكنهم وجنتيهم وحكى تبديل الجنتين بما لا نفع فيه أراد أن يذكر حال خارج بلدهم وما يؤل إليه أمره فقال وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها وهي قرى الشام قُرىً ظاهِرَةً متواصلة يرى
490
من كل منها ما يتلوها لتقاربها، أو ظاهرة للسابلة لكونها على متن الطريق. وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فيقيل الغادي في قرية ويبيت الرائح في أخرى، فمنازل ما بين تلك القرى مقدّرة ومعلومة لا يجاوزها المسافر عرفا بخلاف المفاوز فإن السائر يسير فيها بقدر طاقته حتى يقطعها. ثم بين أمن تلك الطريق بقوله سِيرُوا أي قلنا لهم سيروا إن شئتم بالليل وإن شئتم بالنهار. قال أهل البيان: لا قول ثمة ولكنهم مكنوا من السير بتهيئة أسبابه من وجدان الزاد والراحلة وعدم المخاوف والمضارّ فكأنهم أمروا بذلك. والمقصود من ذكر الليالي والأيام تقرير كمال الأمن ولذلك قدمت الليالي فإنها مظنة الآفات. ويمكن تقرير الأمن بوجه آخر وهو أن يقال: سيروا فيها وإن تطاولت مدّة سفركم فيها وامتدت أياما وليالي، أو يراد بالليالي والأيام مدّة أعمارهم أي سيروا فيها مدّة عمركم فإنكم لا تلقون إلا الأمن.
ثم حكى أنهم سئموا العيش الهنيء وملوا الدعة والراحة كما طلب بنو إسرائيل البصل والفوم مكان المن والسلوى فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا أرادوا أن يجعل الله بينهم وبين الشام مفاوز ليركبوا الرواحل فيها ويتزوّدوا الأزواد قائلين: لو كان جني جناتنا أبعد كان أشهى وأرغد. ويحتمل أن يكون ذلك لفساد اعتقادهم وشدّة اعتمادهم على أن ذلك لا يعدم كما يقول القائل لغيره: اضربني مشيرا بذلك إلى أنه لا يقدر عليه. ومن قرأ على الابتداء والخبر فالمراد استبعاد مسايرهم على قصرها ودنوّها لفرط تنعمهم وترفههم وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بوضع الكفر موضع الشكر فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ فرقناهم كل تفريق فلا جرم اتخذ الناس حالهم مثلا قائلين «ذهبوا أيدي سبأ» أي في طرق شتى. واليد في كلام العرب الطريق يقال: سلك بهم يد البحر. وقيل: الأيادي الأولاد لأنه يعضد بهم كما بالأيدي. والمعنى ذهبوا تفرق أولاد سبأ فلحق غسان بالشام، وأنمار بيثرب، وجذام بتهامة، والأزد بعمان إِنَّ فِي ذلِكَ الجعل والتمزيق لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ عن المعاصي شَكُورٍ للنعم أو صبار على النعم حتى لا يلحقه البطر شكور لها برعاية حق الله فيها. ثم أخبر عن ضعف عزم الإنسان بقوله وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ أي على بني آدم لقرينة الحال.
وقيل: على أهل سبأ وظن إبليس هو قوله لَأُغْوِيَنَّهُمْ [الحجر: ٣٩] أو قوله أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ [ص: ٧٦] بدليل قوله فَاتَّبَعُوهُ والمتبوع خير من التابع. ولا ريب أن الكافر أدون حالا من إبليس لأنه خالف أمر الله في سجدة آدم والكافر يجحد الصانع أو يشرك به. ثم بين قوله وَما كانَ لَهُ أن الشيطان ليس بملجىء ولكنه آية وعلامة يتميز به ما هو السابق في علمه من المقرّ والشاك. والحفيظ المحافظ ويدخل في مفهوم الحفظ العلم والقدرة إذ الجاهل بالشيء لا يمكنه حفظه وكذا العاجز.
491
التأويل:
يَعْلَمُ ما يَلِجُ في أرض البشرية بواسطة الحواس والأغذية الحلال والحرام وَما يَخْرُجُ مِنْها من الصفات المتولدة منها. وَما يَنْزِلُ من سماء القلب من الفيوض والإلهامات وَما يَعْرُجُ فِيها من آثار الفجور والتقوى وظلمة الضلالة ونور الهدى إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من سماء القلب وأرض النفس، نخسف بهم أرض البشرية بغلبات صفاتها أو يغلب عليهم صفة من صفات القلب بالميل إلى الإفراط فنهلكهم بها كالسخاوة فإنها صفة حميدة لكنها إذا جاوزت حدّ الاعتدال صارت ذميمة إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ [الإسراء: ٢٧] يا جِبالُ أَوِّبِي قد مر تأويله في سورة الأنبياء وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وهو المتكلم بالحكمة على قدر عقول الناس وَلِسُلَيْمانَ القلب سخرت ريح العناية وذلك أن مركب القلوب في السير هو الجذبة الإلهية كما أن مركب البدن في المسير البدن.
يروى أن سليمان في سيره لاحظ ملكه يوما فمال الريح ببساطه فقال سليمان للريح:
استو فقالت الريح: استو أنت فإني لا أكون مستوية حتى تستوي أنت.
كذلك حال السر مع القلب وريح العناية إذا زاغ القلب أزاغ الله بريح الخذلان بساط السر إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ [الرعد: ١١] وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ الحقائق والمعاني وسخرنا له صفات الشيطنة لتعمل بين يديه على وفق أوامر الله ونواهيه كما
قال نبينا ﷺ «شيطاني أسلم على يدي فلا يأمرني إلا بالخير» «١»
مِنْ مَحارِيبَ وهو كل ما يتوج إلى الله به بخاصية الإباء والاستكبار وأنفة السجود لغير الله، ولو وكل القلب والروح إلى خاصية الروحانية التي جبل الروح عليها ما كان يرغب في العبور عن مقام الروحانية كالملائكة.
قال جبرائيل عليه السلام: لو دنوت أنملة لاحترقت.
وَجِفانٍ كَالْجَوابِ فيه إشارة إلى مأدبة الله التي يأكل منها الأنبياء والأولياء إذ يبيتون عنده اعْمَلُوا آلَ داوُدَ وهم متولدات الروح فشكر البدن استعمال الشريعة بجميع الأعضاء والحواس، وشكر النفس بإقامة شرائط التقوى والورع، وشكر القلب بمحبة الله وحده، وشكر السر المراقبة، وشكر الروح بذل الوجود على نار المحبة كالفراش على شعلة الشمعة، وشكر الخفي قبول الفيض بلا واسطة في مقام الوحدة مخفيا بنور الوحدة عن نفسه. فالعوام شكرهم بالأقوال، والخواص شكرهم بالأعمال، وخواص الخواص شكرهم بالأحوال من الاتصاف بصفة الشكورية التي تعطي على عمل. فإن عشرة ثواب باق ولذلك وصفهم بالقلة تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ اتكأ سليمان على عصاه فبعث الله أخس دابة لإبطال متكئه وجعله سببا لزوال ملكه وفوات روحه وكان قبل
(١) رواه مسلم في كتاب المنافقين حديث ٦٩، ٧٠. الترمذي في كتاب الرضاع باب ١٧. النسائي في كتاب النساء باب ٤. الدارمي في كتاب الرقاق باب ٢٥، ٦٦. أحمد في مسنده (١/ ٢٥٧).
492
ﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩ ﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾ ﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈ ﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔ ﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣ ﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰ ﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙ ﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤ ﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠ ﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆ ﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕ ﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞ ﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬ ﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥ ﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯ ﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚ ﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪ ﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽ ﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡ ﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮ ﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟ ﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼ ﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉﰊﰋﰌﰍﰎﰏﰐ ﰒﰓﰔﰕﰖﰗﰘ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘ ﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫ ﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶ ﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀ ﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌ ﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝ
متكئا على فضل الله فآتاه ما لم يؤت أحدا من خلقه لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ السر جَنَّتانِ جنة الروح عن يمين السر وجنة القلب عن شمال السر بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ هي بلدة الإنسانية القابلة لبذر التوحيد وَرَبٌّ غَفُورٌ يستر العيوب فَأَعْرَضُوا عن الوفاء وأقبلوا على الجفاء فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ سطوات الْعَرِمِ قهرنا وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ الشجرتين بأشجار الأخلاق الحميدة جَنَّتَيْنِ من الأوصاف الذميمة وَهَلْ نُجازِي وهل يكون للأشجار الخبيثة إلا الأثمار الخبيثة. قُرىً ظاهِرَةً منازل السالكين ومقامات العارفين من التوبة والزهد والتوكل والتزكية والتحلية. وقلنا لهم سيروا في ليالي البشرية وأيام الروحانية آمِنِينَ في حيازة الشريعة فطلبوا البعد عن الله بالميل إلى ما سواه ففرقناهم في أودية الهلاك ودركات البعد. وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ فيه أن الشيطان إنما سلط على بني آدم لاستخراج جواهر النفوس من معادنها.
[سورة سبإ (٣٤) : الآيات ٢٢ الى ٥٤]
قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (٢٢) وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ماذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (٢٣) قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٤) قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٢٥) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (٢٦)
قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ كَلاَّ بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٧) وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٢٨) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٩) قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ (٣٠) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (٣١)
قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (٣٢) وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٣٣) وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (٣٤) وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (٣٥) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٣٦)
وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ (٣٧) وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (٣٨) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٣٩) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ (٤٠) قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (٤١)
فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (٤٢) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ وَقالُوا ما هذا إِلاَّ إِفْكٌ مُفْتَرىً وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٤٣) وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (٤٤) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (٤٥) قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ (٤٦)
قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٤٧) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (٤٨) قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ (٤٩) قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (٥٠) وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (٥١)
وَقالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (٥٢) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (٥٣) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (٥٤)
493
القراآت:
أذن له على البناء للمفعول: أبو عمرو وعلي وخلف والأعشى والبرجمي فزع علي البناء للفاعل: ابن عامر ويعقوب جزاء بالنصب الضِّعْفِ مرفوعا:
يعقوب في الغرفة على التوحيد: حمزة يَحْشُرُهُمْ ثُمَّ يَقُولُ على الغيبة فيهما:
حفص ويعقوب. الباقون: بالنون ثم تفكروا بتشديد التاء: رويس أَجْرِيَ إِلَّا بفتح الياء: أبو جعفر ونافع وابن عامر وأبو عمرو وحفص ربي إنه بفتح الياء: أبو جعفر ونافع وأبو عمرو: التَّناوُشُ مهموزا: أبو عمرو وحمزة وخلف وعاصم سوى حفص والشموني والبرجمي. حِيلَ بضم الحاء وكسر الياء: ابن عامر وعلي ورويس.
الوقوف:
مِنْ دُونِ اللَّهِ ج لاحتمال الجملة بعده حالا واستئنافا ظَهِيرٍ هـ أَذِنَ
494
لَهُ
ط الْحَقَّ ط الْكَبِيرُ هـ وَالْأَرْضِ ط قُلِ اللَّهُ لا لاتصال المقول مُبِينٍ هـ تَعْمَلُونَ هـ بِالْحَقِّ ط الْعَلِيمُ هـ كَلَّا ط الْحَكِيمُ هـ لا يَعْلَمُونَ هـ صادِقِينَ هـ وَلا تَسْتَقْدِمُونَ هـ بَيْنَ يَدَيْهِ ط عِنْدَ رَبِّهِمْ ج لأن ما بعده يصلح استئنافا وحالا وهذا أوجه الْقَوْلَ ج لمثل ذلك مُؤْمِنِينَ هـ مُجْرِمِينَ هـ أَنْداداً ط الْعَذابَ ط كَفَرُوا ط يَعْمَلُونَ هـ كافِرُونَ هـ بِمُعَذَّبِينَ هـ لا يعملون هـ صالِحاً ز أن أولئك مبتدأ مع الفاء آمِنُونَ هـ مُحْضَرُونَ هـ وَيَقْدِرُ لَهُ ط يُخْلِفُهُ ج لعطف الجملتين المختلفتين الرَّازِقِينَ هـ يَعْبُدُونَ هـ مِنْ دُونِهِمْ ج لتنويع الكلام مع اتحاد المقول الْجِنَّ ج لذلك مُؤْمِنُونَ هـ ضَرًّا ط تُكَذِّبُونَ هـ آباؤُكُمْ ج للعطف مع طول الكلام والتكرار مُفْتَرىً ط مُبِينٌ هـ مِنْ نَذِيرٍ هـ نَكِيرِ هـ بِواحِدَةٍ ج لأن ما بعده بدل أو خبر أي هي أن تقوموا مِنْ جِنَّةٍ ط شَدِيدٍ هـ لَكُمْ ط اللَّهِ ج شَهِيدٌ هـ بِالْحَقِّ ج لاحتمال أن ما بعده بدل من الضمير في يقذف أو خبر أي هو علام الْغُيُوبِ هـ يُعِيدُ هـ عَلى نَفْسِي ج لعطف جملتي الشرط رَبِّي ط قَرِيبٌ هـ قَرِيبٍ لا لأن ما بعده معطوف على أُخِذُوا: آمَنَّا بِهِ ط لاحتمال كون الجملة الاستفهامية مبتدأ بها أو حالا بَعِيدٍ هـ لا للآية ولاحتمال الاستئناف والحال بعده والعامل معنى الفعل في التناوش مِنْ قَبْلُ ج للعطف على كفروا بناء على أنه حال ماضية أو للاستئناف أي وهم يقذفون بَعِيدٍ هـ مِنْ قَبْلُ ط مُرِيبٍ هـ.
التفسير:
لما فرغ من حكاية أهل الشكر وأهل الكفران تمثيلا عاد إلى مخاطبة كفار قريش وتقريعهم. ومفعولا زعم محذوف أي زعمتموهم آلهة، وسبب حذف الأوّل استحقاق عوده إلى الموصول، وسبب حذف الثاني إقامة الصفة وهي مِنْ دُونِ اللَّهِ مقام الموصوف. وتفسير الآية مبني على تفصيل وهو أن مذاهب أهل الشرك أربعة: أحدها قولهم إنا نعبد الملائكة والكواكب التي في السماء فهم آلهتنا والله إلههم فالله تعالى قال في إبطال قولهم أنهم لا يملكون في السموات شيئا كما اعترفتم، ولا في الأرض على خلاف ما زعمتم أن الأرض والأرضيات في حكمهم. وثانيها قول بعضهم إن السموات من الله على سبيل الاستقلال، وإن الأرضيات منه ولكن بواسطة الكواكب واتصالاتها وانصرافاتها فأبطل معتمد هؤلاء بقوله وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ أي الأرض كالسماء لله ليس لغيره فيها نصيب.
وثالثها قول من قال: التركيبات والحوادث كلها من الله لكن فوض ذلك إلى الكواكب وإعانتها فأشار إلى إبطال معتقد هؤلاء بقوله وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ ورابعها مذهب من زعم أنا نعبد الأصنام التي هي صور الملائكة ليشفعوا لنا فبين بطلان مذهبهم بقوله وَلا
495
تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ
قال جار الله: تقول الشفاعة لزيد على أنه الشافع وعلى معنى أنه المشفوع له أي لا تنفع الشفاعة إِلَّا كائنة لِمَنْ أَذِنَ لَهُ من الشافعين أو إلا لمن وقع الإذن للشفيع لأجله. و «حتى» غاية لمضمون الكلام الدال على انتظار الإذن كأنه قيل: يتربصون ويقفون مليا فزعين حَتَّى إِذا فُزِّعَ أي كشف الفزع في القيامة عن قلوب الشافعين والمشفوع لهم بكلمة يتكلم بها رب العزة في إطلاق الإذن تباشروا بذلك وسأل بعضهم بعضا ماذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا قال الْحَقَّ أي القول الحق وهو الإذن بالشفاعة لمن ارتضى، يؤيد هذا التفسير
قول ابن عباس عن النبي «فإذا أذن لمن أذن أن يشفع فزعته الشفاعة»
والتشديد للسلب والإزالة على نحو «قردته وجلدته» أي أزلت قراده وسلخت جلده. وقيل: إن «حتى» على هذا التفسير متعلق بقوله زَعَمْتُمْ أي زعمتم الكفر إلى غاية التفزيع ثم تركتم ما زعمتم وقلتم قال الحق. ومنهم من ذهب إلى أن التفزيع غاية الوحي المستفاد من قل فإنه عند الوحي يفزع من في السموات كما
جاء في حديث «إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماء صلصلة كجر السلسلة على الصفا فيصعقون فلا يزالون كذلك حتى يأتيهم جبرائيل فاذا جاء فزع عن قلوبهم فيقولون: يا جبرائيل ماذا قال ربكم؟ فيقول الحق» «١»
أي يقول الحق الحق. وقيل: أراد بالفزع أنه تعالى لما أوحى إلى محمد ﷺ فزع من في السموات من القيامة لأن إرسال محمد ﷺ من أشراطها فلما زال عنهم ذلك قالوا: ماذا قال الله؟ قال جبرائيل وأتباعه: الحق. وقيل: إنه الفزع عند الموت يزيله الله عن القلوب فيعرف كل أحد أن ما قال الله هو الحق فينتفع بتلك المعرفة أهل الإيمان ولا ينتفع بها أهل الكفر. وحين بين بقوله قُلِ ادْعُوا أنه لا يدفع الضر إلا هو أشار بقوله قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ إلى أن جلب النفع لا يكمل إلا به. وهاهنا نكتة هي أنه قال في دفع الضر قالُوا الْحَقَّ وفي طلب النفع قال قُلِ اللَّهُ تنبيها على أنهم في الضراء مقبلون على الله معترفون به، وفي السراء معرضون عنه غافلون لا يتنبهون إلا بمسه. وقوله وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ من الكلام المنصف الذي يتضمن قلة شغب الخصم وفلّ شوكته بالهوينا. وفي تخالف حرفي الجر في قوله لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ إشارة إلى أن أهل الحق راكبون مطية الهدى مستعلون على متنها، وأن أهل الباطل منغمسون في ظلمة الضلال لا يدرون أين يتوجهون. وإنما وصف الضلال بالمبين وأطلق الهدى لأن الحق كالخط المستقيم واحد، والباطل كالخطوط المنحنية لا حصر لها فبعضها أدخل في الضلالة من بعض وأبين.
وقوله عَمَّا أَجْرَمْنا إلى قوله عَمَّا تَعْمَلُونَ أبلغ في سلوك طريقة الإنصاف حيث
(١) رواه البخاري في كتاب التوحيد باب ٣١. أبو داود في كتاب السنة باب ٢٠.
496
أسند الإجرام وهو الصغائر والزلات أو هي مع الكبائر إلى أهل الإيمان، وعبر عن إجرام أهل الكفر بلفظ عام وهو العمل. وفيه إرشاد إلى المناظرات الجارية في العلوم وغيرها، وإذا قال أحد المناظرين للآخر: أنت مخطئ أغضبه وعند الغضب لا يبقى سداد الفكر، وعند اختلاله لا مطمع في الفهم فيفوت الغرض. ومعنى الفتح الحكم والفصل بين الفريقين بإدخال أهل الجنة الجنة وأهل النار النار. وحين حث في الآية الأولى على وجوب النظر من حيث إن كل أحد يؤاخذ بجرمه ولو كان البريء أخذ بالمجرم لم يكن كذلك، أكد ذلك المعنى بالآية الثانية فإن مجرد الخطأ والضلال واجب الاجتناب فكيف إذا كان يوم عرض وحساب. وفي قوله الْعَلِيمُ إشارة إلى أن حكمه يكون مع العلم لا كحكم من يحكم بمجرد الغلبة والهوى. ولما بين أن غير الله لا يعبد لدفع الضر ولا لجلب النفع أراد أن يبين أن غير الله لا ينبغي أن يعبد لأجل استحقاق العبادة فإنه لا مستحق للعبادة إلا هو. ومعنى أَرُونِيَ وكان يعرفهم ويراهم الاستخفاف بهم والتنبيه على الخطأ العظيم في إلحاق الشركاء بالله أو أراد أعلموني بأي صفة ألحقتموهم بالله وجعلتموهم شركاء ف شُرَكاءَ نصب على الحال والعائد محذوف وكَلَّا ردع لهم عن مذهبهم بعد ما كسده بإبطال المقايسة وردّ الإلحاق. ثم زاد في توبيخهم بقوله بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ كأنه قال:
أين الذين ألحقتم به شركاء من هذه الصفات فإن الإله لا يمكن أن يخلو عن القدرة الكاملة والحكمة الشاملة. وهو يحتمل أن يكون ضمير الشأن. وحين فرغ من التوحيد شرع في الرسالة. ومعنى كَافَّةً عامة لأن الرسالة إذا شملتهم فقد منعتهم أن يخرج أحد منهم والكف المنع وكافة صفة لرسالة. وقال الزجاج: التاء للمبالغة كتاء الراوية والعلامة وإنه حال من الكاف أي أرسلناك جامعا للناس في الإبلاغ والتبشير والإنذار، أو مانعا للناس من الكفر والمعاصي. وبعض النحويين جعله حالا من الناس وزيف بأن حال المجرور لا يتقدم عليه. ومن هؤلاء من جعل اللام بمعنى «إلى» لأن أرسل يتعدى بإلى فضوعفت تخطئته بأن استعمال اللام بمعنى. «إلى» ضعيف، ولا يخفى أن ثاني مفعولي أَرْسَلْناكَ على غير هذا التفسير محذوف والتقدير: وما أرسلناك إلى الناس إلا كافة وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ وذلك لا لخفائه ولكن لغفلتهم. وحين ذكر الرسالة بين الحشر وذكر أنهم استعجلوه تعنتا منهم فبين على طريق التهديد أنه لا استعجال فيه كما لا إمهال وهذا شأن كل أمر ذي بال.
قال جار الله مِيعادُ يَوْمٍ كقولك «سحق عمامة» في أن الإضافة للتبيين يؤيده قراءة من قرأ مِيعادُ يَوْمٍ بالرفع فيهما فأبدل منه اليوم. وفي إسناد الفعل إليهم بقوله لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ دون أن يقول لا يؤخر عنكم زيادة تأكيد لوقوع اليوم. ولما بين الأصول الثلاثة:
التوحيد والرسالة والحشر، ذكر أنهم كافرون بالكل قائلين لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي
497
بَيْنَ يَدَيْهِ
من الكتب السماوية كالتوراة والإنجيل. يروى أن كفار مكة سألوا أهل الكتاب فأخبروهم أنهم يجدون صفة محمد ﷺ في كتبهم فأغضبهم ذلك وقرنوا إلى القرآن جميع الكتب. وقيل: الذين كفروا عام والذي بين يديه يوم القيامة وما جاء ذكره في القرآن من تفاصيل الحشر وغيرها، وأن أهل الكتاب لو صدّقوا بشيء من ذلك فليس لأجل مجيئه في القرآن ولكن لمجيئه في كتبهم. وحين وقع اليأس من إيمانهم بقولهم لَنْ نُؤْمِنَ وعد نبيه بأنه سيراهم على أذل حال موقوفين للسؤال متجاذبين أهداب المراجعة كما يكون حال جماعة أخطأوا في تدبير أمره وجواب «لو» محذوف أي لقضيت العجب. وبدأ بالأتباع لأن المضل أولى بالتوبيخ. وفي قوله لَوْلا أَنْتُمْ إشارة إلى أن كفرهم كان لمانع لا لعدم المقتضى فإن الرسول قد جاء ولم يقصر في الإبلاغ. ثم ذكر جواب المستكبرين وهم الرؤوس والمتبوعون على طريقة الاستئناف. وفي إيلاء الاسم وهو نحن حرف الإنكار إثبات أنهم هم الذين صدّوا بأنفسهم عن الهدى بكسب منهم واختيار وأن المانع لم يكن راجحا على المقتضى ولا مساويا له وأكدوا ذلك بقولهم بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ أي إنكم أنتم الذين أطعتم أمر الشهوة فكنتم كافرين ولم يكن منا إلا التسويل والتزيين.
ثم عطف قولا آخر للمستضعفين على قولهم الأول. والإضافة في مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ من باب الاتساع بإجراء الظرف مجرى المفعول به وأصل الكلام: بل مكرهم في الليل والنهار. أو جعل ليلهم ونهارهم ماكرين على الإسناد المجازي، فالأول اتساع لفظي، والثاني معنوي. أبطلوا إضرابهم بإضرابهم قائلين: ما كان الإجرام من جهتنا بل من جهة مكركم لنا مستمرا دائما دائبا ليلا ونهارا. وقدم الليل لأنه أخفى للمكر والويل. وقرىء مَكْرُ اللَّيْلِ بالتشديد أي سبب ذلك أنكم تكرّون الإغواء مكرا دائبا. والمعنى: ما أنتم بالصارف القطعيّ والمانع القويّ ولكن انضم إلى ذلك طول المدة فصار قولكم جزء السبب.
وفي قولهم أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً إشارة إلى أن المشرك وإن كان مثبتا لله في الظاهر ولكنه ناف له على الحقيقة لأنه جعله مساويا للصنم. ويجوز أن يكون كل منهما قول طائفة فبعضهم كانوا مأمورين بجحد الصانع وبعضهم بالإشراك به. وتفسير قوله وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ مذكور في سورة يونس. والضمير يعود إلى جنس الظالمين الشامل للمستضعفين وللمستكبرين. وقوله فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا أي في أعناقهم من وضع الظاهر موضع الضمير للدلالة على ما استحقوا به الأغلال وهي محمولة على الظاهر وإن جاز أن يراد بها العلائق. وفي قوله هل تجزون إشارة إلى أنهم استحقوها عدلا. ثم سلى نبيه ﷺ بأن إيذاء الكفار الأنبياء ليس بدعا وإنما ذلك هجيراهم قدما. وإنما خص المترفين
498
بالذكر لأنهم أصل في الجحود والإنكار وغيرهم تبع، ثم استدلوا على كونهم مصيبين في ذلك بكثرة الأموال والأولاد لأنهم اعتقدوا أنهم لو لم يكرموا على الله ما رزقهم، ثم قاسوا أمر الآخرة الموهومة أو المفروضة عندهم على أمر الدنيا فقالوا وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ فبين الله خطأهم بأن القابض الباسط هو الله وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ أن ذلك بمجرد المشيئة لا بالكسب والاستحقاق فكم من شقيّ موسر وتقي معسر. ثم زاد في البيان بقوله وَما أَمْوالُكُمْ أي وما جماعة أموالكم وَلا جماعة أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى أي قربى اسم بمعنى القربة وقع موقع المصدر كقوله وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً [نوح:
١٧] ثم استثنى من ضمير المفعول في تقرّبكم بقوله إِلَّا مَنْ آمَنَ والمراد أن الأموال والأولاد لا تقرّب أحدا إلا المؤمن الصالح ينفق الأموال في سبيل الله ويعلم أولاده الخير والفقه في الدين. ويحتمل أن يكون الاستثناء من الفاعل والمعنى أن شيئا من الأشياء لا يقرّب إلا عمل المؤمن الصالح لأن ما سوى ذلك شاغل عن الله، والعمل الصالح إقبال على العبودية. ومن توجه إلى الله وصل ومن طلب شيئا من الله حصل. وجزاء الضعف من إضافة المصدر إلى المفعول تقديره: فأولئك لهم أن يجازوا الضعف. ومعنى قراءة يعقوب: أولئك لهم الضعف جزاء. والتضعيف يكون إلى العشر وإلى سبعمائة وأكثر كما عرفت. والباقي إلى قوله مُحْضَرُونَ قد سبق. وحين بين أن حصول الترف لا يدل على الشرف ذكر أن بسط الرزق لا يختص بهم ولكنه سبحانه قد يبسط الرزق لمن يشاء من عباده المؤمنين. ثم رتب وعد الإخلاف على الإنفاق وذلك إما في العاجل بالمال أو بالقنوع، وإما في الآخرة بالثواب الذي لا خلف فوقه ولا مثله. ومما يؤكد الآية
قوله ﷺ اللهم «أعط منفقا خلفا» «١»
الحديث. وقول الفقهاء ألق متاعك في البحر وعليّ ضمانه، وأن التاجر إذا علم أن مالا من الأموال في معرض الفناء يبيعه نسيئة وإن كان من الفقراء وإلا نسب إلى الخطأ وسخافة الرأي، ولا ريب أن مال الدنيا في معرض الزوال وأن أغنى الأغنياء قد طلب منا الإقراض ووعد الإضعاف والإخلاف فأي تجارة عند العاقل أربح من هذا؟ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ لأن سلسلة الأرزاق والرزق تنتهي إليه. وعن بعضهم: الحمد لله الذي أوجدني وجعلني ممن يشتهي فكم من مشته لا يجد وواجد لا يشتهي.
ثم حكى عاقبة حال الكفار بقوله وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وفي خطاب الملائكة تقريع الكفار وتقرير لما يعروهم من الخجل والوجل عند اقتصاص ذلك كما مر في قوله لعيسى
(١) رواه البخاري في كتاب الزكاة باب ٢٧. مسلم في كتاب الزكاة حديث ٥٧. أحمد في مسنده (٢/ ٣٠٦، ٣٤٧).
499
أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ [المائدة: ١١٦] قالُوا سُبْحانَكَ ننزهك عن أن نعبد غيرك أنت الذي نواليك ونعادي غيرك في شأن العبادة بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ حيث أطاعوهم في عبادة غيرك فهم كانوا يطيعونهم وكنا نحن كالقبلة، أو صوّرت لهم الشياطين صور قوم من الجن وقالوا: هذه صور الملائكة فاعبدوها، أو كانوا يدخلون في أجواف الأصنام فيعبدون بعبادتها. وإنما قالوا أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ وما ادّعوا الإحاطة لأن الذين رأوهم وأطلعهم الله على أحوالهم كانوا كذلك ولعل في الوجود من لا يطلع الله الملائكة عليه من الكفار.
وأيضا أن العبادة عمل ظاهر والإيمان عمل باطن، والاطلاع على عمل القلب كما هو ليس إلا الله وحده فراعوا الأدب الجميل والحكم على الظاهر أكثري. ثم ذكر أن الأمر في ذلك اليوم لله وحده والخطاب في قوله لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ للملائكة والكفار وإن كان الكفار غائبين كما تقول لمن حضر عندك ولمن شاركه في أمر بسببه: أنتم قلتم كذا على معنى أنت قلت وهم قالوا. ويحتمل أن يكون الخطاب للكفار لأن ذكر اليوم يدل على حضورهم أو لهم وللملائكة أيضا بهذا التأويل، وعلى الأول يكون قوله وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا إفرادا للكفرة بالذكر، وعلى الوجه الآخر يكون تأكيدا لبيان حالهم في الظلم وذكر الضر تأكيد لعدم تملكهم شيئا وإلا فهو غير متصور في ذلك اليوم. وإنما قال هاهنا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ وفي السجدة عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ [الآية: ٢٠] لأنهم هناك قد رأوا النار بدليل قوله كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها [الآية: ٢٠] فقيل لهم ذوقوا العذاب المؤبد الذي كنتم به تكذبون في قولكم لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً [البقرة: ٨٠] وهاهنا لم يروا النار. وقيل: لأنه مذكور عقيب الحشر والسؤال فناسب التوبيخ على تكذيبهم بالنار. ثم حكى أكاذيبهم بقوله وَإِذا تُتْلى الآية. ولا يخفى ما فيه من المبالغات. ثم بين أن أقوالهم هذه لا تستند إلا إلى محض التقليد فقال وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها فالآيات البينات لا تعارض إلا بالبراهين العقلية وما لهم من دليل أو بالنقليات وما عندهم من كتاب ولا رسول غيرك وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كعاد وثمود وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ والمعشار كالمرباع وهما العشر والربع. قال الأكثرون: معناه وما بلغ هؤلاء المشركون عشر ما آتينا المتقدمين من القوة والنعمة وطول العمر. ثم إن الله أخذهم وما نفعهم محصولهم فكيف حال هؤلاء الضعفاء؟. وقال بعضهم: أراد وما بلغ الذين من قبلهم معشار ما آتينا قوم محمد ﷺ من البيان والبرهان لأن محمدا ﷺ أفصح الرسل وكتابه أوضح الكتب. ثم إن المتقدمين أنكر عليهم تكذيبهم فكيف لا ينكر على هؤلاء؟ قال جار الله: قوله فَكَذَّبُوا رُسُلِي بعد قوله وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ تخصيص بعد تعميم كأنه قيل: وفعل الذين من قبلهم التكذيب فكذبوا رسلي؟ نظيره قول القائل: أقدم
500
فلان على الكفر فكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم. ويجوز أن ينعطف على قوله وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما كقولك: ما بلغ زيد معشار فضل عمرو فيفضل عليه. قلت: فعلى هذا تكون الفاء للسببية، والمعنى أنه إذا لم يبلغ معشار فضله فكيف يفضل عليه؟ وكذا في الآية فيصير المعنى أنهم إذا لم يبلغوا معشار الأقدمين فكيف كذبوا؟ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ للمكذبين الأوّلين فليحذروا من مثله. ويجوز عندي أن يكون الثاني تكريرا للأول لأجل ترتب النكير عليه كأنه قيل: فإذ قد صح أنهم فعلوا ما ذكرنا فلا جرم ذاقوا وبال أمرهم نظيره قولك لمن بحضرتك: فعلت كذا وكذا، فإذا فعلت ذلك فتربص.
وبعد تقرير الأصول الثلاثة: التوحيد والرسالة والحشر كررها مجموعة بقوله قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أي بخصلة أو حسنة أو كلمة واحدة وقد فسرها بقوله أَنْ تَقُومُوا على أنه عطف بيان لها. والقيام إما حقيقة وهو قيامهم عن مجلس النبيّ متفرقين إلى أوطانهم. وإما مجاز وهو الاهتمام بالأمر والنهوض له بالعزم والجد. فقوله مَثْنى وَفُرادى إشارة إلى جميع الأحوال لأن الإنسان إما أن يكون مع غيره أو لا فكأنه قال: أن تقوموا لله مجتمعين ومنفردين لا تمنعكم الجمعية عن ذكر الله ولا يحوجكم الانفراد إلى معين يعينكم على ذكر الله. وقوله ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا يعني اعترفوا بما هو الأصل وهو التوحيد ولا حاجة فيه إلى تفكر ونظر بعد ما بان وظهر، ثم تتفكروا فيما أقول بعده، وهو الرسالة المشار إليها بقوله ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ والحشر المشار إليه بقوله بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ قيل: وفيه إشارة إلى عذاب قريب كأنه قال: ينذركم بعذاب يمسكم قبل الشديد. فمجموع الأمور الثلاثة شيء واحد، أو المراد أنه لا يأمرهم في أوّل الأمر بغير التوحيد لأنه سابق على الكل لا أنه لا يأمرهم في جميع العمر إلا بشيء واحد. وعند جار الله: الخصلة الواحدة هي الفكر في أمر محمد ﷺ والمعنى: إنما أعظكم بواحدة إن فعلتموها أصبتم الحق وهو أن تقوموا لوجه الله خالصا متفرقين اثنين اثنين وواحدا واحدا، فإن ما فوق الاثنين والواحد يوجب التشويش واختلاف الرأي فيعرض كل من الاثنين محصول فكره على صاحبه من غير عصبية ولا اتباع هوى، وكذلك الفرد يفكر في نفسه بعدل ونصفة حتى يجذب الفكر بصنعه إلى أن هذا الأمر المستتبع لسعادة الدارين لا يتصدّى لادعائه إلا رجلان: مجنون لا يبالي بافتضاحه إذا طولب بالبرهان، وعاقل اجتباه الله بسوابق الفضل والامتنان لتكميل نوع الإنسان. لكن محمدا ﷺ بالاتفاق أرجح الناس عقلا وأصدقهم قولا وأوفرهم حياء وأمانة، فما هو إلا النبيّ المنتظر في آخر الزمان المبعوث بين يدي عذاب شديد هو القيامة وأهوالها. وقوله ما بِصاحِبِكُمْ إما أن يكون كلاما مستأنفا فيه تنبيه على كيفية النظر في أمر النبيّ ﷺ والمراد: ثم تتفكروا
501
فتعلموا ذلك. وجوز بعضهم أن تكون «ما» استفهامية. وحين ذكر أنه ما به جنة ليلزم منه كونه نبيا ذكر وجها آخر يلزم منه صحة نبوّته وهو قوله ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ الآية. وتقريره أن العاقل لا يركب العناء الشديد إلا لغرض عاجل وهو غير موجود هاهنا بل كل أحد يعاديه ويقصده بالسوء، أو لغرض آجل ولا يثبت إلا على تقدير الصدق فإن الكاذب معذب في الآخرة لا مثاب. هذا إذا أريد بقوله فَهُوَ لَكُمْ نفي سؤال الآخر رأسا كما يقول الرجل لصاحبه: إن أعطيتني شيئا فخذه وهو لم يعطه شيئا. ويحتمل أن يراد بالأجر قوله لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى [الشورى: ٢٣] وقوله ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا [الفرقان: ٥٧] لأن المودة في القربى قد انتظمته وإياهم وكذا اتخاذ السبيل إلى الله عز وجل فيه نصيبهم ونفعهم. وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ يعلم أني لا أطلب الأجر على نصحكم أو يعلم أن فائدة النصح تعود عليكم. قوله يَقْذِفُ بِالْحَقِّ أي في قلوب المحقين وفيه إزالة استبعاد الكفرة تخصيص واحد منهم بإنزال الذكر عليه فإن الأمر بيد الله والفضل له يؤتيه من يشاء وإنه عَلَّامُ الْغُيُوبِ يعلم عواقب الأمور ومراتب الاستحقاق فيعطى على حسب ذلك لا كما يفعل الهاجم الغافل، أو أراد يقذف بالحق على الباطل فيدمغه، وذلك أن براهين التوحيد قد ظهرت وشبه المبطلين قد دحضت. وفي قوله عَلَّامُ الْغُيُوبِ إشارة إلى أن البرهان الباهر لم يقم إلا على التوحيد والرسالة، وأما الحشر فالدليل عليه إخبار علام الغيوب عنه.
وحين ذكر أنه يقذف بالحق وكان ذلك بصيغة الاستقبال أخبر أن ذلك الحق قد جاء وهو القرآن والإسلام وكل ما ظهر على لسان النبي ﷺ وعلى يده. وقيل: السيف. وقوله وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ مثل في الهلاك لأن الحيّ إما أن يبدىء فعلا أو يعيده، فإذا هلك لم يبق له إبداء ولا إعادة. والتحقيق فيه أن الحق هو الموجود الثابت. ولما كان ما جاء به النبي ﷺ من بيان التوحيد والرسالة والحشر ثابتا في نفسه بينا لمن نظر إليه كان جائيا، وحين كان ما أتوا به من الإصرار والتكذيب مما لا أصل له قيل: إنه لا يبدىء ولا يعيد أي لا يعيد شيئا لا في الأوّل ولا في الآخر. وقيل: الباطل إبليس لأنه صاحب الباطل ولأنه هالك والمراد أنه لا ينشىء خلقا ولا يعيد وإنما المنشئ والباعث هو الله. وعن الحسن: لا يبدىء لأهله خيرا ولا يعيده أي لا ينفعهم في الدنيا والآخرة. وقال الزجاج:
«ما» استفهامية والمعنى أي شيء ينشىء إبليس ويعيده؟ ثم قرر أمر الرسالة بوجه آخر وهو قوله قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي يعنى كضلالكم وأما اهتدائي فليس بالنظر والاستدلال كاهتدائكم وإنما هو بالوحي المبين. قال جار الله: هذا حكم عام لكل مكلف،
502
والتقابل مرعي من حيث المعنى والمراد أن كل ما هو وبال على النفس وضارّ لها فهو بها وبسببها لأنها الأمارة بالسوء وما لها مما ينفعها فبهداية ربها وتوفيقه. وإنما أمر رسوله أن يسنده إلى نفسه لأن الرسول إذا دخل تحته مع جلالة محله وسداد طريقته كان غيره أولى به إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ يدرك قول كل ضال ومهتد وفعله لا يعزب عنه منهما شيء، وفيه أن الرسول ﷺ إذا دعاه على من يكذبه أجابه ليس كمن يسمع من بعيد ولا يلحق الداعي. ثم عجب نبيه أو كل راء من مآل حال أهل العناد بقوله وَلَوْ تَرى وجوابه محذوف أي لرأيت أمرا عظيما. والأفعال الماضية التي هي فَزِعُوا وَأُخِذُوا وَقالُوا وَحِيلَ كلها من قبيل وَنادى [الأعراف: ٤٨] وَسِيقَ [الزمر: ٧٣] ووقت الفزع وقت البعث أو الموت أو يوم بدر. وعن ابن عباس: نزلت في خسف البيداء وهم ثمانون ألفا أرادوا غزو الكعبة وتخريبها فخسف بهم حين دخلوا البيداء فَلا فَوْتَ أي فلا يفوتون الله ولا يسبقونه.
والأخذ من مكان قريب هو من الموقف إلى النار، أو من ظهر الأرض إلى بطنها، أو من صحراء بدر إلى القليب، أو من تحت أقدامهم إلى الأرض. وجوّز جار الله أن يعطف وَأُخِذُوا على فَلا فَوْتَ على معنى إذ فزعوا فلم يفوتوا وأخذوا. ثم بين أنهم سيؤمنون بمحمد ﷺ أو بالقرآن أو بالحق حين لا ينفع الإيمان وذلك قوله وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ وهو تناول سهل لشيء قريب مثلت حالهم بحال من يريد أن يتناول الشيء من بعيد كما يتناوله الآخر من قريب تناولا سهلا لا تعب فيه، أو أراد أن تناولهم التوبة وإيمانهم في الآخرة بعيد عن الدنيا فإن أمس الدابر لا يعود وإن كانت الآخرة قريبة من الدنيا ولهذا سماها الله الساعة وكل ما هو آت قريب. وعن أبي عمرو: التناؤش بالهمز التناول من بعد من قولهم: نأشت بالهمزة أي أبطأت وتأخرت. والأصح أنه من النوش كما مر همزت الواو المضمومة كما همزت في أجوه. وقيل: التناوش بلغة اليمن التذكرة قاله أبو القاسم الحسن بن محمد بن حبيب في كتاب «المدخل في تفسير القرآن» والضمير في قوله وَقَدْ كَفَرُوا عائد إلى ما يعود إليه في قوله آمَنَّا بِهِ.
قوله وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ فيه وجوه أحدها: أنه قولهم في رسول الله ﷺ شاعر ساحر وهذا تكلم بالأمر الخفي وقد أتوا به من جهة بعيدة عن حاله لأنهم قد عرفوا منه الأمانة والصدق لا الكذب والزور. وثانيها: أخذوا الشريك من حالهم في العجز فإنهم يحتاجون في الأمور العظام إلى التعاون فقاسوا الأمر الإلهي عليه. وثالثها: أنهم قاسوا قدرة الله على قدرتهم عجزوا عن إحياء الموتى فظنوا أن الله لا يقدر على البعث، وقياس الخالق على المخلوق بعيد المأخذ. ورابعها: قاسوا أمر الآخرة على الدنيا قائلين إن كان الأمر كما
503
تصفون من قيام الساعة وحصول الثواب والعقاب فنحن أكرم على الله من أن يعذبنا.
وخامسها: قالوا رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً [السجدة: ١٢] وهو قذف بالغيب من مكان بعيد وهو الدنيا. وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ من نفع الإيمان في الآخرة أو من الرد إلى الدنيا كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ أي بأشباههم من كفرة الأمم لم ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأس الله ومُرِيبٍ موقع في الريب منقول من الأعيان إلى المعنى أو ذو ريبة وذلك باعتبار صاحبه وكلاهما مجاز بوجهين وقد مر في هود.
التأويل:
مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ القلوب وَلا فِي الْأَرْضِ النفوس من سعادة أو شقاوة قالُوا الْحَقَّ يعني ما فهموا من الهيبة كلامه ولكن يعلمون أنه لا يقول إلا الحق قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ من سموات القلوب وأرض النفوس إذا نزل من سماء القلب ماء الفيض على أرض الشرعية. أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ من الدنيا والهوى والشيطان كافة للناس من أهل الأولين والآخرين في عالم الأجساد وهو ظاهر، وفي عالم الأرواح تبشرها بأن لها كمالا عند الاتصال بالأشباح وتنذرها بالحرمان إن لم تتعلق بالأجسام، وذلك أن الأرواح علوية نورانية والأشباح سفلية مظلمة لا يحصل بينهما التعلق إلا بالتبشير والإنذار. فالروح بمثابة البذر والقالب كالأرض، وشخص الإنسان بمثابة الشجرة، والتوحيد والمعرفة ثمرتها، والشريعة كالماء والبشير والنذير كالآكار. وإذا أمعنت النظر وجدت شجرة الموجودات نابتة من بذر روحه ﷺ وهو ثمرة هذه الشجرة مع جميع الأنبياء والمرسلين ولكن بتبعية محمد ﷺ ولهذا حصلت له رتبة الشفاعة دونهم. يقولون يعني أرباب الطلب يستعجلون متى نصل إلى الكمال الذي بشرتمونا به. ثم بين أن لثمرة كل شجرة وقتا معلوما لا تتجاوزه أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ أي أكثر مدعي الإسلام بأهل الأهواء مؤمنون وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ فيه أن معارف الأسرار ومراتب الأحرار لا تصلح لمن هو أسير في أيدي صفات النفس وَحِيلَ بَيْنَهُمْ لأن الدين ليس بالتمني والله أعلم بحقائق الأشياء والله الموفق.
504
Icon