تفسير سورة المنافقون

غاية الأماني في تفسير الكلام الرباني
تفسير سورة سورة المنافقون من كتاب غاية الأماني في تفسير الكلام الرباني المعروف بـغاية الأماني في تفسير الكلام الرباني .
لمؤلفه أحمد بن إسماعيل الكَوْرَاني . المتوفي سنة 893 هـ

سورة المنافقون
مدنية، وهي إِحْدَى عشرَة آيَة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ... (١) إنشاء جار مجرى القسم؛
ولذلك أكد بـ " إنَّ " و " اللام " يتضمن ادعاء المواطأة بين القلب واللسان. (وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ) وأن ما قالوه كلام مطابق للواقع قطعاً. (وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ) في ادعاء المواطأة؛ لأنهم يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم. أو كاذبون في أنفسهم لا يعتقدون صدق مقالتهم ومطابقتها للواقع. وإنما اعترض بقوله: (وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ)؛ ليميط رجوع التكذيب إلى قولهم " إنك لرسول اللَّه ".
(اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً... (٢) وقاية. استئناف لبيان فائدة تلك الشهادة التي هي بمثابة اليمين. أو كلام مستقل لعد قبائحهم، وأن من دأبهم الاتقاء بالأيمان الكاذبة كما استجنوا بالشهادة الكاذبة. (فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) أعرضوا، أو منعوا غيرهم عن سلوكها. (إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) من النفاق. إنشاء، كأنه قيل: ما أسوأ ما ارتكبوه.
(ذَلِكَ... (٣) كله (بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ) منع من دخول نور الحق فيها (فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ) شيئاً من الحق؛ فلذلك جسروا على تلك العظائم. وإنما قال:
(آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا) مع أنهم لم يؤمنوا طرفة عين؛ لأنهم نطقوا بالشهادة ثم ظهر كفرهم. أو نطقوا عند المؤمنين وكفروا بها عند شياطينهم. والحمل على أهل الردة بعيد ناب عنه المقام.
(وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ... (٤) هياكلهم لرواء منظرهم وجسامتهم، (وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ) لفصاحة كلامهم، وحلاوة ألفاظهم. قيل: كان ابن أبي رأس المنافقين وبعض أتباعه جساماً وساماً فصحاء بلغاء. والخطاب في (رَأَيْتَهُمْ) إما لرسول اللَّه - ﷺ - أو عام، والأول أوجه؛ لتقدم (إِذَا جَاءَكَ)، ولأنه إذا أعجبته فغيره أولى. (كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ) إلى الحائط لعدم الانتفاع بها بوجه، أو كالأصنام المسندة إلى الحيطان في حسن الصور وبهجة المنظر. قرأ أبو عمرو، وقنبل، والكسائي بإسكان الشين إما مخفف خشب، أو جمع خشباء وهي الخشبة المجوفة. وهذا أخف وأقوى شبهاً. وناهيك بسفالة النفاق خلة حيث شبه أهله بجماد هذا شأنه، وشبه الكفار بالأنعام. (يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ) واقعة عليهم. وقيل: كانوا خائفين من أن ينزل فيهم ما يهتك أستارهم ويظهر أسرارهم، ويبيح دماءهم وديارهم. (هُمُ الْعَدُوُّ) لا غير. لأن أعدى العدو من يلقاك بوجه الصديق؛ لوقوفه على أسرارك، وتمكنه من إشاعة أخبارك. وقيل: (عليهم) صلة، و (هُمُ الْعَدُوُّ) المفعول الثاني، والتذكر باعتبار الخبر، وليس بوجه. (فَاحْذَرْهُمْ) خذ حذرك منهم ولا تغتر.
(قَاتَلَهُمُ اللَّهُ) لعنهم اللَّه. دعاء منه تعالى ينبئ عن فرط السخط. أو تعليم للمؤمنين. (أَنَّى يُؤْفَكُونَ) يصرفون عن الحق. تعجيب عن العدول بعد موجب الإقبال والقبول.
(وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ... (٥) أمالوها ولم يلقوا السمع إليه. قرأ نافع (لَوَوْا) مخففاً، وقراءة القوم أبلغ. (وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ) يعرضون فضلاً عن الاستماع. (وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ) رافعون أنفسهم فوق حدها. اتفق الثقاة على أن السورة نزلت في ابن سلول، كان مع رسول اللَّه - ﷺ - في غزوة تبوك أو بني المصطلق، فاقتتل على الماء جهجاه بن سعد الغفاري. وكان أجيراً لعمر بن الخطاب، وسنان بن يزيد وكان حليفاً لابن سلول، فبلغ ذلك ابن سلول وكان عنده جمع من الأنصار، فقال: أَوَفَعلوها واللَّه ما مثلنا ومثلهم إلا كما قيل: " سمن كلبك يأكلك " واللَّه لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، فنقل كلامه زيد بن أرقم إلى رسول اللَّه - ﷺ -، فأرسل
رسول اللَّه - ﷺ - إلى ابن سلول فحلف أنه لم يقل شيئاً من ذلك، فقال عم زيد له: ما أردت إلى أن كذبك رسول اللَّه ومقتك. قال: فبت في شر ليلة، فلما قفل رسول اللَّه - ﷺ - لقيني في الطريق، ضحك في وجهي وفرك أذني، فلقيني عمر فقال: ماذا قال لك رسول اللَّه؟ قلت: ما زاد على أن ضحك في وجهي وفرك أذني. وكذلك سألني أبو بكر، فلما نزل قرأ عليهم السورة وقال: إن اللَّه قد صدقك يا غلام. ثم أرسل إليهم ليستغفر لهم لَوَّوْا رءوسَهم.
(سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ... (٦) لا يؤمنون بك، ولا يعتدون باستغفارك. (لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ)؛ لعلمه بأنهم أهل الدرك الأسفل، ومن الذين ذرأهم لجهنم.
(إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) المنهمكين في الكفر والنفاق.
(هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا... (٧) قاله ابن سلول ذلك اليوم. (وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) قادر على إغناء محمد وأصحابه عن إنفاق الأنصار. وإنما وفق الأنصار لذلك؛ لينالوا به القربة والزلفى. (وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ) ذلك.
(يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ... (٨) يريد بالأعز نفسه وبالأذل رسول اللَّه. (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) مختصة بهم لا حظَّ لغيرهم فيها، ولا ينافيه (إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا)؛ لأن عزة الرسول والمؤمنين عزة اللَّه تعالى. (وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ) أعاد المظهر؛ لئلا يفارقهم هذا الوصف. (لَا يَعْلَمُونَ) ليسوا من ذوي العلم ليدركوا هذا الأمر الجلي. ولما كان في أمر الرزق نوع خفاء في بادئ الرأي جعل الفاصلة الفقه المنبئ عن نوع تعمل. وعن قتادة: أن ابنه عبد اللَّه لما بلغه ذلك جاء إلى رسول اللَّه - ﷺ -
وقال: إن كنت قاتلاً أبي فمرني به لأحمل إليك رأسه، وواللَّه لقد علمت الخزرج أن ليس فيهم أبر بوالديه مني، وأخاف أن يقتله غيري فلا أحتمله فأدخل النار، فقال: لا نقتله، بل نحسن صحبته.
وعن عكرمة وابن زيد أنه وقف بباب المدينة وسلَّ سيفه، فلما جاء أبوه قال له: وراءك، حتى جاء رسول اللَّه - ﷺ - وهو حابسه، فشكى إليه، فقال له: خل سبيله. وقيل: لم يمكنه حتى أقر أنه الأذل ورسول اللَّه هو الأعز، فدعا له رسول اللَّه - ﷺ -.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ... (٩) لما كان اغترار المنافقين بالحطام الفاني، وأنهم إذا لم ينفقوا على المؤمنين يتلاشى أمرهم، ورد اللَّه عليهم بأنه مالك خزائن السموات والأرض، وكان فيه إشارة إلى أنه سيغني المؤمنين، ويفيض عليهم من خزائنه بما ليس في حسابهم، نهاهم عن الاشتغال بها عن ذكر اللَّه قبل وجودها؛ ليوطنوا أنفسهم على ذلك. والمنهي التوجه إليها بحيث يفوت القيام بحق العبادة. ألا يرى إلى قوله في
معرض المدح: (رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ). (وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) لاستبدالهم الخسيس بالشريف.
(وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ... (١٠) بعض ما رزقناكم (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) أماراته ومخائله، (فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ). فعلى العاقل المبادرة إلى التصدق، إذ كل لمحة بصدد الموت، ولا يغتر بالصحة إذ كم صحيح مات وكم سقيم عاش قال:
تَعجَبينَ مِن سقَمي صِحُّتي هِيَ العَجَبُ
وقرأ أبو عمرو " أكون " بالنصب عطفاً على لفظ (فَأَصَّدَّقَ) وهو الأظهر؛ لاحتياج الجزم إلى التقدير. أي. إن أخرتني أصدق وأكن.
(وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا (١١) انتهاء عمرها. (وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) فاختاروا لنفسكم ما شئتم.
وقرأ أبو بكر بياء الغيبة، نظراً إلى (أُولَئِكَ هُمُ) والخطاب لقوله: (لَا تُلْهِكُمْ)، وهذا أشد تهديداً.
* * *
170
تمت سورة المنافقين، والحمد للَّه رب العالمين، والصلاة على صفوة المرسلين، وآله وصحبه أجمعين.
* * *
171
Icon