تفسير سورة الأعلى

غاية الأماني في تفسير الكلام الرباني
تفسير سورة سورة الأعلى من كتاب غاية الأماني في تفسير الكلام الرباني المعروف بـغاية الأماني في تفسير الكلام الرباني .
لمؤلفه أحمد بن إسماعيل الكَوْرَاني . المتوفي سنة 893 هـ

سُورَةُ الْأَعْلَى
مكية، وهي سبع عشرة آية

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

(سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (١) الخطاب عام، أو له وأمته تبع. وكما يجب أن ينزه ذاته عمّا لا يليق من الأوصاف، فكذا الأسماء الدالة عليه تحمل على معاني الكمال والجلال، وتصان عن التأويلات الزائغة، وأن لا يذكر إلا على وجه التعظيم؛ تأدباً بآداب اللَّه. ألا يرى إلى قوله: (وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى) كيف يرشد إلى ذلك؟ (الأعلى) الأولى جعله صفة للاسم، ويجوز أن يكون وصفاً للرب. عن عقبة بن عامر قال: " لما نزل (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) قال لنا رسول اللَّه - ﷺ -: اجعلوه في ركوعكم، ولما نزل (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) قال: اجعلوه في سجودكم ".
(الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (٢) خلق كل شيء فسواه، بأن جعل له ما يتأتى كماله به ويتم معاشه.
(وَالَّذِي قَدَّرَ... (٣) الأشياء أجناساً وأنواعاً وأشخاصاً. (فَهَدَى) بنصب الدلائل، والإلهام وإرسال الرسل، وإنزال الآيات. قرأ الكسائي: "قَدَرَ " مخففاً من القدرة، والتشديد أبلغ وأوفق بسائر الآيات.
(وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (٤) النبات الذي ترعاه الدواب. (فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى (٥) حطاماً أسود بعد خضرته ورفيفه. والأولى جعل " أحوى " حالاً من المرعى. أي: أخرجه أسود من شدة الخضرة، والفاصل بين الحال وصاحبها ليس أجنبياً. وفي تقديمه إشاره إلى سرعة طريان الجفاف كأنه قيل: إن يتمّ رفيفه يصير غثاء.
(سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (٦) كأنه لما أمر بتنزيه اسمه خالج قلبه خوف النسيان، فبشره تعالى بإكمال قوته الحافظة بأن لا ينسى شيئاً. (إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ... (٧) نسيانه، ولا بأس عليه في ذلك. وفي الحديث: " إِنِّمَا أَنَا بَشرٌ أَنسَى كَمَا تَنْسَوْنَ، فَإِذَا نَسِيتُ فَذَكِّرُونِي "، أو
إلا ما شاء اللَّه نسيانه برفع تلاوته وحكمه، وقيل: نفى النسيان رأساً. وقيل: نهي، والألف للفاصلة. (إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى) وقد علم خوفك من النسيان ولذلك أزاله عنك. أو عالم بالأحوال، ولذلك تنسى ما فيه حكمة ومصلحة، أو يعلم جهرك في القراءة مع جبرائيل مخافة فوت شيء منه، فلذلك ضمن لك حفظه.
(وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى (٨) نوفقّك للطريقة التي هي أيسر الطرق، وهي شريعته التي لا إصر فيها ولا إغلال كما قال - ﷺ -: " جئتكم بالحنيفية السمحاء لو كان ابن عمران حياً لما وسعه إلا اتباعي ". عطف على " سنقرئك ". وقوله: (إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى) اعتراض.
(فَذَكِّرْ... (٩) اشتغل بالتذكير بعد أمنك من النسيان. (إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى) كان مأموراً بالتبليغ والدعوة نفعت الذكرى أو لم تنفع، فلما دعاهم وبلغ في ذلك أقصى جهده حتى قال له: (لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) أشار إلى استبعاد النفع فيهم كأنه قال: افعل ما أمرت به لتؤجر، وإن كانوا أهل الطبع. أو المعنى: ذكّر
المؤمنين وأعرض عن هؤلاء (فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) يؤيده قوله: (سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى (١٠) يخشى اللَّه فإنه يتفكر في الآيات ويتعظ بالمواعظ.
(وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (١١) أي: الكامل في الشقاوة وهو الكافر. و " أفعل " للزيادة المطلقة؛ لدخول الفاسق في السعداء في قوله: (فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ).
(الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى (١٢) نار جهنم في مقابلة النار الصغرى وهي نار الدنيا، أو الدرك الأسفل.
(ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا... (١٣) فيستريح. (وَلَا يَحْيَى) حياة طيبة. " ثم "؛ للدلالة على أن كونه لا ميتاً ولا حياً أقطع من دخول النار. وروى مسلم عن أبي سعيد عن رسول اللَّه - ﷺ -: " أنّ أهل النار الذين لا يريد اللَّه إخراجهم لا يموتون فيها ولا يحيون؛ والذين يريد إخراجهم يميتهم فيها إماتة ثم يخرجون فيلقون في أنهار الجنة ".
(قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (١٤) تطهر من أوضار الشرك والمعاصي، أو تكثّر من صفات التقوى، أو تطهّر للصلاة، أو آتى الزكاة. والرواية عن علي: " أن المراد زكاة الفطر ". لا
تصح؛ لأن السورة مكية، ولا عيد بها ولا فطر. والأوجه حمله على التزكي في الأعمال والإخلاص فيها؛ لقوله: (وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ).
(وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (١٥) ولا دلالة فيه على تكبيرة الافتتاح ليستدل به على خروجها عن الصلاة. وجواز قيام سائر الأذكار مقام التكبير.
(بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (١٦) الخطاب عام أو خاص بأهل مكة. والمضرب عنه (قَد أَفْلَحَ)، أو (ذَكَرَ) أي: تؤثرون الحياة على الفلاح أو الذكر، وقرأ أبو عمرو بالغيبة باعتبار (الْأَشْقَى) إذا لم يرد به معين. والخطاب أولى؛ لقول ابن مسعود - رضي الله عنه - " عجلت لنا الدنيا فآثرناها "، ولقراءة أُبيٍّ: (بَلْ أَنتمْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدنيا) وفيه إشارة إلى قلة النفوس الكمّل، على أسلوب (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَكُورُ).
(وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (١٧) إذ نعم الدنيا لا تشارك نعم الآخرة إلا في الاسم مع سرعة زوالها.
(إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (١٨) المشار إليه جميع ما في السورة، أو (قَدْ أَفْلَحَ منْ تَزَكَّى)، أو (خَيْرٌ وَأَبْقَى). والأول أعمِّ وأصح؛ لما روى النسائي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن رسول اللَّه - ﷺ - قال: " كلها ".
(صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى (١٩) روي عن أبي ذر أنَّ رسول اللَّه - ﷺ - قال: " أنزل اللَّه تعالى مائة وأربعة كتب، على آدم عشر صحائف، وعلى شيت خمسين، وعلى إدريس ثلاثين، وعلى إبراهيم عشراً، والتوراة والزبور، والإنجيل، والفرقان ".
* * *
تمت سورة الأعلى، والحمد لمن له الأسماء الحسنى، والصلاة على صاحب المعراج والإسراء، وآله وصحبه أولي الفضائل والتقى.
* * *
Icon