تفسير سورة العلق

حاشية الصاوي على تفسير الجلالين
تفسير سورة سورة العلق من كتاب حاشية الصاوي على تفسير الجلالين .
لمؤلفه الصاوي . المتوفي سنة 1241 هـ

قوله: (مبتدئاً) ﴿ بِٱسْمِ رَبِّكَ ﴾ أي قل: باسم الله ثم اقرأ ما يوحي إليك، فالياء متعلقة بمحذوف حال، ومفعول ﴿ ٱقْرَأْ ﴾ محذوف، وقيل: إن الباء مزيدة، والتقدير ﴿ ٱقْرَأْ بِٱسْمِ رَبِّكَ ﴾ وعبر بالرب تلطفاً به صلى الله عليه وسلم، وإشارة إلى أنه تعالى، كما ربى جسمه، يربي أمته وقرآنه، قال البوصيري في هذا المعنى: سور منه أشبهت صوراً   منا ومثل النظائر النظراءوإضافة رب إلى كاف الخطاب للتشريف. قوله: ﴿ ٱلَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ ٱلإِنسَانَ ﴾ يجوز أن يكون الثاني توكيداً لفظياً نظير: قام قام زيد، ويجوز أن يكون تفسيراً للأول، أبهمه ثم فسره تفخيماً بـ ﴿ خَلَقَ ٱلإِنسَانَ ﴾ ويجوز أن يكون حذف المفعول من الأول تقديره ﴿ خَلَقَ ﴾ (الخلائق) كما قال المفسر، وقوله: ﴿ خَلَقَ ٱلإِنسَانَ ﴾ تخصيص له بالذكر لشرفه. قوله: (الجنس) أي الصادق بالذكر والأنثى. قوله: (جمع علقة) أي لأن كل واحد مأخوذ من علقة كما في الآية الأخرى، وأطلق الجمع على العلق تسمحاً أو هو جمع لغوي، وإلا فـ ﴿ عَلَقٍ ﴾ اسم جنس جمعي. قوله: (من الدم الغليظ) أي الذي أصله المني، فأول الأطوار المني، ثم العلقة وهو الدم الغليظ المتجمد، ثم المضغة، إلى آخر ما ذكر الله تعالى في آية المؤمنون. قوله: (تأكيد للأول) هذا أحد قولين، والآخر أنه تأسيس، فالأول معناه اقرأ في نفسك، والثاني معناه اقرأ للتبليغ وتعليم الأمة. قوله: (الذي لا يوازيه كريم) أي لا يساويه فضلاً عن أن يزيد عليه، لأنه تعالى يعطي الشيء من غير عوض ولا غرض، وليس ذلك لأحد غيره. قوله: (حال من ضمير اقرأ) أي فالمعنى: اقرأ ما يوحي إ ليك، والحال أن ربك الأكرم لا ينتظر منك عوضاً ولا يخزيك، فهو تطمين له صلى الله عليه وسلم حيث خشي على نفسه أن لا يقوم بما أمره به ربه. قوله: ﴿ ٱلَّذِى عَلَّمَ ﴾ ﴿ عَلَّمَ ﴾ ينصب مفعولين، وهما محذوفان هنا، والتقدير: علم الإنسان الخط بالقلم، والمفسر قدر الثاني وسكت عن تقرير الأول اتكالاً على قوله بعد ﴿ عَلَّمَ ٱلإِنسَانَ ﴾.
قوله: (الخط) أي الكتابة التي بها تعرف الأمور الغائبة، وفيه تنبيه على فضل الكتابة، لما فيها من المنافع العظيمة، لأن بها ضبطت العلوم، ودونت الحكم، وعرفت أخبار الماضين وأحوالهم وسيرهم ومقالاتهم، ولولا الكتابة ما استقام أمر الدين ولا الدنيا، ولو لم يكن على دقيق حكمة الله تعالى ولطيف تدبيره دليل إلا القلم والخط لكفى فيه. قوله: ﴿ بِٱلْقَلَمِ ﴾ قال القرطبي: الأقلام الثلاثة في الأصل، القلم الأول: الذي خلقه الله تعالى بيده، وأمره أن يكتب في اللوح المحفوظ، والثاني: قلم الملائكة الذين يكتبون به المقادير والكوائن من اللوح المحفوظ، والثالث: أقلام الناس، يكتبون بها كلامهم، ويصلون بها إلى مآربهم، وعن عمر قال: خلق الله تعالى أربعة أشياء بيده، ثم قال تعالى لسائر الحيوان، كن فكان وهي: القلم والعرش وجنة عدن وآدم عليه السلام. قوله: (إدريس) وقيل آدم. قوله: (الجنس) هذا أحد أقوال، وقيل: المراد به آدم، ومصدق ﴿ مَا ﴾ الأسماء كلها، فهو نظير﴿ وَعَلَّمَ ءَادَمَ ٱلأَسْمَآءَ كُلَّهَا ﴾[البقرة: ٣١] وقيل: هو محمد صلى الله عليه وسلم. قوله: (قبل تعليمه) متعلق بالنفي، والمعنى: علمه الشيء الذي انتفى علمه به قبل أن يعلمه.
قوله: (من الهدى) بيان لما، والمراد به الرشد، والصواب في القول والفعل. قوله: (حقاً) هذا مذهب الكسائي ومن تبعه، عليه فـ ﴿ كَلاَّ ﴾ مرتبطة بما بعدها، لأنه ليس قبلها شيء يقتضي الزجر والردع حتى تكون ﴿ كَلاَّ ﴾ ردعاً له، وقال أبو حيان: وصوبه ابن هشام أنها بمعنى ألا الاستفتاحية، لوجود كسر همزة ﴿ إِنَّ ﴾ بعدها، ولو كانت بمعنى حقاً لما انكسرت ﴿ إِنَّ ﴾ بعدها، لكونها واقعة موقع مفرد، فتحصل أن كونها بمعنى حقاً صحيح من جهة المعنى، إلا أنه يبعده كسر ﴿ إِنَّ ﴾ فكان المناسب للمفسر أن يجعلها بمعنى ألا الاستفتاحية. قوله: (أي نفسه) أشار بذلك إلى أن في رأى ضميراً عائداً على الإنسان هو فاعل الرؤية، والضمير البارز عائد أيضاً مفعوله ورأى هنا قلبية تجوز اتحاد الضميرين متصلين فيها فتقول: رأيتني وظننتني، وقوله: ﴿ ٱسْتَغْنَىٰ ﴾ مفعول ثان، والمعنى: أن الإنسان ليتحقق بالطغيان والكفر من أجل رؤيته نفسه مستغنياً عن الله تعالى. قوله: (نزل في أبي جهل) أي والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فكل من اعتقد أنه غني عن ربه طرفة عين، فقد تحقق بالطغيان والكفر، لأن كل مخلوق مفتقر لخالقه في حركاته وسكناته. قوله: (مفعول له) أي لأجله. قوله: (يا إنسان) أشار بذلك إلى أن الضمير في ﴿ رَبِّكَ ﴾ عائد على ﴿ ٱلإِنسَانَ ﴾ المتقدم ذكره، ففيه التفات من الغيبة للخطاب، تهديداً له وتحذيراً من عاقبة الطغيان، كأنه قال: لا تغتر باستغنائك، فإن مرجعك إلى خالقك، فكما أغناك هو قادر على إفقارك، فلا تعتقد أنه غني حقيقة، فلو أعطي العبد الدنيا ومثلها معها، هو فقير إلى ربه في كل طرفة عين. قوله: (أي الرجوع) أي من الغنى للفقر، ومن العز للذل، ومن القوة للعجز، ومن الحياة للممات، فلا مفر من الله. قوله: (للتعجب) أي التعجيب، وهو إيقاع المخاطب في العجب والخطاب، قيل: للنبي صلى الله عليه وسلم، وقيل: لكل من يتأتى منه الخطاب، واعلم أن رأيت هنا بمعنى أخبرني، فتتعدى إلى مفعولين، ثانيهما جملة استفهامية، وقد ذكرت ثلاث مرات، صرح بعد الثالثة بجملة استفهامية، فهي موضع المفعول الثاني لتلك الثالثة، ومفعولها الأول محذوف، وهو ضمير يعود على الذي ينهى عبداً، وذكر مفعول الأولى الأول، وهو الاسم الموصول، ومفعولها الثاني محذوف، وهو جملة استفهامية كالواقعة بعد الثالثة، حذف لدلالة المذكور عليه، وأما الثانية فمفعولاها محذوفان، لدلالة المفعول الأول من الأولى، والمفعول الثاني من الثالثة عليه: فتحصل أنه حذف المفعول الثاني من الأولى، والمفعولان من الثانية، والأول من الثالثة، لدلالة المذكور، وليس من باب التنازع، لأنه يقتضي اضماراً، والجمل لا تضمر، وإنما الإضمار في المفردات، وجواب الشرط الواقع في حيز الثانية والثالثة محذوف، دل عليه الجملة الاستفهامية. قوله: (هو أبو جهل) وذلك أنه قال:" هل يعفر محمد وجهه بين أظهركم؟ فقيل: نعم، فقال: واللات والعزى لئن رأيته يفعل ذلك لأطأن على رقبته، ولأعفرن وجهه في التراب، قال فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي يصلي ليطأ على رقبته، قال: فما فجئهم منه إلا وهو ينكص على عقبيه ويتقي بيديه، فقيل له: مالك؟ قال: إن بيني وبينه خندقاً من نار، وهؤلاء أجنحة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضواً عضواً ". قوله: ﴿ عَبْداً ﴾ لم يقل ينهاك، تفخيماً لشأنه وتعظيماً لقدره. قوله: (للتقسيم) المناسب أن يقول: بمعنى الواو. قوله: ﴿ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ ﴾ أي دام على التكذيب والتولي. قوله: (أي يعلمه) تفسير ليرى. قوله: (ردع له) أي لأبي جهل.
قوله: ﴿ لَنَسْفَعاً ﴾ يحتمل أن النون للمتكلم المعظم نفسه وهو الله تعالى، أو الله وملائكته، والسفع: القبض على الشيء بشدة، والنون في ﴿ نَسْفَعاً ﴾ للتوكيد الخفيفة، فيوقف عليها بالألف تشبيهاً لها بالتنوين، وتكتب الفاء اتباعاً للوقف، وقرئ شذوذاً لنسفعن بالنون الثقيلة. قوله: ﴿ بِٱلنَّاصِيَةِ ﴾ وهي في الأصل مقدم الرأس أو شعر المقدم، أطلق وأريد هنا الشخص بتمامه قوله: (إلى النار) وقيل في الدنيا يوم بدر لما ورد أنه جاءه عبد الله بن مسعود، فوجده طريحاً بين الجرحى وبه رمق، فخاف أن يكون به قوة فيؤذيه، فوضع الرمح على منخريه من بعيد فطعنه، ثم لم يقدر ابن مسعود على الرقي على صدره لضعفه وقصره، فارتقى إليه بحيلة، فلما رآه أبو جهل قال: يا رويعي الغنم، لقد رقيت مرقى عالياً فقال ابن مسعود: الإسلام يعلو ولا يعلى عليه، ثم قال لابن مسعود: اقطع رأسي بسيفي هذا، لأنه أحد وأقطع، فلما قطع رأسه به لم يقدر على حمله، فشق أذنه وجعل فيه خيطاً وجره إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجبريل بين يديه يضحك. قوله: ﴿ كَاذِبَةٍ ﴾ أي في قولها، وقوله: ﴿ خَاطِئَةٍ ﴾ أي في فعلها، والخطأ ضد الصواب في الدين وغيره، والمراد هنا ارتكاب خلاف الصواب عن قصد، لقول بعضهم: الخاطئ المرتكب خلاف الصواب لا عن عمد. قوله: (أي أهل ناديه) أشار بذلك إلى أن الكلام على حذف مضاف، لأن النادي هو المجلس الذي يتحدث فيه القوم، والمجلس لا يدعى، فاحتيج لتقدير مضاف، والمعنى: فليدع عشريته ليستنصر بهم. قوله: (لما انتهره) أي انتهر النبي صلى الله عليه وسلم أبا جهل، وقوله: (حيث نهاه) أي نهى أبو جهل النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: (لقد علمت ما بها) أي بمكة. قوله: (خيلاً جرداً) أي قصيرة الشعر، وقوله: (مرداً) أي شباباً. قوله: ﴿ سَنَدْعُ ٱلزَّبَانِيَةَ ﴾ واحدها زبنية، بكسر أوله وسكون ثانية وكسر ثالثة، من الزبن وهو الدفع. قوله: (الغلاظ الشداد) أي وهم خزنة جهنم، أرجلهم في الأرض ورؤوسهم في السماء، سمو زبانية لأنهم يزبنون الكفار، أي يدفعونهم في جهنم. قوله: ﴿ صَلَّىٰ ﴾ أي دم على الصلاة، وعبر عنها بالسجود لأنه أفضل أركانها، لما في الحديث:" أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد ". قوله: ﴿ وَٱقْتَرِب ﴾ (منه) أي من الله، وما مشى عليه المفسر، من أن المراد بالسجود الصلاة، هو المشهور عند جمهور الأئمة، وقال الشافعي: المراد بالسجود سجود التلاوة، لما ورد في صحيح مسلم عن أبي هريرة أنه قال:" سجدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في ﴿ إِذَا ٱلسَّمَآءُ ٱنشَقَّتْ ﴾ وفي ﴿ ٱقْرَأْ بِٱسْمِ رَبِّكَ ﴾ سجدتين "فيسن السجود عند الشافعي في هذين الموضعين، ومعنى اقترب. تقرب إلى ربك بطاعته وبالدعاء قال صلى الله عليه وسلم:" أما الركوع فعظموا فيها الرب، وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء فيه فقمن - أي حقيق - أن يستجاب لكم "وكان صلى الله عليه وسلم يكثر من سجوده البكاء والتضرع.
Icon