تفسير سورة العلق

البحر المحيط في التفسير
تفسير سورة سورة العلق من كتاب البحر المحيط في التفسير .
لمؤلفه أبو حيان الأندلسي . المتوفي سنة 745 هـ
سورة العلق
هذه السورة مكية، وصدرها أول ما نزل من القرآن، وذلك في غار حراء على ما ثبت في صحيح البخاري وغيره. وقول جابر : أول ما نزل المدثر. وقول أبي ميسرة عمرو بن شرحبيل : أول ما نزل الفاتحة لا يصح. وقال الزمخشري، عن ابن عباس ومجاهد : هي أول سورة نزلت، وأكثر المفسرين على أن الفاتحة أول ما نزل ثم سورة القلم، انتهى. ولما ذكر فيما قبلها خلق الإنسان في أحسن تقويم، ثم ذكر ما عرض له بعد ذلك، ذكره هنا منبهاً على شيء من أطواره، وذكر نعمته عليه، ثم ذكر طغيانه بعد ذلك وما يؤل إليه حاله في الآخرة.

سورة العلق
[سورة العلق (٩٦) : الآيات ١ الى ١٩]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (١) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (٢) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (٣) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (٤)
عَلَّمَ الْإِنْسانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (٥) كَلاَّ إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (٦) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى (٧) إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى (٨) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى (٩)
عَبْداً إِذا صَلَّى (١٠) أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى (١١) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى (١٢) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (١٣) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى (١٤)
كَلاَّ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ (١٥) ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ (١٦) فَلْيَدْعُ نادِيَهُ (١٧) سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ (١٨) كَلاَّ لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (١٩)
السَّفْعُ، قَالَ الْمُبَرِّدُ: الْجَذْبُ بِشِدَّةٍ، وَسَفَعَ بِنَاصِيَةِ فَرَسِهِ: جدب، قال عَمْرُو بْنُ مَعْدِ يَكْرِبَ:
قَوْمٌ إِذَا كَثُرَ الصِّيَاحُ رَأَيْتَهُمْ مِنْ بَيْنِ مُلْجِمِ مُهْرِهِ أَوْ سَافِعِ
وَقَالَ مُؤَرِّجٌ: مَعْنَاهُ الْأَخْذُ بِلُغَةِ قُرَيْشٍ، النَّادِي وَالنَّدَى: الْمَجْلِسُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَعْرَابِيَّةِ: سَيِّدُ نَادِيهِ وَثِمَالُ عَافِيهِ، وَقَالَ زُهَيْرٌ:
وَفِيهِمْ مَقَامَاتٌ حِسَانٌ وُجُوهُهُمُ وَأَنْدِيَةٌ يَنْتَابُهَا الْقَوْلُ وَالْفِعْلُ
الزَّبَانِيَةُ: مَلَائِكَةُ الْعَذَابِ، فَقِيلَ: جَمْعٍ لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ، كَعَبَادِيدَ. وَقِيلَ:
وَاحِدُهُمْ زِبْنِيَةٌ عَلَى وَزْنِ حِدْرِيَةٍ وَعِفْرِيَةٍ، قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: زَبْنِيٌّ، وَكَأَنَّهُ نُسِبَ إِلَى الزَّبْنِ ثُمَّ غُيِّرَ لِلنَّسَبِ، كَقَوْلِهِمْ: إِنْسِيٌّ وَأَصْلُهُ زَبَانِيٌّ. قَالَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ وَالْأَخْفَشُ:
وَاحِدُهُمْ زَابِنٌ، وَالْعَرَبُ تُطْلِقُ هَذَا الِاسْمِ عَلَى مَنْ اشْتَدَّ بَطْشُهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
505
وَمُسْتَعْجِبٌ مِمَّا يَرَى مِنْ أَنَّاتِنَا وَلَوْ زَبَنَتْهُ الْحَرْبُ لَمْ يَتَرَمْرَمِ
وَقَالَ عُتْبَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ: وَقَدْ زنبتنا الْحَرْبُ وَزَبَنَّاهَا.
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الْإِنْسانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ، كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى، أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى، إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى، أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى، عَبْداً إِذا صَلَّى، أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى، أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى، أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى، أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى، كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ، ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ، فَلْيَدْعُ نادِيَهُ، سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ، كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ.
هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ، وَصَدْرُهَا أَوَّلُ مَا نَزَلْ مِنْ الْقُرْآنِ، وَذَلِكَ فِي غَارِ حِرَاءَ عَلَى مَا ثَبَتَ فِي صَحِيح الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ. وَقَوْلُ جَابِرٍ: أَوَّلُ مَا نَزَلَ الْمُدَّثِّرُ. وَقَوْلُ أَبِي مَيْسَرَةَ عَمْرُو بْنُ شُرَحْبِيلَ: أَوَّلُ مَا نَزَلَ الْفَاتِحَةُ لَا يَصِحُّ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ: هِيَ أَوَّلُ سُورَةٍ نَزَلَتْ، وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الْفَاتِحَةَ أَوَّلُ مَا نَزَلَ ثُمَّ سُورَةُ الْقَلَمِ، انْتَهَى. وَلَمَّا ذَكَرَ فِيمَا قَبْلَهَا خَلْقَ الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ، ثُمَّ ذَكَرَ مَا عَرَضَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ، ذَكَرَهُ هُنَا مُنَبِّهًا عَلَى شَيْءٍ مِنْ أَطْوَارِهِ، وَذَكَرَ نِعْمَتَهُ عَلَيْهِ، ثُمَّ ذَكَرَ طُغْيَانَهُ بَعْدَ ذلك وما يؤول إِلَيْهِ حَالُهُ فِي الْآخِرَةِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: اقْرَأْ بِهَمْزَةٍ سَاكِنَةٍ وَالْأَعْشَى، عَنْ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ عَاصِمٍ:
بِحَذْفِهَا، كَأَنَّهُ عَلَى قَوْلِ مَنْ يُبْدِلُ الْهَمْزَةَ بِمُنَاسِبِ حَرَكَتِهَا فَيَقُولُ: قَرَأَ يَقْرَا، كَسَعَى يَسْعَى.
فَلَمَّا أَمَرَ مِنْهُ قِيلَ: اقْرَ بِحَذْفِ الْأَلِفِ، كَمَا تَقُولُ: اسْعَ، وَالظَّاهِرُ تَعَلُّقُ الْبَاءِ بِاقْرَأْ وَتَكُونُ لِلِاسْتِعَانَةِ، وَمَفْعُولُ اقْرَأْ مَحْذُوفٌ، أَيِ اقْرَأْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ. وَقِيلَ: بِاسْمِ رَبِّكَ هُوَ الْمَفْعُولُ وَهُوَ الْمَأْمُورُ بِقِرَاءَتِهِ، كَمَا تَقُولُ: اقْرَأِ الْحَمْدُ لِلَّهِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى اقْرَأْ فِي أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ، وَقِرَاءَةُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: الْبَاءُ بِمَعْنَى عَلَى، أَيِ اقْرَأْ عَلَى اسْمِ اللَّهِ، كَمَا قَالُوا فِي قَوْلِهِ: وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ «١»، أَيْ عَلَى اسْمِ اللَّهِ. وَقِيلَ:
الْمَعْنَى اقْرَأِ الْقُرْآنَ مُبْتَدِئًا بِاسْمِ رَبِّكَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مَحَلُّ بِاسْمِ رَبِّكَ النَّصْبُ عَلَى الْحَالِ، أَيْ اقْرَأْ مُفْتَتِحًا بِاسْمِ رَبِّكَ، قُلْ بِسْمِ اللَّهِ ثُمَّ اقْرَأْ، انْتَهَى. وَهَذَا قَالَهُ قَتَادَةُ.
الْمَعْنَى: اقْرَأْ مَا أُنْزِلَ عَلَيْكَ مِنَ الْقُرْآنِ مُفْتَتِحًا بِاسْمِ رَبِّكَ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْبَاءُ صِلَةٌ، وَالْمَعْنَى اذْكُرْ رَبَّكَ. وَقَالَ أَيْضًا: الِاسْمُ صِلَةٌ، وَالْمَعْنَى اقْرَأْ بِعَوْنِ رَبِّكَ وتوفيقه. وجاء باسم
(١) سورة هود: ١١/ ٤.
506
رَبِّكَ، وَلَمْ يَأْتِ بِلَفْظِ الْجَلَالَةِ لِمَا فِي لَفْظِ الرَّبِّ مِنْ مَعْنَى الَّذِي رَبَّاكَ وَنَظَرَ فِي مَصْلَحَتِكَ.
وَجَاءَ الْخِطَابُ لِيَدُلَّ عَلَى الِاخْتِصَاصِ وَالتَّأْنِيسِ، أَيْ لَيْسَ لَكَ رَبٌّ غَيْرُهُ. ثُمَّ جَاءَ بِصِفَةِ الْخَالِقِ، وَهُوَ الْمُنْشِئُ لِلْعَالَمِ لَمَّا كَانَتِ العرب تسمي الأصنام أربا. أَتَى بِالصِّفَةِ الَّتِي لَا يُمْكِنُ شِرْكَةُ الْأَصْنَامِ فِيهَا، وَلَمْ يَذْكُرْ مُتَعَلِّقَ الْخَلْقِ أَوَّلًا، فَالْمَعْنَى أَنَّهُ قَصَدَ إِلَى اسْتِبْدَادِهِ بِالْخَلْقِ، فَاقْتَصَرَ أَوْ حَذَفَ، إِذْ مَعْنَاهُ خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ.
ثُمَّ ذَكَرَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ، وَخَصَّهُ مِنْ بَيْنِ الْمَخْلُوقَاتِ لِكَوْنِهِ هُوَ الْمُنَزَّلُ إِلَيْهِ، وَهُوَ أَشْرَفُ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَشْرَفُ مَا عَلَى الْأَرْضِ، وَفِيهِ دَسِيسَةُ أَنَّ الْمَلَكَ أَشْرَفُ. وَقَالَ:
وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ الَّذِي خَلَقَ الْإِنْسَانَ، كَمَا قَالَ: الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الْإِنْسانَ «١» فَقِيلَ: الَّذِي خَلَقَ مُبْهَمًا، ثُمَّ فَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ: خَلَقَ تَفْخِيمًا لِخَلْقِ الْإِنْسَانِ وَدَلَالَةً عَلَى عَجِيبِ فِطْرَتِهِ، انْتَهَى. وَالْإِنْسَانُ هُنَا اسْمُ جِنْسٍ، وَالْعَلَقُ جَمْعُ عَلَقَةٍ، فَلِذَلِكَ جَاءَ مِنْ عَلَقٍ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ مَنْ خَلَقَ مِنْ عَلَقٍ لِأَنَّهُمْ مُقِرُّونَ بِهِ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَصْلَهُمْ آدَمَ، لِأَنَّهُ لَيْسَ مُتَقَرِّرًا عِنْدَ الْكُفَّارِ فَيَسْبِقُ الْفَرْعَ، وَتَرَكَ أَصْلَ الْخِلْقَةِ تَقْرِيبًا لِأَفْهَامِهِمْ.
ثُمَّ جَاءَ الْأَمْرُ ثَانِيًا تَأْنِيسًا لَهُ، كَأَنَّهُ قِيلَ: امْضِ لِمَا أُمِرْتَ بِهِ، وَرَبُّكَ لَيْسَ مِثْلَ هَذِهِ الْأَرْبَابِ، بَلْ هُوَ الْأَكْرَمُ الَّذِي لَا يَلْحَقُهُ نَقْصٌ. وَالْأَكْرَمُ صِفَةٌ تَدُلُّ عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي الْكَرَمِ، إِذْ كَرَمُهُ يَزِيدُ عَلَى كُلِّ كَرَمٍ يُنْعِمُ بِالنِّعَمِ الَّتِي لَا تُحْصَى، وَيَحْلُمُ عَلَى الْجَانِي، وَيَقْبَلُ التَّوْبَةَ، وَيَتَجَاوَزُ عَنِ السَّيِّئَةِ. وَلَيْسَ وَرَاءَ التَّكَرُّمِ بِإِفَادَةِ الْفَوَائِدِ الْعِلْمِيَّةِ تَكَرُّمٌ حَيْثُ قَالَ:
الْأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الْإِنْسانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ، فَدَلَّ عَلَى كَمَالِ كَرَمِهِ بِأَنَّهُ عَلَّمَ عِبَادَهُ مَا لَمْ يَعْلَمُوا، وَنَقَلَهُمْ مِنْ ظُلْمَةِ الْجَهْلِ إِلَى نُورِ الْعِلْمِ، وَنَبَّهَ عَلَى أَفْضَلِ عِلْمِ الْكِتَابَةِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْمَنَافِعِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي لَا يُحِيطُ بِهَا إِلَّا هُوَ. وَمَا دُوِّنَتِ الْعُلُومُ، وَلَا قُيِّدَتِ الْحِكَمُ، وَلَا ضُبِطَتْ أَخْبَارُ الْأَوَّلِينَ وَلَا مَقَالَاتُهُمْ وَلَا كُتُبُ اللَّهِ الْمُنَزَّلَةُ إِلَّا بِالْكِتَابَةِ، وَلَوْلَا هِيَ لَمَا اسْتَقَامَتْ أُمُورُ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ عَلَى دَقِيقِ حِكْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَطِيفِ تَدْبِيرِهِ دَلِيلٌ إِلَّا أَمْرَ الْخَطِّ وَالْقَلَمِ لَكَفَى بِهِ. وَلِبَعْضِهِمْ فِي الْأَقْلَامِ:
وَرَوَاقِمِ رَقْشٍ كَمِثْلِ أَرَاقِمَ قُطْفُ الْخُطَا نَيَّالَةٌ أَقْصَى الْمَدَى
سُودُ الْقَوَائِمِ مَا يَجِدُّ مَسِيرُهَا إِلَّا إِذَا لَعِبَتْ بِهَا بِيضُ الْمُدَى
انْتَهَى. مِنْ كَلَامِ الزَّمَخْشَرِيِّ. وَمِنْ غَرِيبِ مَا رَأَيْنَا تَسْمِيَةُ النَّصَارَى بِهَذِهِ الصِّفَةِ التي هي
(١) سورة الرحمن: ٥٥/ ١- ٣.
507
صِفَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى: الْأَكْرَمُ، وَالرَّشِيدُ، وَفَخْرُ السُّعَدَاءِ، وَسَعِيدُ السُّعَدَاءِ، وَالشَّيْخُ الرَّشِيدُ، فَيَا لها مخزية عَلَى مَنْ يَدْعُوهُمْ بِهَا. يَجِدُونَ عُقْبَاهَا يَوْمَ عَرْضِ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ، وَمَفْعُولَا عَلَّمَ مَحْذُوفَانِ، إِذِ الْمَقْصُودُ إِسْنَادُ التَّعْلِيمِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَقَدَّرَ بَعْضُهُمْ الَّذِي عَلَّمَ الْخَطَّ، بِالْقَلَمِ: وَهِيَ قِرَاءَةٌ تُعْزَى لِابْنِ الزُّبَيْرِ، وَهِيَ عِنْدِي عَلَى سَبِيلِ التَّفْسِيرِ، لَا عَلَى أَنَّهَا قُرْآنٌ لِمُخَالَفَتِهَا سَوَادَ الْمُصْحَفِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُعَلَّمَ كُلُّ مَنْ كَتَبَ بِالْقَلَمِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: إِدْرِيسُ، وَقِيلَ: آدَمُ لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ كَتَبَ. وَالْإِنْسَانُ فِي قَوْلِهِ: عَلَّمَ الْإِنْسانَ، الظَّاهِرُ أَنَّهُ اسْمُ الْجِنْسِ. عَدَّدَ عَلَيْهِ اكْتِسَابَ الْعُلُومِ بَعْدَ الْجَهْلِ بِهَا
وَقِيلَ: الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.
كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى:
نَزَلَتْ بَعْدَ مُدَّةٍ فِي أَبِي جَهْلٍ، نَاصَبَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم الْعَدَاوَةَ، وَنَهَاهُ عَنِ الصَّلَاةِ فِي الْمَسْجِدِ فَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ: لَئِنْ رَأَيْتُ مُحَمَّدًا يَسْجُدُ عِنْدَ الْكَعْبَةِ لَأَطَأَنَّ عَلَى عُنُقِهِ. فَيُرْوَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَدَّ عَلَيْهِ وَانْتَهَرَهُ وَتَوَعَّدَهُ، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ:
أَيَتَوَعَّدُنِي مُحَمَّدٌ! وَاللَّهِ مَا بِالْوَادِي أَعْظَمُ نَادِيًا مِنِّي. وَيُرْوَى أَنَّهُ هَمَّ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنَ الصَّلَاةِ، فَكُفَّ عَنْهُ.
كَلَّا: رَدْعٌ لِمَنْ كَفَرَ بِنِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِ بِطُغْيَانِهِ، وَإِنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ ذِكْرُهُ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ، إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى: أَيْ يُجَاوِزُ الْحَدَّ، أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى: الْفَاعِلُ ضَمِيرُ الْإِنْسَانِ، وَضَمِيرُ الْمَفْعُولِ عَائِدٌ عَلَيْهِ أَيْضًا، وَرَأَى هُنَا مِنْ رُؤْيَةِ الْقَلْبِ، يَجُوزُ أَنْ يَتَّحِدَ فِيهَا الضَّمِيرَانِ مُتَّصِلَيْنِ فَتَقُولُ: رَأَيْتُنِي صَدِيقَكَ، وَفُقِدَ وَعُدِمَ بِخِلَافٍ غَيْرُهَا، فَلَا يَجُوزُ: زَيْدٌ ضَرَبَهُ، وَهُمَا ضَمِيرَا زَيْدٍ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: أَنْ رَآهُ بِأَلِفٍ بَعْدِ الْهَمْزَةِ، وَهِيَ لَامُ الْفِعْلِ وَقِيلَ: بِخِلَافٍ عَنْهُ بِحَذْفِ الْأَلِفِ، وَهِيَ رِوَايَةُ ابْنِ مُجَاهِدٍ عَنْهُ، قَالَ: وَهُوَ غَلَطٌ لَا يَجُوزُ، وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُغَلِّطَهُ، بَلْ يَتَطَلَّبُ لَهُ وَجْهًا، وَقَدْ حُذِفَتِ الْأَلِفُ فِي نَحْوٍ مِنْ هَذَا، قَالَ:
وَصَّانِي الْعَجَّاجُ فِيمَا وَصَّنِي يُرِيدُ:
وَصَّانِي، فاحذف الْأَلِفَ، وَهِيَ لَامُ الْفِعْلِ، وَقَدْ حُذِفَتْ فِي مُضَارِعِ رَأَى فِي قَوْلِهِمْ: أَصَابَ النَّاسَ جُهْدٌ وَلَوْ تَرَ أَهْلَ مَكَّةَ، وَهُوَ حَذْفٌ لَا يَنْقَاسُ لَكِنْ إِذَا صَحَّتِ الرِّوَايَةُ بِهِ وَجَبَ قَبُولُهُ، وَالْقِرَاءَاتُ جَاءَتْ عَلَى لُغَةِ الْعَرَبِ قِيَاسُهَا وَشَاذُّهَا. إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى
: أَيِ الرُّجُوعَ، مَصْدَرٌ عَلَى وَزْنِ فُعْلَى، الْأَلِفُ فِيهِ لِلتَّأْنِيثِ، وَفِيهِ وَعِيدٌ لِلطَّاغِي الْمُسْتَغْنِي، وَتَحْقِيرٌ لِمَا هُوَ فيه من حيث ما آله إِلَى الْبَعْثِ وَالْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ عَلَى طُغْيَانِهِ.
أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى، عَبْداً إِذا صَلَّى: تَقَدَّمَ أَنَّهُ أَبُو جَهْلٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَلَمْ يَخْتَلِفْ أَحَدٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ النَّاهِيَ أَبُو جَهْلٍ، وَأَنَّ الْعَبْدَ الْمُصَلِّيَ وَهُوَ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
508
انْتَهَى. وَفِي الْكَشَّافِ، وَقَالَ الْحَسَنُ: هُوَ أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ، كَانَ يَنْهَى سَلْمَانَ عَنِ الصَّلَاةِ.
وَقَالَ التَّبْرِيزِيُّ: الْمُرَادُ بِالصَّلَاةِ هُنَا صَلَاةُ الظُّهْرِ.
قِيلَ: هِيَ أَوَّلُ جَمَاعَةٍ أُقِيمَتْ فِي الْإِسْلَامِ، كان معه أبوبكر وَعَلِيٌّ وَجَمَاعَةٌ مِنَ السَّابِقِينَ، فَمَرَّ بِهِ أَبُو طَالِبٍ وَمَعَهُ ابْنُهُ جَعْفَرٌ، فَقَالَ لَهُ: صِلْ جَنَاحَ ابْنِ عَمِّكَ وَانْصَرَفَ مَسْرُورًا، وَأَنْشَأَ أَبُو طَالِبٍ يَقُولُ:
إِنَّ عَلِيًّا وَجَعْفَرًا ثِقَتِي عِنْدَ مُلِمِّ الزَّمَانِ وَالْكَرْبِ
وَاللَّهِ لَا أَخْذُلُ النَّبِيَّ وَلَا يَخْذُلُهُ مَنْ يَكُونُ مِنْ حَسَبِي
لَا تَخْذُلَا وَانْصُرَا ابْنَ عَمِّكُمَا أَخِي لِأُمِّي مِنْ بَيْنِهِمْ وَأَبِي
فَفَرِحَ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ.
وَالْخِطَابُ فِي أَرَأَيْتَ الظَّاهِرُ أَنَّهُ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم، وَكَذَا أَرَأَيْتَ الثَّانِي، وَالتَّنَاسُقُ فِي الضَّمَائِرِ هُوَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ النَّظْمُ. وَقِيلَ: أَرَأَيْتَ خِطَابٌ لِلْكَافِرِ الْتَفَتَ إِلَى الْكَافِرِ فَقَالَ: أَرَأَيْتَ يَا كَافِرُ، إِنْ كَانَتْ صَلَاتُهُ هُدًى وَدُعَاءً إِلَى اللَّهِ وَأَمْرًا بِالتَّقْوَى، أَتَنْهَاهُ مَعَ ذَلِكَ؟ وَالضَّمِيرُ فِي إِنْ كانَ، وَفِي إِنْ كَذَّبَ عَائِدٌ عَلَى النَّاهِي.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمَعْنَاهُ أَخْبِرْنِي عَنْ مَنْ يَنْهَى بَعْضَ عِبَادِ اللَّهِ عَنْ صَلَاتِهِ إِنْ كَانَ ذَلِكَ النَّاهِي عَلَى طَرِيقَةٍ سَدِيدَةٍ فِيمَا يَنْهَى عَنْهُ مِنْ عِبَادَةِ اللَّهِ، وَكَانَ آمِرًا بِالْمَعْرُوفِ وَالتَّقْوَى فِيمَا يَأْمُرُ بِهِ مِنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ كَمَا يَعْتَقِدُ، وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَ عَلَى التَّكْذِيبِ لِلْحَقِّ وَالتَّوَلِّي عَنِ الدِّينِ الصَّحِيحِ، كَمَا نَقُولُ نَحْنُ.
أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى، وَيَطَّلِعُ عَلَى أَحْوَالِهِ مِنْ هُدَاهُ وَضَلَالِهِ، فَيُجَازِيهِ عَلَى حَسَبِ ذَلِكَ، وَهَذَا وَعِيدٌ، انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الضَّمِيرُ فِي إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى عَائِدٌ عَلَى الْمُصَلِّي، وَقَالَهُ الْفَرَّاءُ وَغَيْرُهُ. قَالَ الْفَرَّاءُ: الْمَعْنَى أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى عَبْداً إِذا صَلَّى، وَهُوَ عَلَى الْهُدَى وَأَمَرَ بِالتَّقْوَى، وَالنَّاهِي مُكَذِّبٌ مُتَوَلٍّ عَنِ الذِّكْرِ، أَيْ فَمَا أَعْجَبَ هَذَا! أَلَمْ يَعْلَمْ أَبُو جَهْلٍ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَرَاهُ وَيَعْلَمُ فِعْلَهُ؟ فَهَذَا تَقْرِيرٌ وَتَوْبِيخٌ، انْتَهَى. وَقَالَ:
مَنْ جَعَلَ الضَّمِيرَ فِي إِنْ كانَ عَائِدًا عَلَى الْمُصَلِّي، إِنَّمَا ضَمَّ إِلَى فِعْلِ الصَّلَاةِ الْأَمْرَ بِالتَّقْوَى، لِأَنَّ أَبَا جَهْلٍ كَانَ يَشُقُّ عَلَيْهِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم أمران: الصَّلَاةَ وَالدُّعَاءِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، ولأنه كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُوجَدُ إِلَّا فِي أَمْرَيْنِ: إِصْلَاحِ نَفْسِهِ بِفِعْلِ الصَّلَاةِ، وَإِصْلَاحِ غَيْرِهِ بِالْأَمْرِ بِالتَّقْوَى. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى: إِكْمَالُ التَّوْبِيخِ وَالْوَعِيدِ بِحَسَبِ التَّوْفِيقَاتِ الثَّلَاثَةِ يَصْلُحُ مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا، يُجَاءُ بِهَا فِي نَسَقٍ. ثُمَّ جَاءَ بِالْوَعِيدِ الْكَافِي بِجَمِيعِهَا اخْتِصَارًا وَاقْتِضَابًا، وَمَعَ كُلِّ تَقْرِيرٍ تَكْمِلَةٌ مُقَدَّرَةٌ تَتَّسِعُ الْعِبَارَاتُ فِيهَا، وَأَلَمْ يَعْلَمْ دَالٌّ عَلَيْهَا مُغْنٍ.
509
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: مَا مُتَعَلِّقُ أَرَأَيْتَ؟ قُلْتُ: الَّذِي يَنْهى مَعَ الْجُمْلَةِ الشَّرْطِيَّةِ، وَهُمَا فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولَيْنِ. فَإِنْ قُلْتَ: فَأَيْنَ جَوَابُ الشَّرْطِ؟ قُلْتُ: هُوَ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى، أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى، أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى، وَإِنَّمَا حُذِفَ لِدَلَالَةِ ذِكْرِهِ فِي جَوَابِ الشَّرْطِ الثَّانِي. فَإِنْ قُلْتَ: فَكَيْفَ صَحَّ أَنْ يَكُونَ أَلَمْ يَعْلَمْ جَوَابًا لِلشَّرْطِ؟ قُلْتُ: كَمَا صَحَّ فِي قَوْلِكَ: إِنْ أَكْرَمْتُكَ أَتُكْرِمُنِي؟ وَإِنْ أَحْسَنَ إِلَيْكَ زَيْدٌ هَلْ تُحْسِنُ إِلَيْهِ؟ فَإِنْ قُلْتَ: فَمَا أَرَأَيْتَ الثَّانِيَةُ وَتَوَسُّطُهَا بَيْنَ مَفْعُولَيْ أَرَأَيْتَ؟ قُلْتُ: هِيَ زَائِدَةٌ مُكَرَّرَةٌ لِلتَّوْكِيدِ، انْتَهَى.
وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى أَحْكَامِ أَرَأَيْتَ بِمَعْنَى أَخْبِرْنِي فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْهَا الَّتِي فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ، وَأَشْبَعْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهَا فِي شَرْحِ التَّسْهِيلِ. وَمَا قَرَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ هُنَا لَيْسَ بِجَارٍ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ، فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ ادَّعَى أَنَّ جُمْلَةَ الشَّرْطِ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ الْوَاحِدِ، وَالْمَوْصُولَ هُوَ الْآخَرُ، وَعِنْدَنَا أَنَّ الْمَفْعُولَ الثَّانِيَ لَا يَكُونُ إِلَّا جُمْلَةً اسْتِفْهَامِيَّةً، كَقَوْلِهِ: أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى، وَأَعْطى قَلِيلًا وَأَكْدى، أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ «١»، أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَداً، أَطَّلَعَ الْغَيْبَ «٢»، أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ «٣»، وَهُوَ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ، فَتُخَرَّجُ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى ذَلِكَ الْقَانُونِ، وَيُجْعَلُ مَفْعُولُ أَرَأَيْتَ الْأُولَى هُوَ الْمَوْصُولُ، وَجَاءَ بَعْدَهُ أَرَأَيْتَ، وَهِيَ تطلب مفعولين، وأ رأيت الثَّانِيَةُ كَذَلِكَ فَمَفْعُولُ أَرَأَيْتَ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ مَحْذُوفٌ يَعُودُ عَلَى الَّذِي يَنْهى فِيهِمَا، أَوْ عَلَى عَبْداً فِي الثَّانِيَةِ، وَعَلَى الَّذِي يَنْهى فِي الثَّالِثَةِ عَلَى الِاخْتِلَافِ السَّابِقِ فِي عَوْدِ الضَّمِيرِ، وَالْجُمْلَةُ الِاسْتِفْهَامِيَّةُ تَوَالَى عَلَيْهَا ثَلَاثَةُ طَوِالِبَ، فَنَقُولُ: حُذِفَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي لِأَرَأَيْتَ، وَهُوَ جُمْلَةُ الِاسْتِفْهَامِ الدَّالِّ عَلَيْهِ الِاسْتِفْهَامُ الْمُتَأَخِّرُ لِدَلَالَتِهِ عَلَيْهِ. حُذِفَ مَفْعُولُ أَرَأَيْتَ الْأَخِيرُ لِدَلَالَةِ مَفْعُولِ أَرَأَيْتَ الْأُولَى عليه. وحذفا معا لأرأيت الثَّانِيَةِ لِدَلَالَةِ الْأَوَّلِ عَلَى مَفْعُولِهَا الْأَوَّلِ، وَلِدَلَالَةِ الْآخَرِ لِأَرَأَيْتَ الثَّالِثَةَ عَلَى مَفْعُولِهَا الْآخَرِ. وَهَؤُلَاءِ الطَّوَالِبُ لَيْسَ طَلَبُهَا عَلَى طَرِيقِ التَّنَازُعِ، لا، الْجُمَلَ لَا يَصِحُّ إِضْمَارُهَا، وَإِنَّمَا ذَلِكَ مِنْ بَابِ الْحَذْفِ فِي غَيْرِ التَّنَازُعِ. وَأَمَّا تَجْوِيزُ الزَّمَخْشَرِيِّ وُقُوعَ جُمْلَةِ الِاسْتِفْهَامِ جَوَابًا لِلشَّرْطِ بِغَيْرِ فَاءٍ، فَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا أَجَازَهُ، بَلْ نَصُّوا عَلَى وُجُوبِ الْفَاءِ فِي كُلِّ مَا اقْتَضَى طَلَبًا بِوَجْهٍ مَا، وَلَا يَجُوزُ حَذْفُهَا إِلَّا إِنْ كَانَ فِي ضَرُورَةٍ شعر.
(١) سورة النجم: ٥٣/ ٣٣- ٣٥.
(٢) سورة مريم: ١٩/ ٧٧- ٧٨.
(٣) سورة الواقعة: ٥٦/ ٥٨- ٥٩.
510
كَلَّا: رَدْعٌ لِأَبِي جَهْلٍ وَمَنْ فِي طَبَقَتِهِ عَنْ نَهْيِ عِبَادِ اللَّهِ عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ. لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ عَنْ مَا هُوَ فِيهِ، وَعِيدٌ شَدِيدٌ لَنَسْفَعاً: أَيْ لَنَأْخُذَنْ، بِالنَّاصِيَةِ: وَعَبَّرَ بِهَا عَنْ جَمِيعِ الشَّخْصِ، أَيْ سَحْبًا إِلَى النَّارِ لِقَوْلِهِ: فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ «١»، وَاكْتَفَى بِتَعْرِيفِ الْعَهْدِ عَنِ الْإِضَافَةِ، إِذْ عُلِمَ أَنَّهَا نَاصِيَةُ النَّاهِي. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِالنُّونِ الْخَفِيفَةِ، وَكُتِبَتْ بِالْأَلِفِ بِاعْتِبَارِ الْوَقْفِ، إِذِ الْوَقْفُ عَلَيْهَا بِإِبْدَالِهَا أَلِفًا، وَكَثُرَ ذَلِكَ حَتَّى صَارَتْ رَوِيًّا، فَكُتِبَتْ أَلِفًا كَقَوْلِهِ:
وَمَهْمَا تَشَا مِنْهُ فَزَارَةُ تَمَنَّعَا
وَقَالَ آخَرُ:
بِحَسْبِهِ الْجَاهِلُ مَا لَمْ يَعْلَمَا
وَمَحْبُوبٌ وَهَارُونُ، كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي عَمْرٍو: بِالنُّونِ الشَّدِيدَةِ. وَقِيلَ: هُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ سَفَعَتْهُ النَّارُ وَالشَّمْسُ، إِذَا غَيَّرَتْ وَجْهَهُ إِلَى حَالٍ شَدِيدٍ. وَقَالَ التَّبْرِيزِيُّ: قِيلَ: أَرَادَ لَنُسَوِّدَنَّ وَجْهَهُ مِنَ السَّفْعَةِ وَهِيَ السَّوَادُ، وَكَفَتْ مِنَ الْوَجْهِ لِأَنَّهَا فِي مُقَدَّمِهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: ناصِيَةٍ، كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ، بِجَرِّ الثَّلَاثَةِ عَلَى أَنَّ نَاصِيَةً بَدَلَ نَكِرَةٍ مِنْ مَعْرِفَةٍ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لأنها وصفت فاستقلت بِفَائِدَةٍ، انْتَهَى. وَلَيْسَ شَرْطًا فِي إِبْدَالِ النَّكِرَةِ مِنَ الْمَعْرِفَةِ أَنْ تُوصَفَ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ خِلَافًا لِمَنْ شَرَطَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَلَا أَنْ يَكُونَ مِنْ لَفْظِ الْأَوَّلِ أَيْضًا خِلَافًا لِزَاعِمِهِ. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: بِنَصْبِ الثَّلَاثَةِ عَلَى الشَّتْمِ وَالْكِسَائِيُّ فِي رِوَايَةٍ: بِرَفْعِهَا، أَيْ هِيَ نَاصِبَةٌ كَاذِبَةٌ خَاطِئَةٌ، وَصَفَهَا بِالْكَذِبِ وَالْخَطَأِ مَجَازًا، وَالْحَقِيقَةُ صَاحِبُهَا، وَذَلِكَ أَحْرَى مِنْ أَنْ يُضَافَ فَيُقَالُ: نَاصِيَةِ كَاذِبٍ خَاطِئٍ، لِأَنَّهَا هِيَ الْمُحَدَّثُ عَنْهَا فِي قَوْلِهِ: لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ. فَلْيَدْعُ نادِيَهُ: إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِ أَبِي جَهْلٍ: وَمَا بِالْوَادِي أَكْبَرُ نَادِيًا مِنِّي، وَالْمُرَادُ أَهْلُ النَّادِي. وَقَالَ جَرِيرٌ:
لَهُمْ مَجْلِسٌ صُهْبُ السِّبَالِ أَذِلَّةٌ أَيْ أَهْلُ مَجْلِسٍ، وَلِذَلِكَ وَصَفَ بِقَوْلِهِ: صُهْبُ السِّبَالِ أَذِلَّةٌ، وَهُوَ أَمْرٌ تَعَجُّبِيٌّ، أَيْ لا يُقَدِّرُهُ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ، لَوْ دَعَا نَادِيَهُ لَأَخَذَتْهُ الْمَلَائِكَةُ عِيَانًا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: سَنَدْعُ بِالنُّونِ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، وَكُتِبَتْ بِغَيْرِ وَاوٍ لِأَنَّهَا تَسْقُطُ فِي الْوَصْلِ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ:
(١) سورة الرحمن: ٥٥/ ٤٣١.
511
سَيُدْعَى مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ الزِّبَانَيْةُ رُفِعَ. كَلَّا: رَدْعٌ لِأَبِي جَهْلٍ، وَرَدَّ عَلَيْهِ فِي: لَا تُطِعْهُ: أَيْ لَا تَلْتَفِتْ إِلَى نَهْيِهِ وَكَلَامِهِ. وَاسْجُدْ: أَمْرٌ لَهُ بِالسُّجُودِ، وَالْمَعْنَى: دُمْ عَلَى صَلَاتِكَ، وَعَبِّرْ عَنِ الصَّلَاةِ بِأَفْضَلِ الْأَوْصَافِ الَّتِي يَكُونُ الْعَبْدُ فِيهَا أَقْرَبَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَاقْتَرِبْ: وَتَقَرَّبَ إِلَى رَبِّكَ. وَثَبَتَ
فِي الصَّحِيحَيْنِ سُجُودُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ «١»، وَفِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَهِيَ مِنَ الْعَزَائِمِ عِنْدَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ
، وَكَانَ مَالِكٌ يَسْجُدُ فِيهَا فِي خَاصِّيَّةِ نفسه.
(١) سورة الانشقاق: ٨٤/ ١.
سورة العلق/ الآيات: ١- ١٩
512
Icon