تفسير سورة سبأ

أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
تفسير سورة سورة سبأ من كتاب أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن .
لمؤلفه الشنقيطي - أضواء البيان . المتوفي سنة 1393 هـ

قوله تعالى :﴿ وَلَهُ الْحَمْدُ في الآخرة ﴾.
قد ذكرنا ما هو بمعناه من الآيات في أوّل سورة «الفاتحة »، في الكلام على قوله :﴿ الْحَمْدُ للَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ ﴾ [ الفاتحة : ٢ ].
قوله تعالى :﴿ يَعْلَمُ مَا يَلْجُ في الأرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَآءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ ﴾.
بيَّن جلَّ وعلا في هذه الآية الكريمة أنه ﴿ يَعْلَمُ مَا يَلْجُ في الأرْضِ ﴾، أي : ما يدخل فيها كالماء النازل من السماء، الذي يلج في الأرض ؛ كما أوضحه بقوله تعالى :﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ في الأرْضِ ﴾.
[ الزمر : ٢١ ] الآية.
وقوله :﴿ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ في الأرْضِ ﴾ [ المؤمنون : ١٨ ] الآية، فهو جلَّ وعلا يعلم عدد القطر النازل من السماء إلى الأرض، وكيف لا يعلمه من خلقه :﴿ أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ﴾ [ الملك : ١٤ ]، ويعلم أيضًا ما يلج في الأرض من الموتى الذين يدفنون فيها ؛ كما قال جلَّ وعلا :﴿ مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ ﴾ [ طه : ٥٥ ]، وقال :﴿ أَلَمْ نَجْعَلِ الأرْضَ كِفَاتاً * أَحْيَاء وَأَمْواتاً ﴾ [ المرسلات : ٢٥-٢٦ ]، والكفات من الكفت : وهو الضم، لأنها تضمّهم أحياء على ظهرها، وأمواتًا في بطنها، ويعلم أيضًا ما يلج في الأرض من البذر ؛ كما قال تعالى :﴿ وَلاَ حَبَّةٍ في ظُلُمَاتِ الأرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ في كِتَابٍ مُّبِينٍ ﴾ [ الأنعام : ٥٩ ]، وكذلك ما في بطنها من المعادن، وغير ذلك.
قوله :﴿ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا ﴾، أي : من الأرض كالنبات والحبوب، والمعادن، والكنوز، والدفائن وغير ذلك، ويعلم ﴿ مَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء ﴾ من المطر، والثلج، والبرد، والرزق وغير ذلك. ﴿ وَمَا يَعْرُجُ ﴾، أي : يصعد فيها، أي : السماء، كالأعمال الصالحة ؛ كما بيّنه بقوله :﴿ إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ﴾ [ فاطر : ١٠ ]، وكأرواح المؤمنين وغير ذلك ؛ كما قال تعالى :﴿ تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ في يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ﴾ [ المعارج : ٤ ] الآية.
وقال تعالى :﴿ يُدَبّرُ الأمْرَ مِنَ السَّمَاء إِلَى الأرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ في يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مّمَّا تَعُدُّونَ ﴾ [ السجدة : ٥ ]، وما ذكر جلَّ وعلا في هذه الآية الكريمة من أنه يعلم جميع ما ذكر، ذكره في سورة «الحديد »، في قوله :﴿ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ في الأرض وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ * أَيْنَمَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ [ الحديد : ٤ ].
وقد أوضحنا الآيات الدالَّة على كمال إحاطة علم اللَّه بكل شيء في أوّل سورة «هود »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ ﴾ [ هود : ٥ ] الآية، وفي مواضع أُخر متعدّدة.
قوله تعالى :﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّى لَتَأْتِيَنَّكُمْ ﴾.
ذكر جلَّ وعلا في هذه الآية الكريمة أن الكفار أنكروا البعث، وقالوا :﴿ لاَ تَأْتِينَا السَّاعَةُ ﴾، أي : القيامة، وأنّه جلَّ وعلا أمر نبيّه أن يقسم لهم بربّه العظيم أن الساعة سوف تأتيهم مؤكّدًا ذلك توكيدًا متعدّدًا.
وما ذكره جلَّ وعلا في هذه الآية الكريمة من إنكار الكفار للبعث، جاء موضحًا في آيات كثيرة ؛ كقوله تعالى :﴿ وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ وَلاَ يَبْعَثُ اللَّهُ مَن يَمُوتُ ﴾ [ النحل : ٣٨ ]، وقوله تعالى :﴿ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِىَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحىِ الْعِظَامَ وَهِىَ رَمِيمٌ ﴾ [ يس : ٧٨ ]، وقوله تعالى :﴿ وَيَقُولُ الإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً ﴾ [ مريم : ٦٦ ]، وقوله تعالى عنهم :﴿ وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ ﴾ [ الأنعام : ٢٩ ]، ﴿ وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ ﴾ [ الدخان : ٣٥ ]، والآيات بمثل ذلك كثيرة جدًّا، وما ذكره جلَّ وعلا من أنه أمر نبيّه بالإقسام لهم على أنهم يبعثون، جاء موضحًا في مواضع أُخر.
قال ابن كثير في تفسير هذه الآية الكريمة : هذه إحدى الآيات الثلاث التي لا رابعة لهنّ، ممّا أمر اللَّه رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقسم بربّه العظيم على وقوع المعاد، لما أنكره من أنكره من أهل الكفر والعناد، فإحداهنّ في سورة «يونس » عليه السّلام، وهي قوله تعالى :﴿ وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِى وَرَبّى إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ ﴾ [ يونس : ٥٣ ]، والثانية هذه :﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبّى لَتَأْتِيَنَّكُمْ ﴾ [ سبأ : ٣ ]، والثالثة في سورة «التغابن »، وهي قوله تعالى :﴿ زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَن لَّن يُبْعَثُواْ قُلْ بَلَى وَرَبّى لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ ﴾ [ التغابن : ٧ ] الآية.
وقد قدّمنا البراهين الدالَّة على البعث بعد الموت من القرءان في سورة «البقرة »، و سورة «النحل » وغيرهما.
وقد قدّمنا الآيات الدالَّة على إنكار الكفار البعث، وما أعدّ اللَّه لمنكري البعث من العذاب في «الفرقان »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً ﴾ [ الفرقان : ١١ ]، وفي مواضع أُخر. وقوله :﴿ قُلْ بَلَى ﴾ لفظة :﴿ بَلَى ﴾ قد قدّمنا معانيها في اللغة العربية بإيضاح في سورة «النحل »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ فَأَلْقَوُاْ السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوء بَلَى ﴾ [ النحل : ٢٨ ] الآية.
قوله تعالى :﴿ عَالِمِ الْغَيْبِ لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ في السَّمَاوَاتِ وَلاَ في الأرْضِ وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ إِلاَّ في كِتَابٍ مبين ﴾ [ ٣ ].
ما ذكره جلَّ وعلا في هذه الآية الكريمة من أنه ﴿ لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ في السَّمَاوَاتِ وَلاَ في الأرض وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ ﴾ جاء موضحًا في آيات أُخر ؛ كقوله تعالى :﴿ وَمَا تَكُونُ في شَأْنٍ وَمَا تَتْلُواْ مِنْهُ مِن قُرْءانٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبّكَ مِن مِثْقَالُ ذَرَّةٍ في السَّمَاوَاتِ وَلاَ في الأرض وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ ﴾ إلاّ في كتاب مبين }[ يونس : ٦١ ]، وقوله تعالى :﴿ وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا في الْبَرّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين ﴾ [ الإنسان : ٥٩ ]، والآيات بمثل ذلك كثيرة، وقد بينَّاها في مواضع متعدّدة من هذا الكتاب المبارك.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة :﴿ لاَ يَعْزُبُ ﴾، أي : لا يغيب عنه مثقال ذرّة، ومنه قول كعب بن سعد الغنوي :
أخي كان أما حلمه فمروح عليه وأما جهله فعزيب
يعني : أن الجهل غائب عنه ليس متّصفًا به. وقرأ هذا الحرف نافع وابن عامر :﴿ عَالِمُ الْغَيْبِ ﴾، بألف بعد العين وتخفيف اللام المكسورة، وضمّ الميم على وزن فاعل. وقرأه حمزة والكسائي :﴿ علاّم الْغَيْبَ ﴾، بتشديد اللام وألف بعد اللام المشدّدة وخفض الميم على وزن فعال. وقرأه ابن كثير وأبو عمرو وعاصم :﴿ عَالِمُ الْغَيْبِ ﴾ ؛ كقراءة نافع وابن عامر، إلا أنهم يخفضون الميم. وعلى قراءة نافع وابن عامر بضم الميم، من قوله :﴿ عَالِمُ الْغَيْبِ ﴾، فهو مبتدأ خبره جملة :﴿ لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ ﴾ الآية، أو خبر مبتدأ محذوف، أي : هو عالم الغيب.
وعلى قراءة ابن كثير وأبي عمرو وعاصم :﴿ عَالِم الْغَيْبِ ﴾، بخفض الميم فهو نعت لقوله :﴿ رَبّى ﴾، أي : قل : بلى وربي عالم الغيب لتأتينكم، وكذلك على قراءة حمزة والكسائي :﴿ علاّم الْغَيْبَ ﴾. وقرأ هذا الحرف عامّة القرّاء غير الكسائي :﴿ لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ ﴾، بضم الزاي من ﴿ يَعْزُبُ ﴾، وقرأه الكسائي بكسر الزاي.
قوله تعالى :﴿ وَالَّذِينَ سَعَوْا في آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ ﴾.
لم يبيّن هنا نوع هذا العذاب، ولكنّه بيَّنه بقوله في «الحجّ » :﴿ وَالَّذِينَ سَعَوْاْ فِى ءايَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ﴾ [ الحج : ٥١ ]، وقوله :﴿ مُعَاجِزِينَ ﴾، أي : مغالبين ومسابقين، يظنون أنهم يعجزون ربّهم، فلا يقدر على بعثهم وعذابهم. والرجز : العذاب ؛ كما قال :﴿ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ رِجْزًا ﴾ [ البقرة : ٥٩ ] الآية، وقرأ هذا الحرف ابن كثير، وأبو عمرو :﴿ مُعجِزِينَ ﴾، بلا ألف بعد العين مع تشديد الجيم المكسورة. وقرأه الباقون بألف بعد العين، وتخفيف الجيم، ومعنى قراءة التشديد أنهم يحسبون أنهم يعجزون ربهم، فلا يقدر على بعثهم وعقابهم.
وقال بعضهم : أن معنى ﴿ مُعجِزِينَ ﴾ بالتشديد، أي : مثبطين الناس عن الإيمان. وقرأ ابن كثير وحفص :﴿ مّن رّجْزٍ أَلِيمٌ ﴾، بضم الميم من قوله :﴿ أَلِيمٌ ﴾ على أنه نعت ؛ لقوله :﴿ عَذَابِ ﴾ وقرأ الباقون :﴿ أَلِيمٌ ﴾ بالخفض على أنه نعت لقوله :﴿ رِجْزَ ﴾.
قوله تعالى :﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ﴾، إلى قوله :﴿ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ ﴾.
ما تضمّنته هذه الآية الكريمة من إنكار البعث، وتكذيب اللَّه لهم في ذلك، قدم موضحًا في مواضع كثيرة من هذا الكتاب في «البقرة » و «النحل » وغيرهما.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة :﴿ إِذَا مُزّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ ﴾، أي : تمزّقت أجسادكم وتفرّقت وبليت عظامكم، واختلطت بالأرض، وتلاشت فيها. وقوله عنهم :﴿ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ﴾، أي : البعث بعد الموت، وهو مصب إنكارهم قبّحهم اللَّه، وهو جلَّ وعلا يعلم ما تلاشى في الأرض من أجسادهم وعظامهم ؛ كما قال تعالى :﴿ قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الأرْضَ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ ﴾ [ ق : ٤ ].
قوله تعالى :﴿ أَفَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِّنَ السَّمَآءِ وَالأرْضِ ﴾.
ما دلَّت عليه هذه الآية الكريمة من توبيخ الكفار، وتقريعهم على عدم تفكّرهم ونظرهم إلى ما بين أيديهم، وما خلفهم من السماء والأرض، ليستدلّوا بذلك على كمال قدرة اللَّه على البعث، وعلى كل شيء، وأنه هو المعبود وحده، جاء موضحًا في مواضع أُخر ؛ كقوله تعالى :﴿ أَفَلَمْ يَنظُرُواْ إِلَى السَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ * وَالأرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَواسِىَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ ﴾ [ ق : ٦-٨ ]، وقوله تعالى :﴿ أَوَلَمْ يَنظُرُواْ في مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَيء وَأَنْ عَسَى أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ ﴾[ الأعراف : ١٨٥ ]، وقوله تعالى :﴿ وَكَأَيّن مِن آيَةٍ في السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ ﴾[ يوسف : ١٠٥ ]، والآيات بمثل ذلك كثيرة معروفة.
وقال ابن كثير رحمه اللَّه في تفسير هذه الآية : قال عبد بن حميد، أخبرنا عبد الرزّاق، عن معمر عن قتادة :﴿ أَفَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مّنَ السَّمَاء وَالأرْضِ ﴾، قال : إنك إن نظرت عن يمينك، أو عن شمالك، أو من بين يديك، أو من خلفك، رأيت السماء والأرض.
قوله تعالى :﴿ إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِّنَ السَّمَآءِ ﴾ [ ٩ ].
ذكر جلَّ وعلا في هذه الآية الكريمة أمرين :
أحدهما : أنه إن شاء خسف الأرض بالكفار، خسفها بهم لقدرته على ذلك.
والثاني : أنه إن شاء أن يسقط عليهم كسفًا من السماء، فعل ذلك أيضًا لقدرته عليه.
أمّا الأول : الذي هو أنه لو شاء أن يخسف بهم الأرض لفعل، فقد ذكره تعالى في غير هذا الموضع ؛ كقوله تعالى :﴿ أأمنتم مَّن في السَّمَاء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأرْضَ فَإِذَا هي تَمُورُ ﴾ [ الملك : ١٦ ]، وقوله تعالى :﴿ أَفَأَمِنتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرّ ﴾ [ الإسراء : ٦٨ ] الآية، وقوله تعالى :﴿ لَوْلا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا ﴾ [ القصص : ٨٢ ]، وقوله تعالى في «الأنعام » :﴿ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ ﴾ [ الأنعام : ٦٥ ] الآية.
وقوله هنا :﴿ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مّنَ السَّمَاء ﴾، قد بيَّنا في سورة «بني إسرائيل »، أنه هو المراد بقوله تعالى عن الكفّار :﴿ أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا ﴾ [ الإسراء : ٩٢ ] الآية. وقرأه حمزة والكسائي :﴿ إِن يَشَأْ يَخْسِفَ بِهِمُ الاْرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مّنَ السَّمَاء ﴾ بالياء المثناة التحتية في الأفعال الثلاثة، أعني : يشأ، ويخسف، ويسقط ؛ وعلى هذه القراءة فالفاعل ضمير يعود إلى اللَّه تعالى، أي : إن يشأ هو، أي : اللَّه يخسف بهم الأرض، وقرأ الباقون بالنون الدالَّة على العظمة في الأفعال الثلاثة، أي : إن نشأ نحن.. الخ، وقرأ حفص عن عاصم :﴿ كِسَفًا ﴾ بفتح السين، والباقون بسكونها والكسف بفتح السين القطع، والكسف بسكون السين واحدها.
قوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلاً ﴾.
ذكر جلَّ وعلا في هذه الآية الكريمة أنه آتى داود منه فضلاً تفضَّل به عليه، وبيَّن هذا الفضل الذي تفضّل به على داود في آيات أُخر ؛ كقوله تعالى :﴿ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاء ﴾ [ البقرة : ٢٥١ ]، وقوله تعالى :﴿ وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ ﴾ [ ص : ٢٠ ]، وقوله تعالى :﴿ وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ﴾ [ ص : ٣٠ ]، وقوله تعالى :﴿ فَغَفَرْنَا لَهُ ذالِكَ وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَئَابٍ ﴾ [ ص : ٢٥ ]، وقوله تعالى :﴿ يا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً في الأرْضِ ﴾ [ ص : ٢٦ ]، وقوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودُ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً وَقَالاَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مّنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [ النمل : ١٥ ]، وقوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودُ زَبُوراً ﴾ [ الإسراء : ٥٥ ]، إلى غير ذلك من الآيات.
قوله تعالى :﴿ يا جِبَالُ أَوِّبِى مَعَهُ وَالطَّيْرَ ﴾.
قد بيَّنا الآيات الموضحة له مع إيضاح معنى ﴿ أَوّبِى مَعَهُ ﴾ في سورة «الأنبياء »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودُ الْجِبَالَ يُسَبّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ ﴾ [ الأنبياء : ٧٩ ].
قوله تعالى :﴿ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ في السَّرْدِ ﴾.
قد قدّمنا الآيات التي فيها إيضاحه مع بعض الشواهد، وتفسير قوله :﴿ وَقَدّرْ في السَّرْدِ ﴾، في سورة «الأنبياء »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ ﴾ [ الأنبياء : ٨٠ ]. وفي «النحل »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَسَرابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ ﴾ بالنحل : ٨١ ].
قوله تعالى :﴿ وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ ﴾.
قد بيَّنا الآيات التي فيها إيضاح له في سورة «الأنبياء »، في الكلام على قوله :﴿ وَلِسُلَيْمَانَ الرّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِى بِأَمْرِهِ إِلَى الأرض ﴾ [ الأنبياء : ٨١ ] الآية، مع الأجوبة عن بعض الأسئلة الواردة على الآيات المذكورة.
قوله تعالى :﴿ وَمِنَ الْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ ﴾، إلى قوله تعالى :﴿ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ ﴾.
قد قدّمنا الآيات الموضحة له في سورة «الأنبياء »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَن يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذالِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ ﴾ [ الأنبياء : ٨٢ ].
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٢:قوله تعالى :﴿ وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ ﴾.
قد بيَّنا الآيات التي فيها إيضاح له في سورة «الأنبياء »، في الكلام على قوله :﴿ وَلِسُلَيْمَانَ الرّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِى بِأَمْرِهِ إِلَى الأرض ﴾ [ الأنبياء : ٨١ ] الآية، مع الأجوبة عن بعض الأسئلة الواردة على الآيات المذكورة.
قوله تعالى :﴿ وَمِنَ الْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ ﴾، إلى قوله تعالى :﴿ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ ﴾.
قد قدّمنا الآيات الموضحة له في سورة «الأنبياء »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَن يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذالِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ ﴾ [ الأنبياء : ٨٢ ].

قوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾. قد قدّمنا الآيات الموضحة له في سورة «الحجر »، في الكلام على قوله تعالى عنه :﴿ لأزَيّنَنَّ لَهُمْ في الأرض وَلأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ﴾ [ الحجر : ٣٩ ] الآية. وفي سورة «الأعراف »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ﴾ [ الأعراف : ١٧ ]، وقوله :﴿ وَلَقَدْ صَدَّقَ ﴾، قرأه عاصم وحمزة والكسائي بتشديد الدال، والباقون بالتخفيف.
قوله تعالى :﴿ وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بالآخرة ﴾. قد بيَّنا الآيات الموضحة له في سورة «الحجر »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ﴾ [ الحجر : ٤٠ ]، وفي غير ذلك من المواضع.
قوله تعالى :﴿ قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ لاَ يَمْلِكُونَ مِثُقَالَ ذَرَّةٍ فِى السَّمَاوَاتِ وَلاَ في الأرض ﴾.
قد قدّمنا الآيات الموضحة له في سورة «بني إسرائيل »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرّ عَنْكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً ﴾ [ الإسراء : ٥٦ ].
قوله تعالى :﴿ وَلاَ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ ﴾.
قد قدّمنا الآيات الموضحة له في سورة «البقرة »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ ﴾ [ البقرة : ٨٤ ].
قوله تعالى :﴿ قُلْ مَن يَرْزُقُكُمْ مِّنَ السَّمَاوَاتِ والأرض قُلِ اللَّهُ ﴾.
أمر اللَّه جلَّ وعلا في هذه الآية الكريمة، نبيَّه محمّد صلى الله عليه وسلم أن يقول للكفّار :﴿ مَن يَرْزُقُكُم مّنَ السَّمَاوَاتِ والأرض ﴾، أي : يرزقكم من السماوات بإنزال المطر مثلاً، والأرض بإنبات الزروع والثمار، ونحو ذلك. ثم أمره أن يقول :﴿ اللَّهِ ﴾، أي : الذي يرزقكم من السماوات والأرض هو اللَّه، وأمره تعالى له صلى الله عليه وسلم بأن يجيب بأن رازقهم هو اللَّه يفهم منه أنهم مقرّون بذلك، وأنه ليس محل نزاع.
وقد صرّح تعالى بذلك في آيات كثيرة ؛ كقوله تعالى :﴿ قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مّنَ السَّمَاء والأرض أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأبصار وَمَن يُخْرِجُ الْحَىَّ مِنَ الْمَيّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيّتَ مِنَ الْحَىّ الميت ومن يدبّر الأمر فسيقولون الله ﴾ [ يونس : ٣١ ] الآية، وإقرارهم بربوبيته تعالى يلزمه الاعتراف بعبادته وحده، والعلم بذلك.
وقد قدَّمنا كثيرًا من الآيات الموضحة لذلك في سورة «بني إسرائيل »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ إِنَّ هَذَا الْقُرْءانَ يِهْدِى لِلَّتِي هي أَقْوَمُ ﴾ [ الإسراء : ٩ ].
قوله تعالى :﴿ قُل لاَّ تُسْألُونَ عَمَّآ أَجْرَمْنَا وَلاَ نُسْألُ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾.
أمر اللَّه جلَّ وعلا نبيّه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الكريمة أن يقول للكفار : إنهم وإيّاهم ليس أحد منهم مسؤولاً عمّا يعمله الآخر، بل كل منهم مؤاخذ بعمله، والآخر بريء منه.
وأوضح هذا المعنى في غير هذا الموضع ؛ كقوله تعالى :﴿ وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لي عملي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَاْ بريء مّمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ [ يونس : ٤١ ]، وقوله تعالى :﴿ قُلْ يا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ﴾، إلى قوله :﴿ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِىَ دِينِ ﴾ [ الكافرون : ١-٦ ]، وفي معنى ذلك في الجملة قوله تعالى :﴿ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُم وَلاَ تُسْئَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [ البقرة : ١٣٤ ] ؛ وكقوله تعالى عن نبيّه هود عليه وعلى نبيّنا الصّلاة والسّلام :﴿ قَالَ إِنِي أُشْهِدُ اللَّهِ وَاشْهَدُواْ أَنّى بريء مّمَّا تُشْرِكُونَ * مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ ﴾ [ هود : ٥٤-٥٥ ].
قوله تعالى :﴿ قُلْ أَرُونِىَ الَّذيِنَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَآءَ كَلاَّ بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحْكِيمُ ﴾.
أمر اللَّه جلَّ وعلا نبيّه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الكريمة أن يقول لعبدة الأوثان : أروني أوثانكم التي ألحقتموها باللَّه شركاء له في عبادته كفرًا منكم، وشركاء وافتراء، وقوله :﴿ أَرُونِىَ الَّذيِنَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاء ﴾، لأنهم إن أروه إيّاها تبيّن برؤيتها أنها جماد لا ينفع ولا يضرّ، واتّضح بعدها عن صفات الألوهيّة، فظهر لكل عاقل برؤيتها بطلان عبادة ما لا ينفع ولا يضرّ، فإحضارها والكلام فيها، وهي مشاهدة أبلغ من الكلام فيها غائبة، مع أنه صلى الله عليه وسلم يعرفها، وكما أنه في هذه الآية الكريمة أمرهم أن يروه إياها ليتبيّن بذلك بطلان عبادتها، فقد أمرهم في آية أخرى أن يسمّوها بأسمائها ؛ لأن تسميتها بأسمائها يظهر بها بعدها عن صفات الألوهيّة، وبطلان عبادتها لأنها أسماء إناث حقيرة كاللات والعزّى، ومناة الثالثة الأخرى ؛ كما قال تعالى :﴿ إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثاً ﴾ [ النساء : ١١٧ ] الآية، وذلك في قوله تعالى :﴿ وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَاء قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبّئُونَهُ بِمَا لاَ يَعْلَمُ في الأرض أَم بِظَاهِرٍ مّنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ مَكْرُهُمْ وَصُدُّواْ عَنِ السَّبِيلِ وَمَن يُضْلِلِ الله فما له من هاد ﴾ [ الرعد : ٣٣ ].
والأظهر في قوله :﴿ أَرُونِىَ الَّذيِنَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ ﴾ في هذه الآية : هو ما ذكرنا من أن الرؤية بصرية، وعليه فقوله :﴿ شُرَكَاء ﴾ حال، وقال بعض أهل العلم : إنها من رأى العلمية، وعليه ف﴿ شُرَكَاء ﴾ مفعول ثالث ل ﴿ أَرُونِىَ ﴾، قال القرطبي : يكون ﴿ أَرُونِىَ ﴾ هنا من رؤية القلب، فيكون :﴿ شُرَكَاء ﴾ مفعولاً ثالثًا، أي : عرّفوني الأصنام والأوثان التي جعلتموها شركاء للَّه عزّ وجلَّ، وهل شاركت في خلق شيء، فبيّنوا ما هو وإلا فلم تعبدونها، اه محل الغرض منه. واختار هذا أبو حيّان في «البحر المحيط ». وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة :﴿ كَلاَّ ﴾ ردع لهم، وزجر عن إلحاق الشركاء به. وقوله :﴿ بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحْكِيمُ ﴾، أي : المتّصف بذلك هو المستحق للعبادة، وقد قدّمنا معنى ﴿ العَزِيزُ الحَكِيمُ ﴾ بشواهده مرارًا.
قوله تعالى :﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَآفَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً ﴾.
قد قدّمنا الآيات الموضحة له في سورة «الأعراف »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا ﴾ [ الأعراف : ١٥٨ ]، وفي غير ذلك من المواضع. وقوله تعالى :﴿ إِلاَّ كَافَّةً لّلنَّاسِ ﴾، استشهد به بعض علماء العربية على جواز تقدم الحال على صاحبها المجرور بالحرف ؛ كما أشار له ابن مالك في «الخلاصة » بقوله :
وسبق حال ما بحرف جر قد أبوا ولا أمنعه فقد ورد
قالوا : لأن المعنى :﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ لِلنَّاسِ كَافَّةً ﴾، أي : جميعًا، أي : أرسلناك للناس في حال كونهم مجتمعين في رسالتك، وممّن أجاز ذلك أبو علي الفارسي، وابن كيسان، وابن برهان، ولذلك شواهد في شعر العرب ؛ كقول طليحة بن خويلد الأسدي :
فإن تك أذواد أصبن ونسوة فلن يذهبوا فرغًا بقتل حبال
وكقول كثير :
لئن كان برد الماء هيمان صاديًا إلى حبيبًا إنها لحبيب
وقول الآخر :
تسليت طرًّا عنكم بعد بينكم بذكركم حتى كأنكم عندي
وقول الآخر :
غافلاً تعرض المنية للمر ء فيدّعي ولات حين إباء
وقوله :
مشغوفة بك قد شغفت وإنما حم الفراق فما إليك سبيل
وقوله :
إذا المرء أعيته المروءة ناشئًا فمطلبها كهلاً عليه شديد
فقوله في البيت الأول : فرغًا، أي : هدرًا، حال وصاحبه المجرور بالباء الذي هو بقتل، وحبال اسم رجل. وقوله في البيت الثاني : هيمان صاديًا، حالان من ياء المتكلم المجرورة بإلى في قوله : إليَّ حبيبًا. وقوله في البيت الثالث : طرًّا حال من الضمير المجرور بعن، في قوله : عنكم، وهكذا وتقدم الحال على صاحبها المجرور بالحرف منعه أغلب النحويّين.
وقال الزمخشري في «الكشاف »، في تفسير قوله تعالى :﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لّلنَّاسِ ﴾، إلا رسالة عامّة لهم محيطة بهم ؛ لأنهم إذا شملتهم، فإنها قد كفتهم أن يخرج منها أحد منهم.
وقال الزجاج : المعنى : أرسلناك جامعًا للناس في الإنذار والإبلاغ فجعله حالاً من الكاف، وحق التاء على هذا أن تكون للمبالغة كتاء الراوية والعلامة، ومن جعله حالاً من المجرور متقدّمًا عليه فقد أخطأ ؛ لأن تقدم حال المجرور عليه في الإحالة بمنزلة تقدم المجرور على الجار، وكم ترى ممن يرتكب هذا الخطأ ثم لا يقنع به حتى يضم إليه أن يجعل اللام بمعنى إلى ؛ لأنه لا يستوي له الخطأ الأول إلا بالخطأ الثاني، فلا بدّ له من ارتكاب الخطأين، اه منه.
وقال الشيخ الصبان في حاشيته على الأشموني : جعل الزمخشري ﴿ كَافَّةً ﴾ صفة لمصدر محذوف، أي : رسالة كافة للناس، ولكن اعترض بأن ﴿ كَافَّةً ﴾ مختصّة بمن يعقل وبالنصب على الحال كطرًّا، وقاطبة، انتهى محل الغرض منه. وما ذكره الصبان في ﴿ كَافَّةً ﴾ هو المشهور المتداول في كلام العرب، وأوضح ذلك أبو حيان في «البحر »، والعلم عند اللَّه تعالى.
قوله تعالى :﴿ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾[ ٢٨ ].
قد بيَّنا الآيات الموضحة له في سورة «الأنعام »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن في الأرض يُضِلُّوكَ ﴾ [ الأنعام : ١١٦ ] الآية، وغير ذلك من المواضع.
قوله تعالى :﴿ قُل لَّكُم مِّيعَادُ يَوْمٍ لاَّ تَسْتَأخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلاَ تَسْتَقْدِمُونَ ﴾.
قد قدّمنا الآيات الموضحة له في سورة «يونس »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ لِكُلّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ ﴾ [ يونس : ٤٩ ].
قوله تعالى :﴿ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ﴾، إلى قوله :﴿ إِذْ تَأْمُرُونَنَآ أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَاداً ﴾.
ذكرنا بعض الآيات التي فيها بيان له في سورة «البقرة »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ ﴾ [ البقرة : ١٦٦ ]، وبيّناه في مواضع أُخر من هذا الكتاب المبارك.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٣١:قوله تعالى :﴿ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ﴾، إلى قوله :﴿ إِذْ تَأْمُرُونَنَآ أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَاداً ﴾.
ذكرنا بعض الآيات التي فيها بيان له في سورة «البقرة »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ ﴾ [ البقرة : ١٦٦ ]، وبيّناه في مواضع أُخر من هذا الكتاب المبارك.

قوله تعالى :﴿ وَجَعَلْنَا الأغْلَالَ في أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾.
جاء موضحًا في مواضع أُخر ؛ كقوله تعالى :﴿ إِذِ الأغْلَالُ في أَعْنَاقِهِمْ والسَّلَاسِلُ ﴾[ غافر : ٧١ ]، وقوله :﴿ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ وَأُوْلَئِكَ الأغْلَالُ في أَعْنَاقِهِمْ ﴾[ الرعد : ٥ ]، وقوله :﴿ ثُمَّ في سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاْسْلُكُوهُ ﴾ [ الحاقة : ٣٢ ]، إلى غير ذلك من الآيات.
قوله تعالى :﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَا في قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَآ إِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ ﴾.
قد بيَّنا الآيات الموضحة له في سورة «الأنعام »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَكَذالِكَ جَعَلْنَا فِي كُلّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا ﴾ [ الأنعام : ١٢٣ ]، وأوضحنا ذلك في سورة «قد أفلح المؤمنون »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاء أُمَّةً رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُ ﴾ [ المؤمنون : ٤٤ ].
قوله تعالى :﴿ وَقَالُواْ نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلَاداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِين ﴾.
قوله تعالى :﴿ وَمَا أَمْوالُكُمْ وَلاَ أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى ﴾.
قد قدّمنا الآيات الموضحة لذلك في سورة «الكهف »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبّى لأجِدَنَّ خَيْراً مّنْهَا مُنْقَلَباً ﴾ [ الكهف : ٣٦ ].
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٣٥:قوله تعالى :﴿ وَقَالُواْ نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلَاداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِين ﴾.
قوله تعالى :﴿ وَمَا أَمْوالُكُمْ وَلاَ أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى ﴾.
قد قدّمنا الآيات الموضحة لذلك في سورة «الكهف »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبّى لأجِدَنَّ خَيْراً مّنْهَا مُنْقَلَباً ﴾ [ الكهف : ٣٦ ].

قوله تعالى :﴿ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلاَءِ إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ قَالُواْ سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ الْجِنَّ ﴾.
قد قدّمنا الآيات الموضحة له في سورة «الفرقان »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَءنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاَء أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ * قَالُواْ سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنبَغِي لَنَا أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاء وَلَكِن مَّتَّعْتَهُمْ ﴾ [ الفرقان : ١٧-١٨ ] الآية.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٤٠:قوله تعالى :﴿ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلاَءِ إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ قَالُواْ سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ الْجِنَّ ﴾.
قد قدّمنا الآيات الموضحة له في سورة «الفرقان »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَءنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاَء أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ * قَالُواْ سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنبَغِي لَنَا أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاء وَلَكِن مَّتَّعْتَهُمْ ﴾ [ الفرقان : ١٧-١٨ ] الآية.

قوله تعالى :﴿ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُواْ مَا هَذَا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَن يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ ءَابَآؤُكُمْ ﴾.
قد قدّمنا الآيات الموضحة له في سورة «بني إسرائيل »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَاءهُمُ الْهُدَى إِلاَّ أَن قَالُواْ أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَّسُولاً ﴾ [ الإسراء : ٩٤ ].
قوله تعالى :﴿ وَمَآ آتَيْنَاهُمْ مِّنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَآ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِّن نَّذِير ﴾.
قد قدّمنا الآيات التي بمعناه في سورة «بني إسرائيل »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَمَا كُنَّا مُعَذّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ﴾ [ الإسراء : ١٥ ].
قوله تعالى :﴿ وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبلِهِمْ وَمَا بَلَغُواْ مِعْشَارَ مَآ آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُواْ رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ﴾.
ما ذكره جلَّ وعلا في هذه الآية الكريمة من أنه أهلك الأُمم الماضية لما كذبت رسله، وأن الأمم الماضية أقوى، وأكثر أموالاً وأولادًا، وأن كفّار مكّة عليهم أن يخافوا من إهلاك اللَّه لهم بسبب تكذيب رسوله صلى الله عليه وسلم، كما أهلك الأُمم التي هي أقوى منهم، ولم يؤتوا، أي : كفّار مكة، معشار ما أتى اللَّه الأمم التي أهلكها من قبل من القوة، جاء موضحًا في آيات كثيرة ؛ كقوله تعالى :﴿ كَانُواْ أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَاراً في الأرض ﴾ [ غافر : ٨٢ ]، وقد قدّمنا بعض الكلام على هذا في سورة «الروم »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَأَثَارُواْ الأرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا ﴾ [ الروم : ٩ ].
قوله تعالى :﴿ ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِكُمْ مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَّكُمْ بَيْنَ يَدَىْ عَذَابٍ شَدِيدٍ ﴾.
قد قدّمنا الآيات الموضحة له في سورة «المؤمنون »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءهُمْ بِالْحَقّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقّ كَارِهُونَ ﴾ [ المؤمنون : ٧٠ ].
قوله تعالى :﴿ قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّن أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ ﴾.
قد قدّمنا الآيات الموضحة له في سورة «هود »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ كَارِهُونَ وَيا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ ﴾ [ هود : ٢٩ ].
قوله تعالى :﴿ قُلْ جَاء الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ ﴾.
قد قدّمنا الآيات الموضحة له في سورة «بني إسرائيل »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَقُلْ جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا ﴾ [ الإسراء : ٨١ ].
قوله تعالى :﴿ قُلْ إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِى إِلَىَّ رَبّى ﴾.
قد قدّمنا الآيات التي بمعناه في سورة «الأنبياء »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ في الْحَرْثِ ﴾ [ الأنبياء : ٧٨ ]، في معرض بيان حجج الظاهرية في دعواهم منع الاجتهاد.
قوله تعالى :﴿ وَقَالُواْ آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِن مَّكَانِ بَعِيدٍ ﴾.
ما تضمنته هذه الآية الكريمة من أن الكفّار يوم القيامة يؤمنون باللَّه، وأن ذلك الإيمان لا ينفعهم لفوات وقت نفعه، الذي هو مدّة دار الدنيا جاء موضحًا في آيات كثيرة.
وقد قدّمنا الآيات الدالَّة عليه في سورة «الأعراف »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبّنَا بِالْحَقّ ﴾ [ الأعراف : ٥٣ ] الآية. وفي سورة «مريم »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ في ضَلَالٍ مُّبِينٍ ﴾ [ مريم : ٣٨ ]، وفي غير ذلك من المواضع. وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة :﴿ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِن مَّكَانِ بَعِيدٍ ﴾، ﴿ أنّى ﴾ تدلّ على كمال الاستبعاد هنا، و﴿ التَّنَاوُشُ ﴾ : التناول، وقال بعضهم : هو خصوص التناول السهل للشيء القريب.
والمعنى : أنه يستبعد كل الاستبعاد ويبعد كل البعد، أن يتناول الكفار الإيمان النافع في الآخرة بعدما ضيعوا ذلك وقت إمكانه في دار الدنيا، وقيل الاستبعاد لردّهم إلى الدنيا مرة أخرى ليؤمنوا، والأول أظهر، ويدلّ عليه قوله قبله :﴿ وَقَالُواْ آمَنَّا بِهِ ﴾، ومن أراد تناول شيء من مكان بعيد لا يمكنه ذلك، والعلم عند اللَّه تعالى.
Icon