ﰡ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الآيات: (١- ٩) [سورة سبإ (٣٤) : الآيات ١ الى ٩]بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (١) يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (٢) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٣) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٤)وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (٥) وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (٦) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (٧) أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ (٨) أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (٩)
قوله تعالى:
«الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ» الحمد لله من الله سبحانه، هو حمد لذاته من ذاته.. فهو سبحانه المستحق للحمد، وإن لم ينطق بذلك لسان.. فالوجود كلّه مسبح بحمده سبحانه، إذ كان الوجود- فى ذاته- نعمة، على أية صورة كان عليها الوجود، وعلى أي وضع قام عليه.. فهو خروج من عدم.. والعدم سلب، والوجود وجوب..
الوجود شىء، والعدم لا شىء.. والوجود صفة من صفات الله، به تتحقق ذاتية الذات، وتتحدد ماهيته.. ومن هنا كان.. الحمد لله، تسبيح كل موجود وصلاة كل مخلوق: «وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ» (٤٤: الإسراء) وفي قوله تعالى: «وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ» إشارة إلى ما استوجب الله سبحانه وتعالى من حمد فوق حمد الوجود، وهو حمد البعث، بعد الموت، الذي هو أشبه بوجود جديد للإنسان، وإمساك به من الذهاب إلى العدم الذي كان وشيكا أن ينتهى إليه بعد الموت.
- وفي قوله تعالى: «وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ» إشارتان.. إشارة إلى أن الله سبحانه وتعالى، الذي ملك هذا الوجود بسلطانه المطلق، لم يكن في هذا السلطان المطلق جور، أو استبداد، لأنه سلطان في يد الحكيم الذي أحسن كل شىء خلقه، وأقامه في المقام المناسب له.. والإشارة الأخرى إلى سوء ظن الكافرين والمشركين، وأهل الضلال، بالله سبحانه وتعالى، وقصور إدراكهم لما لله
«يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ».
هذه الآية، هى شرح وبيان لصفة «الخبير» التي وصف الحق بها ذاته، فى قوله تعالى: «وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ».
فالخبير، هو العالم علما كاشفا لكل شىء.. وعلم الله هو العلم الكامل كمالا مطلقا، حيث تنكشف به حقائق الأشياء كلها، إذ كان كل شىء هو صنعة الله، من مبدأ وجود المخلوق إلى كل ما يطرأ عليه من تبدل وتحول في كل لحظة من لحظات الزمن.. ولهذا وصف علم الله بالخبرة، إذ كان علما عاملا، بحيث لا يقع شىء في الوجود إلا عن علم، وعن تقدير بمقتضى هذا العلم.. فكان علمه سبحانه على هذا التمام والكمال: «أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ» (١٤: الملك) - وفي قوله تعالى: «يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها». إشارة إلى بعض علم الله، فيما بين أيدى الناس، وهو هذا العالم الأرضى الذي يعيشون
كذلك- ومن باب أولى في حسابنا- يعلم سبحانه ما يخرج من الأرض من نبات، وما يتفجر من عيون..
- وفي قوله تعالى: «وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها» إشارة أخرى إلى علم الله سبحانه بما فوق هذا العالم الأرضى، وهو السماء.. فهو سبحانه يعلم ما ينزل من السماء من ماء، وملائكة، وهو يعلم ما يعرج في السماء، أي ما يصعد إليها من عالم الروح الذي نزل إليها..
وفي قوله تعالى: «وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ» - إشارة إلى أن ما يلج في الأرض وما يخرج منها، هو هذه الرحمة التي تنزل ماء من السماء، فتلج في الأرض، فتخرج منها حبّا ونباتا وجنات ألفافا.. وفي هذا حياة كل حىّ، طعاما وشرابا.. ثم إشارة أخرى إلى ما ينزل من السماء من آيات الله وكلماته، يحملها أمين الوحى إلى المصطفين من عباد الله لرسالته، فيكون فيها حياة الأرواح، وتزكية النفوس.. ثم إشارة ثالثة إلى ما يعرج في السماء، ويصعد إليها من أعمال النّاس.. وقليل منها طيب، وكثير هو الخبيث.. ومع هذا، فإن الله سبحانه لا يمسك رحمته عن النّاس، ولا يعجل لهم الجزاء، بل يوسع لهم من مغفرته ورحمته، فيغفر للمذنبين التائبين، ويرحم العصاة الفارّين بذنوبهم إلى الله: «وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ» قوله تعالى:
«وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ
العطف هنا في قوله تعالى: «وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا» - هو عطف على مضمون الآيتين السابقتين... فهذا المضمون هو قول الوجود كلّه، وهو قول المؤمنين من النّاس.. وكأن المعنى هو:
قال الوجود كله وقال المؤمنون من عباد الله: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ..» الآية وما بعدها..
هذا ما قاله الوجود، والمؤمنون.. وقد اقتضى هذا الإقرار من المؤمنين أن يؤمنوا بالآخرة وأن يعملوا لها.. أما غير المؤمنين، فلم يقولوا هذا القول، ولم يؤمنوا بالله ولا باليوم الآخر..
والصورة إذن هى: قال الذين آمنوا آمنا باليوم الآخر، وبأن الساعة آتية لا ريب فيها، «وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ»..
وقد أمر الله سبحانه وتعالى النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- أن يردّ عليهم هذا الزعم الباطل، وأن يكذّب هذا الادعاء الفاسد، فقال تعالى:
«قُلْ.. بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ».. «وبلى» جواب لإثبات المستفهم عنه بالنفي، وإيجابه..
ففى قولهم: «لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ» نفى في طيه استفهام إنكارى، وكأنهم يقولون: «ألا تأتينا الساعة» مبالغة منهم في إنكارها، وفي تحدّى من يؤمن بها..
وقد جاء الردّ عليهم مثبتا لما نفوه، موكدّا له، قاطعا به: بهذا القسم باسم الربّ العظيم «وربّى» وبهذا التوكيد للفعل باللام والنون «لتأتينّكم»..
فهو إنكار غليظ، فى مواجهة الربوبية التي لا تنقطع فواضل إحسانها وإنعامها لحظة واحدة عن أي موجود، ولو انقطع ذلك لما كان لموجود وجود! - وقوله تعالى: «عالِمِ الْغَيْبِ».. صفة للرب- سبحانه وتعالى- الذي يعلم الغيب فى السموات والأرض، ويعلم ما عليه هؤلاء الكافرون من محادّة الله..
فهو سبحانه- وقد علم منهم هذا الضلال- لن يدعهم يذهبون من غير حساب ولا جزاء، بل سيبعثهم سبحانه، ويردهم إليه، ويجزيهم بما كانوا يعملون..
- وقوله تعالى: «لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ» أي لا يغيب عن علمه- سبحانه- وزن ذرة، كائنة فى السموات أو فى الأرض، ولا أصغر من الذرة- وهى ما هى فى الصغر- ولا أكبر... فكل ذلك عنده سبحانه وتعالى فى كتاب مبين، قد استودع مكنونات علمه..
- وفى قوله تعالى: «إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ» إشارة إلى حصر الموجودات كلها صغيرها وكبيرها «فِي كِتابٍ مُبِينٍ» أي مفصل فيه كل شىء تفصيلا واضحا محددا.. فما وقع فى ظن الكافرين بالله أن شيئا من هذا غائب عن علم الله إلا كان هذا فى كتاب مبين..
قوله تعالى:
«لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ.. أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ».
اللام فى قوله تعالى «لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا» هى لام العاقبة، أي أن عاقبة هذا العلم من الله سبحانه وتعالى لما يعمل الناس من خير أو شر، هو
ويجزى الذي أساءوا السّوءى وعذاب الجحيم..
وقد أطلق الجزاء الذي يجزى به الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات، فلم يقيد بأنه جزاء حسن للدلالة على أنه أمر واضح لا يحتاج إلى بيان.. إذ ليس للإحسان جزاء إلا الإحسان كما يقول سبحانه: «هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ» (٦٠: الرحمن) وفى الإشارة إلى المؤمنين بقوله تعالى: «أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ» رفع لقدرهم، وتنويه بمنزلتهم العالية فى مقام التكريم والإحسان.. وفى الضرب عن صفة الجزاء للذين سعوا فى آيات الله معاجزين، إشارة إلى التعجيل بالجزاء السيّء لهم، ومواجهتهم به بمجرد أن يعرضوا على الحساب.. إنه عذاب من رجز أليم..
وفى الإشارة إليهم بقوله تعالى: «أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ» فضح لهم وكشف عن موقفهم الذليل فى مقام الخزي والهوان..
وقوله تعالى: «وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ» إشارة إلى أنهم كانوا يخوضون فى آيات الله خوضا، بغير حساب، استخفافا بها، وسخرية منها.. وهذا بعض السر فى تعدية الفعل «سعى» بحرف الجر «فى» الذي يفيد الظرفية.
وقوله تعالى: «مُعاجِزِينَ» حال لبيان الغاية من هذا السعى الآثم فى آيات الله، وأنه لم يكن سعيا للإفادة منها، والاهتداء بهديها، وإنما هو سعى لحجبها عن الناس، ولتعجيزها، وإعجاز الناس عن الوصول إليها..
قوله تعالى:
«وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ».
ولا معوّل- عندنا- على هذا الاستنتاج الذي لا يسنده خبر صحيح.. وعلى هذا، فالآية مكية مثل آيات السورة كلها.
وأما الإشارة إلى الذين أوتوا العلم، وليكن المراد بهم أهل الكتاب، فإن هذا لا يمنع من أن يتحدث القرآن عن أهل الكتاب، وأن يستدعيهم الشهادة على ما يعلمون من آيات الله، وأنها الصدق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وذلك قبل أن تلتقى بهم الدعوة، وتلقاهم لقاء مباشرا..
وسواء أشهد أهل الكتاب أم لم يشهدوا، وسواء أكانت شهادتهم حقا أو باطلا، فإن هذه الإشارة إليهم، هى مطالبة لهم بأن يقولوا ما عندهم من علم عن هذا الرسول، وعن الكتاب الذي بين يديه، وأن ينطقوا بألسنتهم ما كتموه فى صدورهم... فإن لم يفعلوا فقد أثموا، وأدينوا، لأنهم خالفوا ما أمرهم الله به، ونقضوا الميثاق الذي أخذه عليهم، كما يقول سبحانه «وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ» (١٨٧: آل عمران) ثم إن فى هذا إرهاصا بما سيكون لهذه الدعوة من شأن مع أهل الكتاب، وأنهم سيدعون إليها، ويطالبون بالايمان بها، وذلك حين يجىء دورهم..
- وقوله تعالى: «الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ» «الذي» مفعول أول للفعل يرى، بمعنى يعلم، ومفعوله الثاني هو قوله تعالى: (الْحَقَّ).. والضمير (هو) (ضمير فصل يشير إلى القرآن الكريم. ويلفت إليه، وينوه به.. وفى تعريف «الحق» ما يفيد القصر، وذلك بتعريف ركنى الجملة إذ أن أصل الكلام هو: «الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ».. أي الذي لا حقّ وراءه.. فهو وحده الحق، وما سواه خارج عليه، فهو الباطل..
وقوله تعالى: «وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ».. معطوف على المفعول الثاني «الحقّ».. فهو جملة فى محل نصب.. أي ويعلم الذين أوتوا العلم أن الذي أنزل إليك من ربّك يهدى إلى صراط العزيز الحميد..
قوله تعالى:
«وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ» الآية معطوفة على قوله تعالى: «وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ».. أي أن الذين أوتوا العلم رأوا، ما أنزل إلى النبىّ من آيات ربه، فعلموا أنها الحقّ، وقالوا- بلسان الحال- آمنا به، وبما حدّث به عن البعث والحساب والجزاء.. وكان قول الذين كفروا هو الاستهزاء والسخرية برسول الله، والتكذيب لآيات الله.. فقالوا ساخرين مستهزئين منكرين:
«هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ؟»..
إنهم يتنادون فيما بينهم، ويدعو بعضهم بعضا إلى هذا العجب الذي يحدّثهم به النبىّ صلى الله عليه وسلم، من أمر البعث والحياة الآخرة، وما فيها من جنة ونار..
«أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ؟ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ» هذا هو مجمل ما يجيب به بعضهم بعضا، على هذه التساؤلات التي يتساءلونها فى أمر هذا الخبر العجيب الذي يحدثهم به النبىّ عن البعث.. إنهم ينتهون إلى أن يضعوا النبىّ بين أمرين، لا ثالث لهما: إما أن يكون رجلا افترى على الله الكذب فيما يحدثهم به، ويقول عنه إنه من عند الله.. فهذا الحديث- عندهم- لا يكون من الله، لأن الله لا يعقل منه أن يقول مثل هذا القول غير المعقول.. وإما أن يكون هذا الرجل مجنونا، يلقى الكلام كما يصوّره له جنونه.. وإذن فعلى كلا الأمرين، لا يسمع له، ولا يلتفت إليه..
وفى قولهم على «رجل» إمعان منهم فى الاستصغار لشأن النبي، وأنه أقلّ من أن يذكر باسمه أو صفته.. ولهذا ردّ الله سبحانه عليهم بقوله: «بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ».. فأضرب الله على كلامهم وأبطله، ثم ألقى بهم فى العذاب، وألبسهم لباس العمى والضلال..
وقدّم العذاب على الضلال، مع أن العذاب الذي سينالهم هو من ثمرة ضلالهم- قدم هذا، استعجالا لما يسوءهم، واستحضارا للبلاء الذي ظنوا أنهم فى مأمن منه..
قوله تعالى:
«أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ.. إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ.. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ»
ويكذبون بآيات الله، ولا يرجون لقاء الله.. فهؤلاء وقد توعدهم الله بالعذاب الأليم فى الآخرة، إن كانوا قد شكوا فى هذا الوعيد، أو استبعدوا يومه، فلينظروا فيما حولهم، وفيما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض.. من يمسك السماء أن تسقط عليهم؟ ومن يحفظ الأرض أن نخسف بهم؟ أليس هو الله سبحانه وتعالى؟ ذلك ما لا سبيل إلى إنكاره.. وإذا كان ذلك كذلك وقد عصوا الله، وحادوا رسوله- أفلا يمكن أن يعاجلهم الله بالعقاب فى الدنيا؟
أهناك من يعصمهم من بأس الله إذا جاءهم؟ أهناك من يردّ مشيئة الله لو شاء سبحانه أن يخسف بهم الأرض، أو يسقط عليهم حجارة من السماء؟
وفى قوله تعالى «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ» إشارة إلى أن هذا الذي تحدث به الآية عن قدرة الله وعن بأسه الذي لا يرد، لا يلتفت إليه ولا ينتفع به إلا من كان ذا عقل متفتح، وبصيرة نافذة، وقلب سليم، إذا رأى الحق عرفه، وإذا عرفه آمن به، وعمل على هداه، فإن كان كافرا آمن بالله، وإن كان عاصيا تاب إلى الله ورجع إليه من قريب، أما من أنام عقله، وأغلق قلبه، فإنه يظل مجمدا على حال واحدة، لا يتحول عنها، ولا يرجع عن الطريق الذي ركبه، وإن كان فيه مهلكه.
الآيات: (١٠- ١٤) [سورة سبإ (٣٤) : الآيات ١٠ الى ١٤]
وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (١٠) أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١) وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ (١٢) يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ (١٣) فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ (١٤)
قوله تعالى:
«وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ».
أوبى معه: أي سبحى معه ورددى ما يقول من آيات الشكر والحمد لله..
السابغات: الدروع الضافية، الكاسية.. ونعمة سابغة: أي كثيرة عامة شاملة، تغنى صاحبها، وتستر حاجته، وتسد خلّته..
وقدر فى السرد: أي اعمل بحساب وتقدير فى نسج الدروع من الحديد، ووصل حلقات بعضها ببعض. ومنه قوله تعالى: «وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها».. أي أوجدها فى دقة وإحكام..
ومناسبة الآية لما قبلها، أن الآية السابقة عليها ختمت بقوله تعالى. «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ» فجاءت هذه الآية لتكشف عن صورة كريمة للإنسان الذي يحقق معنى الإنابة، على التمام والكمال، وهو داود عليه السلام.
وإذا كان داود وسليمان قد خلع الله سبحانه وتعالى عليهما هذه الخلع العظيمة
إلى الكفر والضلال.. وقد كان داود عليه السلام فى حراسة دائمة لنفسه.
وفى مراجعة لكل ما يصدر عنه من أقوال وأفعال، وأنه كلما وجد من نفسه ما لا يرضاه فى صلته بربه، بادر بإصلاح ما كان منه، وصالح ربّه بالتوبة والاستغفار..
وفى هذا يقول سبحانه وتعالى عنه: «وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ».
- وقوله تعالى: «وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا» بيان لما أنعم الله به على عبده داود من فواضل إحسانه وكرمه.. وفى تقديم متعلق الفعل وهو الجار والمجرور «منّا» على المفعول به «فضلا» تعظيم للمنعم. وإشارة إلى علو المقام الذي جاء منه الإحسان، فيقطع العقل بأنه إحسان عظيم قبل أن يكشف عن الإحسان.
- وقوله تعالى: «يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ».. هو مقول لقول محذوف.. والتقدير فشكر لنا هذا الفضل، وسبح بحمدنا على هذا الإحسان، فقبلنا منه شكره وحمده، وقلنا «يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ» أي سبحى، وأعينيه على حمدنا وشكرنا، إذ كانت نعمنا عليه كثيرة، لا يستطيع أحد شكرها، مهما اجتهد فى الشكر، وبالغ فى الحمد.. فمن فضل الله على عباده أن يحسن إليهم، ومن تمام هذا الإحسان أن يعينهم على شكره، ومن مضاعفة العون أن يسخر غيرهم ليكونوا ألسنة من ألسنة الشكر لله معهم على ما أنعم الله عليهم.
والتأويب: الترديد والترجيع، فهو من الأوب، والرجوع.. وتأويب الجبال مع داود، هو ترديد تسبيحه، فيكون ذلك أشبه بالصدى للصوت، حيث، يرجع الصوت فى هذا الصدى إلى مصدره الذي جاء منه.
وقوله تعالى: «وَالطَّيْرَ».. الواو هنا واو المعية، والطير مفعول معه..
والتقدير: وقلنا يا جبال أوّبى معه، مع الطير التي تسبح معه.
وعلى هذا يكون الأمر من الله سبحانه وتعالى، متجها إلى الجبال، وإلى الطير، لتشارك داود التسبيح لله، ولتعينه على حمد الله وشكره..
واختيار الجبال، والطير، من بين الكائنات كلها، إنما هو- والله أعلم- لأن الجبال أبرز وجوه الأرض، فهى أشبه بالسلطان القائم عليها، والطيور هى ملوك السماء، وأبرز ما يحلّق فى أجوائها من ذوات الأجنحة، كالذباب، والبعوض، وغيره..
وقوله تعالى: «وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ» أي أخضعناه لسلطانه، وجعلنا له القدرة على التصرف فيه، وتشكيله على الوجه الذي يريد..
والذي يجمع عليه المفسرون، أن الله قد ألان الحديد ليد داود، وغيّر طبيعته، فجعله فى يده مثل العجين، يشكّله كيف يشاء، كما يشكل المرء صورة من الطين أو العجين..
وذلك ما لم يكن معروفا للناس فى ذلك الزمن.. ولهذا كان داود أول من صنع من الحديد دروعا، كما يقول سبحانه وتعالى: «وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ» (٨٠: الأنبياء).. وبهذا يكون داود عليه السلام، أول من طرق الحديد، متوسلا إلى ذلك بما علمه الله، من عرض الحديد على النار، حتى يلين، ويقبل الطرق..
وقوله تعالى: «أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ» أي وأوحينا إليه أن عمل دروعا سابغات..
وقوله تعالى: «وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ» أي أحكم السرد، واضبطه.. وهذا توجيه من الله سبحانه وتعالى بإتقان العمل، وإحسانه، وضبطه على أحسن وجه له..
وقوله تعالى: «وَاعْمَلُوا صالِحاً».. هو معطوف على قوله تعالى: «وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ» أي أحسن الصنعة وأحكمها.. وأحسنوا أيها الناس جميعا كلّ عمل تعملونه، وأخرجوه على الوجه المرضىّ.. فإن إحسان العمل مما يحسب فى الصالحات للإنسان.. فليس الإحسان فى العمل مطلوبا من الأنبياء وحدهم، وإنما هو مطلوب من كل إنسان.. «وَأَحْسِنُوا.. إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ» وقوله تعالى: «إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ» - إشارة إلى أن الله سبحانه وتعالى مطلع على عمل كل عامل، وأنه سبحانه بصير بما يعمل العاملون، يكشف ما فى العمل من عيب أو عوج..
قوله تعالى:
«وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ»..
الآية معطوفة على قوله تعالى: «وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا» أي:
«ولقد آتينا داود منا فضلا، وسخرنا لسليمان الريح..» !
وقوله تعالى: «غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ».
الغدوّ: أول النهار، وفيه تغدو الكائنات إلى حيث تطلب رزقها وغذاءها..
والرواح: آخر النهار، حيث ترجع الكائنات الغادية، وتروح إلى مراحها الذي ترتاح فيه، بعد عمل يومها..
ومعنى غدوها شهر ورواحها شهر، أي أن مسيرة الريح المسخّرة لسليمان، فى غدوة، تقدّر بمسيرة شهر، سيرا على القدم، كما أن مراحها، ورجوعها من غدوتها، يعدل مسيرة شهر.. كذلك..
أما ما يذهب إليه أكثر المفسرين من أن الريح كانت تنطلق شهرا غادية، وشهرا رائحة، فى حدود مملكة سليمان- فهذا بعيد، لأن رقعة مملكة سليمان لم تكن تتجاوز حدود فلسطين، وهذه الرقعة هى التي يمكن أن تقطعها الريح فى غدوة أو روحة من نهار.. وأقرب شاهد لهذا ما جاء فى القرآن الكريم من أن سليمان لم يكن يعرف مملكة سبأ حتى أخبره
وقوله تعالى: «وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ» أي النحاس.. والنحاس أشد من الحديد إباء على النار.. فهو يحتاج فى صهره إلى قوة حرارية أكثر مما يحتاج إليه الحديد..
وإذا كان داود قد عرف كيف يليّن الحديد، فإن سنة التطور تقضى بأن يتعرف ابنه سليمان على القوة الحرارية التي يتمكن بها من إلانة النحاس وصهره..!
والتعبير عن الحديد بالإلانة فى قوله تعالى: «وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ»، وعن النحاس بالسيولة- فى قوله تعالى: «وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ» - إشارة إلى اختلاف طبيعتى كلّ من الحديد والنحاس، وأن الحد يمكن تشكيله بالطرق إذا سخن ولان.. أما النحاس، فلا ينتفع به حتى ينصهر، ويتحول إلى مادة أقرب ما تكون إلى السوائل.. وهذا ما نجده فى قوله تعالى على لسان ذى القرنين. «آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً».. فالحديد هنا قد عرض على النار حتى احمر وصار أشبه بالجمر.. ثم جاء بالقطر- وهو النحاس الذائب- فأفرغه على هذا الحديد، وصبّه فوقه، كما يصب الماء على النار!! وعين القطر، هو الخالص منه.. فهو نحاس خالص، لم يختلط بشىء، مما يسمى «الشّبه» أي شبه النحاس..
وقوله تعالى: «وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ» أي وسخرنا له من الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه، ويستجيب لأمره من غير مراجعة.
وقد أخبر الله سبحانه وتعالى عن الجنّ، وأنزل سورة باسمهم، وقصّ علينا شأنا من شئونهم، وأعلمنا أن منهم المؤمنين، وأن منهم الفاسقين.. فيلزمنا التصديق بهم.. كما تحدث القرآن عنهم..
وقوله تعالى: «وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ» إشارة إلى أن سلطان الله سبحانه وتعالى قائم على هذه الكائنات، وأنه سبحانه قد سخّرها لتخدم عبدا من عباده، هو سليمان- عليه السلام- فهى واقعة تحت هذا الحكم، لا تخرج عنه. ومن خرج عنه منها، عذبه الله عذابا أليما..
وليس كل الجن سخّر لسليمان، وإنما بعض منهم، كما يفهم من قوله تعالى:
«وَمِنَ الْجِنِّ» أي ومن بعض الجن..
قوله تعالى:
«يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ»..
أي أن هذه الجماعة من الجن، التي سخرها الله لسليمان، تعمل له ما يشاء: «من محاريب» أي بيوت عبادة، فالمحراب هو مكان العبادة، كما قال تعالى:
«فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ».. «وتماثيل» أي صور كائنات وأشياء مجسدة، يزين بها ما يبنى من دور وقصور، وبيوت عبادة، «وجفان كالجواب» الجفان جمع جفنة، وهى القصعة الكبيرة يوضع فيها الطعام للآكلين.
وفى وصف الجفان بهذه الضخامة والاتساع، ووصف القدور بهذه الأحجام العظيمة- دليل على سعة ملك سليمان، وما بسط الله له من رزق، حتى ليطعم على مائدته هذه الأعداد الكثيرة من الناس، التي أعدت لها تلك الأوانى والأدوات، لتهيئة الطعام لها..
وقوله تعالى: «اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً».. أي اعملوا عملا، تقدمونه شكرا لله، بما أسبغ عليكم من نعم، وما أضفى عليكم من إحسان..
فالشكر المطلوب هنا من آل داود، هو شكر بالعمل، بعد شكرهم باللسان، كما جاء ذلك فى قوله تعالى: «يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ».. وهذا ما يشير إلى أن هذه الجفان التي كالجواب، وتلك القدور الراسيات كالجبال، إنما كانت لإطعام الفقراء والمساكين، وأن قوله تعالى: «اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً» هو حثّ لهم على الاستزادة من هذا الإحسان، الذي قبله الله منهم، ورضيه لهم..
وقوله تعالى: «وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ» هو تحريض لآل داود على أن يستزيدوا من شكر الله بهذا الذي يعملونه، وأنه إذا كان فى الناس كثير من الشاكرين لله، فإن قليلا منهم من يستحق وصف الشكور.. فتلك منزلة عالية فى مقام الإحسان، وآل داود أولى بهم أن يبلغوها، ويصبحوا من أهلها.
وهنا ملحظ لا بد منه، وهو أن الله سبحانه وتعالى قد كان من نعمه على سليمان أن سخر له الجن لتعمل له فيما تعمل- «تماثيل» منحوتة من صخر، أو منجورة من خشب، أو مصبوبة من حديد ونحاس.. وهذا يعنى أن صناعة
بقي بعد هذا أن نسأل:
لماذا قامت هذه الجفوة بين المسلمين وبين ممارسة فنّ النحت، والتصوير، والرسم، وغيرها من الفنون الجميلة؟
ولا نجد لهذا الجفاء مستندا من كتاب الله، ولا من السنة الصحيحة.. بل إن عكس هذا هو الصحيح.. إذ كانت دعوة الإسلام دعوة تلتقى بالإنسان عن طريق عقله وقلبه، وتخاطبه فى مواجهة مدركاته، ومشاعره ووجداناته..
ودعوة على هذا الأساس لا يمكن أن تحجر على ملكات الإنسان، أو أن تكبت مشاعره، وتحول بينه وبين أي فن جميل يثير المدارك، ويغذى المشاعر والعواطف..
والذي يمكن أن يكون من الإسلام فى أول أمره، أنه لم يفتح صدره لفنّ النحت، ولم يفتح للناس طريقا إليه، خاصة وأن المجتمع الإسلامى يومئذ، كان خارجا من جاهلية اتخذت من النحت غاية لا تتجاوز صناعة الأصنام وعبادتها..
فكان من الحكمة أن تخفّ فى الإسلام موازين النحت، الذي لم يلد على يد المجتمع الجاهلى إلا هذا الإثم الذي عكفوا على عبادته.. وهذا الموقف يشبه موقف الإسلام من الشّعر، الذي كان يحمل قدرا كبيرا من الضلال والإفك..
وقد كان من الطبيعي أن يردّ إلى النحت والتصوير والرسم، وغيرها، اعتبارها، بعد أن ماتت فى النفوس عبادة الأصنام، واختفت شخوصها إلى الأبد..
ولكن الذي حدث، هو الإمعان فى الجفوة لهذه الفنون، لا لسبب إلا أنها
«فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ».
تكشف هذه الآية عن حقيقة الجن، وتصحح تلك الصّور المشوهة التي وقعت فى أوهام الناس لهم، بنسبة الخوارق إليهم، وأنهم يقدرون على كل شىء قدرة مطلقة، وأنهم يعلمون الغيب، ولهذا يلجأ كثير من الناس إلى محاولة الاتصال بالجن، كما يفعل العرافون والسحرة وغيرهم، ففى قوله تعالى: «فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ» - إشارة إلى أن سليمان حين حان أجله، وقضى الله عليه الموت، أي أوجب عليه الموت حين جاء وقته، وكان سليمان حين مات، قائما بين الجنّ وهم بين يديه يعملون له- لم يعلموا بموته، وظلوا يعملون فيما أمرهم به..
ولم يدلّهم على أنه قد مات إلا دابة الأرض، التي كانت تأكل منسأته، أي عصاه التي كان يتكىء عليها.. فلما عبثت دابة الأرض بالعصا، زايلت موضعها، وسقطت على الأرض. وخر سليمان على الأرض كذلك.. وهنا علم الجن أن سليمان قد مات.. فأخلوا مكانهم، ومضوا إلى حيث يشاءون!! ولو كانوا يعلمون الغيب لعلموا أن سليمان قد مات، ولو كان بعيدا عنهم، فكيف وهو تحت سمعهم وبصرهم؟
وقد كثرت الأقوال فى دابة الأرض، وفى المدة التي قضتها حتى أكلت العصا، وأتت عليها.. والرأى الذي عليه المفسرون أنها الأرضة، وهى دودة تتسلط على الخشب، فتنخر فيه وتفسده، وتسمّى «السوس».. وأنها ظلت تفعل هذا مدة طويلة، بلغ بها بعضهم سنة! والذي حمل المفسرين على القول بأن الدابة هى الأرض- هو- في ظننا- إضافة الدابة إلى الأرض.. أي أنها صغيرة ضئيلة، ملتصقة بالأرض..
كبعض الحشرات..
والرأى عندنا، أن الدابة، كل ما دبّ على الأرض.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى «وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها» فكل ما دبّ على الأرض، من إنسان وحيوان، فهو دابة، وكونها فى الأرض، أو على الأرض، لا يغير من الأمر شيئا، وأنه إذا كان لإضافتها إلى الأرض هنا شأن خاص، فهو- والله أعلم- المبالغة فى الإشارة إلى جهل الجنّ بعلم ما فى الغيب، وأن دابة من دوابّ الله فى الأرض، أعلم منهم، حيث دلتهم، وكشفت لهم عما عجزوا وهم عن كشفه، وهى مما على الأرض، فكيف بما فى السماء من عوالم المخلوقات؟
وليس ببعيد أن تكون الدابة التي كانت تأكل من عصا سليمان، شيئا أكبر من الأرضة، وليس ببعيد ألا تكون الدابة واحدة، بل أعدادا كثيرة من نوع هذه الدابة.. فإن اللفظ يحتمل هذا..
وعلى هذا، فالذى يمكن أن تفهم عليه دابة الأرض، هو أن تكون هذه الدابة حيوانا كبيرا مما يدب على الأرض، ويمكن أن يتناول العصا بفمه، ويحاول الأكل منها، كبعض الحيوانات آكلة العشب، مع احتمال أن تكون
أما أن يظل سليمان هذا الزمن الطويل الذي يتجاوز الأيام إلى الأسابيع والشهور، وهو نائم، دون أن يفتقده أحد من رعيته، وأعوانه، ووزرائه، وقواده، فذلك ما لا يقبله العقل، وإن قيل أن جثته لم تتغير ولم تتحلّل خلال هذه المدة!! إنه من غير المعقول الذي يرتفع إلى درجة المستحيل، أن يغيب سليمان عن تدبير مملكته أياما، ثم لا يلتفت إليه أحد!! إن أي إنسان ذى شأن، لا يمكن أن تغفل عنه العيون يوما أو بعض يوم، فكيف بصاحب هذا السلطان العظيم؟
ويمكن كذلك أن تكون الأرضة قد كانت متسلطة على عصا سليمان، وهو لا يعلم، وأنه كان يحمل تلك العصا وقد عاث السوس فيها، حتى إذا كان متكئا عليها فى مجلس من مجالسه، لم تتحمل طول اتكائه عليها، فانكسرت به حين مات وثقل جسمه، كما هو الشأن فى كل ميت! والسؤال هنا: هل كان الجن لا يعلمون أنهم لا يعلمون الغيب حتى وقعت هذه الواقعة، وانكشف لهم منها أنهم معزولون عن علم الغيب؟
والجواب- والله أعلم- أنهم كانوا بما لهم قدرة على الحركة والانطلاق فى آفاق فسيحة، يظنون أنهم أقدر من الإنسان على النظر البعيد الذي يكشف ما سيأتى به الغد، بالنسبة للإنسان الذي لا يرى مثل هذه الرؤية البعيدة. فمثلا إنسان على طريق سفر يمكن أن تراه الجنّ، وتخبر عنه، وعن حاله على هذا الطريق، والحديث الذي يتحدث به، والأمتعة التي معه، وبعدكم من الزمن سيصل إلى المكان الذي يتحدث فيه أهله عنه.. كل هذه الأمور وكثير
وهذا غيب بالنسبة لنا، ولكنه حضور بالإضافة إلى الجن..
أما الغيب بالنسبة للجن، فهو الأحداث التي لم تولد بعد، ولم تخرج إلى عالم الشهود، كمقدّرات الله فى خلقه، وما يلقون على طريق حياتهم من خير أو شر.. كالعمر، والرزق والذرية، وغير ذلك مما هو مقدر على الإنسان..
ومثل الإنسان فى هذا سائر المخلوقات، وما قدّره الله لكل مخلوق.. فهذه المقدرات التي هى فى حالة كمون، لم تتحرك بعد إلى الظهور، لا يعلمها إلا علام الغيوب، وإلا من اصطفى من رسله، فأظهره على بعض ما انطوى فى صحف الغيب.
وموت سليمان بالنسبة للجن هو غيب، إذ أن الروح التي كانت تلبس سليمان وتضفى عليه الحياة، هى سر من أسرار الله، وغيب من غيوبه، وأمر من أمره، لا يعلمه إلا هو، فلما زايلت مكانها من سليمان، لم يشعر الجن بها، ولم يعلموا من أمرها شيئا، وحسبوا سليمان- وهو ميت- أنه فى غفوة، أو فى سنة من النوم.. فلما سقطت العصا التي كان يتكىء عليها، وخرّ ميتا دون حراك، علم الجن أنه مات، وتبين لهم من ذلك أنهم لا يعلمون الغيب، ولو كانوا يعلمون الغيب لعلموا أمر الروح التي زايلت سليمان، ولعلموا أنه مات، ولما لبثوا فى قيد التسخير والعمل يوما أو بعض يوم.. إنه عذاب مهين لهم، وإذلال لسلطانهم، وقهر لجبروتهم.
لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (١٥) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (١٦) ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلاَّ الْكَفُورَ (١٧) وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ (١٨) فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (١٩)
وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢٠) وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (٢١)
التفسير بدأت السورة بحمد الله، الذي له ما فى السموات والأرض، ودعت الناس إلى حمده سبحانه، وقصر هذا الحمد عليه وحده، إذ كان- سبحانه- المتفرد بالخلق والإحسان..
وقد كشفت الآية فى هذا المقام عن الناس، فإذا هم فريقان، حامد مؤمن بالله واليوم الآخر، وجاحد بكفر بالله وبالبعث وبالحساب والجزاء..
ثم عرضت الآيات بعد هذا، صورة للحامدين الشاكرين المؤمنين بالله وباليوم الآخر، مع ابتلائهم بالنعم العظيمة، والسلطان العريض.. وذلك فيما كان من داود وابنه سليمان، عليهما السلام.. ففى ذلك آية لأولى الألباب..
وقوله تعالى:
«لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ» - إشارة إلى هذه الجماعة التي كانت تسكن تلك البقعة، الخصيبة المعطاءة للخير.. وهى سبأ من أرض اليمن..
والمراد بسبأ هنا هم أهلها.. والمراد بمسكنهم، الحياة التي كانوا فيها..
و «آية» اسم كان، ولسبأ خبرها..
وقوله تعالى:
«جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ» بدل من «آية».. والتقدير: أنه كان لأهل سبأ آية، هى جنتان عن يمين وشمال.. وقد كان لهم فى هذه الآية منطلق إلى الإيمان بالله، والقيام بحمده وشكره.. ولكنهم لم ينتفعوا بهذه الآية، بل زادتهم كفرا وإلحادا، ومحادّة لله.
والمراد باليمين والشمال: كثرة الخير من حولهم، حيث يملئون أيديهم منه، وحيث يتناولونه من قريب، إن أرادوه بيمينهم وجدوه، وإن أرادوه بشمالهم تناولوه، دون أن يجهدوا أنفسهم بالتحول من اليمين إلى الشمال، أو من الشمال إلى اليمين.. وهذا مثل قوله تعالى: «أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ» (٤٨: النحل) ومثل قوله سبحانه: «عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ» (٣٧: المعارج)..
فالمراد بهذا كله الإحاطة من كل جانب..
وقوله تعالى: «كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ» أمر يراد به الإلفات إلى هذه النعم العظيمة التي أسبغها الله على القوم، وليس المراد به الأمر بالأكل على إطلاقه.
«فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ» أي أنهم أعرضوا عن أمر ربهم، بالأكل من هذا الرزق، والحياة مع هذه النعم، فى ظلّ من الإيمان بالله، والحمد له.. فتنكروا لهذه النعم، وجحدوا هذا الإحسان، ونسوا ربهم، ولم يرجوا له وقارا، ولم يعملوا له حسابا.. فكان أن أخذهم الله بما يأخذ به الظالمين، فأرسل عليهم سيلا عارما جارفا، أتى على جنتيهم، وأفسد كل صالحة فيها.. ثم أعقبهم جدبا وقحطا، فأمسك الماء عنهم، ونبت مكان هاتين الجنتين ما ينبت فى الأرض الجديب، من خسيس النبات والشجر، ومن ردىء الفاكهة والثمر..
وفى مقابلة الجنتين الطيبتين، بهذه الصورة الكئيبة لما تنبت الأرض، وفى وصف هذه الصورة بالجنّتين- ما يكشف عن مدى هذا التحول الذي أصاب القوم فى حياتهم، وعن الحسرة التي تملأ قلوبهم، حين ينظرون إلى جنتيهم الذاهبتين، ثم إلى هاتين الجنتين اللتين بين أيديهم.. فهذا هو ما يمكن أن يحصلوا عليه من جنات، إن كان يصحّ أن يكون ما فى أيديهم مما يطلق عليه
والخمط: الرديء من الثمر والأثل: شجر لا ثمر له..
والسّدر: شجر النّبق..
قوله تعالى:
«ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ»..
«ذلك» إشارة إلى ما حلّ بالقوم من نكال وبلاء.. وهو مبتدأ، محذوف خبره، وتقديره: ذلك ما جزيناهم به.. وقوله تعالى: «جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا» بدل من هذا المحذوف المشار إليه، وعطف بيان له..
وقوله تعالى: «وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ» أي لم يكن جزاؤنا لهم إلا بسبب كفرهم بنعمتنا، فما تحل نقمتنا، إلا بمن يكفر بنا وبإحساننا.. «ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ» (٥٣: الأنفال) والمجازاة غير الابتلاء.. فالمجازاة عقاب على ذنب اقترف، والابتلاه امتحان واختبار.. فقد يبتلى الله المحسنين بالضر، كما يبتلى المسيئين بالنفع..
ولهذا جاء التعبير القرآنى هنا: «وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ» أي لا نعاقب إلا من يستحق العقاب من أهل الكفر والضلال.. فلا اعتراض إذن لما يصاب به أهل الإحسان فى أموالهم أو أنفسهم، فذلك ابتلاء من الله لهم، وامتحان لإيمانهم، يزدادون به درجة فى مقام الإحسان، إذا هم صبروا على هذا الابتلاء..
وليس ذلك الابتلاء من باب المجازاة لهم على ذنب اقترفوه..
«وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ.. سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ»..
الحديث فى هذه الآية عن أهل سبأ أيضا، وعما كان الله سبحانه وتعالى قد ألبسهم إياه من نعم.. فهو معطوف على قوله تعالى: «كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ» على تقدير قلنا لهم: كلوا من رزق ربكم واشكروا له..
أي قلنا لهم ذلك، وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة...
والقرى التي بارك الله فيها، هى قرى أرض الشام، التي كان يرحل إليها أهل سبأ، ويتجرون معها، وسميت قرى مباركة، لأنها فى الأرض المباركة، المقدسة، كما يقول الله تعالى على لسان موسى: «يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ» والقرى الظاهرة، التي كانت بينهم وبين القرى المباركة، هى ما كان يلقاهم على طريقهم من اليمن إلى الشام، من منازل، وقرى، حيث يجدون فيها الأمن والراحة..
وقوله تعالى «وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ» أي جعلناها صالحة للسير فيها، والتنقل بينها، كما فى قوله تعالى: «وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ» أي اضبطه، وأحكم أمره..
وقوله تعالى: «سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ» إشارة إلى هذه النعمة التي يجدها القوم على طريق تجارتهم إلى الشام، حيث يسيرون فى هذه القرى تلك المنازل ليالى وأياما، فى أمن وسلام، لا يعترضهم فى طريقهم ما يخيفهم، أو يفزعهم..
وهذه نعمة من النعم العظيمة، لا يدرك مداها إلا من عاش فى تلك المواطن
لقد كفروا بها، وتنكروا لها، كما كفروا وتنكروا للخصب والرخاء، والخبر الكثير الذي أخرجته أرضهم.. فقال تعالى على لسانهم:
«فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ».
لقد بطر القوم معيشتهم، فتنكبوا عن هذا الطريق الآمن المطمئن، والتمسوا طرقا أخرى إلى جهات بعيدة غير تلك الجهة التي ألفوها، وتبادلوا المنافع مع أهلها.. واستبدّ بهم الغرور، وأغراهم الطمع، فركبوا الأهوال ولمخاطر، لا لحاجة إلّا أن يرضوا هذا الغرور الذي ركبهم، إلا ليغذّوا مشاعر الاستعلاء التي استولت عليهم- فكان أن بدد الله شملهم، وبعثرهم فى الأرض، ومزقهم كل ممزق.. فأصبحوا أحاديث على ألسنة الناس، لما وقع بهم من بلاه، وما حل بديارهم من خراب..
وليس الذي ذهبنا إليه فى تأويل قوله تعالى: «فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا» من أنهم ركبوا الأهوال والمخاطر- ليس هذا بالذي يحظر على الناس أن تنزع بهم هممهم إلى أبعد مما هم فيه، وإلى أن يتقلبوا فى كل وجه من وجوه الحياة..
فهذا شىء، والذي كان من القوم شىء آخر.. إنهم خرجوا عماهم فيه بطرا
وهؤلاء القوم، لو كان مقصدهم من الضرب فى وجه الأرض، السعى فى طلب الرزق، وإقامة حياة قائمة على العدل والإحسان، لبارك الله عليهم سعيهم، ولحمد مسيرتهم.. ولكنهم كانوا يركبون شيطانا مريدا، يدفع بهم دفعا إلى الكفر بالله، وإلى السعى فى الأرض فسادا.
وليس بالذي يشفع لهم، هذا القول الذي استفتحوا به ما طلبوا، حين قالوا «ربنا» فهذا قولهم بألسنتهم، ولو كان لهذا القول مكان فى قلوبهم لكانوا مؤمنين بالله حقا، ولما كان منهم هذا الفساد، وهذا الضلال الذي هم فيه.
ولقد قالها إبليس من قبلهم، وهو فى موقف التحدّى لله، والإصرار على الإثم العظيم، فقال: «رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ» وهذا ما يشير إليه قوله تعالى فيهم: «وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ».
فلقد انقادوا لإبليس، وأسلموا زمامهم له، وصدّق عليهم ظنه الذي ظنه فى أبناء آدم، حين قال: «رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ» (٣٩- ٤٠: الحجر).. فلقد استجاب هؤلاء المغوون لإبليس، وصدّفوا ظنه فيهم.. إلا فريقا قليلا من المؤمنين منهم، الذين ثبتوا على إيمانهم، ولم يجد إبليس سبيلا يدخل على إيمانهم منه، بالغواية والإضلال..
«وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ».
أي أنه لم يكن لإبليس سلطان قاهر على هؤلاء الذين دعاهم فاستجابوا له، وقد كان أمرهم بأيديهم، إن شاءوا عصوه، وإن شاءوا اتبعوه.. وفى الفريق الذين عصوه، وثبتوا على إيمانهم، شاهد على هذا.. إن إبليس وما معه من مغريات ومغويات، ليس إلا بعض ما يبتلى الله به عباده من نقم.. ثم إن للناس- مع هذا- شأنهم فيما ابتلوا به.. وفى هذا الابتلاء تنكشف أحوال الناس، ويميز الله الخبيث من الطيب.. ثم إنه- بعد هذا كله، وقبل هذا كله- لا يقع شىء إلا بإرادة الله سبحانه وتعالى، وما قضى به فى خلقه «وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ» فكل شىء بيده وتحت سلطانه.. لا يملك أحد معه من الأمر شيئا.
والمراد بعلم الله هنا، هو علم ما وقع بعد أن يقع، وهو سبحانه، عالم به أزلا، ولكن لا يحاسب عليه إلا بعد أن يقع، ويصبح من كسب العباد..
واختصاص العلم هنا بالإيمان بالآخرة، أو الشك فيها، لأن الإيمان بالآخرة، وبالبعث والحساب والجزاء، هو ملاك الإيمان بالله، وبآيات الله، ويرسل الله.. فليس مؤمنا بالله، ولا بآيات الله ولا يرسل الله، إلا من كان مؤمنا باليوم الآخر..
الآيات: (٢٢- ٣٠) [سورة سبإ (٣٤) : الآيات ٢٢ الى ٣٠]
قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (٢٢) وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ماذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (٢٣) قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٤) قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٢٥) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (٢٦)
قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ كَلاَّ بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٧) وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٢٨) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٩) قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ (٣٠)
وهؤلاء المشركون من أهل مكة، هم أشبه الناس حالا بأهل سبأ..
لقد أقامهم الله فى مكان أمين، وسط هذه الحياة المضطربة من حولهم، كما يقول سبحانه وتعالى: «أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ» (٦٧: العنكبوت) وكما يقول سبحانه: «وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ
(٥٧: القصص)..
إنهم إذ ينظرون إلى أهل سبأ، وإلى ما حلّ بهم، وإلى هذا الخراب الشامل الذي يطلّ عليهم من مساكنهم التي يمرون بها فى رحلة الشتاء- ليجدون فى هذا الحديث إشارة إليهم، وتعريضا بهم، وتهديدا لهم، أن يحلّ بهم ما حل بإخوان لهم من قبل..
ولهذا جاءت آيات الله، تلقاهم، وهم متلبسون بتلك المشاعر، التي دخلت عليهم من هذا الحديث عن سبأ وأهلها..
وفى قوله تعالى: «قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ.. لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ»..
فى هذا استدعاء للمشركين- وهم مشغولون بآلهتهم تلك عن الله- أن يستعينوا بمعبوداتهم هذه، وأن يستنجدوا بها، لتدفع عنهم بأس الله الذي يوشك أن يحلّ بهم، كما حل بأهل سبأ..
وها هم أولاء، ينظرون إلى معبوداتهم نظرا مجدّدا، إثر هذه الدعوة..
فماذا رأو منهما؟ إنهم لم يجدوا إلا أشباحا هامدة لا يجىء منها شىء أبدا..
من خير أو شر. «لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ».
هذا ما ينطق به الواقع، وما يتحدث به إليهم لسان الحال عن آلهتهم..
«وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ».. أي أنه ليس لهذه الآلهة ملك خالص مما فى السموات والأرض، ولو كان مثقال ذرة، كما أنه ليس لهم- ولو على سبيل الشركة- ما يعدل مثقال ذرة أيضا! وكما أنهم لا يملكون شيئا مما
فهؤلاء الآلهة معزولون عزلا مطلقا، عن كل شىء فى هذا الوجود..
لا ملك لهم فيه، ولو كان مثقال ذرة، ولا تصريف لهم فيما لا يملكون، على أي وجه من الوجوه..
قوله تعالى:
«وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ.. حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ماذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ»..
وقد يكون الإنسان ولا يملك شيئا، ولا يتصرف فى شىء، ثم يكون له مع هذا رجاء مقبول، أو شفاعة مستجابة، عند صاحب الملك. ولكن هؤلاء الآلهة لا يملكون شيئا، ولا يستعان بهم فى تصريف شىء، ولا يقبل منهم شفاعة فى أحد.. فماذا يرجى منهم؟ وبأى متعلق يتعلّق المشركون به منهم؟
إنه السفه، والضلال، والخسران المبين!!.
ومعنى نفع الشفاعة هنا، قبولها، والإذن لصاحبها بها..
وقوله تعالى: «حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ماذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ».
التفزيع عن القلوب، إزالة الفزع عنها، فهو تفزيع لهذا الفزع، وإجلاؤه من مكانه.. والذين فزع عن قلوبهم الفزع هم- والله أعلم- أصحاب الجنة، حيث يدفع الله عنهم الفزع الأكبر الذي يغشى الناس يوم القيامة، وهم
والمأذون لهم بالشفاعة، هم الأنبياء- صلوات الله وسلامه عليهم- فقد أكرمهم الله بقبول الشفاعة فيمن ارتضى الله لهم الشفاعة فيه من أقوامهم، كما يقول سبحانه: «عِبادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ» (٢٦- ٢٨: الأنبياء).
ومعنى الآية الكريمة: أن شفاعة المكرمين من عباد الله فيمن ارتضى شفاعتهم له، لا ينالها المشفوع لهم إلا بعد أن يتلقى هؤلاء الشفعاء الكرامة من ربهم، ويخلع عليهم الأمن فى هذا اليوم، ويدفع الفزع عن قلوبهم.. فهو يوم عظيم، تذهل فيه كل مرضعة عما أرضعت، وتضع كل ذات حمل حملها..
وهذا هو السر- والله أعلم- فى الحرف «حتى» الذي يشير إلى غاية بعده، هى الغاية لابتداء قبلها.. أي أن أهل المحشر يظلون موقوفين، حتى يخلص إليهم الرسل، وهنا يسأل كل رسول قومه: «ماذا قالَ رَبُّكُمْ؟» فيقولون جميعا: من مؤمنين وكافرين: «قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ».. ففى هذا اليوم ينكشف وجه الحق، ويرى أهل الضلال أنهم كانوا على غير طريق الهدى، وأن ما كانوا فيه هو الباطل، وأن ما كان يدعوهم إليه رسلهم هو الحق..
هذا، ويمكن أن يكون للآية الكريمة مفهوم آخر.. وهو أن الضمير فى قوله تعالى: «حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ» يعود على المشركين، المخاطبين
ثم ظلوا هكذا- لا ينطقون.. حتى إذا زايلتهم تلك الحالة، وفزع عنهم الفزع، بوارد من واردات الحميّة.. نطقوا، وقالوا للنبىّ، وللمؤمنين، ردّا على هذا القول الذي سمعوه، وإنكارا له، وتجاهلا لما سمعوه: «ماذا قالَ رَبُّكُمْ؟».. وكان جواب النبىّ والمؤمنين بلسان الحال، أو المقال، أو هما معا: «قالُوا الْحَقَّ.. وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ».. فهذا هو قول ربّنا، وهذا هو ربّنا الذي نعبده.
وهذا الفهم هو أقرب عندنا، إلى القلب، وأرضى للنفس..
والله أعلم..
قوله تعالى:
«قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ» سؤال آخر للمشركين، يوازنون فيه بين العلىّ الكبير، الذي يؤمن به المؤمنون، وبين آلهتهم التي أقاموها حجازا بينهم وبين الله، حتى لقد عموا عن النظر إليه، وحتى لقد أبت عليهم ألسنتهم أن ينطقوا به، وأن يضيفوا أنفسهم إليه، فقالوا للنبىّ والمؤمنين:
«ماذا قال ربكم؟» ولم يقولوا ربّنا..
ولا جواب إلا هذا الجواب: «الله».. فهو وحده المالك لكل شىء، المتصرف فى كل شىء، لا يملك أحد معه مثقال ذرة فى السموات أو فى الأرض..
وفى النطق عنهم بالجواب، إلزام لهم به طائعين أو مكرهين.. لأنه لا جواب غيره.. قبلوه، أو ردّوه..
وقوله تعالى: «وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ» إشارة إلى أن الأمر- أىّ أمر- لا يعدو أن يكون حقّا أو باطلا، هدى أو ضلالا..
وقد قال النبىّ والمؤمنون معه، قولهم فى الله، وقال المشركون قولهم..
وإذا كان كلّ على طريق، فإن المقطوع به أن يكون أحد الفريقين على طريق الهدى، والآخر على طريق الضلال.. ولا يجتمعان..
وأصل النظم هكذا: «نحن أو أنتم على هدى.. ونحن أو أنتم فى ضلال مبين».. أي أنه إذا نظر إلينا على طريق الحق لم يكن فيه إلا أحدنا، وإذا نظر إلينا على طريق الباطل، لم يكن فيه إلا أحدنا.. كذلك..
فريقان مختلفان.. مهتدون، وضالون..
وطريقان مختلفان.. هدى، وضلال..
وأهل الهدى على طريق الهدى، وأهل الضلال على طريق الضلال..
أما أين طريق الهدى ومن هم أهله؟ وأين طريق الضلال ومن هم
«قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ».
أي أن كلّ إنسان يحمل مسئوليته، وعليه أن يتحرّى الخير لنفسه، ويطلب لها السلامة والنجاة.. فلا يسأل إنسان عن جناية إنسان، ولا يحمل عنه وزره.. بل كل إنسان وما حمل.. «وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى» (١٨: فاطر)..
وفى التعبير عن جانب النبي والمؤمنين بقولهم: «أَجْرَمْنا» وعن جانب المشركين بالعمل: «تعملون» وكان مقتضى النظم أن يجىء «أجرمتم أو تجرمون، بدلا من تعملون، أو أن يجىء: عملنا أو نعمل، بدلا من أجرمنا- فى هذا التعبير القرآنى محاسنة للمشركين، ورفق بهم، وإطفاء لحمية الجاهلية التي تعمّى عليهم السبيل إلى الهدى، وهذا هو الأسلوب الحكيم فى مخاطبة الجاهلين، وهو أسلوب الدعوة الإسلامية والصميم من رسالة رسولها.. كما يقول سبحانه وتعالى لنبيه الكريم: «ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ» (١٢٥: النحل)..
قوله تعالى:
«قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ».
وإذ عجز المشركون عن أن يتبينوا من المحقّ ومن المبطل، ومن هم أهل الهدى ومن هم أصحاب الضلال، فى هذه الخصومة فى الله، القائمة بينهم
قوله تعالى:
«قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ.. كَلَّا.. بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» بعد هذه الدعوة الحكيمة الرفيقة، التي لانت- أو ينبغى أن تلين لها- القلوب من المشركين- كانت المواجهة مرة أخرى بين المشركين ومعبوداتهم، ليعيدوا النظر إليها، بعد هذا البيان المبين من آيات الله..
وقوله تعالى: «أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ» أي أين هم هؤلاء الذين تعبدونهم من دون الله؟. وماذا ترون فيهم إذا نظرتم إليهم؟ أترون غير خشب مسندة، وأحجار منصوبة؟ أهذه الدمى يصح أن تلحق بالله، وتضاف إليه، وتحسب شركاء له؟ «كلا» فما يقبل هذا منطق، ولا يستسيغه عقل..
«بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» الذي عزّ فحكم، فلا يشاركه أحد فى ملكه، ولا يدخل معه أحد فى تدبيره..
هذا هو الإله الذي يجب أن يعبد.. أما من لا يستقلّ بسلطان هذا الوجود، ولا بالقيام عليه، فلا يصح أن يكون إلها.. فكيف بمن لا يملك مثقال ذرة؟
وكيف بمن كان دمية، لا تدفع عن نفسها لطمة يد، أو ركلة رجل؟.
لقد رأى بعض الأعراب ربّا من هذه الأرباب، وقد وقعت الطير على رأسه
أربّ يبول الثّعلبان بوجهه | لقد ذلّ من بالت عليه الثعالب |
«وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ».
هذه الآية، هى تزكية من الله سبحانه وتعالى لنبيه الكريم، الذي أمره أن يقف من المشركين هذا الموقف، ويكشف لهم عن ضلالهم، ويزيل الغشاوة التي انعقدت على أبصارهم، فلم يتبينوا طريق الهدى..
وفى قوله تعالى: «وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ» بيان لهذا المقام العظيم، الذي لرسول الله عند ربه، وهو مقام لا يطاول، ومنزلة لا تنال.. قد انفرد بها- صلوات الله وسلامه عليه- من بين رسل الله وأنبيائه جميعا..
فهو- صلوات الله وسلامه عليه- رسول الإنسانية كلها، والشمس التي تملأ آفاقها، وتدخل كل مكان فيها.. ولهذا وصفه الله سبحانه وتعالى بالسراج المنير، فقال تعالى: «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً» (٤٥- ٤٦: الأحزاب).
والسّراج المنير، هو الشمس، كما يقول الله تعالى: «تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً» (٦١: الفرقان).. وقد
وفى وصف الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- بالسراج المنير، دون السراج الوهاج، إشارة إلى أمرين:
أولهما: أنه صلوات الله وسلامه عليه، كالشمس فى علوّ منزلتها، وفى بسط سلطانها على الأرض كلها، فلا تغرب عنها أبدا، ولا يزايلها ضوؤها أبدا، بل إن هذا الضوء ليغمر نصف الأرض فى كل لحظة من لحظات الزمن..
وهذا يعنى أن رسالة «محمد» - صلوات الله وسلامه عليه- ستبسط سلطانها على هذه الأرض، وأنها لن تزايلها أبدا، وأن أية رقعة منها لا تخلو من شعاعة من شعاعاتها..
وثانيهما: أنّ الشمس المحمدية، شمس، وقمر معا.. الشمس فى يمينه، وهى كتاب الله وآياته، والقمر فى شماله، وهو السنة المطهرة، المستمدة من كتاب الله، والمستنيرة من أضوائه..
وعموم رسالة محمد صلوات الله وسلامه عليه، مقررة فى كتاب الله، فى أكثر من موضع، فيقول سبحانه وتعالى «وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ» (١٠٧: الأنبياء).
ويقول سبحانه: «قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً» (١٥٨: الأعراف).
فالذين يمارون فى عموم الرسالة المحمدية، أو يقفون بها عند مجتمع من المجتمعات، أو أمّة من الأمم، إنما يتأولون آيات الله على غير وجهها، ويخرجون بالكلمات الواضحة الصريحة عن مفهومها.
إن الرسالة الإسلامية، هى الكلمة الأخيرة.. الكلمة الحاسمة فيما بين السماء والأرض، فليس بعدها كلام.. إنها الخاتمة.
وصاحب الرسالة، هو خاتم النبيين.. ليس بعده نبى، ولا وراءه بشير ولا نذير من ربّ العالمين..
وإذا كان ذلك كذلك، فإن لنا أن نقول: إن «محمدا» هو منتخب الإنسانية كلها، وهو مجتمع كمالاتها، فى أرفع درجاتها، وأعلى منازلها..
ذلك، لأنه- صلوات الله وسلامه عليه- جاء إلى الإنسانية حين بلغت رشدها، وحين أراد الله سبحانه وتعالى لها أن تستقلّ بوجودها، وأن تستقيم على الطريق الذي يمليه عليها تفكيرها..
إن الإنسانية- وقت البعثة المحمدية- كانت قد جاوزت طور الصبا، وبلغت أشدها ورشدها، وأصبحت بهذا جديرة بأن تستقل بنفسها، وأن تستهدى بما أودع الله تعالى فيها من عقل، وبما حملت إليها السماء من وصايا.
كانت رسالات الرسل- عليهم السلام- قبل البعثة المحمدية، رسالات «محلية» أشبه بالوصاية على الصغار.. يظهر الرسول فى جماعة من الجماعات، أو بيت من البيوت، يقيم لهم وجودهم المعوج، ويضىء لهم طريقهم المظلم، ثم لا يلبث أن يخلفه عليهم رسول، يخلفه رسول.. وهكذا.. حتى إذا بلغ الكتاب أجله، وأراد الله سبحانه للناس أن يستقلوا بوجودهم، وأن يفكروا لأنفسهم بأنفسهم، بعد أن بلغوا رشدهم، وأصبحوا فى عداد الرجال- جاءت
ومن هنا ندرك السر فى أن الرسالة الإسلامية، كانت رسالة «عقلية» تخاطب العقل، وتجىء لإقناعه عن طريق الحجة القائمة على البراهين الاستدلالية، التي يستقيم عليها تفكير الناس جميعا.. عامتهم وخاصتهم على السواء..
إن الرسالة الإسلامية، لم تستند إلى معجزة قاهرة، تطغى على عقول الناس، وتغتال تفكيرهم، وتشل إرادتهم، وتضعهم أمام أمر ملزم لا فكاك لهم منه..
فماذا يفعل العقل إزاء عصا موسى- عليه السلام- وهو يضرب بها البحر، فتنشق من بطنه طريق يبس؟ أو ماذا يقول العقل إزاء هذه العصا حين يضرب بها الحجر- أىّ حجر- فتسيل منه عيون الماء، وتتفجر ينابيعه؟ وماذا يقول العقل فى كلمة عيسى عليه السلام، حين ينطق بها، آمرا الأكمه، أن يبرأ، فيبرأ، وداعيا الأبرص، أن يذهب عنه البرص، فيذهب؟ بل ماذا يقول العقل فى تلك الكلمة تخرج من فم عيسى فيحيى بها الموتى؟ إنه لا مكان للعقل هنا..
إنه لا مفر له من أن يستسلم ويذعن، إن كان قد بقي معه شىء من الوعى، أو أن يعيش فى اضطراب وذهول، ووجوم!! أما الرسالة الإسلامية، فقد استندت فى محاجتها العقل، وفى إقناعه- إلى الكلمة وما فيها من عقل ومنطق..! فلم تطلب إلى الناس أكثر من أن يفكروا فى أنفسهم وبأنفسهم، وأن يستخدموا عقولهم المعطلة، وأن يوجهوا حواسهم إلى هذا الوجود، وأن ينظروا فيما خلق الله فى السموات والأرض..
ثم أن يتقبلوا- فى غير عناد- ما ينكشف لهم من آيات الله، ودلائل قدرته وعظمته.. فإنهم إن فعلوا، فقد أدوا الأمانة التي حملوها، وهى التفكير،
«قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ.. أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا» (٤٦: سبأ).. هذا هو عنوان الرسالة الإسلامية، وهذا هو ملاك أمرها..
استخدام العقل، واحترام معطياته، وذلك بالتفكير الفردى، والجماعىّ معا، تفكيرا حرّا مطلقا من كل قيد، محررا من كل تلقيات سابقة!.
فالعقل فى مواجهة الرسالة الإسلامية، محمول على أن يفكّر، وأن يتحرك فى جميع مجالاته، غير مقيّد بشىء، أو مشدود إلى شىء.. إن الرسالة الإسلامية لتغرى العقل إغراء على التفكير، بما تنادى به من دعوات عالية، إلى إيقاظ العقل، وبما تقدّم إليه من صور، وما تفتح له من مجالات، تدعو أكثر الناس بلادة وغباء إلى استخدام عقولهم، واستدعاء تفكيرهم: «أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ.. كَيْفَ خُلِقَتْ؟ وَإِلَى السَّماءِ.. كَيْفَ رُفِعَتْ؟ وَإِلَى الْجِبالِ.. كَيْفَ نُصِبَتْ؟ وَإِلَى الْأَرْضِ.. كَيْفَ سُطِحَتْ؟» (١٧- ٢٠: الغاشية).. «أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ؟ وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ! تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ! وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ! رِزْقاً لِلْعِبادِ وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً.. كَذلِكَ الْخُرُوجُ» (٦- ١١: ق) إنها دعوة إلى سياحة روحية، وعقلية، وجسدية، فى رحاب هذا الوجود، وفى استجلاء محاسنه، وملء العين والقلب من روائعه ومفاتنه.
وإنه بحسب المرء أن يصحب معه عقله فى هذه السياحة، فيهتدى إلى الحقّ، ويلتقى على طريق سواء مع محامل الدعوة الإسلامية، من عقيدة وشريعة.. فإن العقل بطبيعته- إذا خلا من آفات العناد والاستكبار- ينشد
ذلك، على حين كان العقل قبل الرسالة الإسلامية بمغزل عن معجزات الرسل، وبمنقطع عنها، لأنها لا تستقيم على منطق العقل، ولا تدخل فى مجال التفكير، إنها أمور خارقة للعادة، لا تقع إلا على يد رسول مؤيد من عند الله، فيقع بها الإعجاز القاهر، ويقوم بها التسليم القائم على الدّهش والحيرة، والعجز.
وذلك الذي صنعته السماء، فى التدرج فى الدعوة إلى الله، هو الأسلوب الحكيم فى التربية.. فالصغير لا يحتمل عقله أحكام المنطق، ولا يخضع تفكيره لمعطيات ما بين الأسباب والمسببات من ارتباط.. وإنه لمن الخطأ وسوء التقدير، بل ومن القسوة عليه، أن يؤخذ بمنطق العقل، ويحمل على أحكامه، على حين أن الذي يصلحه ويصلح له، هو أن يخاطب بلغة الحسّ، وبمنطق المادة.. فإذا نما عقله شيئا، كان من التدبير الحكيم أن يخاطب بأسلوب المنطق العقلي والحسّى معا، وأن يزاوج له بينهما، بنسب تكثر فيها العناصر العقلية شيئا فشيئا، كلما نما عقله، واتسعت مداركه، حتى إذا بلغ مبلغ النضج والرشد، أمكن أن يكون عقله هو موضع الاعتبار فى مخاطبته ومحاسبته..
والإنسانية- فى تقديرنا- بدأت وجودها كما يبدأ كل كائن حى وجوده.. نبتة صغيرة، ثم شجيرة لا زهر فيها، ثم شجرة مزهرة.. ثم شجرة مزهرة مثمرة! وشواهد التاريخ تؤيد هذا وتشهد له.
والإنسانية فى زمن البعثة المحمدية كانت- كما قلنا- فى آخر مرحلة من مراحل سيرها نحو النضج العقلي، والكمال الإنسانى.. كانت بمثابة طفل درج فى مدارج الحياة حتى بلغ مبلغ الرجال.. وكان عليه بعد هذا أن
ودع عنك ما يقال من أن الإنسانية كانت قد ارتكست وردّت على أعقابها زمن البعثة المحمدية، وأن الشرّ كان قد استشرى بالناس، وأن الظلام قد أطبق عليهم، ولفّهم فى قطع كثيفة من الجهل والضلال، وأن معالم الحضارات التي أقامتها الإنسانية فى وادي النيل على يد الفراعنة، وفى بابل وآشور على يد الكنعانيين والآشوريين، قد ذهبت معالمها، وضلّت فى ظلمات الجهل شواهدها، ومحيت آياتها.. وأن لمعات العقل اليوناني التي سطعت فى العالم القديم قد ذهب الزمن بها، وعقمت الحياة عن أن تلد سقراط، وأفلاطون، وأرسطو.. مرة أخرى..
دع عنك كل هذا، فالدنيا بخير، والحياة ولود، لا يصيبها العقم أبدا، وهى سائرة إلى الأمام، لا ترجع إلى الوراء بحال.. إنها سنّة التطور والارتقاء.. سنة الله فى خلقه، ولن تجد لسنّة الله تبديلا.
ولا نريد أن نقف طويلا هنا، ولا أن نضرب الأمثال والشواهد لهذا.
وحسبنا أن نقول إن القرون الطويلة التي عاشتها الإنسانية، والتي تقدر بعشرات الألوف أو مئاتها من السنين- لم تمكّن لها قبل عصرنا هذا من أن تستخدم قوة البخار والكهرباء، ولم تفتح لها الطريق إلى تحطيم الذرّة، وإلى بناء المراكب الكونية، الكوكبية التي تدور فى فلك الشمس كما تدور الأقمار حولها.. بل وأكثر من هذا.. فإننا ونحن نكتب هذا الكلام يطلع علينا حدث عجب لم يكن يقع إلا فى الأحلام والخيالات، وهو وصول الإنسان إلى القمر، ووضع أقدامه عليه، يمشى فوق أديمه، ويتنقل بين ربوعه..!
يتحدث الجاحظ فى رسالة «حجج النبوة» عن طبيعة الرسالة المحمدية، وأنها تتجه إلى مجتمع إنسانى يأخذ الأمور بمعيار العقل، وينظر فى أعقابها وما تؤول إليه.. فيقول:
«وكذلك وعيد «محمد» بنار الأبد، كوعيد موسى بنى إسرائيل بإلقاء الهلّاس على زرعهم، والهمّ على أفئدتهم، وتسليط الموتان على ماشيتهم وبإخراجهم من ديارهم، وأن يظفر بهم عدوّهم.
«فكان تعجيل العذاب الأدنى- أي القريب- فى استدعائهم واستحالتهم، وردعهم على ما يريد بهم، وتعديل طباعهم- كتأخير العذاب الشديد على غيرهم.. لأن الشديد المؤخّر- من العذاب- لا يزجر إلا أصحاب النظر فى العواقب، وأصحاب العقول التي تذهب فى المذاهب».. اه..
ويريد الجاحظ أن يقول: إن دعوة محمد كانت إلى مجتمع عاقل، مدرك، ينظر فى عواقب الأمور، كما ينظر العقلاء الراشدون، وليست
وننتهى من هذه الحقيقة إلى حقيقة أخرى، وهى أن «النبىّ» الذي يجىء إلى الإنسانية فى هذا الطور من حياتها، ينبغى أن يكون أكمل الأنبياء، لأنه على قمة الإنسانية فى طورها الذي بلغت فيه رشدها، إذ كان النبىّ فى كل عصر، فى كل أمة، هو ممثل الإنسانية فى هذا العصر، وفى تلك الأمة، وهو خلاصة كل طيب وكريم ونبيل فيها.. وفى هذا يقول النبىّ صلوات الله وسلامه عليه «بعثت من خير قرون بنى آدم، قرنا فقرنا، حتى كنت من القرن الذي كنت فيه» ؟
وعلى هذا، فإنه إذا كانت دعوات الأنبياء رحمات وبركات على الناس فى أجيالهم وأوطانهم- فإن رسالة «محمد» صلوات الله وسلامه عليه رحمة عامة، وبركة شاملة للناس جميعا.. من كل أمة، ومن كل جنس، على مدى الأيام والدهور..
وإنها رسالة لا تخصّ أمة من الأمم، ولا تنتهى عند زمن الأزمان..
فهى ليست للعرب وحدهم، وليست لعصر النبوة وحده، فما العرب إلا لسانها وترجمانها، وما عصر النبوّة إلا مطلعها ومجلى أنوارها.. «قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ.. إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ.. فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ.. النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ.. الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ.. وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ» (١٥٨:
الأعراف).
إن الرسالة الإسلامية، تدعو الناس جميعا إليها، ورسولها ينادى الناس كلهم، بهذه الكلمة العامة الشاملة، وبهذا النداء المطلق: «يا أَيُّهَا النَّاسُ»
. «إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ.: قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ» (١، ٢: نوح) «وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً.. قالَ يا قَوْمِ..» (٨٤: هود) «وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً.. قالَ يا قَوْمِ..» (٥٠: هود) «وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً.. قالَ يا قَوْمِ..» (٦١: هود).
«وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ.. يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ... » (٥: الصف). «وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ» (٦: الصف) وهكذا كان كلّ نبىّ يعمل فى محيط قومه، وفى حدود دائرتهم لا يتعداها، إذ كانت تعاليم رسالته وأحكامها، مقيسة عليهم، ودواء لداء متمكن منهم، لا يكاد يصلح لغيرهم.. حتى أن المسيح- عليه السلام- لم يكن ليقيم معجزة من معجزاته إلا فى بنى إسرائيل وحدهم.. وحتى إنه أبى- كما تحدث الأناجيل- أن يستجيب لتوسلات المرأة الكنعانية فى أن يشفى ابنها المجنون، وردّها قائلا، «لم أرسل إلا إلى خراف بيت إسرائيل»
هذا عن رسل الله، ومحامل رسالاتهم..
أما خاتم النبيين.. محمد صلوات الله وسلامه عليه.. وأما رسالة الإسلام خاتم الرسالات السماوية.. فللإنسانية كلها، وللناس جميعا.. أسودهم وأحمرهم على السواء.
كالبحر يهدى للقريب جواهرا | منه ويرسل للبعيد سحائبا |
«وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ».. والرسول صلوات الله وسلامه عليه يقول:
«أنا رحمة مهداة» !! قوله تعالى:
«وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ».
أي يقول المشركون، منكرين، ساخرين: «مَتى هذَا الْوَعْدُ؟» أي متى يوم القيامة التي تعدنا به فى قولك: «قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ».. ؟
متى يكون ذلك؟. أنبئنا به.. إن كنت من الصادقين.
وقوله تعالى:
الآيات: (٣١- ٣٣) [سورة سبإ (٣٤) : الآيات ٣١ الى ٣٣]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (٣١) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (٣٢) وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٣٣)
التفسير قوله تعالى:
«وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ
المراد بالذين كفروا هنا، هم المشركون من قريش، الذين تحدثت إليهم الآيات السابقة، هذا الحديث الذي انكشف لهم به وجه آلهتهم وبان لهم عجزها، وأنها لا تملك لهم ضرا ولا نفعا..
وقد انتهى هذا الحديث بتقرير تلك الحقيقة، وهى أن النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- ليس رسولا إليهم وحدهم، وإنما هو رسول إلى الناس جميعا، وأولى الناس بهذا النبىّ، وبالاستجابة له، هم قومه، الذين هم أعرف الناس به، وبآيات الله التي حملها إليهم بلسانهم.. ولكن الجهل والعناد أعماهم عن هذه الحقيقة، فلم يستجيبوا لرسول الله، ولم يفتحوا عقولهم وقلوبهم لكلمات الله وآياته، وقالوا فى إصرار وعناد: «لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ» أي لا نصدق بأن هذا القرآن الذي يقرؤه محمد علينا، هو كلام الله، وإذن فنحن لا نؤمن به، ولا نؤمن بما يحمل بين يديه من أحاديث عن البعث، والحساب والجزاء.. إنهم يكذبون به شكلا وموضوعا- كما يقولون- فهو ليس من عند الله أولا، ثم إن ما يحمل من أحاديث وأخبار، لا تصدّق ثانيا، لأنها لا تعقل! فالضمير فى قوله تعالى: «بَيْنَ يَدَيْهِ»، يعود على القرآن، وما بين يدى القرآن، هو ما يحمل بين يديه من قصص الأنبياء، وأخبار الأمم الماضية، وما حل بالكافرين والمكذبين، من عذاب وبلاء..
وهذا الذي ذهبنا إليه، من القول بأن ما بين يدى القرآن، هو أخباره وقصصه، وجدله، وحججه- هذا الذي ذهبنا إليه، هو أولى من القول الذي يذهب إليه أكثر المفسرين من أن الذي بين يدى القرآن هو التوراة والإنجيل، بمعنى أن المشركين لا يؤمنون بهذا القرآن، ولا بالتوراة والإنجيل..
ومن جهة أخرى، فإن المشركين، كانوا على اعتقاد بأن أهل الكتاب على دين سماوى صحيح، ولكنه خاص بهم وحدهم، ولهذا كان المشركون يتمنون أن يكون لهم كتاب خاص بهم مثل أهل الكتاب.. كما يقول الله سبحانه محدّثا عما يجرى فى خواطرهم: «أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ» (١٥٦- ١٥٧: الأنعام) قوله تعالى: «وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ» - انتقال بهؤلاء الكافرين المكذبين بآيات الله- إلى موقف الحساب والمساءلة فى لحظة خاطفة، حيث يطلع عليهم هذا الذي كذبوا به، وما تزال كلمات التكذيب على أفواههم..
ولم يجىء جواب «لو» الشرطية، بل ترك مكانه شاغرا، لنملأه التصورات المفزعة لهذا اليوم العظيم، وما يقع للمكذبين فيه من بلاء..
والتقدير: إنه لو اطلع مطلع على حال هؤلاء الظالمين، وهم موقوفون عند ربهم موقف المساءلة والحساب، لهاله الأمر، ولولّى منهم رعبا وفزعا، لما غشيهم من الكرب، وأحاط بهم من البلاء..
- وقوله تعالى: «يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ» هو جملة حالية، تكشف عن حال من أحوال هؤلاء الظالمين الموقوفين عند ربهم..
ورجع القول: ترديده، مثل رجع الصّدى..
وعبّر بالفعل «يرجع» اللازم، بدلا من يرجع، المتعدى لمفعوله- ليتضمّن
وقوله تعالى: «يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ» - بيان للقول الذي يترامون به، والتهم التي يلقى بها بعضهم على بعض.. وقد بدأ المستضعفون بإلقاء اللائمة على رؤسائهم، وسادتهم، الذين تولوا قيادة الحملة الضالة، ضد دعوة الحق والهدى، فجندوا هؤلاء الضعفاء، وقادوهم إلى المعركة، فكانوا فى الهالكين- بدأ المستضعفون بالرمي بالتهم، لأنهم هم المجنىّ عليهم من سادتهم ورؤسائهم..
- وفى قولهم: «لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ» إشارة إلى أن الإيمان فطرة مركوزة فى الإنسان، وأنه لو ترك الإنسان وشأنه دون أن تدخل عليه مؤثرات من الخارج، تفسد عليه فطرته، وتشوش عليه رأيه- لامن بالله، عن طريق النظر العقلي، ولاستجاب لدعوة الهدى من غير تردد.
قوله تعالى:
«قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ.. بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ» وألقى الكبراء القول إلى أتباعهم، وردّوا التهمة التي اتهموهم بها، وأنكروا أنهم كانوا سببا فى صدّهم عن الهدى: «أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ؟» إنا لم نقسركم على شىء، ولم نكرهكم على ما دعوناكم إليه..
وقد صدق هؤلاء المستكبرون، وكذبوا فى آن معا..
صدقوا، لأنهم لم يكن فى وسعهم أن يردّوا هؤلاء المستضعفين عن
ومن قبل قال الشيطان لأتباعه: «وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي.. فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ» (٢٢: إبراهيم) وكذب هؤلاء المستكبرون، لأنهم كانوا دعوة من دعوات الضلال، وقوة من قوى الشرّ، تزين للناس الضلال وتغريهم به، وتعمل على جذبهم إليه، وضمهم إلى جبهته.. بما لهم من جاه وسلطان..
وفى قولهم: «بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ». إشارة إلى ما فى طبائع هؤلاء المستضعفين من فساد، وأنهم بطبيعتهم منجذبون إلى الضلال، منصرفون عن الهدى.. فلو أنهم تركوا وشأنهم ما استجابوا للإيمان، وما قبلوه، فلما لاحت لهم دعوة الضلال من الضالين- استجابوا لها بطبيعتهم، وانجذبوا نحوها، كما ينجذب الفراش إلى النار.
قوله تعالى:
«وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ».
لم يجد المستضعفون مقنعا فيما ردّ به سادتهم عليهم.. وحقّا إنهم لم يقسروهم قسرا على الكفر، ولكنهم أغروهم به إغراء، بما يملكون من وسائل الإغراء، وفى أيديهم المال، والجاه والسلطان، وكلها قوى ذات سلطان على الناس! - وقوله تعالى: «وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ».. أي وحين طلع
الضعفاء ليلقوا بالتهمة كلها على كبرائهم، والكبراء ليدفعوا هذه التهمة عنهم، وحسبهم جنايتهم على أنفسهم.. وهكذا ازدرد الجميع هذه الكلمات التي كانوا يلوكونها فى أفواههم، ثم يرمى بها بعضهم بعضا، فأصبحت سهاما يرمى بها كل منهم فى داخل نفسه، فتدمى القلوب، وتفرى الأكباد!
الآيات: (٣٤- ٣٩) [سورة سبإ (٣٤) : الآيات ٣٤ الى ٣٩]
وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (٣٤) وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (٣٥) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٣٦) وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ (٣٧) وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (٣٨)
قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٣٩)
التفسير قوله تعالى:
«وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ»
فليس الغنى فى ذاته- كما يبدو- هو الذي يفسد الأخلاق، وإنما شأنه فى هذا شأن الفقر، قد يفسد، وقد يصلح.. إنه خير وشر.. وداء ودواء..
فمن أحسن سياسة المال، وعرف قدره، والمكان الذي يوضع فيه- صلح به أمره، واستقام به شأنه.. ومن اتخذ من المال وسيلة يصطاد بها ما توسوس به نفسه، وما يدعوه إليه هواه- فسد كيانه، وتهدم بنيانه، وتحول إلى كومة متضخمة من الشحم واللحم. تهب منها كل ربح خبيثة، تفسد المجتمع وتزعجه! وحين تنجم دعوة من دعوات الخير، يكون المترفون هم أول من يلقونها بالنكير، ويرجمونها بكل ما يقدرون عليه.. وما جاء رسول من رسل الله يدعو قومه إلى الهدى، حتى يتصدى له المترفون من قومه، يعلنون الحرب عليه، ويجمعون الجموع للوقوف معهم فى وجهه.. والله سبحانه وتعالى يقول:
«وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً»
قوله تعالى:
«وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ».. هذا هو ردّ المترفين على كل دعوة إلى الإيمان بالله، وتلك هى حجتهم عند أنفسهم وعند الناس.. إنهم بما يملكون من كثرة فى الأموال، وما عندهم من كثرة فى الأولاد والرجال، لن يكونوا تابعين لغيرهم، ولن يجعلوا لأحد كلمة عندهم، حتى ولو كان
- وفى قولهم: «وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ» إشارة إلى أنهم بما لهم من كثرة فى المال والأولاد، لن ينزلوا عن مقام السيادة لأحد، ثم إنهم إذا عذّب غيرهم من الفقراء والمستضعفين لن يعذبوا هم.. فإن الله ما أعطاهم هذا الوفر فى المال والكثرة فى الأولاد، إلا لأنهم أهل للكرامة، وموضع للفضل عنده، وكما كانوا فى الدنيا فى هذا المقام بين الناس، فهم فى الآخرة- إن كانت هناك عندهم آخرة- فى هذا الموضع أيضا، حيث يعذب الفقراء والمستضعفون، أما هم فلن يعذّبوا، بل ينزلوا منازل الإكرام والإعزاز.. ذلك ظنهم بأنفسهم.. وفى هذا يقول الله تعالى على لسان واحد منهم. «وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى» (٥٠: فصلت) ويقول سبحانه على لسان صاحب الجنتين. «وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً» (٣٦: الكهف) قوله تعالى:
«قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ».
هو ردّ على هذا الفهم المغلوط الفاسد الذي فهمه المترفون، لما لله فى عباده من بسط الرزق أو قبضه.. فليس بسط الرزق أو قبضه من الله سبحانه وتعالى، يحسب منازل الناس عنده، وإنما منازل الناس عند الله بأعمالهم الصالحة،
قوله تعالى:
«وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ..»
هو ردّ آخر على ادعاء هؤلاء المترفين، بأن أموالهم وأولادهم هى التي تقربهم من الله، وتدنيهم من مرضاته.. وكلّا فإن الأموال والأولاد لا تقرب من الله إلا بقدر ما يكون لأصحاب الأموال والأولاد من إيمان بالله، وإحسان فى العمل.. فهؤلاء حقا لهم جزاء الضعف، أي جزاء مضاعفا، بما نعموا به فى الدنيا من جاء وسلطان، وبما قدموا للآخرة من عمل صالح يلقونه عند الله، فيجزون به الجزاء الأوفى، فى جنات النعيم..
قوله تعالى:
«وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ» أي والذين يتخذون من أموالهم وأولادهم وجاههم وسلطانهم، أسلحة يحاربون بها الله، ويسعون لإعجاز الناس عن أن يتصلوا بآياته، أو لآيات الله أن تتصل بالناس.. «فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ» أي يجاء بهم من حيث كانوا إلى حيث يلقون فى جهنم، ويصلون العذاب الأليم فيها.
قوله تعالى:
«قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ.. وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ»
وذلك فى مقام غير المقام السابق.. فهناك كان المقام الداعي إلى ذلك، هو الكشف عن تلك الحقيقة التي جهلها أو تجاهلها المترفون، وهى أن بسط الرزق وقبضه هو ابتلاء من الله، وليس مقدّرا على منازل الفضل والرضوان من الله.
وهنا فى هذه الآية- بعد أن تقررت هذه الحقيقة- كان المقام مقام دعوة إلى البذل والإنفاق من هذا المال، لأنه من فضل الله.. وإذ كان الله سبحانه هو الذي يعطى، فلا خوف من الإنفاق، لأنه إنفاق فى سبيل الله، وهو بمنزلة القرض لله، ولن يضيع ما اقترضه الله، بل يعود إلى صاحبه مضاعفا: «مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً» (٢٤٥: البقرة) وهنا زيادة فى النظم وهى كلمة «عباده» وفيها إشارة إلى أن المدعوين إلى الإنفاق من أموالهم، والتي سيخلفها الله لهم، هم عباده، المؤمنون به..
الآيات: (٤٠- ٤٥) [سورة سبإ (٣٤) : الآيات ٤٠ الى ٤٥]
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ (٤٠) قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (٤١) فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (٤٢) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ وَقالُوا ما هذا إِلاَّ إِفْكٌ مُفْتَرىً وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٤٣) وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (٤٤)
وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (٤٥)
قوله تعالى:
«وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ» هو مساءلة فى الآخرة، ومواجهة بين عبدة الملائكة من المشركين، وبين عابديهم، الذين يقولون عنهم، إنهم بنات الله..
وقوله تعالى:
«قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ.. بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ» هذا جواب الملائكة.. إنهم ينزهون الله تعالى عن أن يتخذوا لهم وليا ونصيرا غيره.. إنهم لا يلتفتون إلى هؤلاء الأتباع، الذين عبدوهم على غير دعوة منهم إليهم.. إنهم فى غنى عنهم وعن عبادتهم.. فهم على ولاء مطلق لله.. فهو سبحانه وليهم، ومعتصمهم..
- وقوله تعالى: «بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ» - إشارة إلى ما يعبد هؤلاء المشركون من قوى غيبية خفية ومن تلك القوى، إلى جانب ما يعبدون من ملائكة، الجن.. كما يقول سبحانه: «وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً» (٦: الجن).
قوله تعالى:
«فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ».
قوله تعالى:
«وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ وَقالُوا ما هذا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرىً وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ»..
تعود هذه الآية بالمشركين إلى الدنيا مرة أخرى، بعد أن دعتهم الآيات السابقة إلى موقف الحساب والمساءلة، وذلك- كما قلنا فى أكثر من موضع- لتلتقى بهم الدعوة بعد هذه المشاعر التي دخلت عليهم من مشاهد هذا اليوم العظيم..
والآية هنا، تحدّث عن موقفهم مع آيات الله، ومقولاتهم فيها، بعد أن يتلوها الرسول عليهم..
إنها آيات بينات، تنطق بالحق المبين، بحيث يبدو للناظر إليها من أي جانب، ما يحدّث بأنها كلمات الله.. ومع هذا فإنهم يأبون أن يصدقوا ما يقع فى قلوبهم وعقولهم منها، ويحملهم الكبر والعناد على التكذيب، والبهت، والاتهام للرسول الذي يحملها إليهم..
وهذه المقولات التي يقولها المشركون فى آيات الله، هى مضمون ما تجمّع
- «قالُوا ما هذا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ».. وهم بهذا القول يستثيرون حمية الجاهلية فى صدور الجاهلين، بالحرص على موروثات الآباء، وما خلّفوا لهم من عادات وتقاليد، ومراسم..
- «وَقالُوا ما هذا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرىً».. وهم بهذا القول يزكّون القول الأول، ويثبّتون دعائمه فى القلوب.. حيث أن الذي يدعون إليه، ويرادون على إحلاله محل ما يعبدون، وما كان يعبد آباؤهم- هو محض افتراء وزور..
فكيف يتركون ما هم عليه من حق إلى هذا الضلال المفترى؟ هكذا زيّن لهم الضلال الجاثم على قلوبهم..!
- «وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ».. وبهذا القول يردّون على من وقع فى نفوسهم شىء من آيات الله، وتفتحت لها عقولهم وقلوبهم.. إنه سحر.. يخدع الناس، ويضللهم، ويريهم الأمور على على غير ما هى عليه..!!
قوله تعالى:
«وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ»..
أي أن هؤلاء المغرورين المفتونين بأموالهم وأولادهم، المكذبين بآيات الله كبرا وبطرا- هؤلاء لم يكونوا أهل علم كما كان شأن كثير غيرهم من الأمم، ولم يأتهم رسول من عند الله قبل هذا الرسول.. فهم- والأمر كذلك- فى فقر عقلىّ وروحى، وهم لهذا أشد الناس حاجة إلى هذا الخير الذي ساقه الله إليهم، على يد رسول كريم منهم..
«وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ».
أي لقد كذب الذين من قبل هؤلاء المشركين، كفرعون، وعاد، وثمود- كذبوا رسل الله، وكانوا على جانب عظيم من الغنى والسلطان، حتى أن هؤلاء المشركين المفتونين بما أوتوا، لم يكن لهم معشار- أي عشر- ما لهؤلاء الذين سبقوهم.. وقد أهلكهم الله بذنوبهم، ولم تغن عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا.. فهل تغنى هذه الأموال والأولاد- وهى قليلة، وإن حسبوها كثيرة- هل تغنى عنهم من عذاب الله من شىء؟
وهل ترد عنهم بأس الله إذا جاءهم؟ لو كان ذلك لهم، لكان غيرهم، ممن هم أكثر أموالا وأولادا، أولى!..
والنكير: الإنكار للأمر.. وإنكار الله للمنكر، يستتبع عقابه وعذابه لمن وقع منه المنكر..
قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ (٤٦) قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٤٧) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (٤٨) قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ (٤٩) قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (٥٠)
وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (٥١) وَقالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (٥٢) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (٥٣) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (٥٤)
التفسير:
قوله تعالى:
«قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا.. ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ».
بعد هذا التهديد الذي أنذر به المشركون من أن يحل بهم ما حل بالظالمين المكذبين قبلهم- جاءت آيات الله تدعوهم إلى ما هو خير لهم، وتفتح لهم الطريق إلى النجاة والخلاص..
فإذا تحرر العقل من هذه الآفات، وتخلص من تلك القيود، فقد كسب نصف المعركة فى صراعه مع الباطل، ثم كان عليه بعد هذا أن يكسب النصف الآخر، حتى يتلخص من الضلال، ويخرج من عالم الظلام إلى عالم الهدى والنور.. وهو أن يدير عقله على هذا الوجود، وأن ينظر فيه بعقله المتحرر هذا.. فإنه إن فعل، فلابد أن يهتدى إلى الله، ويتعرف إليه، ويؤمن به..
- فقوله تعالى: «قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ» أي إنما أنصح لكم بنصيحة واحدة، لا شىء غيرها.. إنها مجرد نصح، لا إلزام فيه، فإن قبلتم فذلك لكم، وهو حظكم، وإن لم تقبلوا فأنتم وشأنكم..
- والعظة الواحدة، هى: «أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا».
والقيام لله، هو القصد، والتوجه إليه، وذلك بطلب البحث عنه بحثا جادّا.. فإن الإنسان الذي يريد أن يتخذ له معبودا يعبده، يجب أن يتعرف إليه، وأن يتحقق من آثاره وأفعاله، وما له من سلطان فى هذا الوجود..
ثم لا يقبل المعبود حتى يراه المالك لكل شىء، المنصرف فى كل شىء، والقيام لله مثنى وفرادى، هو أن يكون التفكير فى الله، حديثا إلى النفس أولا، بما يقع فيها من خواطر عن الله.. ثم مراجعة هذه الخواطر مع شخص آخر، يراه الإنسان صاحب نظر ورأى، حتى يستقيم له من تلك
هذه هى مراحل التفكير، فى أي أمر ذى شأن بعرض للإنسان..
ففى المرحلة الأولى تظهر الفكرة فى صورة خاطرة أو وساوسة، يلوح فى سماء العقل، ويضطرب فى مخيلته..
ومثل هذا الخاطر أو الوسواس، يعيش قلقا مضطربا، لا يجد له مستقرا فى العقل، حتى يجد الأرض الصلبة التي يقف عليها.. وهنا تجىء المرحلة الثانية..
وفى المرحلة الثانية هذه، يبحث العقل عن عقل آخر يأنس به، ويقابل ما عنده من خواطر ووساوس بخواطره ووساوسه..
وفى هذا اللقاء بين العقلين، يكثر الأخذ والرد، والقبول والرفض، ثم ينجلى هذا المخض عن زبدة، هى الشرارة التي تنقدح من اللقاء بين العقلين، والتي تضىء بها جوانب النفس، وينكشف على ضوئها وجه الرأى فى الأمر المتداول بينهما.. وينتهى هذا الحوار، أو هذا اللقاء بين العقول، وقد ذهب كل واحد منها بما حصل عليه، من شك أو يقين.. وعندئذ يجد العقل أن ما حصل عليه ليس خالصا له، وإنما هو- على صورتى الشك واليقين- قسمة بينه وبين العقل الذي جرى معه هذا الشوط للوصول إلى تلك الغاية..
وهنا تجىء المرحلة الثالثة، التي يسوى فيها العقل حساب الأمر الذي بين يديه، على الوجه الذي يراه هو، مستقلا عن أي عون خارجى..
وقد يظل هكذا زمنا يبلغ عمر الإنسان كله، دون أن يصل إلى الرأى الذي يطمئن إليه، وقد تطلع عليه شمس الحقيقة فى لحظة خاطفة، وعلى غير انتظار! هذا، ويلاحظ- وهذا إعجاز من إعجاز القرآن الكريم- أن الآية الكريمة، لم تذكر المرحلة الأولى وبدأت بالمرحلة الثانية، وهى لقاء عقل الإنسان بعقل غيره، ومقابلة تفكيره بتفكير غيره وذلك، أن المرحلة الأولى، هى مرحلة مشتركة فى الناس جميعا، فإن أي إنسان عاقل، لا يمكن أبدا أن تخلو نفسه من خواطر، ووساوس، عن التفكير فى «الإله».. أما الذي هو غير واقع فى الناس جميعا، فهو عرض هذه الخواطر والوساوس على عقول الآخرين..
فهناك كثير من الناس يعيشون مع ما يطرقهم من خواطر ووساوس، دون أن يعرضوها على أحد، بل يمسكون بها فى صدورهم حتى يموتوا بها، تماما كما يمسك بعض المرضى، بأمراضهم، دون أن يطبّوا لها، وأن يعرضوها على أهل الذكر والمعرفة بأدواء الأجسام وعللها..
كما يلاحظ- وهذا إعجاز من إعجاز القرآن الكريم أيضا- أن الآية الكريمة حصرت التفكير فى دائرة الفرد نفسه، ثم لم تتجاوز به أكثر من فرد وفرد.. وهذا يعنى أن العقل إنما يكون فى أحسن حالاته، حين يفكر وحده، أي حين ينفرد بالتفكير فيما تجمّع لديه من حصيلة من الأفكار والآراء، يردّها إلى نفسه، ويقلبها بين يديه.. فهذا الذي يحقق للعقل ذاتيته، ويعطيه وجوده، ويمكن له من سلطانه.. فإذا كان ولا بد من مشاركة أحد، فليكن ذلك فى أضيق الحدود، ومع عقل آخر، هو أشبه بالمرآة التي يرى فيها الإنسان ذاته.. أما التفكير الجماعى، وخاصة فى أمر يتصل بالضمير، كالإيمان بالله واليوم الآخر، فإنه يشوش على العقل،
وقد كشف علم النفس، عن أن هناك عقلين، عقلا فرديا، وعقلا جماعيا، وأن العقل الجماعى، قد يقنع الإنسان بما لم يكن محلّ إقناع فى تفكيره الفردى.. وهذا إن صحّ فى الأمور العارضة، فإنه لا يصحّ فى أمر العقيدة، التي هى أمر شخصى محض..
- وقوله تعالى: «ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ، إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ».
هذا هو الحكم الذي يصل إليه العقل، إذا جرى على هذا الأسلوب الذي دعى إليه، من التفكير فى هذا الأمر الذي يدعو الرسول إليه، تفكيرا قائما على البحث الجادّ، والرغبة الصادقة فى الكشف عن الحقيقة.. إنه لو أخذ الإنسان- أي إنسان- بتلك العظة التي دعا القرآن إليها، وهى أن يقوم لله مفكرا وحده، أو مع غيره- لوصل إلى تلك الحقيقة، وهى أن هذا الرسول ليس به جنّة، وأن ما يدعو إليه هو الحقّ.. وأنه رسول الله، ونذير لهم بين يدى عذاب شديد، هو عذاب يوم القيامة..
قوله تعالى:
«قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ.. إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ.. وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ» وهذه مادة من مواد التفكير، فى سبيل البحث عن الحقيقة التي يدعو إليها الرسول عقل ذوى العقل، فهذه المادة مما تعين على الكشف عن الحقيقة والتهدّى إليها.. وتلك المادة هى أن الرسول- صلوات الله وسلامه عليه.. لم يطلب أجرا من أحد على ما يدعو إليه، وأنه لم يطلب بذلك
فماذا يحجزكم عنها، أو يحملكم على التصدّى لها، والوقوف فى وجهها؟
- وقوله تعالى: «فَهُوَ لَكُمْ.. إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ» أي إن يكن هناك أجر وخير فى هذه الدعوة، فهو لكم.. أمّا أنا، فإن أجرى على الله..
فأنا أحمل رسالته إليكم خالصة، ولا آخذ منكم على هذا الحمل أجرا، وإنما أجرى على الذي حملنى رسالته..
ويجوز أن يكون الضمير «هو» فى قوله تعالى: «فَهُوَ لَكُمْ» عائدا إلى القرآن الكريم، الذي يدعوهم الرسول الكريم إلى الاستماع إليه، والنظر فيه، ثم الإيمان بما يدعوهم إليه من عقيدة وشريعة.. والقرآن وإن لم يجر له ذكر فى الآية، فهو- فى الحقيقة- المواجه للقوم، والمتحدث إليهم..
وعلى هذا يكون «ما» فى قوله تعالى: «قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ» حرف نفى، بمعنى أننى لم أسألكم أجرا على هذا الكتاب الذي أتلوه عليكم، فهذا الكتاب هو كتابكم، إنه لكم، هدى ورحمة من عند الله.. فكيف أطلب أجرا منكم على أمر هو لكم. ؟ إنه لا أجر لى عندكم، إنما أجرى على الله.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ» ! وقوله سبحانه: «وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ» (٤٤: النحل).. فالكتاب منزل إلى الناس، والرسول عليه الصلاة والسلام هو المتلقى لهذا الكتاب من ربه، وهو الحامل لهذه الأمانة، المطلوب منه أداؤها إلى أهلها، وهم الناس جميعا..
وقوله تعالى: «وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ».. أي قائم على كل شىء،
قوله تعالى:
«قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ».
والمراد بالقذف بالحق: رمى الباطل بالحق، حتى يصرعه.. فالقذف، هو الرمي الشديد، كما يقذف بالحجر أو نحوه، ليصيب مقتلا من عدوّ..
وذلك ما يشير إليه قوله تعالى: «بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ.. فَإِذا هُوَ زاهِقٌ» (١٨: الأنبياء)..
وقوله تعالى: «عَلَّامُ الْغُيُوبِ» بدل من قوله تعالى: «يَقْذِفُ بِالْحَقِّ».. أي أنه سبحانه لا يقذف بالحق هكذا خبط عشواء، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.. إنه يقذف به عن علم، فيقع حيث يشاء، وحيث يصيب الباطل فى مقاتله..
قوله تعالى:
«قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ» هو تعقيب على الآية السابقة، التي قررت أن الله سبحانه وتعالى لا ينزّل إلا ما هو حقّ، ولا يرمى إلا بما هو حقّ..
وها هو ذا الحقّ قد جاء فى هذه الدعوة التي يحملها الرسول الكريم فى آيات الله المطهرة.. وإنها لحق قذف به هذا الباطل الذي يعيش فى مجتمع الجاهليين.. وليس بعد هذا القذف إلا أن يلقى الباطل مصرعه، وتختفى أشباح الضلال، وأشياعه..
«بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ» (١٨: الأنبياء) قوله تعالى:
«قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ» وهذا الحقّ الذي جاء، إن ضللت عنه، ولم أتبع هديه- فإنما عاقبة هذا الضلال واقعة علىّ.. وإن اهتديت بهذا الهدى، واستقمت على طريقه، ففى هذا النجاة لى، والغنيمة التي أغتنمها منه..
وفى قوله تعالى: «فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي» - إشارة إلى أن هدى القرآن هو الهدى، وأنه لا هدى إلا منه، وأن من التمس الهدى فى غيره ضلّ، وخاب وخسر..
وفى هذا إشارة أيضا إلى أن مصدر الهدى، هو الله سبحانه وتعالى، وأنه من هذا الهدى الإلهى، يهتدى النبىّ، ويهتدى المهتدون.. فالنبىّ- وهو رسول الله- إنما يلتمس الهدى من هذا القرآن، الذي هو حقّ للناس جميعا، ليس للنبىّ فيه، إلا ما للناس جميعا.. ومن هنا، فإنه لا حقّ له- صلوات الله وسلامه عليه- فى أن يطلب أجرا على شىء هو مشاع فى الناس، كالنور، والهواء، والماء.. وفى هذا أيضا دعوة إلى من يجدون فى أنفسهم أنفة أو كبرا أن يأخذوا من القرآن حظهم من الهدى إذ كان النبىّ هو الذي يحمله، ويدعو إليه- فى هذا دعوة لهم أن يتخففوا من هذا الشعور، وأن ينظروا إلى القرآن
إن فى هذه الحجة إلزاما لهم، وقطعا لكل عذر يعتذرون به.. ويبقى للرسول مع هذا مقامه من ربه، ومكانه من الدعوة إلى الله..!
قوله تعالى:
«وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ» هو سوق لهؤلاء الضالين الذين أمسكوا بضلالهم، ولم يقبلوا هذا الهدى المعروض عليهم فى شتى صور العرض- هو سوق لهم إلى المصير المشئوم الذي ينتظرهم..
والصورة التي يراها هؤلاء الضالون لأنفسهم هنا والتي يراها الناس لهم، هى أنهم فى ساحة المحاكمة، يوم القيامة، وقد استولى عليهم الفزع من هذا الهول المحيط بهم، وهذا البلاء المشتمل عليهم، وقد أحيط بهم من كل مكان، فلا فوت ولا مهرب لهم..
وجواب الشرط للحرف «لو» محذوف، للدلالة على أنه لا يحيط به
«وَقالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ».
هو معطوف على قوله تعالى: «وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ».. أي أنهم فى هذه الحال، يقولون «آمنا به» أي بالقرآن، أو بالرسول وبما جاء به..
- وقوله تعالى: «وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ» «أنّى» بمعنى كيف. وهو استفهام يراد به الاستبعاد..
والتناوش: التناول خطفا بأطراف الأصابع، حيث تقصر اليد عن تناول الشيء، فتلمسه، ولا تتمكن منه، فتكثر لذلك حركة اليد، قبضا وبسطا..
والمعنى أنهم إذ يقولون آمنا بالله، وبكتابه، يتعلقون بآمال كاذبة، ويمسكون بخيط من الوهم.. فقد بعدت بينهم وبين مطلبهم الشقة.. إنهم فى عالم غير هذا العالم الذي كان ينفعهم فيه هذا القول.. وإنه لمحال أن يعودوا إلى هذا العالم.. إنه مكان بعيد عنهم.. إنه الدنيا.. وهم فى الآخرة.. وما أبعد المسافة بين الدنيا والآخرة بالنسبة لهم!! وفى التعبير بالتناوش، عن الأمل الذي يراودهم فى هذا الموقف، بإعلان الإيمان- إعجاز من إعجاز القرآن، فى صدق الأداء، وروعته، ودقته.. فالأمل الذي يتعلقون به، لا يمسكون منه بشىء.. إنه لا يكاد يظهر حتى يختفى، ثم يظهر
إنهم يمدون أيديهم وهم فى الآخرة، ليتناولوا هذا الأمل الذي فاتهم فى فى الدنيا، ويناوشونه مناوشة من بعيد، ولا تمسك أيديهم بشىء منه.
قوله تعالى:
«وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ»..
الواو، واو الحال، والجملة بعده حال من الكافرين، الذين قالوا آمنا به..
أي أنهم قالوا هذا القول عن القرآن فى الآخرة، وقد كفروا به فى الدنيا، وقد كانوا يقذفون بالغيب وهو ما يحدثهم به القرآن عن البعث فى الآخرة والحساب، والجزاء، وكلها غيب.. فلم يقبلوا هذا، وقذفوا به، ورموه، وهم فى مكان بعيد أي فى الدنيا.. وهم الآن فى الآخرة، فكيف لهم أن يلحقوا بهذا الذي قذفوه، ويمسكوا به؟.
قوله تعالى:
«وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ.. كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ.. إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ».
حيل بينهم وبين ما يشتهون: أي حجز بينهم وبينه.. فلا سبيل لهم إليه..
والذي يشتهونه، هو العودة إلى الدنيا، وأخذ ما فاتهم، واسترداد
والأشياع: هم الأولياء، والأنصار.. وهم هنا من كان على شاكلة هؤلاء الكافرين من القرون الغابرة، والأمم الماضية، أو من جاء بعدهم ممن كانوا على الكفر فى الدنيا..
والمعنى أنه قد حيل بين هؤلاء المشركين، وبين ما كانوا يتمنونه، ويطمعون فيه من العودة إلى الدنيا، وإصلاح ما أفسدوا من أمرهم، كما حيل بين كل كافر وبين هذه الشهوة التي يشتهيها فى الآخرة.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى على لسان أهل الكفر والضلال فى الآخرة: «يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» (٢٧: الأنعام).
- وقوله تعالى: «إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ» - وصف لما كان عليه أهل الكفر والضلال فى الدنيا، وأنهم كانوا فى شك مريب من أمر الآخرة أي فى شك يقوم من ورائه شك. فلا يخرج بهم الشك إلا إلى شك، فلم يكن يقع منهم أبدا الايمان بالله، ولو ردوا إلى الدنيا- بما هم عليه من طباع- لعادوا إلى ما نهوا عنه..
نزولها: مكية عدد آياتها: خمس وأربعون آية..
عدد كلماتها: سبعمائة وسبعون..
عدد حروفها: ثلاثة آلاف ومائة وثلاثة وثلاثون.
مناسبتها لما قبلها بدأت سورة «سبأ» السابقة بالحمد لله، والثناء عليه، وإضافة ما فى السموات وما فى الأرض إليه سبحانه وتعالى، ثم ختمت بعرض الكافرين على جهنّم وما يلقاهم من ضنك وبلاء هناك، وما يتمنونه من العودة إلى الحياة الدنيا، وأن ذلك ما لا يكون أبدا، وأنهم لو ردّوا لما آمنوا، لأنهم يحملون طباعا لا تتعامل إلا مع الضلال والكفر.
وقد بدئت سورة «فاطر» هذه بحمد الله أيضا، والثناء عليه، وإضافة الوجود إليه إضافة إيجاد وخلق، بعد أن أضافته إليه سورة سبأ، إضافة ملك وتصريف..
ثم كان هذا الحمد ردّا على كفر الكافرين وشكّهم، وما جرّهم إليه هذا الكفر والشك من بلاء ونكال، فهو حمد من المؤمنين إذ عافاهم الله سبحانه وتعالى مما يلقى أهل النار من عذاب أليم.