بسم الله الرحمن الرحيم
سورة سبأمكية١
ﰡ
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة سبأمكية
قوله تعالى: ﴿الحمد للَّهِ الذي لَهُ مَا فِي السماوات﴾ إلى كقوله: ﴿لِّكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ﴾.
معناه: جميع الحمد من جميع الخالق لله الذي هو مالك السماوات والسبع والأرضين السبع والذي له الحمد في الآخرة كالذين له في الدنيا.
وقيل: معناه: هو قوله: ﴿وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين﴾ [يونس: ١٠].
وقيل: هو قول أهل الجنة: ﴿الحمد للَّهِ الذي صَدَقَنَا وَعْدَهُ﴾ [الزمر: ٧٤].
ثم قال: ﴿وَهُوَ الحكيم الخبير﴾ أي: الحكيم في تدبير خلقه، الخبير بهم.
[﴿وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا﴾ أي: من نبات وغيره.
﴿وَمَا يَنزِلُ مِنَ السمآء﴾ أي من وحي ومطر وغيره].
﴿وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا﴾ أي: من أمر وملائكة وغير ذلك. ويعرج: يصعد، ويلج: يدخل.
فالمعنى في ذلك: أنه تعالى ذكره العالم بكل شيء، لا يخفى عليه شيء في السماوات ولا في الأرض مما ظهر ومما بطن.
ثم قال: ﴿وَهُوَ الرحيم﴾ أي: بأهل التوبة من عباده، لا يعذبهم بعد توبتهم. ﴿الغفور﴾ لذنوبهم إذا تابوا منها.
ثم قال تعالى ﴿وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لاَ تَأْتِينَا الساعة﴾ أي: لا نبعث بعد موتنا، إنكاراً منهم للجزاء وتكذيباً.
ثم قال تعالى: ﴿قُلْ بلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ﴾ أي: قل لهم يا محمد: بل وحق ربي لتأتنيكم الساعة ولتبعثن للجزاء بأعمالكم.
ثم قال تعالى: ﴿عَالِمِ الغيب﴾ أي: هو عالم الغيب، أي: ما غاب عنكم من إتيان الساعة وغيرها.
ومن رفعه. فعل إضمار مبتدأ، أي: هو عالم الغيب. ومن خفضه. جعله
ثم قال: ﴿لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ﴾ أي: لا يغيب عنه شيء وإن قَلَّ أوْ جَلَّ، وهو قوله: ﴿وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ﴾ أي: لا يغيب عنه ما هو أصغر من زنة ذرة ولا ما هو أكبر منها أين كان ذلك.
ثم قال: ﴿إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ﴾ أي: كل ذلك (مثبت) في كتاب بَيِّنٍ للناظر فيه الله قد أثبته وأحصاه وعلمه، فلم يغب عنه منه شيء.
وأجاز نافع الوقف على: قُلْ بَلى.
وقال الأخفش: الوقف " لتأتِيَنكُمْ " على قراءة من رفع " عالم " ومن قرأ بالخفَ في " عالم " لم يقف على " لتأتينكم ".
ثم قال: ﴿لِّيَجْزِيَ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات﴾ أي: لا يغيب عنه شيء من الأشياء إلا وهو في كتاب مبين، ليجزي المؤمنين الذين عملوا الأعمال الصالحة.
وقيل: التقدير: لتأتينكم ليجزي المؤمنين.
ثم قال: ﴿أولئك لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ﴾ أي: ستر على ذنوبهم التي تابوا منها.
﴿وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾ أي: وعيش هنيء في الجنة.
قال قتادة: ظنوا أنهم يعجزون الله ولن يعجزوه.
فالمعنى: ظنوا أنهم يفوتونه ويسبقونه فلا يجازيهم.
يقال عاجزه وأعجزه إذا غلبه وسبقه.
ومن قرأ " مُعَجّزِيَن ". فمعناه: مثبطين للمؤمنين، قاله ابن الزبير.
فالمعنى: أثبتَ الله ذلك في الكتاب ليثيب المؤمنين، وليجيز الذين سعوا في آيات معاجزين، أي: سعوا في إبطال/ أدلته وحججه مفاوتين يحسبون أنهم يسبقون الله فلا يقدر عليهم.
وقيل: معاندين مشاقين.
ثم قال تعالى ذكره: ﴿أولئك لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ﴾.
قال قتادة: الرجز: سوء العذاب، والأليم: الموجع.
ثم قال تعالى ذكره: ﴿وَيَرَى الذين أُوتُواْ العلم الذي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الحق﴾ أي: أثبت ذلك في كتاب مبين ليجزي المؤمنين وليرى الذين أوتوا العلم أن الذي أنزل إليك يا محمد هو الحق، وهو القرآن، وهم المسلمون من أهل الكتاب كابن سلام وأصحابه الذين قرءوا الكتب التي أنزلها الله قبل القرآن كالتوراة والإنجيل.
قيل: عني بالذين أوتوا العلم: أصحاب النبي ﷺ، قاله قتادة.
ثم قال: ﴿ويهدي إلى صِرَاطِ العزيز الحميد﴾ أي: وهو يهدي إلى طريق الله ودينه.
ولا يحسن أن يُعطف " يهدي " على " ويرى "، لأنه لم يثبت ذلك ليهدي جميع الخلق إلى دين الله.
وقيل: العامل " مُزّقتم " على أن يكون هذا للمجازاة فلا تضاف إلى ما بعدها.
وإذا لم تقفْ عمل ما بعدها فيها. وأكثر ما يجازى بإذا في الشعر، ولا يجوز أن يعمل فيها " يُنَبِئكُم " لأنه لا ينبئهم ذلك الوقت، ولا يعمل فيها ما بعد أن، لأن " أن " لا يتقدم عليها ما بعدها ولا معمولة.
ثم قال: ﴿أفترى عَلَى الله كَذِباً﴾ أي: قال المشركون: افترى محمد في قوله: إنا نبعث.
﴿عَلَى الله كَذِباً﴾ أي: اختلق هذا القول من عند نفسه وأضافه إلى الله ﴿أَم بِهِ جِنَّةٌ﴾ أي: به جنون، فتكلم بما لايكون ولا معنى له.
ثم قال تعالى: ﴿بَلِ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة فِي العذاب﴾ أي: ما الأمر كما قال هؤلاء المشركون في محمد، ولكن هم في عذاب الآخرة وفي الضلال البعيد عن الحق، فمن أجل ذلك يقولون هذا المنكر.
ثم قال تعالى: ﴿أَفَلَمْ يَرَوْاْ إلى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِّنَ السمآء والأرض﴾ أي: ألم ينظر
ثم قال تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ﴾ أي: إن في إحاطة السماء والأرض لجميع الخلق لدلالة على قدرة الله لكل عبد أناب إلى الله بالتوبة.
قال قتادة: المنيب: المقبل التائب.
وقيل: المعنى: أو لم يتأملوا ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض من عظيم القدرة في خلق ذلك فيعلموا أن الذي خلق ذلك يقدر على بعثهم بعد موتهم، وعلى أن يخسف بهم الأرض أو يسقط عليهم قطعة من السماء.
قوله تعالى ذكره: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلاً﴾ إلى قوله: ﴿مِّنْ عِبَادِيَ الشكور﴾.
أي: وقد أعطينا داود منا فضلاً، وقلنا للجبال ﴿ياجبال أَوِّبِي مَعَهُ﴾ أي: سبحي معه إذ سبح، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك وابن زيد.
والتأويب في كلام العرب: الرجوع، ومبيت الرجل في منزله وأهله، وأصله من
وَقُرِئَتْ " أوبِي " بالتخفيف. من آب يؤوب، بمعنى تصرفي معه.
ثم قال: ﴿والطير﴾ فمن نصب فعل معنى: سخرنا له الطير، هذا قول أبي عمرو.
وقال الكسائي: هو معطوف على " داود " أي: وآتيناه الطير.
ونصبه عند سيبويه على موضع يا جبال.
ويجوز أن يكون مفعولاً معه، فيكون المعنى: يا جبال أوبي معه ومع الطير.
وقد قرئ بالرفع/ على العطف على لفظ الجبال أو على المضمر في " أوبي "
وقوله: ﴿أَنِ اعمل﴾ أن لا موضع لها بمعنى أي: ويجوز أن تكون في موضع نصب على معنى: لأن اعمل.
وقيلأ: التقدير: وعهدنا إليه بأن أعمل، وقاله الطبري.
ثم قل: ﴿وَأَلَنَّا لَهُ الحديد﴾.
قال قتادة: سخر الله له الحديد بغير نار، فكان يسويه بيده ولا يدخله ناراً ولا يضربه بحديد.
وروي أنمه كان في يده بمنزلة الطين. وهو أول من سخر له الحديد.
وقيل: أعطاه الله قوة يثني به الحديد.
قال الحسن: كان داود يأخذ الحديد فيكون في يده بمنزلة العجين.
وقوله: ﴿أَنِ اعمل سَابِغَاتٍ﴾ أي: دروعاً كوامل توام.
قال قتادة: كان داود أول من صنع الدروع، وكانت قبل ذلك صفائح.
قال قتادة: كان يجعلها بغير نار ولا حديد، والسرد: المسامير.
وقال ابن عباس: السرد حَلَق الحديد.
وقال ابن منبه.
والسرد في اللغة كل ما عمل متسقاً متتابعاً يقرب بعضه من بعض ومنه سرد الكلام. ومنه قيل للذي يعمل الدروع زَرَّادٌ وسِرَّاد.
قال وهب بن منبه: كان داود يخرج متنكراً يسأل عن سيرته في الناس فيسمع حسن الثناء عليه، فيزداد تواضعاً لله، وعلى الخير حرصاً، قال: فخرج ذات يوم وبعث الله ملكاً إليه في صورة آدمي، فقال له داود: كيف ترى سيرة هذا العبد داود - ﷺ -، وهو يظن أنه آدمي، فقال له الملك: نِعْمَ العبد داود، ما أنصحه لربه وأقربه من المساكين، لولا خصلة في داود ما كان لله عبد مثل داود، قال له داود: وما تلك الخصلة؟ قال: إنه يأكل من بيت المال وما من عبد أقرب إلى الله جل ذكره من عبد يأكل من كد يمينه، فانصرف داود ودخل محرابه وابتهل إلى ربه وسأله أن يرزقه عملاً بيده يغنيه عن بيت المال، فعلمه الله صنعة الدروع، فكان أول من عمل الدروع وألان
والمعنى على قول مجاهد: وقدر المسامير في حلق الدروع حتى تكون بمقدار لا يضيق المسمار وتضيق الحلقة فتقسم الحلقة، ولا توسع الحلقة وتصغر المسمار وتدقه فتسلى الحلقة.
ثم قال: ﴿واعملوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ أيْ اعمل يا داود أنت وأهلك عملاً صالحاً، إني بعملكم بصير.
والطير وقف ولا تقف على الحديد أن مابعده متعلق به. ولا تقف على " بصير " إلاّ على قراءة من رفع. " الريح ". فإن نصبته فهو معطوف عند الكسائي، على " وألنا ".
والتقدير عن الزجاج: سخرنا له الريح.
قال ابن يد: كان لسليمان مركب من خشب، وكان له فيه ألف ركن، في كل ركن ألف بيت، يركب معه فيه الإنس والجن، تحت كل ركن ألف شيطان يرفعون ظل المركب هم والعُطَّارُ - والعصار الريح العاصف - فإذا ارتفع ظله أتت الرُّخاء فسارت به وصاروا معه، يقيل عند قوم بينه وبينهم شهر، ويسمي عند قوم بينهم وبينه شهر فلا يدري القوم إلاّ وقد أظلم معه الجيوش والجنود.
ثم قال تعالى: ﴿وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ القطر﴾ أي: وأذينا له عين النحاس كانت بأرض اليمن، قاله قتادة، قال: وإنما ينتفع الناس اليوم مما أخرج الله لسليمان.
ثم قال: ﴿وَمِنَ الجن مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ﴾ أي: منهم من يطيعه، يأتمر لأمره فيعمل بين يديه لما يأمره به طاعة لله جل ذكره.
فمعنى ﴿[بِإِذْنِ] رَبِّهِ﴾: أمر الله له بذلك، وتسخيره له إياه. فأمن في موضع رفع الابتداء والمجرور المتقدم الخبر ويجوز أن تكون " من " في موضع نصب على
والتقدير: وسخرنا له من الجن من يعمل. فتقف على " القطر " في القول الأول، ولا تقف عليه في القول الثاني.
ثم قال: ﴿وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا﴾ أي: ومن يزل ويعدل من الجن عما أمر به من طاعة سليمان.
﴿نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السعير﴾ في الآخرة وهو عذاب النار المتوقدة.
ثم قال تعالى: ﴿يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَآءُ مِن مَّحَارِيبَ﴾ أي: من كل شيء مشرف.
والمحراب في اللغة كل شيء مشرف مرتفع، وكل موضع شريف، ومنه قيل/ للموضع الذي يصلي فيه الإمام محرام لأنه يعظم ويشرف ويرفع. وقيل: المحراب مقدم كل بيت ومسجد ومصلى.
قال مجاهد: المحاريب في الآية: بنيان دون القصور.
قال الضحاك: " محاريب ": مساجد.
وقال ابن زيد. محاريب مساكن وقراء قوله: ﴿وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي المحراب﴾ [آل عمران: ٣٩]. أي: في مسكنه، وقد تقدم ذكره.
ثم قال: ﴿وَتَمَاثِيلَ﴾ قال مجاهد: تماثيل من نحاس.
وقال الضحّاك تماثيل: تماثيل الصور.
وهذا عند أكثر العلماء منسوخ بنهي النبي ﷺ عن عمل الصورة، وتوعده لمن عملها أو اتخذها. وكان في ذلك صلاح في الدين أنه بعث على الله تعالى والصور تعبد،
وقد قال قوم: عمل الصور جائز بهذه الآية وبما صح عن (المسيح) عليه السلام.
ثم قال تعالى: ﴿وَجِفَانٍ كالجواب﴾ أي كالحياض. كانوا ينحتون له ما يشاء من جفان كالحياض، وهو جمع حابيَّة يجيبى فيها الماء، أي يجمع.
وروي عن مجاهد أن الجوابي جمع جوبة وهي الحفرة الكبيرة تكون في الجبل يجتمع فيها الماء.
وقاله أيضاً ابن عباس.
وعنه: كالحياض.
وقيل: إنها كانت تُعمل له كهيئة الطير.
ثم قال: ﴿وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ﴾ أي: ثابتات لا تحرك من موضعها لعظمها قال ابن القاسم: قال مالك: " وجفان كالجواب: " كالجوبة من الأرض.
قال: وقدور راسيات " هي قدرو لا تحمل ولا تحرك.
والجوبة من الأرض: الموضع يستنقع فيه الماء.
قال ابن زيد: قدور أمثال الجبال من عظمها يعمل فيها الطعام لا تحرك ولا تنقل، كما قال الجبال راسيات.
وعن ابن زيد أيضاً: أنها قدور من نحاس تكون بفارس.
وقال الضحاك: هي قدور كانت تعمل من الجبال حجارة.
ثم قال تعالى: ﴿اعملوا آلَ دَاوُودَ شُكْراً﴾ أي: اعملوا لله الشكر، أي: من أجل الشكر على نعمه عليكم، فيكون شكراً مفعولاً من أجله.
وروي أن النبي ﷺ صعد يوماً إلى المنبر قائلاً: " اعملوا آل داود شكراً " فقال: ثلاثة مَنْ أُوتيهن فقد أُوتي مثل ما أوتي آل داود: العدل في الغضب والرضى، والقصد في الفقر والغنى، وَخَشية الله في السرو العلانية ".
وقال مجاهد: لما قال الله جل ذكره: ﴿اعملوا آلَ دَاوُودَ شُكْراً﴾، قال داود لسليمان: إن الله قد ذكر الشركر، فاكفني صلاة النهار أكفك صلاة الليل، قال: لا قدر، قال: فكافني صلاة الظهر قال: نعم، فكفاه.
قال الزهري: اعملوا آل داود شكراً، قولوا: الحمد لله.
وروي أن داود عليه السلام كان قد جزأ الصلاة على أهل بيته وولديه ونسائه وأهله، فلم تكن تأتي ساعة من الليل والنهار إلاّ وإنسان من آل داود يصلي فعمتهم هذه الآية
وروي أن محرب داود صلى الله عليه وكان لا يخلو من مصل، فإذا أراد المصلي حاجة لا يخرج حتى يأتي غيره من آل داود يصلي في المحراب.
وقال محمد بن كعب: الشكر تقوى الله والعمل بطاعته. وقيل: كل عمل من الخير شكر.
وروي أن داود صلى الله عليه قال: إلهي كيف لي أشكرك ولا أصل إلى شكرك إلا بمعونتك، فأوحى الله إليه: يا داود، ألسْتَ تَعْلَمُ أن الذي بك من النعم مني؟ قال بلى يا رب، قال: [فإن الرضى بذلك منك، شكر].
ثم قال تعالى: ﴿وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشكور﴾ أي: قليل منهم الموحدون المخلصون
وذكر أبو عبيد في كتاب " مواعظ الأنبياء " أنه لما نزل على داود ﴿اعملوا آلَ دَاوُودَ شُكْراً﴾ قال داود: يا رب كيف أشكرك وأنت الذي تنعم علي ثم ترزقني على النعمة الشكر، فالنعمة منك والشكر منك، فكيف أطيق شكرك؟ مقال: يا داود الآن عرفتني حق معرفتي.
قال أبو عبد الرحمن الحبلي: الصلاة شكر والصوم شكر، وكل عمل يعمل لله شكر، وأفضل الشكر الحمد.
قال محمد بن كعب: كل عمل يبتغى به وجه الله فهو شكر.
وأجاز أبو حاتم الوقف على " داود "، ويبتدئ/ بـ " شُكْراً "، على معنى: أشكروا شكراً.
قوله تعالى ذكره: ﴿فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الموت﴾ إلى قوله: ﴿إِلاَّ فَرِيقاً مِّنَ المؤمنين﴾.
أي: فلما جاء أجل سليمان فمات، ما دّلَّ الجن على موته إلا دابة الأرض، وهي الأرضة وقعت في عصاه التي كان متكئاً عليها فأكلتها، وهي المنسأة.
قال قتادة: أكلت عصاه حتى خر.
وهو قول ابن عباس ومجاهد وغيرهما.
وأصل المنسأة الهمز لأنها مشتقة من نسأت الدابة إذا ضربتها بعصا أو غيرها لتسير.
ولكن نافعاً وأبا عمرو أبدلا من الهمزة ألفاً لغة مسموعة. وليس البدل في وحو هذا بالمطرد إلا في الشعر.
ثم قال: ﴿فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الجن﴾ أي: فلما سقط سليمان عند انكسار الصعا تبينت الجن.
﴿أَن لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ الغيب مَا لَبِثُواْ فِي العذاب المهين﴾ أي: علم أن الجن لم تكن تعلم الغيب، لأنها لو كانت تعلم الغيب ما بقيت في العمل والتعب لسليمان وهو ميت.
قال قتادة: كانت الجن تخبر الإنس أنهم يعلمون الغيب، فلما مات سليمان ولم تعلم الجن بموته وبقيت في السخرة بجهد طائعة لميت عاملة له، فعند ذلك تبينت الجن للإنس أنهم لا يعلمون الغيب. وروى ابن عباس أن النبي ﷺ قال: " كان سليمان نبي الله إذا صلى، رأى شجرة نابتة بين يديه فيسألها ما اسْمُكِ؟ فإن كانت
وفي مصحف عبد الله: " تبيَّنَتِ الإنس أن لو كان الجن يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين ".
وأن في قوله: " أن لو كانوا " في موضع رفع على المبدل من الجن. وقيل: هي في موضع نصب على معنى بأن.
وروي عن النبي ﷺ في حديث طويل: " أن سليمان كان يَتَجَرَّد في بيت المقدس السنة والسنتين والشهر والشهرين وأقل وأكثر، يُدْخِلُ طعامَه وشرابه، فأدخله في المرة التي مات فيها، فمات متكئاً على عصاه لا يعلم أحد بذلك، والشياطين يعملون له يخافون أ، يخرج فيعاقبهم، وكانت الشياطين تَجتَمِع حول المِحراب، وكان المحراب له كوى بين يديه ومن خلفه فدخل شيطان من أولئك فمر، ولم يكن شيطان ينظر إلى سليمان في المحراب إلا احترق، فمر ولم يسمع صوت سليمان ثم رجع لم يسمع ثم رجع فوقع في البيت ولم يحترق، ونظر إلى سليمان قد سقط ميتاً، فخرج فأخبر الناس أن سليمان قد مات ففتحوا عليه فأخرجوه ووجدوا مِنْسَأَتَهُ - وهي العصا بلسان الحبش - قد أكلتها الأرضة. ولم يعلموا منْذُ كَمْ مات، فوضعوا الأرضة على العصا فأكلت منها يوماً وليلة ثم حسبوا على ذلك النحو، فوجدوه قد مات منذ سنة ".
وروي أن الجن كانت تظن أن الشياطين كانوا يعلمون الغيب، فأحب الله أن يبين لهم أن الغيب لا يعلمه غيره، فمات سليمان ﷺ وهو متكئ على عصاه، والشياطين
ويروى أن الشياطين قالت للأرضة لو كُنْتِ تأكلين الطعام أتيناك بأطيب الطعام، ولو كنت تشربين الشراب سقيناك أطيب الشراب/، ولكننا سننقل إليك الماء والطين، فهم ينقلون لها ذلك حيث كانت، وذلك هو الطين الذي يكون في جوف الخشب تأتيها به الشياطين شكراً لها.
وذكر ابن وهب عن أبي شهاب: أنه لما توفي داود عليه السلام أقبلت الطَّيْرُ فصفت عليه حتى حبست عن الناس الرَّوْحَ، ووجدوا غماً شديداً، فقالوا لسليمان: يا نبي الله هلكنا الغنم، وأمر سليمان الطيرَ فقبضت جناحاً وأرسلت جناحاً فدخل عليهم الرَّوْح.
ثم قال تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ﴾.
أي: كان لهم في ذلك دلالة وعلامة أنه لا رب لهم إلا الذين أنعم عليهم تلك النعم " وجنتين " بدل من آية.
قال قتادة: كانت لهم جنتان بين جبلين، وكانت المرأة تخرج بمكتلها على رأسها تمشي بين جبلين، فيمتلئ مِكتَلُها وما مسّت بيدها شيئاً، فلما طغوا بعث الله عليهم دابة يقال لها حدث فنقبت عليهم - يعني السد - فغرقتهم، فما بقي لهم إلا أثلٌ وشيء قليل من سدرٍ.
وقيل: إن قربتهم كان لا يُرى فيها ذبابة ولا بعوض ولا برغوث ولا عقرب ولا حية وكان الرّكْبُ يأتون في ثيابهم القمل والذباب فما هو إلا أن ينظروا إلى بيوتهم
ثم قال: ﴿كُلُواْ مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ واشكروا لَهُ﴾ إي: كلوا مما أنعم عليكم به من هاتين الجنتين وغيرهما، واشكروا نعمه على ذلك.
ثم قال: ﴿بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ﴾ أي: هذه بلدة طيبة لا سبخة. ﴿وَرَبٌّ غَفُورٌ﴾ لذنوبكم إن أطعتموه.
ثم قال تعالى: ﴿فَأَعْرَضُواْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ العرم﴾ أي: فأعرضت سبأ عن طاعة الله وقبول ما أتاهم به الرسل، فأرسلنا عليهم سيل العرم.
قال وهب بن منبه: بعث الله جل جلاله إلى سبأ ثلاثة عشر نبياً، فكذبوهم فأرسله عليهم سيل العرم.
قال ابن عباس: " العرم " الشديد السيل.
وقال عطاء اسم الوادي.
قال قتادة: فأرسل الله عليهم جُرَذَاً فهدم عرمهم، أي سدهم، ومزق الله جناتهم وخرب أرضهم عقوبة لهم.
وقيل: بل كثر الماء عليهم وغلب حتى هدم السد فغرق الجنات وأفسدها.
وعن ابن عباس: أنه إنما حاد السيل الذي يسقي جنتيهم عن مجراه فلم يسقها فهلكت.
وروي أن العرم مما بنته بلقيس صاحبة سليمان، وذلك أن قومها اقتتلوا على
والعرم بكلام اليمن المِسْنَاة.
وقال المبرد: العرم كل ما حاجز بين شيئين.
وروي أن الله جل ذكره أرسل عليهم ماء أحمر فشق السد وهدمه وحفر الوادي، فارتفعت حفتاه عن الجنتين فغاب عنهما الماء فيبستا، ولم يكن الماء الأحمر من السد، إنما كان عذاباً أرسله الله عليهم من حيث شياء.
ثم قال تعالى: ﴿وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ﴾ أي: جعلنا/ لهم مكان الجنتين اللتين كانتا تثمر عليهم أطيب الفواكه ﴿ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ﴾.
قال ابن عباس: هو الأراك. وهو قول الحسن ومجاهد وقتادة والضحاك.
وقال الخليل: الخَمْطُ الأراك، فهذا يدل على قطافه كأنه قل ثم أراك. ومن نون جعل الثاني بدلاً من الأول.
قال المبرد: الخَمْطُ كل ما تغير إلى ما لا يشتهى، يقال خمط اللبن إذا حمض.
وقال أبو عبيدة: الخمط كل شجرة فيها مرارة ذات شوك.
وقال القُتَبِي: يقال للحامضة خمطة، وقيل: الخمطة التي قد أخذت شيئاً من الريح.
والأثْلُ: الطْرفاء، قاله ابن عباس.
وقيل: هو شجر يشبه الطرفاء.
ثم قال: ﴿ذلك جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُواْ﴾ أي: عاقبناهم بكفرهم بالله ورسله، أي: هذا الذي فعلنا بهم جزاءً منا لهم بكفرهم.
وقيل: التقدير: وجزيناهم ذلك بكفرهم.
ف ﴿ذلك﴾ في موضع نصب على هذا، وفي موضع رفع على القول الأول على الخبر للابتداء المحذوف.
ثم قال: ﴿وَهَلْ نجازي إِلاَّ الكفور﴾ أي: وهل يكافأ إلا من كفر بالله، فأما جاء المؤمنين فهو تفضل من الله لا مكافأة، لأنه جعل لهم بالحسنة عشراً، فذلك تفضل منه، وجعل للمسيء بالواحدة واحدة مكافأة له على جرمه، فالمكافآت لأهل الكبائر. والكفر، والمجازاة لأهل الإيمان مع التفضل.
قال مجاهد: ﴿نجازي﴾ يعاقب.
قال قتادة: إذا أراد بعبد كرامة يقبل حسناته، وإذا أراد بعيد هواناً أمسك عليه
وقيل: المعنى: ليس يجازى بمثل هذا الجزاء الذي هو الاصْطِلاَمُ والهلاك إلا من كفر.
وروت عائشة رضي الله عنها أن النبي ﷺ قال: " مَنْ حُوسِبَ هَلَكَ، قالت: فقلت يا ني الله، فأين قوله: ﴿فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً﴾ [الإنشاق: ٨] قال: إنما ذلك العرض، ومن نوقِش الحِسَابَ هَلَكَ ".
ثم قال تعالى ذكره: ﴿وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ القرى التي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً﴾ أي: مما أنعم الله به على هؤلاء، أي: جعل بينهم وبين القرى التي بارك فيها - وهي الشام - قرى ظاهرة، قاله مجاهد وقتادة.
وقوله: ﴿قُرًى ظَاهِرَةً﴾ أي: متصلة متقاربة تتراءة من كان في قرية رأى القرية التي تليها لقربها منها.
قال الحسن: كان أحدهم يغدو فيقيل في قرية ويروح إلى قرية أخرى.
قال الحسن: كانت المرأة تضع زنبيلها على رأسها تشتغل بمغزلها فلا تأتي بيتها حتى يمتلئ من كل الثمار، يرقد من غير أن تحترف شيئاً، بل يمتلئ الزنبيل مما يتساقط من الثمار في حال مسيرها تحت الثمار لاتصال بعض الثمار ببعض.
وقال ابن عباس: ﴿قُرًى ظَاهِرَةً﴾ أي: عربية بين المدينة والشام، وهو قول الضحاك.
وقال ابن زيد: كان بين قريتهم وبين الشام قرى ظاهرة.
قيلأ: وإن كانت المرأة لتخرج ومعها مغزلها ومِكْتَلها على رأسها، تروح من قرية إلى قرية وتغدوا أو تبيت في قرية، لا تحمل زاداً ولا ماءً فيما بينها وبين الشام.
ثم قال: ﴿وَقَدَّرْنَا فِيهَا السير﴾ أي: جعلنا بين قراهم والقرى التي باركنا فيها مسيراً مقدراً من منزل إلى منزل، لا ينزلون إلا في قرية ولا يغدون إلا من قرية.
وقال الفراء: جعل الله لهم بين كل قريتين نصف يوم.
ثم قال: ﴿سِيرُواْ فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ﴾ أي: سيروا في هذه القرى التي قدرنا فيها المسير إلى القرى التي باركنا فيها - وهي بيت المقدس - آمنين، لا تخافون ظلماً ولا جوعاً ولا عطشاً.
قال قتادة: آمنين لا يخافون ظلماً ولا جوعاً، إنما يغدون فيقيلون في قرية ويروحون، فيأتون قرية أهل خير ونهر، حتى لقد ذكر لنا: أن المرأة كانت تضع مكتلها على رأسها وتمتهن بيدها فيمتلئ مكتلها من الثمرة قبل أن ترجع إلى أهلها من غير أن تحترف بيدها شيئاً، وكان الرجل يسافر لا يحمل معه زاداً ولا سِقاءً مما بسط الله للقوم.
فهذا الذي ذكر الله من قصة سبأ وغيرها، إنما ذكره لنا ليبين لنا إحسان المحسن وثوابه، وإساءة المسيء وعقوبته/، ليتجافى الناس عن المعاصي ويرغبوا في الطاعة ويسارعوا إلى ما رغَّبهم فيه، ويزدجروا عن ما نهاهم عنه ويخافون أن يحل بهم ما حل بمن قص عليهم عقوبته، ويبادروا إلى فعل من قص عليهم كرامة لهم، فهي مواعظ وأمثال تكرر في القرآن ليتنبه لها الغافل ويجتهد المتنبه إحساناً من الله تعالى ونعمة علينا،
ثم قال تعالى: ﴿فَقَالُواْ رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا﴾.
قرأ ابن عباس ومحمد بن الحنفية وأبو صالح: (رَبُّنا) بالرفع " بَاعَدَ بالفتح وألِفِ على الخبر.
وقرأ يحيى بن يعمر وعيسى بن عمر: (رَبُّنَا) بالرفع " بَعَّدَ " بالتشديد وفتح العين والدال. وقد رويت عن ابن عباس وهو خبر أيضاً.
وقرأ سعيد بن أبي الحسن أخو الحسن: " رَبَّنَا " بالنصب " بَعُدَ " بضم العين وفتح الدال بين بالرفع.
قال الشعبي: فلحقت الأنصار بيثرب وغسان بالشام، والأزد بعمان وخزاعة بتهامة، وفرقوا أيادي سبا وتقطعوا في البلدان بظلمهم لأنفسهم وكفرهم بنعمة الله.
ثم قال: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ﴾ أي: فما تقدم من النعم على هؤلاء والانتقام منهم لما بطروا النعمة وكفروا، لدلالات وعظات لكل من صبر على طاعة الله ومحبته وشكر على نعمته.
ثم قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ﴾ أي: صدق عليهم في ظنه، وذلك أنه ظن ظناً على غير يقين فكان ظنه كما ظن بكفر بني آدم وطاعتهم له، منهم أهل الجنتين وغيرهم.
ومن شدد " صدق " ونصب " ظنه " بوقوع صدق عليه، لأن ظنه كان غير يقين، فصدقه بكفر بني آدم واتباعهم له.
قال الحسن: ما ضربهم بسوط ولا بعصاً، وإنما ظن ظناً فكان كما ظن بوسوسته لهم.
والمعنى: أن إبليس لما أنذره الله قال: لأغوينهم ولأضلنهم ولأحتنكن ذرية آدم، وذلك ظن منه أنه يكون، لم يتيقن ذلك. فلما وصل من بني آدم إلى ما أراد من
وقرئ " صدق " بالتخفيف، و " إبليس ظنّه " بالرفع فيهما على أن الظن بدل الاشتمال من إبليس.
وقوله: ﴿إِلاَّ فَرِيقاً مِّنَ المؤمنين﴾ أي: لم يصدق فيهم ظنه ولا أطاعوه، وثبتوا على طاعة الله ومعصية إبليس.
قال ابن عباس: هم المؤمنون كلهم.
وقيل: هم بعض المؤمنين لقوله: " إلا فريقاً " ولم يقل إلا المؤمنين. وقيل: في الكلام تقديم وتأخير، والتقدير: ولقد اتبعوا إبليس فصدق عليهم (ظنه) لأنه لم يصدق عليهم ظنه حتى اتبعوه.
ومن خفف صدق ونصب الظن فعلى تقدير حرف الجر، أي في ظنه.
قوله تعالى ذكره: ﴿وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِّن سُلْطَانٍ﴾ إلى قوله: ﴿فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ﴾.
وقيل: المعنى: إلا لنعلم ذلك عندكم كما قال: ﴿أَيْنَ شُرَكَآئِيَ﴾ [القصص: ٦٢]، أي على/ قولكم وزعمكم.
فقوله: " إلا لنعلم " ليس في الظاهر بجواب لقوله: ﴿وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِّن سُلْطَانٍ﴾ أي: من حجة لكنه محمول على المعنى، لأن المعنى ﴿وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِّن سُلْطَانٍ﴾: ما جعلنا له عليهم من سلطان إلا لنعلم. فبهذا يتصل بعض الكلام ببعض ويظهر المعنى.
ثم قال تعالى: ﴿وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفُيظٌ﴾ أي: وربك يا محمد على أعمال هؤلاء الكفرة وغير ذلك من الأشياء كلها حفيظ لا يغرب عنه علم شيء، مجاز جميعهم بما كسبوا، أي في الدنيا من خير وشر.
ثم قال تعالى: ﴿قُلِ ادعوا الذين زَعَمْتُمْ مِّن دُونِ الله﴾ أي: قل يا محمد لهؤلاء الجاحدين من قومك: ادعوا من زعمتم أنه شيك لله فاسئلوهم يفعلوا بكم بعض ما فعل بهؤلاء الذين تقدم ذكرهم من خير ونعمة فإنهم لا يملكون زنة مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض، ﴿وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ﴾ أي: فليس يملكون شيئاً على الانفراد ولا على الشركة، فكيف يكون من هذه حالة شريكاً لمن يملك جميع ذلك، وإذا لم تقدر ألهتكم على شيء من ذلك، فأنتم مبطلون في دعواكم. فمفعول زعمتم جملة محذوفة دل عليها الخطاب، والتقدير: الذين زعمتم أنهم ينصرونكم من دون الله،
ثم قال: ﴿وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِّن ظَهِيرٍ﴾ أي: وما لله جل ذكره من آلهتهم من عوين على خلق شيء.
ثم قال تعالى: ﴿وَلاَ تَنفَعُ الشفاعة عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ﴾ أي: لا تنفع شفاعة شافع لأحد إلا لمن أذن الله له في الشفاعة، والله لا يأذن بالشفاعة لأحد من أهل الكفر، وأنتم أهل كفر فيكف تعبدون من تعبدون من دون الله زعماً منكم أنكم تعبدونه ليقربكم إلى الله وليشفع لكم عند ربكم، " فَمَنْ " على هذا التأويل للمشفوع له، والتقدي: إلا لمن أذن له أن يشفع فيه.
وقيل: هي للشافع - يراد به الملائكة، أي لمن أذن له أن يشفع في غيره من الملائكة مثل قوله: ﴿وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارتضى﴾ [الأنبياء: ٢٨].
قيل: من قال لا إله إلا الله.
ودل على ذلك قوله: ﴿حتى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ﴾.
ثم قال تعالى: ﴿حتى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ﴾ أي: كشف عنها الفزع. ومن فتح فمعناه: إذا كشف الله عن قلوبهم الجزع.
وقرأ الحسن: " فُزِّعَ " الراء والعين غير معجمة.
وروي عنه بالراء وعين معجمة.
قال ابن عباس: " فزع عن قلوبهم " جُلِيَ.
وقال مجاهد: كشف عنهم الغطاء. وهم الملائكة، وذلك أن ابن مسعود قال: إذا حدث أمر عند ذي العرش، سمع من دونه من الملائكة صوتاً كجر السلسلة على الصفا فيغشى عليهم، فإذا ذهب الفزع عن قلوبهم نادوا ماذا قال ربكم؟ فيقول من شاء الله: قال الحق وهو العلي الكبير.
وروى أبو هريرة أن نبي الله قال: " إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خُضْعَاناً لقوله كأنه سلسلة على صفوان، فإذا فُزِّعَ عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم؟ قالوا: الحق وهو العلي الكبير ".
وقال ابن جبير: ينزل الأمر من عند رب العزة إلى سماء الدنيا فيسمعون مثل وقع الحديد على الصفا، فيفزع أهل السماء الدنيا حتى يستبين لهم الأمر الذي نزل فيه فيقول بعضهم لبعض ماذا قال ربكم؟ فيقولون: قال الحق وهو العلي الكبير.
قال قتادة: يوحي الله جل ذكره إلى جبريل/ ﷺ فتفرق الملائكة مخافة أن يكون شيئاً من أمور الساعة، فإذا أجلي عن قلوبهم وعلموا أن ذلك ليس من أمور الساعة قالوا: ماذا قال ربكم.
وقال الضحاك: زعم ابن مسعود أن الملائكة المعقبات يختلفون إلى أهل الأرض يكتبون أعمالهم، فإذا أرسلهم الرب وانحدروا سمع لهم صوت شديد
وذكر ابن سحنون محمد. حدثنا بسنده إلى ابن عباس أنه قال: إن الله تبارك وتعالى إذا تكلم بالوحي سمع أهل السماوات صوتاً كصوت الحديد وقع على الصفا فيخرون سجداً، فإذا فزع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالو: الحقَّ وهو العلي الكبير.
وروى محمد حدثنا بسنده إلى ابن مسعود أنه قال: إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماوات صلصلة كجر السلسلة على الصفا فيصعقون، فلا يزالون كذلك حتى يأتيهم جبريل ﷺ، فإذا جاءهم فزع عن قلوبهم فإذا قاموا نادوا جبريل ماذا قال ربكم؟ فيقول: الحقَّ، فينادون الحق الحق وهو العلي الكبير. وقال ابن زيد: هذا في بني آدم عند الموت أقروا بالله حين لم ينفعهم الإقرار.
فالمعنى فزع الشيطان عن قلوبهم وفارقهم وما كان يضلهم، أي: قالوا: ماذا قال ربكم، فيكون هذا الكلام مردوداً على من تقدم ذكره من الذين صدق عليهم
ثم قال تعالى: ﴿قُلْ مَن يَرْزُقُكُمْ مِّنَ السماوات والأرض﴾ أي: قل يا محمد لهؤلاء المشركين من يرزقكم من السماوات والأرض؟، أي: من ينزل عليكم الغيث من السماء ويخرج النبات من الأرض لأقواتكم ومنافعكم؟
ثم قال تعالى: ﴿قُلِ الله﴾ وفي الكلام حذف، أي: فإن قالوا لا ندري فقل: الله، وكذلك كل ما كان مثله قد حذف منه الجواب لدلالة الكلام عليه.
ثم قال تعالى: ﴿وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لعلى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ﴾ أي: أحدنا على خطأ في مذهبه، والتقدير: وإنا لعلى هدى أو في ضلال مبين أو أياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين، ثم حذف " هدى " وقد علم المعنى في ذلك كما تقول، أنا أفعل كذا وأنت تفعل كذا وأحدنا مخطىء، وقد عُرف من هو المخطئ.
و ﴿لعلى هُدًى﴾ خبر عن إياكم، وخبر الأول محذوف لدلالة الكلام عليه، ويجوز أن يكون خبراً للأول، وهو اختيار المبرد.
فيكون خبر الثاني هو المحذوف.
ولو عطفت على الموضع فقلت: وأنتم لكان لعلى هدى خبراً للأول لا غير.
وقيل: المعنى، وإنا لعلى هدى وإياكم لفي ضلال مبين. " أو " بمعنى الواو.
وقال البصريون: أو على بابها: وليست للشك، وإنما تكون في مثل هذا في كلام العرب تدل على أن المخبر لم يرد أن يبين، وهو عالم بالمعنى لكنه لم يرد أن يبين من هو المهتد.
وقيل: أو على بابها، ولكن معنى الكلام الانتقاص للمشركين والاستهزاء بهم، أي: قد بين أن آلهتهم لا ترزق شيئاً لا تنفع ولا تضر، وهو مثل قولك للرجل: والله إنَّ أحدنا لكاذب، وقد علمتَ من هو الكاذب، ولكن أردت توبيخه واستنقاصه وتكذيبه فدللت عن ذلك بلفظ غير مكشوف. فأمر الله النبي ﷺ أن يكذبهم ويعيرهم في دينهم بلفظ غير مكشوف.
قوله تعالى ذكره: ﴿قُل لاَّ تُسْأَلُونَ عَمَّآ أَجْرَمْنَا﴾ إلى قوله: ﴿فِي الغرفات آمِنُونَ﴾.
أي: قل يا محمد لهؤلاء المشركين: لا تسئلون أنتم عن ذنوبنا ولا نسأل عن ذنوبكم، وقل لهم يا محمد: يجمع بيننا ربنا في الآخرة ثم يفتح بيننا بالحق، أي يحكم ويقضي بيننا بالحق فيظهر عند ذلك المهتدي هنا من الضال.
ثم قال: ﴿وَهُوَ الفتاح العليم﴾ أي: والله الحاكم القاضي بين خلقه لا يخفى عليه حالهم ولا يحتاج إلى شهود، العليم بجميع الأمور/.
﴿كَلاَّ﴾ أي: كذبوا، ليس الأمر كما ذكروا من أن لله شركاء في ملكه، بل هو الله المعبود وحده، العزيز في انتقامه، الحكيم في تدبيره خلقه.
وقيل: إن " كلا " رد لجوابهم المحذوف، كأنهم قالوا هي هذه الأصنام، فرد عليهم قولهم، أي: ليس الأمر كما زعمتم، أي: ليست شركاء له بل هو (الله) العزيز الحكيم. وأروني هنا من رؤية القلب. والمعنى عرفوني ذلك، فشركاء مفعول ثان، ويجوز أن يكون من رؤية العين، فيكون شركاء حالاً.
ثم قال: ﴿وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَآفَّةً لِّلنَّاسِ﴾ أي: ما أرسلناك يا محمد إلا جامعاً لإنذار الناس وتبشيرهم، العرب والعجم. ومعنى كافة اللغة الإحاطة.
ثم قال تعالى: ﴿ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ﴾ أي: لا يعلمون أن الله أرسلك كذلك إلى جميع الخلق.
قال قتادة: ذكر لنا أن النبي عليه السلام قال: " أنَا سابقُ العرب، وَصُهَيْبٌ سابقُ الروم، وبلال سابق الحبشة، وسلمان سابق فارس ".
ثم قال تعالى: ﴿وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ أي: متى يأتي العذاب الذي تعدنا به يا محمد؟ قل لهم يا محمد: لكم أيها القوم ميعاد يوم لا تستأخرون عنه ساعة ولا تستقدمون، أي: لا يؤخرون للمؤنة إذا جاءكم ولا يتقدم العذاب إليكم قبله.
ثم قال: ﴿وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لَن نُّؤْمِنَ بهذا القرآن وَلاَ بالذي بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ أي: لن نؤمن بما جاء به محمد ولا بما أتى قبله من الكتب، أي لا نصدق بذلك كله.
ثم قال تعالى: ﴿وَلَوْ ترى إِذِ الظالمون مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ﴾ أي: لو تراهم يا محمد موقوفين يتلاومون يحاور بعضهم بعضاً، يقول الذين استضعفوا في الدنيا للذين كانوا يستكبرون عليهم في الدنيا: لولا أنتم لكنا في الدنيا للذين كانوا يستكبرون عليهم في الدنيا: لولا أنتم لكنا من الدنيا مؤمنين.
﴿قَالَ الذين استكبروا﴾ أي: في الدنيا للذين استضعفوا فيها.
﴿أَنَحْنُ صَدَدنَاكُمْ عَنِ الهدى﴾ أي: منعناكم من اتباع الحق بعد إذ جاءكم من عند الله.
﴿بَلْ كُنتُمْ مُّجْرِمِينَ﴾ بإيثاركم الكفر بالله على الإيمان.
﴿بَلْ مَكْرُ اليل والنهار إِذْ تَأْمُرُونَنَآ﴾ أي: بل مكركم بالليل والنهار صدنا عن الهدى إذ تأمروننا أن نكفر بالله.
﴿وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَاداً﴾ أي: أمثالاً وأشباهاً في العبادة والألوهية.
وأضيف المكر إلى الليل والنهار على الإتساع، لأن المعنى معروف لا يشكل كما يوقلون: نهارك صائم وليلك قائم.
وقال ابن جبير: معنه بل مر الليل والنهار فغفلوا.
وقال الأخفش: رفعه على معنى بل هذا مكر الليل.
ثم قال تعالى: ﴿وَأَسَرُّواْ الندامة لَمَّا رَأَوُاْ العذاب﴾ أي: أظهروها. وقيل: المنى: تبينت الندامة في أسرار وجوههم لأن الندامة إنما هي في القلوب فلا تظهر، إنما تظهر بما توليد عنها.
والمعنى: ندموا على ما فرطوا فيه من طاعة الله في الدنيا حين عاينوا عذاب الله الذي أعده لهم.
وقال قتادة: وأسروا الندامة بينهم لما رأوا العذاب.
قال الحسن: إن الأغلال لم تجعل في أعناق أهل النار لأنهم أعجزوا الرب، ولكن إذا طفى بهم اللهب ترسبهم في النار.
ثم قال تعالى: ﴿وَمَآ أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَآ﴾ أي: ما بعثنا في أهل قرية نذيراً ينذرهم بأس الله أن ينزل بهم على كفرهم.
﴿إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَآ﴾ أي: كبراؤها ورؤوسها في الضلالة.
﴿إِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ﴾ كما قال لك مشركوا قومك يا محمد.
ثم قال: ﴿وَقَالُواْ نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاَداً﴾ أي: وقال أهل الاستكبار على الله ورسله من كل قرية أرسلنا فيها نذيراً: نحن أكثر من الأنبياء أموالاً وأولاداً وما نحن في الآخرة بمعذبين/، لأن الله لو لم يكن راضياً عنا في ديننا لم يعطنا ذلك ويفضلنا به، كما قال قومك يا محمد لك.
ثم قال تعالى ذكره لنبيه: ﴿قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ﴾ أي: يوسع على من يشاء في رزقه ويضيق على من يشاء. وليس التوسع في الرزق بفضل ومنزلتة وقربة لمن وسع عليه، ولا التضييق في الرزق لبغض ولا مقت ولا إهانة لمن ضيق عليه، بل ذلك كله لله تعالى، يفعل ما يشاء محنة لعباده وابتلاء منه ليعلم الشاكر من الكافر، علما ً يجب عليه الجزاء، وقد كان علمه قبل أن يبلتي أحداً بذلك، ولكن يريد أن يعلمه علم مشاهدة يقع عليها الجزاء.
ثم قال تعالى: ﴿ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ﴾ أي: لا يعلمون أن الله إنما يفعل ذلك اختباراً وامتحاناً فيظنون أنه إنما وسع على قوم لفضلهم ومحبتهم، وضيق على قوم لبغضهم ومقتهم.
ثم قال: ﴿وَمَآ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ بالتي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زلفى﴾ أي: ليس ما كسبتم من
وقوله: ﴿إِلاَّ مَنْ آمَنَ﴾ نصب الاستثناء.
وقال الزجاج: من في موضع نصب على البدل من الكاف والميم في تقربكم. وهو غلط لأن الغائب لا يبدل من المخاطب. لو قلت: رأيتك زيداً، لم يجز. وهو معنى قول الفراء.
وأجاز الفراء أن تكون " من " في موضع رفع بمعنى ما هو إلا من آمن. وهو بعيد في المعنى، وإنما وحد " التي " وقد تقدم ذكر أموال وأولاد لأنه على حذف، والتقدير: وما أموالكم بالتي تقربكم ولا أولادكم بالتي تقربكم، ثم حذف الأول لدلالة الثاني.
وقال الفراء: التي تكون للأموال والأولاد جميعاً.
وقال ابن زيد: إلا من آمن فلن تضره أمواله ولا أولاده في الدنيا، وقرأ: ﴿لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى وَزِيَادَةٌ﴾ [يونس: ٢٦]. وقال: الحسنى: الجنة والزيادة: ما أعطاهم الله في الدنيا لا يحاسبهم كما يحاسب الكفار.
ثم قال تعالى: ﴿وَهُمْ فِي الغرفات آمِنُونَ﴾ أي: من العذاب، ومعنى " زلفى " قربى، قاله مجاهد وغيره.
قوله تعالى ذكره: ﴿والذين يَسْعَوْنَ في آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ﴾ إلى قوله: ﴿عَلاَّمُ الغيوب﴾.
أي: والذين سعوا في إبطال حجج الله وأدلته معاجزين، أي: يظنون أنهم يفوتون الله ويعجزونه فلا يجازيهم على فعلهم.
﴿أولئك فِي العذاب مُحْضَرُونَ﴾ أي: في عذاب جهنم يوم القيامة.
ثم قال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ﴾ أي: يوسع في الرزق لمن يشاء ويضيق على من يشاء، وليس ذلك لفضل في أحد ولا لنقص ولا لمحبة ولا لبغض.
ثم قال تعالى: ﴿وَمَآ أَنفَقْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ﴾ أي: ما أنفقتم في طاعة الله فإن الله يخلفه عليكم.
قال ابن عباس: في غير إسراف ولا تقتير.
وقال الضحاك: يعني النفقة على العيل وعلى نفسه، وليس النفقة في سبيله الله.
قال مجاهد في قوله: ﴿فَهُوَ يُخْلِفُهُ﴾: أي: إن كان خالفاً فمنه، وربما أنفق الرجل ماله كله ولم يخلف حتى يموت.
قال مجاهد: إذا كان بيد الرجل ما يقيمه فليقتصد في النفقة، ولا تؤوَّلُ هذه الآية فإن الرزق مقسوم، ولا يدري لعل رزقه قليل. يعني: وأجله قريب.
ثم قال تعالى: ﴿وَهُوَ خَيْرُ الرازقين﴾ أي: خير من يرزق. وجاز ذلك لأن من الناس من يسمى برازق على المجاز، أي: رزق غيره مما رزقه الله، والله يرزق عباده لا من رزق رزقه غيره، فليس رازق مرزوق كرازق غير مرزوق.
ثم قال تعالى: ﴿وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلاَئِكَةِ﴾ الآية أي: واذكر يا محمد يوم نحشر هؤلاء الكفار، ثم نقول للملائكة: أهؤلاء الكفار كانوا يعبدونكم من دوني؟ فتبرأ منهم الملائكة، فقالوا: ﴿قَالُواْ سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ﴾ أي: تنزيهاً لك وبراءة من السوء الذي أضافه هؤلاء إليك، " أنت ولينا من دونهم " أي: لا نتخذ ولياً من دونك.
﴿مُّؤْمِنُونَ﴾ أي: مصدقون، أي بعبادتهم.
وقيل: المعنى: أكثر هؤلاء الكفار بالملائكة مصدقون أنهم بنات الله.
قال قتادة في قوله تعالى للملائكة: ﴿أهؤلاء إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ﴾ هو كقوله لعيسى: ﴿أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذوني وَأُمِّيَ إلهين مِن دُونِ الله﴾ [المائدة: ١١٦].
ثم قال تعالى/: ﴿فاليوم لاَ يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَّفْعاً وَلاَ ضَرّاً﴾ أي: لا تملك الملائكة للذين كانوا يعبدونهم في الدنيا ضراً ولا نفعاً.
ثم قال: ﴿وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ﴾ أي: عبدوا غير الله.
﴿ذُوقُواْ عَذَابَ النار التي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ﴾ أي: في الدنيا.
ثم قال تعالى: ﴿وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ﴾ أي: وإذا تقرأ على هؤلاء الكفار آيات القرآن ظاهرات الدلائل والحجج في توحيد الله وأنهن من عنده.
﴿قَالُواْ مَا هذا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَن يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَآؤُكُمْ﴾ أي: قالوا: لا تتعبدوا محمداً فما هو إلا رجل يريد أن يصدكم عما كان آباؤكم يعبدون من الأوثان ويغير دينكم.
ثم قال تعالى: ﴿وَقَالُواْ مَا هاذآ إِلاَّ إِفْكٌ مُّفْتَرًى﴾ أي: وقال بعضهم ما هذا الذي أتانا به محمد إلا كذب مختلف متخرص.
ثم قال تعالى: ﴿وَمَآ آتَيْنَاهُمْ مِّنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا﴾ أي: لم يعط هؤلاء الكفار كتباً قبل كتابك يا محمد يقرؤونها وفيها ما يقولون لك من البهتان.
﴿وَمَآ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِّن نَّذِيرٍ﴾ أي: لم نبعث إليهم قبلك من ينذرهم من عذاب الله.
قال قتادة: ما أنزل الله جل ذكره على العرب كتاباً من قبل القرآن ولا بعث إليهم رسولاً قبل محمد ﷺ.
ثم قال تعالى: ﴿وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبلِهِمْ﴾ يعني من الأمم الماضية كعاد وثمود كذبت رسلها، ولم يبلغوا هؤلاء معشار ما أوتي إليك من القوة والبطش والنعم أي عشر ذلك.
وقيل عشر عشر ذلك.
والمِعْشَارُ قيل هو عشر العشر جزء من مائة.
أي: لم يبلغ قومك يا محمد في القوة والبطش والأموال عشر عشر من كان قبلهم، فقد أهلك من كان قبلهم بكفرهم، فكيف تكون حال هؤلاء الذين هم أقل قوة وبطشاً من أولئك. وهذا كله تهديد ووعيد وتنبيه لقريش، فالمعنى: فلم ينفع
فإذا كان أولئك الأمم على ما فضلهم الله به من القوة والبطش والأموال والدنيا قد أهلكوا لما كذبوا الرسل، فكيف تكون حال هؤلاء على ضعفهم وقلة أموالهم وَوَهَنِهِمْ إذا كذبوا الرسل.
وقوله: ﴿فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ﴾ أي: كيف كان إنكاري لهم بالهلاك والاستئصال.
ثم قال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَآ أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ﴾ أي قل يا محمد لهؤلاء الكفار من قومك: إنما أعظكم بواحدة.
قال مجاهد: " " بواحدة " بطاعة الله.
وروى ليث عنه " بواحدة ": بلا إله إلا الله.
وقيل: المعنى: إنما أعظكم بخصلة واحدة، وهي: " أن تقوموا لله مثنى وفرادى " أي: اثنين اثنين وواحداً واحداً، فأن بدل من واحدة، وهو قول قتادة واختيار الطبري.
وقيل: " أنْ " في موضع رفع على معنى: وتلك الواحدة أن تقوموا لله بالنصيحة وترك الهوى اثنين اثنين وواحداً واحداً، أي: يقوم الرجل منكم مع صاحبه، ويقوم الرجل وحده فيتصادقوا في المناظرة فيقولوا: هل علمتم بمحمد صلى الله عليه جنوناً قط؟ [هل علمتموه ساحراً قط؟]، هل علمتموه كاذباً قط؟
وقيل: " مثنى "، أي: يقوم كل واحدة مع صاحبه فيعتبرا هل علما بمحمد جنوناً أو سحراً أو كذباً؟.
ومعنى " فرادى ": أي ينفرد كل واحد بعد قيامه مع صاحبه فيقول في نفسه هل علمت بمحمد شيئاً من جنون أو سحر أو كذب؟ فإنكم إذا فعلتم ذلك وتصادقتم علمتم أن الذي ترمونه به من الجنون والسحر والكذب باطل، وأن الذي أتى به حق، فاعتبروا ذلك وتفكروا فيه فتعلموا حينئذ أنه نذير لكم لا جنون به.
وقوله: ﴿ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِكُمْ مِّن جِنَّةٍ﴾ أي: تفكروا فيه في أنفسكم فتعلموا - إذا أعطيتكم الحق من أنفسكم - أنه ليس به جنون، وأنكم مبطلون في قولكم إنه مجنون.
ثم قال: ﴿إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَّكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ﴾ أي: ما محمد إلا ينذركم على كفركم بالله عقابه.
وروي عن نافع أنه وقف " بواحدة ".
والوقف عند أبي حاتم " ثم تتفكروا ".
وخولف في ذلك لأن المعنى: ثم تفكروا هل جربتم على محمد كذباً أو رأيتم به جنة، فتعلمون أنه نبي.
ثم قال تعالى: ﴿قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّن أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ﴾ أي: قل يا محمد لهؤلاء الذين ردوا إنذارك: الذي سألتكم - على إنذاري لكم عذاب الله - هو لكم لا حاجة بي إليه، إني لم أسألكم جُعْلاً على ذلك فتتهموني وتظنوا أني إنما أنذركم لِمَا آخذه منكم من الجُعْل. قال قتادة: المعنى: لم أسألكم على الإسلام جُعْلاً.
ثم قال تعالى: ﴿إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الله﴾ أي: ما ثوابي على إنذاري لكم إلا على الله.
﴿وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ أي: والله على حقيقة ما أقول لكم شهيد، شهد به لِي وعليَّ غير ذلك من الأشياء كلها.
ثم قال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بالحق﴾ أي: يأتي بالحق وهو الوحي ينزله من السماء فيقذفه إلى نبيه.
قوله تعالى: ﴿قُلْ جَآءَ الحق وَمَا يُبْدِىءُ الباطل﴾ إلى آخر السورة.
أي: قل لهم يا محمد جاء الحق وهو الوحي. ﴿وَمَا يُبْدِىءُ الباطل﴾ أي: وما يبتدي الشيطان خلقاً ولا يعيد خلقاً بعد موته. والباطل هنا الشيطان، وهو إبليس اللعين، أي وما يخلق إبليس أحداً ولا يعيد خلقاً بعد موته. والوقف على " الحق " حسن إن رفعت " علم " على إضمار مبتدأ أو نصبته على المدح وهي قراءة عيسى بن عمر.
فإن رفعت على أنه خبر، أو خبر بعد خبر، أو على النعت على الموضع، أو على البدل من المضمر، لم تقف على " بالحق ".
ثم قال تعالى: ﴿قُلْ إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَآ أَضِلُّ على نَفْسِي﴾ أي: على نفسي يعود ضرره.
﴿وَإِنِ اهتديت فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي﴾ فبالذي يوحيه إليَّ من الهدى اهتديت، وإن شِئْتَ جَعلتَ والفعل مصدراً.
والتقدير: وإن اهتديت إلى الحق فبوحي ربي اهتديت.
﴿إِنَّهُ سَمِيعٌ﴾ أي: سميع لِمَا أقول لكم، حافظ له مجازٍ لي عليه، ﴿قَرِيبٌ﴾ أي: قريب مني غير بعيد لا يتعذر عليه سماع ما أقول لكم ولا غيره.
ثم قال ﴿وَلَوْ ترى إِذْ فَزِعُواْ فَلاَ فَوْتَ﴾ اختلف في وقت هذا الفزع، فقيل: ذلك في
فالمعنى على قول ابن عباس: أي لو ترى يا محمد إنّ فزع هؤلاء المشركون عند نزول العذاب بهم فلا فوت لهم من العذاب.
﴿وَأُخِذُواْ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ﴾ أي: من الدنيا بالعذاب.
قال ابن عباس: هذا من عذاب الدنيا.
قال ابن زيد: هؤلاء قتلى المشركين من أهل بدر، وهم الذين بدلوا نعمة الله كفراً وأحلوا قومهم دار البوار.
وقال ابن جبير: هم الجيش الذين يخسف بهم بالبيداء، يبقى منهم رجل يخبر الناس بما لقي أصحابه.
وروى حذيفة بمن اليمان " أن النبي ﷺ " ذكر فتنة " تكون بين أهل الشرق والمغرب، قال: فَبَيْنَمَا هم كذلك إذْ خَرجَ عليهم السّفْيَانِيّ من الوادي اليابس في فورة ذلك حتى ينزل دمشق فيبعث جيشين، جيشاً إلى المشرق، وجيشاً إلى المدينة، حتى ينزلوا بابِلَ في المدينة الملعونة والبقعة الخبيثة، فيقتلون أكثر من ثلاث آلاف، ويبقرون
وقال الحسن وقتادة: معنى الآية: ولو ترى يا محمد إذ فزع المشركون يوم القيامة حين خرجوا من قبورهم.
قال قتادة: " وأخذوا من مكان قريب " حين عاينوا العذاب.
وقوله ﴿فَلاَ فَوْتَ﴾ / أي: فلا سبيل لهم أن يفوتوا بأنفسهم وينجوا من العذاب.
قال ابن عباس " فلا فوت " فلا نجاة.
وقال علي بن سعيد: " فلا فوت " قال: جالوا جولة.
وقال إبراهيم بن عرفة: " فلا فوت " أي: لم يسبقوا ما أريد منهم.
وقيل: في الكلام تقديم وتأخير، والتقدير: ولو ترى إذ فزعوا وأخذوا من مكان قريب فلا فوت، أي: فلا يفوتونا.
وقال الضحاك: " فلا فوت " فلا هرب.
﴿وَأُخِذُواْ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ﴾ أي: أخذوا بعذاب الله من مكان قريب لأنهم حيث كانوا فهم من الله قريب.
ثم قال: ﴿وقالوا آمَنَّا بِهِ﴾. قال: مجاهد: " به " بالله.
وقيل: بمحمد ﷺ، وذلك حين عاينوا العذاب. وقال ابن زيد: ذلك بعد القتل قالوه.
ثم قال: ﴿وأنى لَهُمُ التناوش﴾ أي: من أي وجه لهم تناول التوبة؟ ﴿مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ﴾ أي: من الآخرة.
وقيل: من بعد القتل.
ومن هَمز " التناوش "، أخذه من النئيش وهو الحركة في إبطاء.
فيكون المعنى: ومن أين لهم الحركة فيما قد بَعُدَ ولا حيلة فيه، ويجوز أن يكون همز الواو لا نضمامها، فيكون من ناش ينوش إذا تناول كقراءة من لم يهمز.
وقيل: من مكان فوتت من تحت أقدامهم.
قال ابن عباس: ﴿وأنى لَهُمُ التناوش﴾ يسألون الرد وليس بحين رد.
وقال مجاهد وقتادة: التناوش تناول التوبة.
وقال ابن زيد: التناوش من مكان بعيد وقرأ ﴿وَلاَ الذين يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ﴾ [النساء: ١٨]. وقال: ليس لهم توبة. وقرأ ﴿وَلَوْ ترى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النار﴾ [الأنعام: ٢٧] ": الآية، وقرأ: ﴿رَبِّهِمْ رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فارجعنا﴾ [السجدة: ١٢] الآية. وقال الضحاك: التناوش: الرجعة.
قال مجاهد: من مكان بعيد ": من الآخرة.
ثم قال تعالى: ﴿وَقَدْ كَفَرُواْ بِهِ مِن قَبْلُ﴾ أي بمحمد، من قبل في الدنيا قبل موتهم.
وقيل: وقد كفروا بما يسألون ربهم عند نزول العذاب بهم.
قال قتادة: " كفروا به " أي بالإيمان في الدنيا.
وقال ابن زيد: ﴿بالغيب﴾ أي بالقرآن.
والعرب تقول لكل من يتكلم بما لا يحقه ولا يصح عنده هو يقذِف بالغيب ويرجم بالغيب.
وقوله: ﴿مَّكَانٍ بَعِيدٍ﴾ مثل لمن يرجم ولا يصيب ويقول ويخطئ.
ثم قال تعالى ذكره: ﴿وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ﴾ أي: وحيل بين هؤلاء المشركين وبين الإيمان في الآخرة لأنها ليست بدار عمل إنما هي دار جزاء، فلا سبيل لهم إلى توبة ولا إلى إيمان. قال ذلك الحسن.
وقال مجاهد: حيل بينهم وبين الرجوع.
وقال قتادة: عمل الخير.
وقيل: حيل بينهم وبين أموالهم وأولادهم وزهرة الدنيا، روي ذلك عن مجاهد أيضاً.
ثم قال تعالى: ﴿كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِم مِّن قَبْلُ﴾ أي كما فعل بهؤلاء المشركين من قومك يا محمد في المنع من الرجوع والتوبة كما فعل بنظرائهم من الأمم المكذبة لرسلها من قبلهم، قلم تقبل منهم توبة ولا رجوع عند معاينة العذاب.
والأشياع جمع شِيَّع، وشِيَّع جمع شِيعَةٍ، فهي جمع الجمع.
ثم قال: ﴿إِنَّهُمْ كَانُواْ فِي شَكٍّ مَّرِيبٍ﴾ أي: كانوا في الدنيا في شك من نزول العذاب بهم.
﴿مَّرِيبٍ﴾ أي: يريب صاحبه.
يقال أراب الرجل إذا أتى ريبة وركب فاحشة.