ﰡ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قوله تعالى: (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (١) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (٢) كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (٤) كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (٥) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (٦) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (٧) ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (٨).قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (١) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ)، أي: شغلكم التفاخر بالتكاثر، ثم لم يقل: عماذا شغلتم؟ فيجوز أن يكون (أَلْهَاكُمُ)، أي: شغلكم التكاثر عن توحيد اللَّه - تعالى - أو عن التفكر في حجج رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، أو عن ذكر البعث.
ثم قوله - تعالى -: (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ. حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ) يحتمل تأويلين:
أحدهما: أن يكون الغرض من الخطاب بهذه الآية: آباءهم وسلفهم الذين تقدموا بالإخبار عن قبح صنيعهم واشتغالهم بالسفه؛ فيكون هذا صلة آيات أخر، من نحو قوله - تعالى -: (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ)، وغير ذلك؛ فكأن اللَّه - تعالى - يخبرهم بآبائهم، ونهاهم عن الاقتداء بآبائهم؛ لأنهم تعاطوا أفعالا تخرج عن الحكمة حتى ماتوا، وذلك يقع من وجهين:
أحدهما: أن من أنعم عليه نعمة، فجحدها، ولم يؤد شكرها، استوجب المقت والعقوبة؛ يقول: كيف تقتدون بآبائكم، وإنهم كفروا بنعمة اللَّه، وجحدوا بها، بل الواجب عليكم أن تتبعوا النبي الذي جاء بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم.
والثاني: أن يكون فيه علامة ودلالة للبعث: أن آباءهم لما فعلوا ما يستوجب به المقت والعقوبة، وماتوا من غير أن يصيبهم ذلك في دنياهم: أن لهم دارا أخرى يعاقبون فيها بما فعلوا.
وإن كان الخطاب إنما انصرف إليهم، ففيه إخبارهم عن سفههم: أنه شغلهم التفاخر بالتكاثر حتى جحدوا آيات رسوله، عليه السلام.
أو أن يكون فيه إخبار عن سفههم من وجه آخر، وهو أن الافتخار كيف وقع بالأموات، والتفاخر بالأموات غير مستقيم.
ثم التعيير بذكر هذه الأسباب إنما وقع - واللَّه أعلم - دون ما هم فيه من الكفر؛ لأن هذه الأسباب مما يبتلى به المؤمن في بعض الأحوال؛ فعيرهم اللَّه - تعالى - بذلك؛ ليكون فيه تذكير وموعظة للمؤمنين، ولو خرج ذكر الكفار في هذا، لكان لا يجتنب المؤمن شيئا من هذه الأفعال.
وقد روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قرأ: (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ)، فقال: " يقول ابن آدم: مالي، مالي، وما لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت... " الخبر؛ فهذا يدل على أن الوعيد على الإطلاق من غير تصريح بأهل الكفر؛ لموعظة المسلمين، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (٢) يحتمل: حقيقة زيارة الموتى، وذلك مما يذكرهم أن التكاثر مما لا ينفعهم إذا كان عاقبتهم هذا.
ويحتمل: أي: صرتم إلى المقابر بعد الموت؛ فحينئذ تذكرون حق اللَّه - تعالى - ثم لا ينفعكم، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (٤) قَالَ بَعْضُهُمْ: كَلَّا، بمعنى: النفي، والتعطيل.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: معنى قوله: (كَلَّا)، أي: حقا.
فإن كان على الوجه الأول، فكأنه قال: ليس كما حسبتم، وتوهمتم، وقدرتم عند أنفسكم وتعلمون ذلك إذا نزل بكم العذاب، وهو على الابتداء.
وإن كان على معنى: حقا، فكأنه قال: حقا ستعلمون أنه ليس كما قدرتم عند أنفسكم، وكل ذلك يرجع إلى الوجوه التي وصفنا أنكم ستعلمون غدا حقا يقينا: أن الذي ألهاكم، وشغلكم عن توحيد اللَّه تعالى والتفكر في حجج رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - والإيمان بالبعث كان عبثا باطلاً، وأنه كان من الواجب عليكم: أن تؤمنوا باللَّه ورسوله،
فإن كان على الأول، فكأنه قال : ليس كما حسبتم، وتوهمتم، وقدرتم عند أنفسكم، وتعلمون ذلك إذا نزل بكم العذاب، وهو على الابتداء.
وإن كان على معنى حقا، فكأنه قال : ستعلمون أنه ليس كما قدرتم عند أنفسكم.
وكل ذلك يرجع إلى الوجوه التي وصفنا : أنكم ستعلمون غدا حقا أن الذي ألهاكم، وشغلكم عن توحيد الله تعالى، أو التفكر في حجج رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو الإيمان بالبعث، كان عبثا باطلا، وأنه كان من الواجب عليكم أن تؤمنوا بالله ورسوله، وتنظروا في حجج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتؤمنوا بالبعث.
وفائدة التكرار بما جرى من العادة في تكرار عند الوعيد، وعند الإياس أو الرجاء، نحو قولهم : الويل الويل، وقولهم : بخ بخ، وغير ذلك. فكذلك هذا.
ومنهم من حمل كل لفظة من ذلك على تأويل على حدة :
إن قوله تعالى ﴿ كلا سوف تعلمون ﴾ عند الموت عند ما ترون العذاب.
إن الأمر ليس كما حسبتم، وتعلمون في يوم البعث أنه حق يقين.
وفائدة التكرار: ما جرى من العادة في تكرار الكلام عند الوعيد أو عند الإياس أو الرجاء؛ نحو قولهم: الويل الويل، وقولهم: بخ بخ، وغير ذلك؛ فكذلك هذا.
ومنهم من حمل كل لفظة من ذلك على تأويل على حدة: أن قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ) وعند الموت عندما ترون العذاب: أن الأمر ليس كما حسبتم، وتعلمون في يوم البعث أنه حق يقين.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (٥) يعني بهذا - واللَّه أعلم -: إبطال ما كانوا عليه من الظنون والحسبان في هذه الدنيا؛ ألا ترى إلى قوله - تعالى -: (مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا)، فإذا نزل بهم العذاب تحقق عندهم، وعلموا علما يقينا.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ) حين نزل بكم الموت، (ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ) في القبر، وكذلك روي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: كنا نشك في عذاب القبر حتى نزلت هذه السورة.
وفيه وجه ثان: وهو أنهم كانوا عند أنفسهم علماء، وأنهم على حق، ولكن اللَّه - تعالى - بين لهم أن علمهم كان حسبانا؛ ألا ترى إلى قوله - تعالى -: (وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا)؛ فيظهر لهم عند ذلك: أن اليقين ما نزل بهم، وأن الذي علموا لم يكن علم يقين؛ بل كان شكا وحسبانا.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (٦) يحتمل وجهين:
أحدهما: يرونها عند الموت.
والثاني: أي: يرونها بالتفكر والنظر في آيات اللَّه وحججه في الدنيا.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (٧)، له معنيان:
أحدهما: عيانا ومشاهدة.
والثاني: أن تكون رؤيتهم بعين اليقين، ليس على ما كان عندهم: أنهم لو فتح لهم باب من السماء وعرجوا إليها، لقالوا: (إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ)
أحدهما : ترونها عند الموت.
والثاني : أي ترونها بالتفكر والنظر في آيات الله وحججه في الدنيا.
أحدهما : عيانا ومشاهدة.
والثاني : أن تكون رؤيتهم بعين اليقين ليس على ما كان عندهم : أنهم لو فتح لهم باب من السماء، وعرجوا إليها ﴿ لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون ﴾ ( الحجر : ١٥ ) يقول الله تعالى : يرتفع السحر عن أبصارهم، فيرونها عين اليقين.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (٨) ظاهر هذا يقتضي أن يكون سؤالهم بعدما دخلوا النار؛ لأنه قال: (ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ) بعدما وصف أنهم يدخلون النار؛ فبان أنه في ذلك الوقت، فإن كان على ذلك، فهو في موضع التقرير عندهم: أنهم استوجبوا المقت والعقوبة؛ لأنه كان عندهم أن من أنعم عليه بنعمة، فلم يشكرها، استوجب المقت والعقوبة؛ فاللَّه - تعالى - يسألهم في ذلك الوقت عن شكر ما أنعم عليهم؛ ليقرر عندهم استيجاب العقوبة، ويجوز أن يكون هذا عند الحساب؛ لأنه قال: (يَوْمَئِذٍ)، ولم يقل: قبل ذلك، أو بعده؛ بل قال على الإطلاق؛ فيعمل به.
وإذا احتمل ذلك الوجه أن ينصرف إلى المؤمنين والكافرين كان الوجه في سؤال المؤمنين تذكيرهم أن أعمالهم لم تبلغ ما يستوفي بها شكر النعمة التي أنعمها عليهم، وليعلموا أن اللَّه - تعالى - تفضل عليهم، وتجاوز عنهم، لا أن بلغت إليه حسناتهم، فاستوجبوا رحمته بها؛ بل بكرمه وفضله.
وإن كان في الكافرين، فهو تقرير ما استوجبوا من نقمته حيث تركوا شكر نعمه.
ثم قوله - تعالى -: (ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) إن كان السؤال من الكفرة فإنهم يسألون عما تركوا من الإيمان باللَّه - تعالى - وبما أتى إليهم الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وبغير ذلك من النعيم.
وإن كان في المؤمنين فهو في سائر النعم من المأكول والمشروب والملبوس ونحوها، واللَّه أعلم.
* * *