هذه سورة مكية نزلت بمكة. وسميت النمل ؛ لأن قصة سليمان مع النمل أخذت حيزا كبيرا منها، وعدد آياتها ٩٣ آية.
وقد ابتدأ سبحانه بحروف مفردة هي الطاء والسين، وقد ذكرنا حكمة ذكرها في سورة الشعراء وما سبقها، وقد كانت أول آية تتعلق بالقرآن، كشأن الأكثر في السور المبتدئة بحروف مفردة، تلك آيات القرآن الكريم، وبشرى للمؤمنين الذين يقيمون الصلاة، ويؤتون الزكاة، وهم بالآخرة هم يوقنون.
ثم بين سبحانه أحوال الذين لا يؤمنون بالآخرة، وأنه تزين لهم أعمالهم، وأنهم في أعمالهم يعمهون، وأنهم هم الذين لهم سوء العذاب، وأنهم في الآخرة هم الأخسرون.
وقد بين مقام النبي صلى الله عليه وسلم ﴿ وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ ( ٦ ) ﴾.
وقد ذكر سبحانه بعد ذلك جزءا من قصة موسى في مدين : إذ ذهب يبحث لأهله عن نار، ﴿ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُم بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ ( ٧ ) ﴾، وكان أن كلمه ربه، ﴿ فَلَمَّا جَاءهَا نُودِيَ أَن بُورِكَ مَن فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( ٨ ) يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( ٩ ) وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ ( ١٠ ) إِلَّا مَن ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ١١ ) وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ ( ١٢ ) فَلَمَّا جَاءتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ ( ١٣ ) ﴾ وإنهم راعتهم المعجزة، { وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ( ١٤ ).
ولقد كان ذلك الجزء الصغير من قصة موسى عليه السلام تمهيدا لقصة داوود وسليمان، وخصوصا سليمان فإنهما نبيان من أنبياء بني إسرائيل جاءا لإحياء شريعة التوراة فيمن لذلك من الرسل.
ولقد قال تعالى في ذلك ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ ( ١٥ ) وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ ( ١٦ ) ﴾.
وقد أوتي سليمان ملكا لم يكن لأحد من بعده ﴿ وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ ( ١٧ ) ﴾ كما أوتي علم منطق الطير، فقد أوتي أيضا علم منطق كل شيء ﴿ حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ( ١٨ ) فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِّن قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ ( ١٩ ) وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ ( ٢٠ ) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ ( ٢١ ) ﴾ ولكنه بعد ذلك أتى بخبر غريب كان له ما يفيد في سياسة سليمان ﴿ فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ ( ٢٢ ) إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ ( ٢٣ ) وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ ( ٢٤ ) أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ ( ٢٥ ) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ( ٢٦ ) ﴾.
سمع سليمان الملك الحكيم الخبر فلم يصدقه بادئ ذي بدء ولم يكذبه، بل أخذ يتفحصه قائلا : سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين، وكلفه أن يذهب بكتابه إليهم.
ذهب الكتاب إليها، فجمعت ملأها ﴿ قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ ( ٢٩ ) إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ( ٣٠ ) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ( ٣١ ) ﴾.
﴿ قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ ( ٣٢ ) قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ ( ٣٣ ) ﴾ فردت قائلة :
﴿ قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ ( ٣٤ ) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِم بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ ( ٣٥ ) ﴾.
جاء الرد والهدية إلى سليمان الملك العظيم قال :﴿ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِّمَّا آتَاكُم بَلْ أَنتُم بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ ( ٣٦ ) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَّا قِبَلَ لَهُم بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ ( ٣٧ ) ﴾.
وقبل أن يذهب إليهم بجنده أراد أن يعرف عرشها وسلطانها، ﴿ قَالَ عِفْريتٌ مِّنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ ( ٣٩ ) قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِندَهُ قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ ( ٤٠ ) ﴾.
جاءت الملكة إليه :﴿ قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ ( ٤١ ) فَلَمَّا جَاءتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ ( ٤٢ ) وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَافِرِينَ ( ٤٣ ) قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( ٤٤ ) ﴾.
وبعد ذلك ذكر سبحانه بعضا من قصة ثمود وصالح، ودعاهم إلى عبادة الله تعالى وحده، ولقد استعجلوا العذاب إذ دعاهم فقال لهم ﴿ قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ( ٤٦ ) ﴾ وقد تقاسموا مع المفسدين على أن يهلكوه وأهله، ويقولوا لوليه ﴿ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ ( ٤٩ ) وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ( ٥٠ ) ﴾.
وقد ذكر سبحانه عاقبة الأمر على ثمود قوم صالح.
ثم ذكر سبحانه قصة لوط، وذكر لهم لوط ما عندهم من فواحش خرجوا بها عن الفطرة، قائلا لهم :﴿ أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاء بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ( ٥٥ ) ﴾.
﴿ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ ( ٥٦ ) فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ ( ٥٧ ) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَرًا فَسَاء مَطَرُ الْمُنذَرِينَ ( ٥٨ ) ﴾.
﴿ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ ( ٥٩ ) ﴾.
بعد ذلك بين سبحانه وتعالى الدلائل الكونية الدالة على وحدانية الخالق، وأنه ليس كمثله شيء، فقال سبحان :﴿ أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاء مَاء فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا... ( ٦٠ ) ﴾.
ثم بعد أن بين هذه الحقيقة سألهم مستنكرا فعلهم ﴿.. أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ ( ٦٠ ) ﴾.
ثم نبههم سبحانه إلى الأرض، وما في خلقها من عجائب، ووجه الأنظار إلى عجائبها، وقرارها وأنهارها وجبالها، وأنه جعل بين البحرين حاجزا، ثم استفهم منكرا موبخا أإله مع الله بل أكثرهم هم لا يعلمون. وذكر بعد ذلك تفضله سبحانه عليهم بإجابة المضطر إذا دعاه وكشفه السوء، وجعل الإنسان خليفة في الأرض، ويسأل سبحانه مستنكرا حالهم من الشرك ﴿ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ ( ٦٢ ) ﴾ ويذكرهم سبحانه بهدايته لهم في ظلمات البر والبحر وإرساله الرياح مبشرات بين يدي رحمته، ويسألهم من بعد ﴿ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ( ٦٣ ) ﴾.
ويذكر سبحانه بذاته العلية، إذ يبدأ الخلق ثم يعيده، ويرزقه سبحانه وتعالى من السماء والأرض، ثم يسألهم مستنكرا حالهم ﴿ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ( ٦٤ ) ﴾.
ويأمر نبيه الكريم بأن ينبههم إلى أنه لا يعلم من في السماء والأرض غيره، وشعورهم عندما يبعثون وإنهم يتداركون جهلهم عندما يبعثون، ويعلمون ما لم يكونوا علموه من قبل بالعيان، لا بالأفهام. ويأمرهم سبحانه وتعالى أن يسيروا في الأرض ليعلموا مكانهم فيها، والعبر من أهلها، إذ طغوا وأكثروا فيها الفساد.
ويذكر لنبيه أنه ليس عليه إيمانهم، إنما عليه تبليغهم :﴿ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُن فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ ( ٧٠ ) ﴾ وذكر سبحانه بعد ذلك، استعجالهم لما يوعدون به من عذاب ﴿ وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ( ٧١ ) قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ ( ٧٢ ) وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ ( ٧٣ ) ﴾ ويذكر سبحانه بعد ذلك عموم علمه في السماء والأرض، ويقول عز من قائل :﴿ وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ( ٧٥ ) ﴾.
ويذكر من بعد مقام القر
ﰡ
أحدهما أنه كتاب مقروء متلو، يتلى، وتلاوته عبادة، وقد علمنا سبحانه وتعالى كيف نتلوه، وعلم نبينا تلاوته ليعلمها للناس أجمعين، فهو متواتر بلفظه، ومتواتر بتلاوته، كما قال تعالى :﴿ ورتلناه ترتيلا ( ٣٢ ) ﴾ [ الفرقان ]، وكما قال تعالى :﴿ ورتل القرآن ترتيلا ( ٤ ) ﴾ [ المزمل ]، وكما قال تعالى :﴿ إن علينا جمعه وقرآنه ( ١٧ ) ﴾ [ القيامة ].
والوصف الثاني أنه كتاب مبين أي بين في ذاته، ومبين لكل ما اشتمل عليه من دلائل التوحيد، ودلائل النبوة وأحكام شرعية، وهداية للناس، كما قال تعالى :﴿ يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين ( ٥٧ ) ﴾ [ يونس ].
﴿ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ( ٣ ) ﴾.
ذكر للمؤمنين أمورا ثلاثة هي :
الصفة الأولى : أنهم يقيمون الصلاة، أي يؤدونها، مستوفية أركانها الحسية والروحية، والمصلى يستشعر عظمة الله تعالى وجلاله، ويحس أنه في حضرة الله تعالى، وذلك كله يتضمنه معنى الإقامة ؛ لأن الإقامة إقامة الشيء مستويا مستقيما لا عوج فيه، ولا اضطراب، بل يتجه إلى أعلى اتجاها مستقيما، وفي ذكر إقامة الصلاة إشارة إلى المعاني الروحية في العبادات الإسلامية من صلاة وصوم وحج، فهو ابتداء تطهير النفوس من أدرانها، وإقامة للعلاقات الإنسانية على هذه الطهارة من أدران الأحقاد والأضغان.
والصفة الثانية : أنهم يؤتون الزكاة، وهي الفريضة المادية الروحية، والتي يقوم عليها التعاون الاجتماعي بين الغني والفقير، ولذا سميت الزكاة بالماعون، أي ما يكون به العون، كما قال تعالى في وصف الضالين :﴿ فويل للمصلين ( ٤ ) الذين هم عن صلاتهم ساهون ( ٥ ) الذين هم يراءون ( ٦ ) ويمنعون الماعون ( ٧ ) ﴾ [ الماعون ]، والماعون هو الزكاة التي هي أساس للتعاون الإنساني.
والصفة الثالثة : وهي الأصل للأوليين، وهي الإيمان باليوم الآخر، فهو لب الدين، وهو توجيه الإنسان إلى حقيقة معناه فقال سبحانه ﴿ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ﴾.
بالآخرة تتعلق بالفعل يوقون، أي يؤمنون مذعنين غير مترددين ؛ لأن العلم اليقينية يدفع الإنسان إلى عمل الخير، ولو كان تناله المشقة منه في الحياة، فإن ذلك يكون دافعا إلى الاستمرار مؤمنا بأن جزاءه يستقبله، وكلما زادت المشقة فيه، زاد الأجر، وما عند الله خير وأبقى.
ولقوة هذه الخصلة الكريمة للمؤمنين وكونها لب الإيمان أكد الله تعالى إيمان المؤمنين باليوم الآخر بعدة مؤكدات، أولها بتقديم الجار والمجرور، وثانيها بالجملة الاسمية، وذكر ضمير الفصل مرتين في صدد الجملة وآخرها.
﴿ إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ ( ٤ ) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ ( ٥ ) ﴾.
أكد سبحانه أن الذين لا يؤمنون بالآخرة لهم في الدنيا أمران أحدهما سبب للآخر، ولهم في الآخرة سوء العذاب، وهم في الآخرة هم الأخسرون.
ولنتكلم مستشرفين لمعاني القرآن الكريم في الأمرين في الدنيا والآخرة، وقبل أن نخوض فيها خوضا نقرر أنه كما أن اليقين باليوم الآخر خلة المؤمن الدافعة إلى الخير، والتي تجعله يتحمل متاعب هذه الحياة راجيا ما وراءها فإن فقد الإيمان باليوم الآخر ينسى الإنسان نفسه فيعتقد أن هذه الحياة هي وحدها الحياة، ولا حياة بعدها، ويحسب أنه خلق عبثا، ولذا قال سبحانه :﴿ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ ﴾، أي حسن الله لهم أعمالهم، فحسبوها وحدها الخير، ولا يحسبون أن أعمالهم كلها زينة وأمر حسن، فهم دائما ممن زين لهم أعمالهم فرأوه حسنا، فكل أعمالهم لا ينظرون إليها إلا من وراء نفوسهم غير المستقيمة، ولا يعترفون بإرشاد مرشد، ولا هداية هاد، واعظ أو زاجر، فهم في لهو دائم عن الحق، وإن من كانت حاله كذلك، قد ضرب على آذانه، فلا يسمع الحق، ولا يهتدي بهديه، قد أهمل عقله وتفكيره، وما أعطاه الله تعالى من مواهب، وفطرة مستقيمة، ولذا قال تعالى :﴿ فَهُمْ يَعْمَهُونَ ﴾ الفاء لبيان أن ما بعدها مترتب على ما قبلها، أي ترتب على هذا التزيين لكل الأعمال التي يعلمون، ويحسبونها زينة يترتب على ذلك أنهم يعمهون.
والعمه : التردد والحيرة، أي ترتب على أن أعمالهم زينتها لهم نفوسهم، أن صاروا في حيرتهم لفطرتهم السليمة التي تريهم الحق حقا، والباطل باطلا، وتزين نفوسهم للباطل حقا، وللحق باطلا، فتكون الحيرة بين الفطرة الهادية والشر المتحكم، والضلال المظلم.
﴿ وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ ( ٦ ) ﴾.
وتلقي معناها يلقي إليك بقوة فتقاه راضيا بقوة متحملا ما يوجبه تحمله وتلقيه من صبر دائم، وجهاد مستمر ومصابرة لأعدائه، وتلقيه هو من عند الله تعالى الحكيم الذي يعطي كلاما هو صالح، وهو عليم بالنفوس يطب لأدرانها بما يزيل أسقامها.
وهو وصف للقرآن الكريم بأحكم الصفات وأعمقها في معناها.
فهو أولا من عند الله، ولا يجيء من عند الله إلا ما هو خير، وقد شرفه الله تعالى بذلك الذي لا يقدر قدره، وهو الحكيم الذي يشرع للناس ما يصلحهم في معادهم ومعاشهم، وما يجمع ويصلح، ولا يفرق ويشتت، وهو العليم بكل شيء، قد أحاط بكل شيء علما.
وقد أكد الله تعالى القول، بخطاب النبي، وحمله عبء القرآن الكريم.
إشارة إلى بعض قصة موسى عليه السلام
ونجد أن قصة موسى هنا في جملتها ليست مكررة مع غيرها، وقد فصلت جزءا لم يفصل في موضع آخر، فصل فيه بعض حياته مع أهله، وفصل فيه لقاءه بربه، والكلام الذي كان بينهما، وذكر ارتباطه بالرسالة، ودليلها وهو العصا وإخراج اليد من الجيب بيضاء من غير سوء، وكونها في تسع آيات قدمها لفرعون برهانا على الرسالة، وإذا كانت بعض الأمور ذكرت مكررة كالعصا، فلأن المقام اقتضاها، وليست ثابتة بالقصد الأول، بل هي جاءت تابعة لإثبات الرسالة لموسى نفسه، لا لإثباتها لغيره، وهو فرعون وقومه، أي لإثبات أن الذي يخاطبه من وراء الشجرة ربه، لا أحد غيره.
كان موسى وأهله في ليلة ليلاء قرور شديد بردها، يلتمسون ما يستدفئون من نار، فنظر في الجو، فحسب أنه رأى نارا فقال لأهله : إني آنست نارا أي رأيت نارا قال وهو يتمناها، ويرعاها، كقوله تعالى :﴿ فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم ( ٦ ) ﴾ [ النساء ]، ﴿ سَآتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُم بِشِهَابٍ قَبَسٍ ﴾ أي إني ذاهب إليها لعلي آتيكم منها بخبر نستفيد منه علم ما لم نكن نعلم، أو شهاب، والشهاب هو الشعلة المشتعلة من نجم أو نار أو نحوها وقبس بدل أو عطف بيان، والقبس هو القطعة من جذوة النار، أي آتيكم بقطعة من النار شديدة الاشتعال فنلقيها حول أحطاب نستدفئ منها، وهذا معنى ﴿ لعلكم تصطلون ﴾ أي تستدفنون بها، فيقال من صلى قلبت التاء طاء، لأنها من حروف الإطباق أي رجاء أن تستدفئوا، ومؤدي ذلك أنهم كانوا في برد شديد، وهكذا عاش من تربى في بيت فرعون فهو يذوق الحر والبرد في صحراء، في هذا الوقت، وفي هذه الشديدة، بعث موسى عليه السلام.
ومن حولها من ملائكة أطهار، فهي أرض طاهرة مقدسة منها كانت رسالة موسى، كما كانت رسالة عيسى عليه السلام من ساعير، ورسالة محمد عليه السلام في فاران. وهي كما ترى ذلك في التوراة حتى بعد تحريفها في هذه الأيام، وهذه البقعة المباركة. كما صرح سبحانه بذلك في سورة القصص ﴿ فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي مِن شَاطِئِ الْوَادِي الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَن يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ( ٣٠ ) ﴾ [ القصص ].
والبركة نماء الخير وزيادته، وجعلت البركة في النار، لأن النار سبب مجيء موسى إليها، فهو جاء على أنها نار، وليست شجرة مباركة خضراء، ولذا فسر بعض المفسرين النار بأنها النور، وكذلك كانت تلك الشجرة الخضراء نورا إذ بعث فيها رسول من أولي العزم من الرسل، وهو موسى عليه السلام.
وختم الله سبحانه وتعالى الآية الكريمة بتسبيح الله الواجب على عباده، فقال ﴿ وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ أي التسبيح الخالص لله رب العالمين الخالق والمنعم عليهم بربوبيته الكاملة سبحان، ولا يدركها إلا العالمون العقلاء المدركون إن استقامت مداركهم، واتجهوا إلى الحق وحده غير مضطربين، ولا معوجين، وأن في قوله ﴿ أَن بُورِكَ مَن فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا ﴾ هي تفسير للنداء من الحق جل جلاله، فالنداء هو ذكر الله تعالى لهذه البركة النامية المتجددة في كل حين.
الضمير في ﴿ إنه ﴾ ضمير الشأن ﴿ أنا الله ﴾ تدل على قصر الألوهية على ذاته، العلية، وذلك بتعريف الطرفين، فليس فرعون الذي تذهب إليه إلها أو شبه إله، كما يدعي لنفسه بين المصريين، ويقول مستخفا لهم ﴿ ما علمت لكم من إله غيري ( ٣٨ ) ﴾ [ القصص ] ووصف ذاته العلية بقوله :﴿ العزيز الحكيم ﴾، أي القوي الغالب على كل شيء، الحكيم الذي يدبر الوجود كله على مقتضى علمه الذي أحاط بكل شيء علما، وفي ذلك إشعار بأن فرعون الطاغية لن يرهبه، ولن يفزعه، إذا احتدم الأمر.
ولكن موسى يود أن يطمئن إلى أن الله تعالى هو الذي يخاطبه ويمنحه ذلك الشرف، ولذا أمره بأن يلقي عصاه حجة تدل على أن الله تعالى هو الذي يخاطبه، فقال :
ولكن موسى عليه السلام كان قد قتل مصريا مناصرة لإسرائيلي، وقال شاعرا بخطئه :﴿ قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِّلْمُجْرِمِينَ ( ١٧ ) ﴾ [ القصص ] وإن هذه الفعلة هي التي ألجأته إلى مدين، بين الله تعالى أنه غافرها، ما دام قد عمل حسنا بعدها
والفاء في قوله تعالى :﴿ فَإِنِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ واقعة في جواب من، لأنها شرط أو في معنى الشرط، وثم للتراخي، لأنه ثمة تراخ بين الظلم والغفران.
هذه آية أخرى ليأنس موسى ربه، وأنه الذي خاطبه، وأنه رسول من رب العالمين إلى الناس، وهي أن يدخل يده في جيب قميصه بلونها الطبيعي الظاهر، المتوافق مع سائر جسمه، ويخرجها من الجيب فيراها بيضاء ناصعة البياض من غير سوء من بهق أو نحوه، وتلك آية أخرى هي واحدة من تسع آيات إلى فرعون وقومه، ثم ذكر ما يدل على العناية بهم في الاستدلال بتسع، إنهم كانوا قوما فاسقين، و( كانوا ) تدل على استمرارهم في التوغل في الفسق، وهو الخروج عن كل معقول، ورفض كل مقبول، وأنهم قوم لا يفقهون حديثا.
وفي ذكر هذه الآيات عند بعثه إلى فرعون وقومه دلالة على أنه يذهب إليه مزودا بآيات تترى آية بعد آية وكل آية حجة عليهم، ودليل قاطع، ولكنهم أصروا على كفرهم حتى أغرقوا.
وقد بين سبحانه وتعالى ذلك مشيرا إليه بأنه الظلم، فقال :﴿ ظُلْمًا وَعُلُوًّا ﴾، وهما مفعول لأجله، من فعل ( وجحدوا )، أي جحدوا وأنكروا، وخالفوا نفوسهم، وفطرتهم، لأجل الظلم، أي استمرارهم في الظلم والطغيان، ومعاضدتهم لفرعون في ظلمه وعدوانه وإرادتهم العلو في الأرض، وقد أدى ذلك الطغيان الآثم، والعلو الباطل إلى فساد الأرض، وإلى غرضهم، ولذا قال تعالى :﴿ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ﴾ ؛ أي انظر كيف كان مآل الفساد، وهو الخراب، وهو الخراب والغرق، والفساد كان في الظلم، وإرادة العلو بالباطل، إنه لا يفسد الجماعات إلا الظلم أولا، والتعالي بالباطل ثانيا، والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها، وهو الغرق والهلاك، وهو عاقبة الجحود الظالم المستعلي المفسد.
﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ ( ١٥ ) ﴾.
الواو لاستئناف قصة نبيين من الأنبياء امتازا بتمكين الله تعالى لهما في الأرض بما لم يكن مثله لأحد من الأنبياء قبلهما، فقد كان إبراهيم وأبناؤه من الأنبياء يقامون الملوك الظالمين، وقد رأينا فيما قصه الله تعالى علينا من قصة موسى كيف كان يقاوم فرعون، وأتاه بتسع آيات بينات فما ارتدع وآمن، حتى أغرقه الله، فقال عند الغرق الآن آمنت برب هرون وموسى وبني إسرائيل، وليست هذه توبة ﴿ إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً ( ١٧ ) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ( ١٨ ) ﴾ [ النساء ]. أما داوود وسليمان فقد كانا ملكين، وإذا كانت الملوك الذين بعث فيهم الأنبياء صورة للعصاة المنحرفين عن الحق فقد كان داوود وسليمان صورة عالية للملك الذي يخاطبه الوحي ويهديه ويرشده، كما قال تعالى لداوود :﴿ يا داوود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله ( ٢٦ ) ﴾ [ ص ].
وقوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا ﴾ أكد الله سبحانه أنه أعطى داوود وابنه سليمان علما، باللام وبقد فإنها تدل على التحقيق، ونكّر سبحانه ﴿ علما ﴾ للإشارة إلى أنه علم عظيم لا يقدر قدره، فقد أعطى داوود علم القيادة، وعلم إدارة الدولة، وعلم صناعة أدوات كما قال تعالى :﴿ وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم ( ٨٠ ) ﴾ [ الأنبياء ] وأعطى سليمان علم منطق الطير، كما ستشير الآيات لذلك، وعلم الابن ثمرته تعود على الأب، فهو شخصه ممتد، وكسبه كسب له كما هو مقرر بحكم الفطرة، ولذلك حمدا الله على ما آتاهما من فضله :﴿ وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ وكان التفضيل أولا بالعلم، وثانيا بالسلطان والحكم، وهذا يستوجب الحمد والشكر لا الظلم والطغيان، ونقول إن الله أعطاهما الذي أعطاه، وهو نعمة، وتكليف، فالمؤمن يحسب النعمة تكليفا، والتكليف بالنسبة للحكام العدل
﴿ وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ ( ١٦ ) ﴾.
ذكر الله تعالى وراثة سليمان لأبيه في ملكه، فقد ورث هذا السلطان، ولم يرث الرعية، فالرعية لا تورث ولا يمكن أن تورث، وهذا خطأ بعض الذين تولوا الملك بالوراثة، فحسبوا أن الرعية شيء يورث، إنما الذي يورث هو الحكم ولا يكون إلا بوارثة يقرها الشرع، كوارثة سليمان لداوود، وقد أباحها الحكم الرباني ليجتمع شمل بني إسرائيل أمام من ظلموهم، وأرهقوهم من أمرهم عسرا.
أخذ سليمان يبين لقومه ما أعطاه الله تعالى من مؤهلات الحكم، وما اختصه فقال :﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ ﴾، أي علم لغة الطير، وعرف ما تدل عليه أصواتها من معان تقصدها وتريدها، وذلك يدل على مقدار تمكين الله تعالى له في ملكه وفي سلطانه عليهم، وأن الطير والدواب أمم أمثالنا لها لغة ولها منطق وعبارات مفهومة، كما قال تعالى :﴿ وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ ( ٣٨ ) ﴾ [ الأنعام ]. وقد ذكر الضمير ضمير الجمع لبيان مكانته من السلطان، وما أعطاه الله من قوة، وذكر أنه لم يؤته الله تعالى منطق الطير فقط، بل آتاه من كل شيء ولذا قال الله تعالى عنه :﴿ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ ﴾ أي من كل شيء علما فعلمنا منطق النمل ونطق الأحياء كلها، وأوتينا علم القيادة، وعلم الحكم العادل، والضمير ضمير الجمع لبيان سيطرة السلطان العادل، وقيل الضمير له ولأبيه، ولكن لم يرد في القرآن ما يدل على معرفة داوود منطق الطير، والنمل، وغيرهما من الأحياء، والله ذو الفضل العظيم، ولذا قال :﴿ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ ﴾ أي أن هذا العلم لهو الفضل الواضح المبين للحق والسلطان، وقد أكد سبحانه فضل الله تعالى عليه، وعلى أبيه من قبله بأن، وباللام، وبضمير الفصل.
﴿ وحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ ( ١٧ ) ﴾.
حشر : أي جمع لسليمان جنوده، ولم يكونوا من الإنس فقط، بل كانوا من الجن والإنس، والجن هم من العالم الذي لا يرى في الظاهر، ولا غرابة في ذلك فإن الذي علمه منطق الطير، يمده بالجن والإنس، وقد يقال : إن المراد بالجن طوائف من الناس ليسوا في أرضه، ولكنهم جاءوا إليه مناصرين له، فهو يوزعون، الفاء للإفصاح التي تفصح عن شرط مقدر، أي إذا اجتمعوا فهم لم يكونوا مفرقين غير محكومين ولا مضبوطين، بل كانوا مدفوعين، إلى التجمع المنظم طوائف، بل كانوا متحرفين للقتال : جاء في مفردات الراغب الأصفهاني في كلمة وزع : قال وزعته عن كذا كففته عنه قال تعالى :﴿ وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ ﴾ إلى قوله تعالى :﴿ فَهُمْ يُوزَعُونَ ﴾ فقوله يوزعون إشارة إلى أنهم مع كثرتهم وتفاوتهم لم يكونوا مهملين، ومبعدين، كما يكون الجيش الكثير المتأذى بمعرفتهم، بل كانوا مسومين ومقموعين، وقيل في قوله يوزعون أي حبس أولهم على آخرهم.
والمعنى الجملي لهذا أن هذا الجيش الذي جمع القريب والبعيد والمؤتلف والمختلف قد كان مسوسا، ملتئما بقيادة حكيم، وقد سار الجيش سيرا حثيثا، وأحس به النمل، فتكلم ليرتب أمره، فقال تعالى عنهما.
لم يغتر، ولم يفخر، ولم يفاخر، بل عرف حق النعمة واتجه إلى شكرها، ودعا ربه ثلاثا.
أولا : ضرع إلى ربه أن يدفعه، فقال أوزعني أي ادفعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت بها علي، وعلى والدي، فإن هذه نعمة تحتاج إلى الالتجاء إليك لأتمكن من شكرها، وهي عليّ، وعلى والدي فقد كان نبيا آتيته ما آتيت ولده سليمان، فكان ما أنا فيه نعمة عليّ وعليه.
ثانيا : دعا ربه أن يوفقه للخير فقال :﴿ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ ﴾، أي أن أعمل، عملا هو صالح في ذاته وأن ترضاه بأن يكون خاليا من كل غرض غير رضاك سبحانك، إنك أنت المعطى، والمانع.
ثالثا : أن يكون في ضمن عباد الله الصالحين، فقال :﴿ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ ﴾، أي أن الدخول في الصالحين من عباده سبحانه هو برحمته سبحانه، لا بعمل قدمه، فكل عمل هو من فضله، وكل جزاء هو رحمته.
رأى من النملة ما رأى، وكان بعد ذلك الطير.
والفاء في قوله تعالى :﴿ فقال ﴾ هي فاء الإفصاح، أي إذ تعهد الطير لم يجد الهدهد وإذ لم يجده فقال :
ولكن الهدهد كان ماكثا في مكان غير بعيد.
النبأ هو الخبر العظيم الشأن البعيد الأثر، وهو يقين في علمه، إذ علمه عن عيان ومشاهدة، وحضور، والنبأ الخطير الشأن العظيم، هو أنه وجد امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء، أي أن قومها آتوها من كل أسباب الحكم بالخضوع والطاعة، والاستسلام ما جعلها ملكة عليهم، ولها في هذا الملك عرش عظيم ذو أبهة ورونق، وإشعار بعظم السلطان، وهذا قوله تعالى في كلام الهدهد ﴿ إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ ﴾، وقد أكد كلامه باللام وقد، وقال إنها تملكهم للإشارة إلى أن خضوعهم لها كخضوع العبيد لمن يملكهم، وبني للمجهول إيتاؤها كل شيء، وهذا يفيد أن قومها آتوها أمرهم، ووضعوا رقابهم تحت سلطانها.
وسبأ من خير أرض الله تعالى وأمكنها بخيراته، وقد قال تعالى فيها وفيهم :﴿ لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ ( ١٥ ) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ العَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ ( ١٦ ) ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلاَّ الكَفُورَ ( ١٧ ) ﴾ [ سبأ ] ويقول الحافظ ابن كثير : وسبأ هم حمير وفيهم ملوك اليمن والمرأة التي كانت تحكمهم هي بلقيس بنت شرحبيل وكانت ملكة لسبأ.
وذلك لاستيلاء الشيطان على قلوبهم، ولذا قال عز من قائل :﴿ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ ﴾.
إنه من الحقائق النفسية الثابتة أن أول الشر استحسانه، فالشيطان يزين أعمال السوء للفاعل ويحسنها له، ويظن أنها الخير وحدها، وأن ما عداها باطل، وفرق بين المهتدي وغير المهتدي، أن من هداه الله يميز الخبيث من الطيب، فلا يتردى في باطل، وإن تردى فيه سرعان ما يعود إلى الحق، ولا يقبل وسوسة الشيطان بالشر، وليس قلبه موضع لتزيينه، ثم قال ﴿ فصدهم عن السبيل ﴾، أي أنهم بسبب تزيين الشيطان لهم قد مكنوه من أنفسهم، فصدهم عن السبيل، أي لعلهم يعرضون عن الطريق المستقيم في ابتدائه، ومن ضل في أول الطريق سار في ضلال إلى آخره، ولذا قال مرتبا على ذلك : فهم لا يهتدون، أي فهم يسيرون في ضلال غير مهتدين إلى الحق إلى النهاية، حتى يكون الحساب والعقاب
والمعنى كان ذلك التزيين والصد وعدم الاهتداء في ذاته لأن لا يهتدوا إلى عبادة الخالق الذي يخرج الخبء في السموات والأرض.
ويصح أن نقول : إنه متعلق ب ﴿ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ ﴾ أي أنه حسن ذلك في قلوبهم ليصرفهم عن السبيل، ويكون التركيب هكذا زين لهم ألا يهتدوا إلى عبادة الله تعالى الذي يخرج الخبء.. إلى آخره.
و( الخبء ) ما ستره الله تعالى حتى يخرجه للناس، فخبء السموات مطرها، حتى يحين حينه، ويدرك إبانه، وكل شيء عند ربك بمقدار.. عالم الغيب والهادة الكبير المتعال.
وصف الله تعالى المعبود بحق بثلاث صفات هي أعلى الصفات لواجب الوجود، وكل صفاته عليا.
الصفة الأولى : أنه هو الذي يخرج خبء السموات بالمطر الذي ينبت الزرع والنخيل والأعناب، ويخرج به خبء الأرض، بفلق الحب والنوى، وإخراج المتراكب الذي يكون به غداء الأحياء.
الصفة الثانية : أنه يعلم ما يسر وما يعلن الإنسان، فهو عليم بحاله في حركاته وسكناته، وما يفعل من خير وشر، ومجازيه على كل ما يفعل، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، وفيها تبشير بالجزاء، وإنذار بالعقاب.
﴿ قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ( ٢٧ ) اذْهَب بِّكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ ( ٢٨ ) ﴾.
كان سليمان ملكا حكيما لا يجعل علمه قيما يقضي فيه من سمعه فقط، فإن ذلك أضل الملوك، وهو الذي يوصف بأنه أذن فتكون الحاشية وليه الذي يسيطر عليه، ولذا قال للهدهد : سننظر أي أننا نؤكد أننا سننظر في حقيقة ما جئت به إلينا، أصدقت أم كنت من الكاذبين. الاستفهام فيه إيماء إلى تغليب الكذب، لأنه في معادلة الكذب تكلم بما يوهم أنه ربما يكون كاذبا، فقال ﴿ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ﴾، فقد ذكر احتمال الكذب بما يفيد قربه، فأكده بالوصف بالكذب، وبكان الدالة على الدوام، وبكونه أن يكون من صفوف الكاذبين.
كما كان الهدهد هو المخبر بحالهم جعله حاملا رسالته إليهم قال له :﴿ اذْهَب بِّكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ﴾ والجار والمجرور متعلق بمحذوف تقدير القول فيه، فألقه موصلا له إليهم.
ولم يتعرض القرآن لبيان طريق توصيل كتاب سليمان إليهم، وقد قيل إنه أوصله من الكوة التي تشرق عليها الشمس منها لتعبدها فيها، وقيل : إنه جاء إلى جمعهم، وألقى الكتاب المختوم بخاتم الملك لسليمان، فألقاه عليهم وهم يجتمعون، والله تعالى وحده العليم كيف أوصل إليهم الكتاب، ولا نتعرض لبيانه، لأنه لو لم بعلمنا به الله فحق علينا التوقف، كما قال تعالى :﴿ ولا تقف ما ليس لك به علم ( ٣٦ ) ﴾ [ الإسراء ]، ثم قال تعالى :﴿ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ ﴾ العطف ب ( ثم ) في موضعه، أي ألقه متأكدا، وصوله إليهم، وبعد تأكد ذلك تول عنهم وانصرف غير بعيد لتكون مترقبا ماذا يرجعون، أي ماذا يرجعون أو يردون ذلك الخطاب، والواقع أنهم لا يرجعون الكتاب، إنما يرجعون ما تضمنته الكتاب من دعوة لعبادة الله وحده، والاستسلام لسليمان والخضوع لحكمه كما بين مضمون هذا الكتاب عند استفتاء قومها.
جمعت قومها تستفتيهم في الأمر الذي جد وكانت حكيمة إذ جمعتهم وفوضت الأمر إليهم ليروا فيه ما يرون، عرضت عليهم صيغته ووصفته بأنه كتاب كريم، فقدمت القول الحسن، الاحترام والتجلة، ووصفت الكتاب بأنه كريم طيب داع إلى خير لا فساد، وتلت عليهم الكتاب
جمعت قومها، واتخذت خطابها مع أشرافهم وذوي الرأي فيهم الذين يولون ويعزلون، وقالت لهم :﴿ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي ﴾. وأضافت الأمر إليها، إذ هي المسئولة عنهم، والمخاطبة بأمر القوم عنهم، وأخبرتهم أنهم لا تبت في أمر وتقطع فيه برأيها منفردة دونهم ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون، حتى تشهدوا الأمر وتعاينوه، ونكون معا، والنون نون الوقاية، وياء المتكلم محذوفة أي حتى تشهدوني، أي حتى تحضروا معي وأتبادل الأمر معكم لنعرف ما يكون فيه خيركم.
أول هذه الأمور الثلاثة ﴿ نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ ﴾، أي أصحاب قوة في استعدادنا من حيث العدد والذخيرة، وكل ما يحتاج إليه الجند القوى المستعد، وثاني هذه الأمور أنهم ﴿ أولوا بأس ﴾، أي أهل همة ونجدة وشجاعة لا نفرط في الدفاع أو الجهاد إذا دعا داعيه، وإن بأسنا شديد، لا نتخاذل في حرب.
الأمر الثالث : ان القيادة كلها ( الأمر إليها )، ولذا قالوا :﴿ والأمر إليك ﴾، أي نحن نتعاون طائعون فالأمر إليك، ﴿ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ ﴾ الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها، أي إذا كان الأمر إليك فانظري ماذا تأمرين، أي انظرني في نفسك الذي تأمرين به، لأن الاستعداد كامل تنفيذ الذي تأمرين به كاملا غير منقوض.
قالت لهم بعد أن دبرت أمرها، وتعرفت مآل أمرها، وحالها.
﴿ قَالَ يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ( ٣٨ ) ﴾.
العرش كرسي السلطان، وقد سبق أن وصف الهدهد ذلك العرش بأنه عرش عظيم، قد أوتي من الأبهة والزخرفة الكثير، وإنه دليل على كمال السيطرة، وكمال الثروة، وما الذي يطلبه نبي الله الملك من الملأ من قومه أهو أن يأتوه به ذاته، ذلك ظاهر القول، ولو يوجد ما ينفي الظاهر، ونحن نأخذ بظاهر القول ما لم يوجد من الاستحالة العقلية ما يخرجنا من الظاهر إلى غيره، فالأمر كله لا غرابة فيه، فالنمل يتكلم، ويسمع كلامه ويفهم، والطير يتكلم ويفهم، ويرسل في رسائل وكتب إذن فلا غرابة في أن يأتي بعض الملأ بذات العرش.
وقد قال بعض الذين يتكلمون في معاني الذكر الحكيم. إن الذي طلبه نبي الله تعالى هو أن يأتوه بصورة العرش لا ذاته، ونحن نرى أن هذا التأويل وإن كان محتملا لا نرضاه، لأنه غير ظاهر اللفظ، وظاهر اللفظ يسير في مؤداه ما دام لا يستحيل، وقوله قبل أن يأتوني مسلمين يقول إن الإسلام هنا هو الخضوع، ويصح أن يكون المعنى الإسلام الحقيقي، وهو شهادة أن لا إله إلا الله، وإنا نميل إلى الأول، لأن الإسلام بشهادة الحق جاء بعد ذلك عندما قالت بلقيس :﴿ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( ٤٤ ) ﴾.
أخذ الملأ ممن حول سليمان يعملون على إجابة طلبه.
ولم تبين الآية كيف يكون ذلك، ولنسلم بظاهر الآية، غير متكلفين، فالله تعالى أمر بعدم التكلف فقال ﴿ قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين ( ٤٦ ) ﴾ [ ص ].
ولكن الملك نبي الله عليه السلام استطال هذه المدة، فتقدم عليه بعض الذين أوتوا علم الكتاب.
وإن هذه سمعيات يجب التصديق بها والإذعان لها، وكثير من قصة سليمان أمور غيبية توجب الإذعان بالإيمان بظواهرها، غير متأولين، ولا قافين ما لا نعلم، وقد نقول إن علم الكتاب علم يؤتيه الله من فضله من يشاء من عباده إنه عليم خبير.
وارتداد الطرف ان ينظر إلى أمر بتحديق عين، ثم يرد إليه بعد النظر المتحدق، وهو لا يتسع لزمن قل أو كثر، ولذا قال بعد ﴿ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِندَهُ ﴾ الفاء للعطف والتعقيب، أي أنه عقب قول صاحب علم الكتاب رآه مستقرا عنده، أي موجودا قارا ثابتا عنده، لا يتصور بعده عنه بعد ذلك، كانت هذه نعمة على سليمان تستوجب الشكر، ولذا قال معلنا أن ذلك اختبار من الله، قال :﴿ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ ﴾ يقرر في هذه الجملة السابقة ما يقرره النبي الملك، يقرر أولا أنه فضل من الله ليس إلا نعمة أعطاها عطاء ومنّا من غير سابق طلب، ويقرر ثانيا أنه يعامله معاملة من يختبره أيكون من الشاكرين للنعمة القائمين بحقها، أم الكافرين الذين يجحدون، ويغترون ويعاندون ويحسبون أن ذلك استحقاق وليس عطاء ثم يقول :﴿ مَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ ﴾، أي فإن شكره يكون عائدا على نفسه، لأنه يفعل الخير، ويثابر عليه وثمرة ذلك يعود عليه، ولأن من يشكر النعمة يزيده الله منها، كما قال تعالى :﴿ لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد ( ٧ ) ﴾ [ إبراهيم ] أي ومن يكفر ليغتر ويجحد ويعاند، فإنه يضر نفسه، ولكن لا يقطع بفضل الله ولا منه وفضله وكرمه، فالله غني لا يحتاج شكر عباده، وكريم يعطي دائما والحساب في الآخرة.
﴿ قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ ( ٤١ ) فَلَمَّا جَاءتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ ( ٤٢ ) ﴾.
التنكير جعل العرش في وضع أو حال بحيث لا يعرف، ولذا قيل : إنه وضع في وسط أمتعة متفرقة مختلفة بحيث يصعب تعرفه في وسطها، وروى ابن عباس ومن أخذ عنه أنهم غيروا في ألوانه، وأخذوا بعض ما فيه من جواهر، ونرى أنهم لم يغيروه، ولكن نكروه، ننظر جواب الأمر أي لننظر أتهتدي أم تكون من الذين لا يهتدون، أي لننظر فاحصين ذاتها، ألها نظرات ثاقبة، تصل من ورائها إلى الحقيقة محصين مدركين واصلين، أم هي من أهل الغفلة الذين لا يهتدون، ولا يمحصون ولا يدركون.
وقد تبين من الاختبار أنها واعية مدركة، وأن النساء يدركن دائما ما يتعلق بالفراش وزينة الحياة الدنيا، ولذا علمت، وإذا كان قد اعتراها نوع تشكك، فلغرابة أن يجيء إلى نبي الله سليمان قبل مجيئها.
﴿ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ ﴾ لم تقل إنه هو من قبيل الحرص، لأنها رأته بعينها ولكن كانت الغرابة في أنه جاء قبلها فتساءلت في ذات نفسها، كيف جاء، وبأي طريق وصل، هذا هو الذي تحترس من أن تقول هو هو بل قالت كأنه، وقال سليمان مؤكدا أنه هو :﴿ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهَا ﴾ أي أوتينا العلم به المستقين المحسوس من قبل مجيئها، وقد يعلل بهذا من قال :"إنها صورة العرش لا ذاته" وما كان لنا أن نترك الظاهر الذي يبين اليقين بعبارة موهمة غير قاطعة ثم قال : سليمان :﴿ وَكُنَّا مُسْلِمِينَ ﴾ أي مذعنين للحق ببيناته.
وإن هذه الأحوال كلها خوارق للعادات مثبتة نبوة سليمان، وفي الحق أن سلطان سليمان قد قام كله على خوارق للعادات، وكان الزمن زمن المادة والأسباب، والمسببات، فكان هذا الملك قرعا لأسماع الماديين المتعلقين بالأسباب والمسببات العادية، ويحسبون مخطئين أنها قانون الوجود.
﴿ قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ ( ٤١ ) فَلَمَّا جَاءتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ ( ٤٢ ) ﴾.
التنكير جعل العرش في وضع أو حال بحيث لا يعرف، ولذا قيل : إنه وضع في وسط أمتعة متفرقة مختلفة بحيث يصعب تعرفه في وسطها، وروى ابن عباس ومن أخذ عنه أنهم غيروا في ألوانه، وأخذوا بعض ما فيه من جواهر، ونرى أنهم لم يغيروه، ولكن نكروه، ننظر جواب الأمر أي لننظر أتهتدي أم تكون من الذين لا يهتدون، أي لننظر فاحصين ذاتها، ألها نظرات ثاقبة، تصل من ورائها إلى الحقيقة محصين مدركين واصلين، أم هي من أهل الغفلة الذين لا يهتدون، ولا يمحصون ولا يدركون.
وقد تبين من الاختبار أنها واعية مدركة، وأن النساء يدركن دائما ما يتعلق بالفراش وزينة الحياة الدنيا، ولذا علمت، وإذا كان قد اعتراها نوع تشكك، فلغرابة أن يجيء إلى نبي الله سليمان قبل مجيئها.
﴿ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ ﴾ لم تقل إنه هو من قبيل الحرص، لأنها رأته بعينها ولكن كانت الغرابة في أنه جاء قبلها فتساءلت في ذات نفسها، كيف جاء، وبأي طريق وصل، هذا هو الذي تحترس من أن تقول هو هو بل قالت كأنه، وقال سليمان مؤكدا أنه هو :﴿ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهَا ﴾ أي أوتينا العلم به المستقين المحسوس من قبل مجيئها، وقد يعلل بهذا من قال :"إنها صورة العرش لا ذاته" وما كان لنا أن نترك الظاهر الذي يبين اليقين بعبارة موهمة غير قاطعة ثم قال : سليمان :﴿ وَكُنَّا مُسْلِمِينَ ﴾ أي مذعنين للحق ببيناته.
وإن هذه الأحوال كلها خوارق للعادات مثبتة نبوة سليمان، وفي الحق أن سلطان سليمان قد قام كله على خوارق للعادات، وكان الزمن زمن المادة والأسباب، والمسببات، فكان هذا الملك قرعا لأسماع الماديين المتعلقين بالأسباب والمسببات العادية، ويحسبون مخطئين أنها قانون الوجود.
﴿ وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَافِرِينَ ( ٤٣ ) ﴾.
وهنا نجد كتاب الله تعالى الذي ينصف في كل أحكامه، لا تجد فيه عوجا ولا أمتا، فالله سبحانه يبين على لسان نبيه الملك أنه صدها عن سبيل الله ما كانت تعبده من دون الله تعالى من الشمس التي هي من خلق الله تعالى الدالة على كمال قدرته سبحانه، وقال :﴿ إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَافِرِينَ ﴾ وهذه الجملة السامية في مقام التعليل : الشيطان يصدها عن السبيل القويم أي أنها كانت في بيئة كفر، لأن قومها وأجدادها قد توارثوا الكفر، فكانوا أبعد الناس عن إيمان، فمرنت على الكفر، واعتنقته، وعبدت ما يعبدون من دون الله.
﴿ قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( ٤٤ ) ﴾.
الصرح، القصر العالي المزخرف، ودخلت الصرح، فدخلت صحنه، وهو ممرد أي مملس ملمسه ناعم وله بريق بسبب تمريده، وإزالة كل خشونة فيه حتى يحسبه الرائي لتنسيقه، وكأنه لجة من الماء، فحسبته ماء في صحن الصرح وخشيت على ثيابها المزخرفة فرفعتها، وكشفت عن سياقها، فنبهها سليمان إلى أنه ليس بماء وإنما هو صرح ممرد من زجاج يبدو بادئ الرأي كأنه لجة ماء وما هو بماء، فقال لها : إنه صرح ممرد من قوارير، أي من زجاج تكون منه القوارير، وهي جمع قارورة.
أدركت السيدة بلقيس، وهي تروعها الزخارف كما تروع كل النساء، فكرت في ماضيها إذ كانت تعبد الشمس، وسليمان يعبد الله تعالى، وقد آتاه الله من النعم ما لا يمكن أن يكون لأحد غيره، فاهتزت، وعلمت أنها كانت على باطل.
وأنها ظلمت نفسها بما كانت عليه، قالت :﴿ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾، أقرت بأنها ظلمت نفسها بعبادتها الشمس، فالشرك ظلم للنفس وطمس للقلب، وأي طمس للعقل أكبر من أن يعبد الشمس. وهي مخلوقة لله تعالى، ويترك الخالق وهو الله سبحانه وتعالى ونادت الله تعالى بلفظ الرب إيمانا بالربوبية الكاملة. وأكدت ظلمها للنفس بإن الدالة على التأكيد، وجعل الظلم واقعا على نفسها، وإذا كانت قد علمت أن الشرك ظلم عظيم للنفس، فقد خلصت لله تعالى، ولذا قالت :﴿ وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾، أي سلمت نفسي مع سليمان لله رب العالمين، وذكر معيتها مع سليمان، لأنه هو الذي دعاها وأرشدها، وذكر الله تعالى موصوفا بأنه رب العالمين، أي الخالق القائم على العالمين بالتدبير الحكيم.
بعد ذكر قصة سليمان ملك الأنبياء، وكيف كانت حياته وملكه ونبواته معجزات متوالية، وكل شيء كان يجري بأمر خالد، ذكر سبحانه قصص بعض الأنبياء، وابتدأ من بعده بصالح، وهو صورة لنبي لم يكن ملكا بل كان من الشعب، همّ قومه أن يقتلوه.
وليس في قصة صالح وثمود تكرار، بل ذكر فيه ما لم يذكر في غير هذا الموضع، ولم يذكر فيه ما ذكر في غيره، لم تذكر المعجزة وهي الناقة، وما كان منهم من اعتداء عليها، وذكر هنا الائتمار على قتل صالح وامرأته، ولم ينجه منهم إلا إنزال العذاب بهم، وما ترك العذاب فيهم من عبر.
﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ ( ٤٥ ) ﴾.
الواو استئنافية أكد الله تعالى الإرسال حيث دعت دواعيه، وأكده باللام، وقد، وإضافة الإرسال إلى
ذاته العلية، وذكر سبحانه أن الإرسال كان بإرسال أخيهم أي أنه واحد منهم يعرف أمرهم وحالهم، وهو رءوف عليهم شفيق بهم قد عرفوا صدقه وأمانته وحبه لهم، وإلفهم به، وكانت الرسالة هي عبادة الله تعالى وحده، ولذا قال :﴿ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ ﴾ أن تبشير لمعنى الرسالة، وعبادة الله لا تتحقق إلا بأن تكون العبادة لله تعالى وحده، لا يشرك به شيئا، فإذا عبد مع الله غيره فقد أشرك ولم يعبد الله تعالى، لقد كانوا يعبدون الأوثان فلم يكونوا يعبدون الله فكان أمرهم بعبادة الله وحده متضمنا لنهيهم عن عبادة غيره من الأوثان وغيرها، وإن الشرك أمر تنكره العقول المستقيمة، وتعافه النفوس القويمة، ولذا كانت المفاجأة ألا يختلفوا في عبادة الله فمنهم من اهتدى ومنهم من حقت عليه الضلالة، ولذا قال تعالى :﴿ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ ﴾، الفاء وإذا للمفاجأة الفاء واقعة لترتيب ما بعدها على نقيض ما قبلها، ولذا كانت المفاجأة بها وبإذا بعدها، فريقان : فريق أطاع واهتدى، وفريق ضل وغوى، وهم يختصمون أي يختلفون ويكون كل فريق خصما للآخر يجادله لإثبات الحق والدعوة إلى الحق، ويستمسك الباقون على شركهم بما كان عليه آباؤهم.
وقد أنذر صالح الضالين بالعذاب الشديد، وأن الله تعالى آخذ بالنواصي، فقالوا كما في آيات أخرى : ائتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين، ولكنه يرجو لهم الهداية بدل العذاب.
الرهط الجماعة من الناس، والإضافة بيانية، والمعنى كان في المدينة التي كانت مبعث صالح تسعة رهط أي جماعة متحدة المشاعر والأحاسيس يجمعها العداوة للرسالة، والتآمر عليها، وهذه الجماعة من أوصافها أنها تفسد ولا تصلح، وقد كانت الرسالة الإلهية لإصلاح هؤلاء، ومنع لإفسادهم عن الجماعة، ولا يهمنا أكانوا من الكبراء أم كانوا من الأصغرين بيد أن عملهم يكشف عن فسادهم
وموضوع القسم ﴿ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ﴾ أي لنجيئنهما بياتا وهم نائمون، ويقتلونهم، ويهلكونهم، ويجيئون بيمين كاذبة يقولون ما شهدنا مهلك أهله وإنا لصادقون.
﴿ وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ( ٥٠ ) ﴾.
دبروا هذا التدبير الآثم وسماه الله تعالى مكرا، وقد أحكموا التدبير، وأحاطوه بما يضمن التنفيذ بإحكام، ولذا أكدوه بالمفعول المطلق مكرا، والله من ورائهم محيط، ولذا دبر لعبده، وسمى تدبيره الحكيم مكرا من قبيل المشاكلة اللفظية، ولأن المكر هو التدبير، ويكون في الخير والوقاية من الشر، كما يكون في تدبير السوء كما كان منهم، ومكر الله تعالى لإحباط تدبيرهم الخبيث، وهو القضاء على الفساد والمفسدين، وهم لا يشعرون أن الله محبط عملهم، ومبطل تدبيرهم وذلك بالقضاء عليهم قبل أن ينفذوا.
﴿ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ ( ٥١ ) ﴾.
الفاء للإفصاح، أي إذا كان الله قد دبر لرسوله كما دبروا آثمين، فانظر كيف كان عاقبة مكرهم، وأن ما أنزله الله تعالى من عذاب مدمر كان بسبب اعتزامهم قتل صالح وأهله، وما كان الله تعالى ليذر رسوله نهبا لهم يغتالونه، بل إنه سبحانه لهم بالمرصاد، قتلهم قبل أن يقتلوه، فجاءتهم الصيحة، فأصبحوا في دارهم جاثمين، ﴿ دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ ﴾، وصار الذين كانوا يهددون هم مساقط الأحجار، وموطئ المارين.
ولقد استغلظت قريش في معاملتها للمؤمنين الذين كانوا الخلية الأولى للإيمان، واستهانوا بهم، وحسبوا أنفسهم الأقوياء على الرسول، وهذا الذي فعله سبحانه مع ثمود آية لهم دالة على أن هلاكهم يسير إذا أراد الله، ولذا قال تعالى :﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴾، أي لآية دالة، ما يعقب الكفر والاعتداء لقوم يعقلون، وهذا دعوة لقريش ليعقلوا ويتدبروا عاقبة أمرهم.
كان ينتهي الجزء التاسع عشر عند قوله تعالى ﴿ فما كان جواب قومه ﴾، أي قوم لوط، وبها يبتدئ الجزء المتمم للعشرين، ولكنا آثرنا أن يبتدئ الجزء بقصة لوط.
بل للإضراب الانتقالي، وكأنه إضراب عن بيان أفعالهم، لأنه لا غرابة ممن شأنه أن يجهل ولا يتحرى الصواب في أفعاله، بل إنه حائر بائر، لا يفعل إلا ما يجهل، ولذا عبر بالمضارع المصور لحال الجهل الذي لا تصدر عنه أفعالهم إلا وهم يجهلون، وسجل سبحانه وتعالى عليهم أنهم لا يفعلون إلا ما هو مجهول عند أهل العقول السليمة، لأولا بالجملة الاسمية وبالخطاب المواجه المصور الموبخ، وبالتعبير بالمضارع الدال على تصوير الجهل المستمر الذي يدل على أن الجهل حال دائمة لا تنفصل عنهم.
وإن الباطل ينفر من الحق، ولا يستطيع أن يواجهه، ولذا اتجهوا إلى إخراج لوط ومن معه من الأطهار من بينهم.
الفاء للترتيب والتعقيب، أي أنه سبحانه قرر هلاكهم وقرر النجاة للوط وآله، فكان معقبا أو مقارنا لتقرير الهلاك، وهو أقرب من التعقيب، وإليك خبر الهلاك، وطلب النجاة فقد جاء في سورة هود من مخاطبة الملائكة للوط عليه السلام :﴿ قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ( ٨١ ) ﴾[ هود ]
أنجى الله تعالى لوطا وأهله بأن أمرهم بأن يسروا من البلد ليلا، واستثنى امرأته لأنها من الغابرين من الماضين، وظاهر أن ما كان منها هو الشرك، وعدم إنكارها لأفعالهم الخبيثة، فعدم الإنكار لجريمة بشعة معلنة قد جاهروا رضا بها، فهى معهم في الشرك أو الرضا، بتلك الفاحشة الفحشاء، ولذا قال قدرناها من الغابرين، أي عددناها منهم.
وقد بين سبحانه في آيات أخر أنه مطر حجارة لا مطر ماء، فقال في سورة هود :﴿ فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ ( ٨٢ ) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ ( ٨٣ ) ﴾.
هذه أقوام أشركت، وبين الله تعالى عاقبة إشراكها، إذ همت بالاعتداء على نبيها، ولم يكن له قبل بها، والآيات قائمة والأدلة معلمة، وقد ذكر سبحانه وتعالى بعض هذه الآيات.
﴿ أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاء مَاء فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ ( ٦٠ ) ﴾.
ذكر سبحانه وتعالى في الآية السابقة ﴿ اللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾، بالاستفهام، وهو نفي للمعادلة، وفي هذه الآية يوضح بطلان الموازنة بين خالق السموات والأرض، والموازن معه محذوف مع تقديره في القول، وحذف استهانة به مع ذكر مدلوله في الجملة، والمقصود الأول التعريف بالذات العلية جل جلاله، والمعنى أمّن خلق السموات والأرض، وأنزل لكم من السماء ماء خير أما تشركون، وذكرت النتيجة أءله مع الله.
وأم في قوله أمن خلق السموات منقطعة، فهي للإضراب الانتقالي، وهو يدل على التوبيخ والتبكيت، وفي قوله أم ما تشركون قراءة بالتاء وتكون للخطاب، وقراءة بالياء وتكون للغائب، والمعنى ظاهر في القراءتين، وهو آية أمن خلق السموات والأرض وأنزل من السماء ماء... كأنها تكون تبكيتا صريحا، بعد أن كان في الآية السابقة تبكيتا ضمنا، وتصريح بسبب العبادة وموجب الإذعان والخضوع، ومن مبتدأ، والإضراب الانتقالي فيه معنى الاستفهام، والمعنى ننتقل إلى أمر واضح : أمّن خلق السموات والأرض وأنزل من السماء ماء، خير أم ما تعبدونهم. وجاء بجملة تحل نفس المساواة في المعادلة فقال أءله مع الله.
وقال سبحانه : خلق السموات والأرض وأنزل من السماء ماء، فيه تعميم لبيان أن خالق الوجود كله : السموات والأرض وما فيها، ثم تخصيص النعم القريبة بالذكر، وهي التقاء السماء بما فيها والأرض بما فيها من خير للإنسان والحيوان. وتكلم عنها بالغيبة، لأن الإخبار، والإعلام به، وهو واضح بين ؛ لأن الخلق، وإنزال الماء إلى الأرض، وهو من التزاوج بين السماء والأرض، ولكن عند نبات الزرع والشجر، كان إسناد الإنبات إليه سبحانه، لكيلا يظن أحد أن ذلك الإنبات من الأخذ بالأسباب والمسببات، وأنه فعل طبائع الأشياء، وبين الله تعالى أن ذلك الإنبات منه، وهو فرق الأسباب والمسببات، سبحانه بديع السموات والأرض، والخالق لكل شيء على غير مثال سبق، وقال بعد ذلك سبحانه : أءله مع الله، أي يتساوى الخالق والمخلوق بل أدنى مخلوق، والله خير من أوثانهم، ودل على عدم التساوي بتوبيخهم على أن يجعلوا مع الله إلها آخر، مع هذا التفارق، وأنه لا يكون المخلوق كالخالق أبدا، ثم قال تعالى :﴿ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ ﴾ أي يعدلون عن حكم العقل، وحكم المنطق، والطريق المستقيم، وكان التعبير بالمضارع لتصوير عدولهم عن الحق إلى الباطل، ومن العقل إلى الهوى، ألا ساء ما يقولون، وما يفعلون.
وقوله بالنسبة لإنبات الحدائق فيه إشارتان بيانيتان.
الأولى : أنه عبر بالإنبات للأشجار مع أنه في آيات أخريات كان يضيف الإنبات إلى الزرع ويعبر عن خلق الأشجار، بقوله تعالى :﴿ فالق الحب والنوى ( ٩٥ ) ﴾ [ الأنعام ]، وذكر الإنبات هنا بالنسبة للحدائق ذات الأشجار الوارفة الظلال، لبيان عظيم قدرته في أنه ينبت هذه الدوحات والأشجار العظام، ويتعهد من حال النبات، حتي يصير فيحاء ذات بهجة وزينة، ويسر الناظرين مرآها، ويسر الناظرين ثمرها اليانع، وقطوفها الدانية.
الثانية : هي قوله تعالى :﴿ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا ﴾ كان هي كان الناقصة، ونفيها معناها نفي الكينونة، أي ليس في وجود ولا كيان، أن لكم، أي في قدرتهم، أن تنبتوا شجرها، إنما ينبتها العزيز الرحيم، والخلاق العظيم.
وإن الإضراب الانتقالي مؤداه أنه انتقال من لوم وتوبيخ إلى لون آخر فيه أشد تأنيبا، وأبعد استنكارا وكلمة ﴿ جعل الأرض ﴾، أي خلق الأرض، ومهدها تمهيدا، بحيث جعلها ذات قرار وإقامة، واستمكانا للأحياء يمكنون فيها ويتخذون مساكن، من البناء أو الأخبية، وجعل من خلالها أنهارا أي في أوساطها وأجزاء منها أنهارا مياها عذبة تكون ذات مناظر بهيجة، وتلطف حرارتها، وترطبها، وتذهب بجفافها، وتكون منها المياه العذبة، منها إنبات الزرع وفلق الحب والنوى، والكلأ الذي يأكل الذي يأكل منه الحيوان، وتتغذون به، وتكون منه إبلكم التي فيها جمال حتى تريحون، وحين تسرحون.
﴿ وجعل لها رواسي ﴾ أي جبالا رواسي ثابتة تثبت الأرض، وهي لها كالأوتاد، وتنحتون فيها بيوتا، ويكون فيها مزارع وأشجار ونخيل، بل غابات تحمي الأنفس، كما نرى في جبال الجزائر وجبال الشامات، وفيها جبال جرد وغرابيب سود، أي أن فيها متعة ومنعة، وقوة بأس.
وما في الأرض اجتماع المياه العذبة والمياه التي فيها ملح أجاج، وتجاوزهما من غير أن يختلط أحدهما بالآخر، بل يكون العذب الفرات بجوار الملح الأجاج، ومع تجاورهما لا يختلطان كأن بينهما بقدرة الله القادر القهار، حاجزا يحجز أحدهما ذا الثقل وهو الملح عن الأخر الخفيف، ولذا قال تعالى :﴿ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا ﴾ أي جعل بين بحر العذب الفرات والبحر الأجاج حاجزا ربانيا لا يجعل أحدهما يختلط بالآخر، كما قال تعالى :﴿ مرج البحرين يلتقيان ( ١٩ ) بينهما برزخ لا يبغيان ( ٢٠ ) ﴾ [ الرحمن ].
هل يستوي خالق هذا، ومبدع الأرض ذلك الإبداع مع أوثان لا تضر ولا تنفع، ولذا قال تعالى نافيا عنها الألوهية ﴿ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ ﴾ الاستفهام إنكاري لإنكار الوقوع، والمعنى لا إله مع الله، بل هم قوم لا يعلمون، ومن للإضراب الانتقالي وهم لا يعلمون، أي لا علم لهم، ويتجدد جهلهم بتجدد أفعالهم أفعالهم، ولذلك كان التعبير بالمضارع الدال على التصوير، وتجدد الفعل بتجدد أفعالهم وإنكارهم.
وإنه مع أن البعث جاء لا محالة تكفل سبحانه وتعالى، برزقهم في الفترة التي يعيشونها، فرحمة الله سابغة دائما، ولذا قال تعالى :﴿ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالْأَرْضِ ﴾ أي يرزقكم من السماء بنجومها المسخرات التي تهديكم في ظلمات البر والبحر، والشمس بأشعتها الواقية والهادية، والقمر بنوره الذي ينير لكم في جوف الليل البهيم، والمطر الذي ينزل من السحاب فنحيي الأرض، ويرزقكم من الأرض بمعدنها وأفلاذها، ونباتها، وحدائقها ذات البهجة والجمال.
لا يستوي الله الخالق المبدع مع الأوثان، ثم قال تعالى :﴿ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ ﴾ أي لا إله مع الله، وقد انتقل القرآن من بيان ما يوجب عبادة الله تعالى إلى مطالبتهم بأن يأتوا بدليل يسوغ عبادة الأوثان، آمرا نبيه بأن يطالبهم بدليل يسوغ حالهم التي هم فيها من عبادة غيره. ﴿ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾ البرهان هو الدليل العقلي المنطقي، أي هاتوا دليلا فعليا منطقيا يسوغ لكم عبادتها إن كنتم صادقين في استحقاقهم للعبادة.
طالبهم القرآن الكريم بالبرهان العقلي، ولكنهم لا يمكن أن يأتوا به، لأنه لا يمكن أن يكون هناك ثمة دليل علمي منطقي يسوغ عبادة أحجار لا تملك نفعا، ولا ضررا، وهي في ذاتها أقل في وجودها ممن يعبدونها، ولكنه ضلال الأوهام.
يروي في ذلك أنه دخل على الحجاج بن يوسف الثقفي منجم فاعتقله، فأخذ حصوات فعدها، ثم قال : كم في يدي من حصاة، فحسب المنجم، ثم قال : كذا، فأصاب، ثم اعتقله فأخذ حصوات لم يعدهن ثم قال : كم في يدي، فحسب وأخطأ، ثم قال أيها الأمير أظنك لا تعرف عددها، وقال : لا، قال فإني لا أجيد العد. قال فما الفرق ؟ قال إن ذلك أحصيته فخرج عن حد الغيب، وهذا لم تحصه فهو غيب، ولا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله.
ولقد أخرج مسلم عن عائشة أنها قالت :"من زعم أن محمدا يعلم ما في غد، فقد أعظم الفرية على الله تعالى، يقول ﴿ قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ ﴾.
أولهما أن تلاحق العلم في الدنيا، فقد تلاحقت الأدلة على إمكان البعث، والحياة في الآخرة مثل قوله تعالى ﴿.. كما بدأكم تعودون ( ٢٩ ) ﴾ [ الأعراف ]، وقوله تعالى :﴿.. مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ( ٧٨ ) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ.. ( ٧٩ ) ﴾ [ يس ] وقوله تعالى :﴿ قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا ( ٥٠ ) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ.. ( ٥١ ) ﴾ [ الإسراء ]. وهكذا كثير من الآيات الكريمات التي تبين قرب العودة، وأنها غير مستحيلة، بل إنها واجبة ؛ لأن الله ما خلق الإنسانية عبثا، كما قال تعالى :﴿ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ ( ١١٥ ) ﴾ [ المؤمنون ] إنها واجبة.
التخريج الثاني أن يكون ذلك العلم المتدارك المتلاحق في الآخرة، إذ يكون الحس بالبعث، ويكون الحساب والثواب والعقاب، وتشهد عليهم ألسنتهم وسائر جوارحهم، ويكون العلم اليقيني في الآخرة، ويرشح لهذا قوله تعالى في الآخرة لأنه يفيد أن ذلك التلاحق العلمي في الآخرة.
وبل للإضراب الانتقالي، وهو الانتقال من موضوع إلى موضوع، أو الانتقال من عدم الشعور بالبعث إلى علم به علم اليقين، وبل الثانية للإضراب الانتقالي، وهو الانتقال من العلم المتلاحق الذي سيكون الآن أو من الآن إلا أنهم في حال شك من الإيمان، لا اليقين، ولذا قال تعالى :﴿ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّنْهَا ﴾، أي أنه مع هذا العلم المتوافر المتثبت لليقين بالبعث كانوا في شك منه، وقد أكد سبحانه الشك في قوله :﴿ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّنْهَا ﴾ وكان التوكيد ببل المفيدة للإضراب، وبالضمير، وبأن الشك أحاط بهم كما تحيط الدائرة بقطرها، فهم سيغرقون فيه لا يخرجون عنه، ولا يتركونه إلى يقين أيضا، والضمير يعود إلى الآخرة التي يرتابون فيها ﴿ بَلْ هُم مِّنْهَا عَمِونَ ﴾ جمع عم أي أنهم عمي عن الآخرة، أي أنها واقعة لا ريب، ولكنهم عمون عن حقائقها، وما يكون فيها، فالحقائق ثابتة بأدلتها السمعية والنقلية، ولكنهم عمون عنها غافلون، وليس العيب في حقائق يوم القيامة، إنما العيب في عماهم عنها.
وتقدم الجار والمجرور لمعنى الاختصاص، أي أنهم عمون عن الحياة الآخرة وليسوا عمين عن غيرها، وهي أعراض الدنيا، وما فيها من لهو ولعب، وملاذ، وشهوات، وأكد الحكم بالإضراب وبالضمير، وبالجملة الاسمية.
وقوله تعالى :﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ كان الإظهار في موضع الإضمار، فلم يقل وقالوا ؛ وذلك لأن الصلة وهي الجحود والكفر هما الإنكار، واستغراق المادة لهم، حتى إنهم لا يفكرون قط في أمر معنوي، ولا أمر غيبي فقد استغرقتهم المادة حتى صاروا لا يؤمنون إلا بها.
وهكذا يشتطون في القول حتى ليصلوا إلى اتهام إبراهيم مناط شرفهم وعزتهم بأنه يأتي بأساطير.
﴿ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ ( ٦٩ ) ﴾.
الأمر للنبي صلى الله عليه وسلم، وهو أمر للتذكير بالعذاب الذي نزل بإخوانهم، وقريب منهم آثار عاد وثمود وأصحاب الأيكة، وقوم لوط وغيرهم.
والسير في أراضي هؤلاء للاعتبار والعظة، والعلم بما أنزله الله تعالى بهم، ولذا قال تعالى :﴿ فانظروا ﴾ نظرات عظة واعتبار ومعرفة بأنه سينزل بهم مثل ما نزل بهؤلاء لأنه إذا تساوت الأسباب فالنتيجة واحدة.
وقوله ﴿ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ ﴾، الفاء عاطفة للترتيب والتعقيب أي أن نتيجة السير أن تنظر نظرات اعتبار إلى عاقبة المجرمين، وما آل إليه أمرهم بعد أن طغوا في البلاد، وأكثروا فيها الفساد، وعبر بالمجرمين لبيان آثار إجرامهم في الأرض ونهايته، ولبيان أن المؤمنين مهما يكونون ضعفاء لا يمكن أن يكونوا مجرمين.
إذا كانوا يسيرون في الأرض ليريهم عاقبة المجرمين فذلك إعلام لهم بأنهم مثلهم وسينزل بهم مثل ما نزل بغيرهم، ولأنهم ضالون مثلهم، ولا شك أن ذلك يحزن النبي صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى :﴿ لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ( ٣ ) ﴾ [ الشعراء ] ؛ ولذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم، إذ هم قومه وعشراؤه، إذ قال تعالى :﴿ ولا تحزن عليهم ﴾ قيل أي لا تحزن، على كونهم، وإني أرى أن الحزن عليهم هم لأنهم قومه، وقد قال :﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ( ١٢٨ ) ﴾ [ التوبة ].
﴿ وَلَا تَكُن فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ ﴾ الضيق الحرج الشديد، ومما يمكرون أي يدبر التدبير الخبيث من إيذاء المؤمنين والاستهزاء بالنبي صلى الله عليه وسلم، وتدبير المكائد من مثل مقاطعتهم للنبي صلى الله عليه وسلم، وعزل المؤمنين الموالين لمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم في شعب قريش ونحو ذلك، وهذا كقوله تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ.. ( ٦٧ ) ﴾ [ المائدة ]. إن الله عاصمك مهما تمالئوا عليك.
﴿ قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ ( ٧٢ ) ﴾.
أي قل لهم يا محمد : لا تستعجلوا العذاب، وعسى أن يكون ردف لكم، أي دنا منكم، وصار ردفا لكم قريبا منكم بعض الذي تستعجلون. وذكر بعض الذي يستعجلونه دون العذاب الساحق الماحق، كما كان لعاد وثمود وأصحاب الأيكة ؛ لأن الله تعالى يتولى تأديبهم في الحياة الدنيا، بالغزوات المؤدبة لهم كغزوة بدر، والخندق، والحديبية وفتح مكة، لأنه سبحانه يريد أن يجعل من ذريتهم من يعبد الله ويجاهد في سبيله كما كان خالد بن الوليد، وعكرمة بن أبي جهل وغيرهما.
والتعبير بعسى، ولعل، ونحو ذلك من العبارات يراد به توكيد الوقوع كما تجري عبارات الرؤساء والأقوياء، وأهل السلطان
﴿ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ ( ٧٣ ) ﴾.
أي أن نزول بعض ما يستعجلون هو من فضل الله على الناس من المشركين من أهل مكة، ورحمة بهم ليكون في لاحقهم إن تعذر أن يكون في بعض حاضرهم، ولكن أكثر الناس لا يشكرون تلك النعمة المزجاة إليهم، ولا يعرفون حقها، والله من ورائهم محيط