تفسير سورة الأحقاف

اللباب
تفسير سورة سورة الأحقاف من كتاب اللباب في علوم الكتاب المعروف بـاللباب .
لمؤلفه ابن عادل الحنبلي . المتوفي سنة 775 هـ
سورة الأحقاف
مكية١، وهي خمس٢ وثلاثون آية، وستمائة وأربع وأربعون كلمة وألفان وخمسمائة وخمسة وتسعون حرفا.
١ في قول الجميع..
٢ وقيل أربع. انظر القرطبي ١٦/١٧٨..

مكية، خمس وثلاثون آية، وستمائة وأربع وأربعون كلمة وألفان وخمسمائة وخمسة وتسعون حرفا. بسم الله الرحمن الرحيم لى: ﴿حم تَنزِيلُ الكتاب مِنَ الله العزيز الحكيم مَا خَلَقْنَا السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بالحق وَأَجَلٍ مُّسَمًى﴾ تقدم الكلام على نظير ذلك. والمراد ههنا بالأجل المسمى يوم القيامة، وهو الأجل الذين ينتهي إليه السموات والأرض وهو إشارة إلى قيامها.
قوله: ﴿والذين كَفَرُواْ عَمَّآ أُنذِرُواْ﴾ يجوز أن تكون «ما» مصدرية أي عن إنذارهم أو بمعنى الذي أي عن الذي أُنذِرُوهُ و «عن» متعلقة بالإعراض و «مُعْرِضُون» خبر
377
قوله: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ﴾ حكم «أرأيتم». ووقع بعد هذه «أََرُونِي» فاحتلمت وجين:
أحدهما: أن تكون توكيداً لها، ولأنهما بمعنى أخبروني، وعلى هذا يكون المفعول الثاني (لأَرَأَيْتُمْ) قوله «مَاذَا خَلَقُوا» إلا أنه استفهام، والمفعول الأول هو قوله: «مَا تَدْعُونَ».
الوجه الثاني: أن لا تكون مؤكدة لها وعلى هذا تكون المسألة من باب التنازع، لأن «أَرأَيْتُمْ) يطلب ثانياً و» أروني «كذلك، وقوله:» مَاذَا خَلَقُوا: هو المُتَنَازَعُ فيه، وتكون المسألة من إعمال الثاني، والحذف من الأول.
وجوز ابن عطية في «أَرأَيْتُم» أن لا يتعدى، وجعل «مَا تَدْعُونَ» استفهاماً معناه التوبيخ. وقال: «وتدعون» معناه تبعدون. وهذا رأي الأخفش، وقد قال بذلك في قوله: ﴿َأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَآ إِلَى الصخرة﴾ [الكهف: ٦٣] وقد تقدم.
قوله: «مِن الأَرْضِ» هذا بيان للإبهام الذين في قوله: «مَاذَا خَلَقُوا».
قوله: «أَمْ لَهُمْ» هذه «أم» المنقطعة، والشِّرْكُ المُشَارَكَةُ، وقوله: «مِنْ قَبْلِ هَذَا» صفة لِكِتَابٍ أي بكتاب منزل من قبلِ هذا، كذا قدرها أبو البقاء، والأحسن أن يقدر كون مطلق أي كائن من قبل هذا.
قوله: «أَوْ أَثَارةٍ» العامة على أَثارة، وهي مصدر على فَعَالةٍ، كالسَّمَاحَةِ، والغَوايَةِ والظَّلاَلَةِ ومعناها البقية من قولهم: سمنت الناقة على أثارةٍ من لَحْم إذَا كانت سَمِينةً، ثم هزِلَتُ، وبقي بقية من شَحْمِهَا ثم سمنت. والأثارة غلب استعمالها في بقية الشرف، يقال: لِفُلانٍ أثارةٌ أي بقية شرف، وتستعمل في غير ذلك قال الراعي:
٤٤٤٩ - وََذَاتِ أَثَارَةٍ أَكَلَت عَلَيْهَا نَبَاتاً في أكَِمَّتِهِ قَفَاراً
وقيل: اشتقاقها من أثر كذا أي أسْنَدَهُ. ومنه قوله عمر: «ما خَلَّفْت به ذَاكِراً وَلاَ
378
آثِراً» أي مسنداً له عن غيري. وقال الأعشى:
٤٤٥٠ - إنَّ الَّذِي فِيهِ تَمَارَيْتُمَا بُيِّنَ لِلسَّامِعِ وَالآثِرِ
وقيل: فيها غير ذلك. وقرأ عَلِيٌّ وابن عَبَّاسٍ وزيدُ بنُ عَلِيٍّ وعكرمةُ في آخرين: أَثَرَةٍ دون ألف. وهي الواحدة وتجمع على أَثَر، كقَتَرَةٍ، وقَتَرٍ. وقرأ الكسائي: أُثْرَةٍ، وإِثْرَة بضم الهمزة وكسرها مع سكون الثاء. وقتادة والسُّلَميّ بالفتح والسكون.
والمعنى بما يُؤْثَرُ ويُرْوَى، أي ائتوني بخبر واحد يشضهد بصحة قولكم. وهذا على سبيل التنزيل للعلم بكذب المدعي. و «مِن عِلْمٍ» صفةٌ لأَثَارَةٍ.

فصل


قال أبو عُبَيْدَة والفَرَّاءُ والزَّجَّاجُ أثارة من علم أي بقية. قال المبرد أثارة ما يؤثر منْ عِلم كقولك: هذا الحديثُ يُؤْثَر عَنْ فُلاَنٍ، ومن هذا المعنى سيمت الأخبار والآثار، يقالً: جَاءَ في الأثر كَذَا وكَذَا. قال الواحدي: وكلام أهل اللغة في هذا الحرف يدور على ثلاثة أقوال:
الأول: الأثارة واشقاقها من أثرت الشيءَ أُثِيرُه إِثَارةً، كأنها بقية تستخرج فتُثَارُ.
والثاني: من الأثر الذي هو الرواية.
والثالث: من الأَثَرِ بمعنى العلامة.
379
قال الكلبي في تفسير الأثارة: أي بقية من علم يؤثر عن الأولين أي يسند إليهم. وقال مجاهد وعكرمة ومقاتل: رواية عن الأنبياء. وقال مجاهد: خاصة من علم. قال ابن الخطيب: وههنا قول آخر في تفسير (قوله) تعالى: ﴿أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ﴾ هو علم الخط الذي يخط في الرمل والعرب كانوا يخطونه وهو علم مشهور. وعن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه قال: «كَانَ نَبِيُّ مِنَ الأَنْبِيَاءِ يَخُطُّ فَمَنْ وَافَقَ خًطُّه خَطَّهُ عَلِمَ عِلْمَهُ» فعلى هذا الوجه معنى الآية ائتوني بعلم من قبل هذا الخط الذي تخطونه في الرمل على صحة مذهبكم في عبادة الأصنام. فإ، صحّ تفسير الآية بهذا الوجه كان ذلك من بَابِ التَّهَكُّم بهم وأقوالهم ودلائلهم.
قوله: «وَمَنْ أَضَلُّ» مبتدأ وخبر. وقوله «مَنْ لاَ يَسْتَجِيبُ» من نكرة موصوفة أو موصولة، وهي مفعولة بقوله: «يَدْعُو».
قوله: ﴿وَهُمْ عَن دُعَآئِهِمْ﴾ يجوز أن يكون الضَّمِيرانِ عائدين على مَنْ في قوله: ﴿مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ﴾ وهم الأصنام ويوقع عليهم من معاملتهم إياها معالمة العقلاء ولأنه أراد جميع مَنْ عُبِدَ مِنْ دُونِ الله وغلب العقلاء، ويكون قد راعى معنى «من» فلذلك جمع في قوله: «وهم» بعدما راعى لفظها فأفرد في قوله: «وَيَسْتَجِيبُ» وقيل: يعود على «مَنْ» في قوله: «ومَنْ أَضَلّ» وحُمِلَ أولاً على لفظها، فأفرد في قوله: «يَدْعُو»، وثانياً على معناها فجمع في قوله: ﴿وَهُمْ عَن دُعَآئِهِمْ غَافِلُونَ﴾.

فصل


«ومن أضلّ» استفهام على سبيل الإنكار والمعنى لا أحد أبعد عن الحق وأقرب إلى الجهل ممن يدعو من دون الله الأصنام، فيتخذها آلهة ويعبدها، وهي إذا دُعِيَتْ لا تسمع، ولا تجيب لا في لحال ولا في المآل إلى يوم القيامة. وإنما جعل ذلك غاية، لأن يوم القيامة قد قيل: إنه تعالى يحييها، ويخاطب منْ يعبدها، فلذلك جعله الله تعالى حدًّا وإذا قامت القيامة وحشر الناس فهذه الأصنام تُعَادِي هَؤُلاَءِ العابدين.
واختلفوا فيه فالأكثرون على أنه تعالى يُحْيِي هذه الأصنام يوم القيامة فتتبرأ من عبادتهم. وقيل: المراد عبدة الملائكة وعيسى، فإنهم في يوم القيامة ينظهرون عبادة هؤلاء العابدين وهو المراد بقوله: ﴿وَإِذَا حُشِرَ الناس كَانُواْ لَهُمْ أَعْدَآءً وَكَانُواْ بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ﴾ أي جاحدين كقوله: ﴿تَبَرَّأْنَآ إِلَيْكَ مَا كانوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ﴾ [القصص: ٦٣].
380
قوله تعالى: ﴿وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الذين كَفَرُواْ لِلْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ﴾ هنا أقام ظاهرين مقام مضمرين، إذ الأصل قالوا لها أي للآيات ولكنه أبرزهما ظاهرين لأجل الوصفين المذكورين. واللام في للحق للصلة.

فصل


لما تكلم في تقرير التوحيد، ونَفْي الأضداد، والأنداد تكلم في النبوّة وبين أن محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كلما عرض عليهم نوعاً من أنواع المعجزات قالوا: هذا سحر أي يسمون القرآن سحراً.
قوله تعالى: ﴿أَمْ يَقُولُونَ افتراه﴾ أم للإنكار والتعجب كأنه قيل: دع هذا واسمع القول المنكر العجيب ثم بين بطلان شبهتهم فقال: «قل» يا محمدج «إِن افْتَرَيْتُهُ» على سبيل الفرض، فإن الله يعاملني بعقوبة بُطْلاَن ذلك لافتراء، وأنتم لا تقدرون على دفعه فكيف أقدر على هذه الفِرْيَةِ؟ يعني لعقابه، وهو المراد بقوله: ﴿فَلاَ تَمْلِكُونَ لِي مِنَ الله شَيْئاً﴾ أي لاَ تَقْدِرُونَ أن تردوا عني عذابه، وإن عذبني الله على افْترائِي، فكيف أفتري على الله من أجلكم؟! ونظيره: ﴿فَمَن يَمْلِكُ مِنَ الله شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ المسيح ابن مَرْيَمَ﴾ [المائدة: ١٧] ﴿وَمَن يُرِدِ الله فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ الله شَيْئاً﴾ [المائدة: ٤١]. ثم قال: ﴿هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ﴾ أي الله أعلم بما يخوضون فيه من التكذيب بالقرآن، والقول فيه بأنه سحر. ﴿كفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ﴾ أي القرآن جاء من عنده فيشهد لي بالصدق ويشهد لكم بالكذب ﴿وَهُوَ الغفور الرحيم﴾ لمن رجع عن الكفر وتاب. قال الزجاج: هذا دعاء إلى التوبة، ومعناه غفور لمن تاب منكم رحيمٌ به.
381
قوله :﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ ﴾ حكم «أرأيتم »١. ووقع بعد هذه «أََرُونِي » فاحتلمت وجهين :
أحدهما : أن تكون توكيداً لها، ولأنهما بمعنى أخبروني، وعلى هذا يكون المفعول الثاني ( لأَرَأَيْتُمْ ) قوله «مَاذَا خَلَقُوا » إلا أنه استفهام، والمفعول الأول هو قوله :«مَا تَدْعُونَ ».
الوجه الثاني : أن لا تكون مؤكدة لها وعلى هذا تكون المسألة من باب التنازع، لأن ( أَرأَيْتُمْ ) يطلب ثانياً و «أروني » كذلك، وقوله :«مَاذَا خَلَقُوا » : هو المُتَنَازَعُ فيه، وتكون المسألة من إعمال الثاني، والحذف من الأول٢.
وجوز ابن عطية في «أَرأَيْتُم » أن لا يتعدى، وجعل «مَا تَدْعُونَ » استفهاماً معناه التوبيخ. وقال :«وتدعون » معناه٣ تبعدون. وهذا رأي الأخفش، وقد قال بذلك في قوله :﴿ قال أرأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَآ إِلَى الصخرة ﴾ [ الكهف : ٦٣ ] وقد تقدم.
قوله :«مِن الأَرْضِ » هذا بيان للإبهام الذين في قوله :«مَاذَا خَلَقُوا ».
قوله :«أَمْ لَهُمْ » هذه «أم » المنقطعة، والشِّرْكُ المُشَارَكَةُ، وقوله :«مِنْ قَبْلِ هَذَا » صفة لِكِتَابٍ أي بكتاب منزل من قبلِ هذا، كذا قدرها أبو البقاء٤، والأحسن أن يقدر كون مطلق أي كائن من قبل هذا.
قوله :«أَوْ أَثَارةٍ » العامة على أَثارة، وهي مصدر على فَعَالةٍ، كالسَّمَاحَةِ، والغَوايَةِ والضلالة ومعناها البقية من قولهم : سمنت الناقة على أثارةٍ من لَحْم إذَا كانت سَمِينةً، ثم هزِلَتُ، وبقي بقية من شَحْمِهَا ثم سمنت. والأثارة غلب استعمالها في بقية الشرف، يقال : لِفُلانٍ أثارةٌ أي بقية شرف، وتستعمل في غير ذلك٥ قال الراعي :
٤٤٤٩ وََذَاتِ أَثَارَةٍ أَكَلَت عَلَيْهَا نَباتاً في أكَِمَّتِهِ قَفَاراً٦
وقيل : اشتقاقها من أثر كذا أي أسْنَدَهُ. ومنه قوله عمر :«ما خَلَّفْت به ذَاكِراً وَلاَ آثِراً »٧ أي مسنداً له عن غيري. وقال الأعشى :
٤٤٥٠ إنَّ الَّذِي فِيهِ تَمَارَيْتُمَا بُيِّنَ لِلسَّامِعِ وَالآثِرِ٨
وقيل : فيها غير ذلك. وقرأ عَلِيٌّ وابن عَبَّاسٍ وزيدُ بنُ عَلِيٍّ وعكرمةُ في آخرين : أَثَرَةٍ دون ألف٩. وهي الواحدة وتجمع على أَثَر، كقَتَرَةٍ، وقَتَرٍ. وقرأ الكسائي : أُثْرَةٍ، وإِثْرَة بضم الهمزة وكسرها مع سكون الثاء١٠. وقتادة والسُّلَميّ بالفتح والسكون١١.
والمعنى بما يُؤْثَرُ ويُرْوَى، أي ائتوني بخبر واحد يشهد بصحة قولكم. وهذا على سبيل التنزيل للعلم بكذب المدعي١٢. و«مِن عِلْمٍ » صفةٌ لأَثَارَةٍ.

فصل


قال أبو عُبَيْدَة١٣ والفَرَّاءُ١٤ والزَّجَّاجُ١٥ أثارة من علم أي بقية. قال المبرد أثارة ما يؤثر منْ عِلم كقولك : هذا الحديثُ يُؤْثَر عَنْ فُلاَنٍ، ومن هذا المعنى سيمت١٦ الأخبار والآثار، يقالً : جَاءَ في الأثر كَذَا وكَذَا. قال الواحدي : وكلام أهل اللغة في هذا الحرف يدور على ثلاثة أقوال :
الأول : الأثارة١٧ واشتقاقها من أثرت الشيءَ أُثِيرُه إِثَارةً، كأنها بقية تستخرج فتُثَارُ.
والثاني : من الأثر الذي هو الرواية.
والثالث : من الأَثَرِ بمعنى العلامة١٨.
قال الكلبي في تفسير الأثارة : أي بقية من علم يؤثر عن الأولين أي١٩ يسند إليهم. وقال مجاهد وعكرمة ومقاتل : رواية عن الأنبياء. وقال مجاهد : خاصة من علم. قال ابن الخطيب : وههنا قول آخر في تفسير ( قوله٢٠ ) تعالى :﴿ أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ ﴾ هو علم الخط الذي يخط في الرمل والعرب كانوا يخطونه وهو علم مشهور. وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :«كَانَ نَبِيُّ مِنَ الأَنْبِيَاءِ يَخُطُّ فَمَنْ وَافَقَ خًطُّه خَطَّهُ عَلِمَ عِلْمَهُ » فعلى هذا الوجه معنى الآية ائتوني بعلم من قبل هذا الخط الذي تخطونه في الرمل على صحة مذهبكم في عبادة الأصنام. فإن صحّ تفسير الآية بهذا الوجه كان ذلك من بَابِ التَّهَكُّم بهم وأقوالهم ودلائلهم٢١.
١ من أن معناه الإخبار أي أخبروني عن الذين تدعون من دون الله وهي الأصنام..
٢ على رأي غير البصريين وهم الكوفيون لسبقه. وانظر البحر المحيط ٨/٥٤ و٥٥..
٣ البحر المحيط السابق..
٤ التبيان ١١٥٤..
٥ كالعلامة وبقية العلم أو شيء مأثور من كتب الأولين انظر اللسان أثر ٢٤/٢٥ و٢٦ ومعاني القرآن للزجاج ٤/٤٣٨ والبحر المحيط ٨/٥٥ وغريب القرآن ٤٠٧ ومجاز القرآن ٢/٢١٢..
٦ البيت للراعي كما في مجاز القرآن ٢/٢١٣، ونسبه صاحب اللسان إلى الشماخ، ولم أجده بديوانه ولكنه في ديوان الراعي ٣٤٢ وهو من الوافر. والشاهد: وذات أثارة أي بقية من لحم، والبيت في الديوان ٣٤٢، بلفظ عليه، وفي البحر علينا. وانظر البحر ٨/٥٥، والمجاز ٢/٢١٢، والقرطبي ١٦/١٨٢ واللسان أثر والطبري ٢٦/٣..
٧ في اللسان: والاستئثار الانفراد بالشيء، ومنه حديث عمر: فوالله ما أستأثر بها عليكم ولا آخذها دونكم، وفي حديثه الآخر لما ذر له عثمان للخلافة قال: أخشى حفده وأثرته، أي إيثاره. اللسان أثر ٢٦..
٨ هو له من الرجز وشاهده كالحديث السابق لعمر والبيت روايته هكذا في اللسان والبحر والقرطبي ولم أجده بتلك الرواية في ديوانه ٩٢، ٩٣ وإنما برواية:
ليأتينه منطق سائر مستوسق للمسمع الآثر
من قصيدة يمدح فيها عامر بن الطفيل ويهجو فيها علقمة بن علاثة انظر الديوان ٩٤، والبحر ٨/٥٥ والقرطبي ١٦/١٨٢ واللسان أثر ٢٥..

٩ قراءة شاذة غير متواترة انظر الكشاف ٣/٥١٥ والقرطبي ١٦/١٨٢ ونسبها إلى السلمي وأبي رجاء والحسن..
١٠ الكشاف ٣/٥١٥ والقرطبي السابق..
١١ الكشاف وهي قراءة أخرى للسلمي مع آخرين. انظر البحر ٨/٥٥ وكلها شاذة وإن كانت جائزة لغة..
١٢ البحر المحيط ٨/٥٥..
١٣ مجاز القرآن ٢/٢١٢..
١٤ معاني القرآن له ٢/٥٠..
١٥ معاني القرآن له أيضا ٤/٤٣٨ وهو أحد أقواله في هذا..
١٦ في الرازي ٢٨/٤ سميت الأخبار بالآثار..
١٧ في الرازي البقية بدل الأثارة..
١٨ الرازي المرجع السابق..
١٩ ذكرها القرطبي في الجامع ١٦/١٨٢..
٢٠ سقط من أ الأصل..
٢١ قاله في تفسيره ٢٨/٤ و٥..
قوله :﴿ وَمَنْ أَضَلُّ ﴾ مبتدأ وخبر. وقوله ﴿ مَنْ لاَ يَسْتَجِيبُ ﴾ من نكرة موصوفة أو موصولة، وهي مفعولة بقوله :«يَدْعُو ».
قوله :﴿ وَهُمْ عَن دُعَآئِهِمْ ﴾ يجوز أن يكون الضَّمِيرانِ عائدين على مَنْ١ في قوله :﴿ مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ ﴾ وهم الأصنام ويوقع عليهم من معاملتهم إياها معاملة العقلاء ولأنه أراد جميع مَنْ عُبِدَ مِنْ دُونِ الله وغلب العقلاء، ويكون قد راعى معنى «من » فلذلك جمع في قوله :«وهم » بعدما راعى لفظها فأفرد في قوله :«وَيَسْتَجِيبُ » وقيل : يعود على «مَنْ » في قوله «ومَنْ أَضَلّ » وحُمِلَ أولاً على لفظها، فأفرد في قوله «يَدْعُو »، وثانياً على معناها فجمع في قوله :﴿ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ ﴾٢.

فصل٣


«ومن أضلّ » استفهام على سبيل الإنكار والمعنى لا أحد أبعد عن الحق وأقرب إلى الجهل ممن يدعو من دون الله الأصنام، فيتخذها آلهة ويعبدها، وهي إذا دُعِيَتْ لا تسمع، ولا تجيب لا في الحال ولا في المآل إلى يوم القيامة. وإنما جعل ذلك غاية، لأن يوم القيامة قد قيل : إنه تعالى يحييها، ويخاطب منْ يعبدها، فلذلك جعله الله تعالى حدًّا وإذا قامت القيامة وحشر الناس فهذه الأصنام تُعَادِي هَؤُلاَءِ العابدين٤. واختلفوا فيه فالأكثرون على أنه تعالى يُحْيِي هذه الأصنام يوم القيامة فتتبرأ من عبادتهم. وقيل : المراد عبدة الملائكة وعيسى، فإنهم في يوم القيامة يظهرون عبادة هؤلاء العابدين وهو المراد بقوله :﴿ وَإِذَا حُشِرَ الناس كَانُواْ لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُواْ بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ ﴾
١ ما بين القوسين هذا ساقط من أ الأصل بسبب انتقال النظر..
٢ بالمعنى من البحر المحيط لأبي حيان ٨/٥٥ و٥٦..
٣ في ب قوله بدل "فصل"..
٤ الرازي ٢٨/٥ و٦..
﴿ وَإِذَا حُشِرَ الناس كَانُواْ لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُواْ بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ ﴾ أي جاحدين كقوله :﴿ تَبَرَّأْنَآ إِلَيْكَ مَا كانوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ ﴾ [ القصص : ٦٣ ].
قوله تعالى :﴿ وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الذين كَفَرُواْ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ ﴾ هنا أقام ظاهرين مقام مضمرين، إذ الأصل قالوا لها أي للآيات ولكنه أبرزهما ظاهرين لأجل الوصفين المذكورين. واللام في للحق للصلة.

فصل


لما تكلم في تقرير التوحيد، ونَفْي الأضداد، والأنداد تكلم في النبوّة وبين أن محمداً صلى الله عليه وسلم كلما عرض عليهم نوعاً من أنواع المعجزات قالوا : هذا سحر أي يسمون القرآن سحراً.
قوله تعالى :﴿ أَمْ يَقُولُونَ افتراه ﴾ أم للإنكار والتعجب كأنه قيل : دع هذا واسمع القول المنكر العجيب ثم بين بطلان شبهتهم فقال :«قل » يا محمد «إِن افْتَرَيْتُهُ » على سبيل الفرض، فإن الله يعاملني بعقوبة بُطْلاَن ذلك الافتراء، وأنتم لا تقدرون على دفعه فكيف أقدر على هذه الفِرْيَةِ ؟ يعني لعقابه، وهو المراد بقوله :﴿ فَلاَ تَمْلِكُونَ لِي مِنَ الله شَيْئاً ﴾ أي لاَ تَقْدِرُونَ أن تردوا عني عذابه، وإن عذبني الله على افْترائِي، فكيف أفتري على الله من أجلكم ؟ ! ونظيره :﴿ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ الله شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ المسيح ابن مَرْيَمَ ﴾ [ المائدة : ١٧ ] ﴿ وَمَن يُرِدِ الله فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ الله شَيْئاً ﴾ [ المائدة : ٤١ ]. ثم قال :﴿ هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ ﴾ أي الله أعلم بما يخوضون فيه من التكذيب بالقرآن، والقول فيه بأنه سحر. ﴿ كفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ ﴾ أي القرآن جاء من عنده فيشهد لي بالصدق ويشهد لكم بالكذب ﴿ وَهُوَ الغفور الرحيم ﴾ لمن رجع عن الكفر وتاب. قال الزجاج : هذا دعاء إلى التوبة، ومعناه غفور لمن تاب منكم رحيمٌ به١.
١ قال: "معناه أنه من أتى من الكبائر العظام ما أتيتم به من الافتراء على وجه الله جل وعز وعلا ثم تاب فإن الله غفور رحيم" انظر معاني القرآن ٤/٤٣٩..
قوله تعالى: ﴿قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنَ الرسل... ﴾ لما حكى طعنهم في كون القرآن معجزاً بقولهم: إنه يختلقه من عند نفسه ثم نسبه إلى كلام الله تعالى على سبيل الفِرْيَة حكى
381
عنهم شُبْهَةً أخرى وهي أنهم كانوا يقترحون عليه معجزاتٍ عجيبة، ويطالبونه بأن يخبرهم عن المغيبات، فأجاب الله تعالى عن ذلك بقوله: ﴿قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنَ الرسل﴾.
قوله: «بدعاً» فيه وجهان:
أحدهما: أنه على حذف مضاف تقديره: ذَا بِدْعٍ، قاله أبو البقاء: وهذا على أن يكون البدْعُ مَصْدراً.
والثاني: أن البِدْعَ نفسه صفة على فِعْلٍ بمعنى بَدِيعٍ كالخِفِّ والخَفِيف؛ والبِدْعُ والبَدِيعُ ما لم ير له مِثْلٌ، وهو من الابْتِدَاع وهو الاختراع. أنشد قطرب:
٤٤٥١ - فَمَا بِدْعٌ مِنْ حَوَادِث تَعْتَرِي رِجَالاً عَرَتْ مِنْ بَعْدِ بُؤْسٍ وَأَسْعد
قال البغوي (رَحِمَهُ اللَّهُ) :(البِدْعُ) مثلُ نصْف ونَصِيفٍ، وجمع البِدْعِ أَبْداٌ. وقرأ عكرمة وأبو حَيْوَة وابنُ أَبِي عَبْلَةَ: بِدعٌ بفتح الدال جمع بِدْعَةٍ، أي ما كنت ذا بِدَعٍ. وجوز الزمخشري أن يكون صفة على فِعَلٍ، كِدين قِيَم، ولَحْمٍ زِيَمٍ.
قال أبو حيان: ولم يُثْبِتْ سيبوَيْهِ صفةً على «فِعلٍ» إلاَّ قَومْاً عِدًى. وقد استدرك عليه لحمٌ زِيَمٌ. أي متفرق. وهو صحيحٌ. وأما قول العرب: مَكَانٌ سِوى، وماء رِوًى، ورجل رِضًى، ومَاءٌ صرّى، وسَبْيٌ طِيَبٌ، فمتأولة عند التصريفيين. قال شهاب
382
الدين: تأويلها إما بالمصدرية أو القَصْر، كِقيَم في قِيام. وقرأ أبو حيوةَ أيضاً ومجاهدٌ بَدِع بفتح الباء كسر الدال، وهو وصف كَحَذِرٍ.

فصل


البدع والبديع من كل شيء المَبْدَأ، والبدعة ما اخترع ما لم يكن موجوداً قبله. قال المفسرون معناه إني لست بأول مُرْسَل، قد بعث قبلي كثيرٌ من الأنبياء فكيف تنكرون نبوّتي؟ ﴿وكيف تنكرون إخباري بأني رسول الله؟﴾ وقيل: إنهم طلبوا منه معجزة عظيمةً وإخباراً عن الغيوب فقال: ﴿قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنَ الرسل﴾ والمعنى أن الإتيان بهذه المعجزات القاهرة والأخبار عن الغيوب ليس في وُسْعِ البشر، وأما جنس الرسل فأنا واحد منهم، فإذا لم يقْدِروا على ما تُرِيدُنَه فكيف أقدر عليه؟! وقيل: إنهم كانوا يعيبونه بأنه يأكل الطعام ويمشي في الأسواق، وبأنه فقير، وأن أتباعه فقراء فقال: ﴿قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنَ الرسل﴾. وهم كلهم على هذه الصفةِ فهذه الأشياء لا تقدح في نُبُوَّتي كما لا تقدح في نُبُوَّتِهِم.
قوله: ﴿وَمَآ أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي﴾ العامة على نيابة المفعول. وابن أبي عبلة وزيد بن علي مبنياً للفاعل، أي الله تعالى. والظاهر أن (ما) في قوله: «مَا يَفْعَلُ» استفهامية مرفوعة بالابتداء، وما بعدها الخبر، وهي معلقة «لأَدْرِي» عن العمل، فتكون سَادَّةً مسَدَّ مفعوليها.
وجوَّزَ الزمخشري أن تكون موصولة منصوبة، يعني أنها متعدية لواحدٍ، أي لا أعرف الذي يفعلُه اللهُ.

فصل


في تفسير الآية وجهان:
أحدهما: أن يحمل ذلك على أوال الدنيا. والثاني: أن يحمل ذلك على أحوال الآخرة. أما الأول ففيه وجوه:
383
الأول: معناه لا أدْرِي ما يصير إليه أمري وأمركم، ومَن الغالب منَّا ومن المغلوب؟.
الثاني: قال ابن عباس في رواية الكلبي: لما اشتد البلاء بأصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بمكة رأى في المنام أنه يهاجر إلىأرض ذات نخلٍ وشجرٍ وماءٍ فقصها على الصحابة فاستبشروا بذلك ورأوا أن ذلك فرج ممَّا هم فيه من أذى المشركين. ثم إنَّهم مكثوا بُرهَةً من الدهر لا يروْنَ أثر ذلك فقالوا: يا رسول الله: ما رأيْنا الذي قُلْتَ، متى نهاجر إلى الأرض التي رأيتَها في المنام؟ فكست النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأنزل الله تعالى: ﴿قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنَ الرسل وَمَآ أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ بِكُمْ﴾ وهو شيء رأيته في المنام وأنا لا أتبع إلا ما يوحيه الله إِلَيِّ.
الثالث: قال الضحاك: لا أدري ما تُؤمَرُونَ به، ولا ما أومر به من التكاليف، والشرائع، ولا من الابتلاء والامتحان وإنما أنذكركم بما أعلمني الله به من أحوال الآخرة من الثواب والعقاب، ثم أخبر أنه تعالى يظهر دينه على الأديان فقال: ﴿هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بالهدى وَدِينِ الحق لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ﴾ [الفتح: ٢٨] وقال في أمته: ﴿وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ الله مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾ [الأنفال: ٣٣] فأخبره الله ما يصنع به وبأمته قال السدي.
الرابع: كأنه يقول: ما أدري ما يفعل بي في الدنيا، أموت أو أُقْتَلُ، كما تقل الأنبياء قبلي ولا أدري ما يفعل بكم أيها المُكَذِّبون أَتُرْمَوْنَ بالحجارة من السماء أو يُخْسَف بكم أو يفعل بكم ما يفعل بسائر الأمم، وأما من حمل الآية على أحوال الآخرة فروى عن ابن عباس أنه قال: لَما نزلت هذه الآية فرح المشركون والمنافقون واليهود وقالوا: كيف نتبع نبياً لا يدري ما يفعل به ربُّه فأنزل الله تعالى: ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً لِّيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ﴾ إلى قوله: ﴿وَكَانَ ذَلِكَ عِندَ الله فَوْزاً عَظِيماً﴾ [الفتح: ١٥] فقالت الصحابة: هنيئاً لك يا نبي الله، قد علمنا ما يفعل بك فما يعفل بنا؟ فأَنزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ ّ: ﴿لِّيُدْخِلَ المؤمنين والمؤمنات جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار﴾ [الفتح: ٥] الآية وأنزل: ﴿وَبَشِّرِ المؤمنين بِأَنَّ لَهُمْ مِّنَ الله فَضْلاً كِبِيراً﴾ [الأحزاب: ٤٧] فبين الله ما يفعل به وبهم، وهذا قول أنس وقتادة والحَسَنِ وعكرمةَ. وقالوا: إنما قال هذا قبل أن يخبر بغفران ذنبه وإنما أخبر بغُفْرَان ذنبه عام الحديبية فنسخ ذلك قال ابن الخطيب: وأكثر المحققين استبعدوا هذا القول لوجهين:
الأول: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لا بدّ وأن يعلم من نفسه كَوْنَهُ نَبيًّا، ومتى علم كونَه نبياً، علم أنه لا يصدر عنه الكبائرُ وأنه مغفور له، وإذا كان كذلك امتنع كونُه شاكًّا في أنه هل هو مغفور له أم لا؟.
384
الثاني: أن الأنبياء أرفع حالاً من الأولياء وقد قال في حق هؤلاء: ﴿إِنَّ الذين قَالُواْ رَبُّنَا الله ثُمَّ استقاموا فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [الأحقاف: ١٣] فكيف يعقل أن يبقى فكيف يعقل أن يبقى الرسول الذي هو رئيس الأنبياء وقُدْوةُ الأولياء شاكًّا في أنه هل هو من المغفور لهم؟ فثَبَتَ ضَعْفُ هذا القَوْلِ.
قوله: ﴿إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يوحى إِلَيَّ﴾ العامة على بناء «يُوحَى» للمفعول، وقرأ ابن عمر بكسر الحاء على البناء للفاعل وهو الله تعالى. والمعنى إنِّي لا أقول قولاً ولا أعمل عملاً إلاَّ بمقتضى الوَحْي. واحتج نُفَاةُ القياس بهذه الآية فقالوا: النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ما قال قولاً ولا عمل عملاً إلاَّ بالنص الذي أوحاه الله (إليه) فوجب أن يكون حالُنَا كذلك. ثم قال الله تعالى: ﴿وَمَآ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ﴾ لأنهم كانوا يطالبونه بالمعجزات العجيبة، وبالإخبار عن الغيوب فقال: قُلْ مَا أنا إلا نذير مبين والقادر على تلك الأعمال الخارجة عن قدرة (البشر والعالم بتلكم الغيوب ليس إلاَّ اللهُ تَعَالَى)..
قوله: ﴿أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ الله﴾ مفعولا «أرأيتم» محذوفان تقديره أرأيتم حالكم إنْ كَانَ كَذَا لستم ظالمين؟ وجواب الشرط أيضاً محذوف تقديره: فقد ظَلَمْتُمْ. ولهذا أتى بفعل الشرط ماضياً. وقدره الزمخشري: ألستم ظالمين؟ ورد عليه أبو حيان بأنه لو كان كذلك لوجبت الفاء، لأن الجملة الاستفهامية متى وقعت جواباً للشرط لزمت الفاء. ثم إن كانت أداة الاستفهام همزة فقدمت على الفاء نحو: إنْ تَزُرْنَا أَفَلاَ نُكْرِمُكَ؟ وإن كان غيرها تقدمت الفاء عليها نحنو: إنْ تَزُرْنَا فَهَلْ تَرَى إلاَّ خَيْراً؟
قال شهاب الدين: والزمخشري ذكر أمراً تقديرياً فسر به المعنى الإعراب.
وقال ابن عطية و «أرَأَيْتُم» يحتمل أن تكون مُنَبِّهة، فهي لفظ موضوع للسؤال، لا يقتضي مفعولاً. ويحتمل أن تكون الجملة كان وما عملت سادّة مسدّ مفعوليها. قال أبو حيان: وهذا خلاف ما قرّره النحاة، وقد تقدم تحقيق مَا قَرَّره. وقيل: جواب الشرط هو قوله: ﴿فَآمَنَ واستكبرتم﴾. وقيل: هو محذوف تقديره فمن المُحِقّ منا
385
والمبطل؟ وقيل: «فمن أضل». قال ابن الخطيب: ججواب الشرط محذوف، والتقدير أن يقال: إن كان هذا الكتاب من عند الله ثُمَّ كَفَرْتُمْ به وشَهِدَ شاهدٌ مِنْ بَنِي ِإسْرَائِيلَ على صحته ثم استكبرتم لكنتم من الخاسرين.
ثم حذف هذا الجواب. ونظيره قوله: «إنْ أَحْسَنْتَ إلَيْكَ وأَسَأتَ إلَيَّ وأَقْبَلْتُ إِلَيْكَ وأَعرضْتَ عني فَقَدْ ظَلَمْتَنِي» وكذا ههنا التقدير أخبروني إن ثبت أن القرآن من عند الله بسبب عجز الخلق عن معارضته ثم كفرتم به وجعل أيضاً شاهده أعلم بني إسرائيل بكونه معجزاً من عند الله فلو استكبرتم وكفرتم ألسم أضل الناس وأظلمهم؟ واعلم أن جواب الشرط محذوف في بعض الآيات كما في هذه الآية وكما في قوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الجبال أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأرض أَوْ كُلِّمَ بِهِ الموتى﴾ [الرعد: ١٣] وقد يذكر كما في قوله تعالى: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ الله ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ﴾ [فصلت: ٥٢] وقوله: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ الله عَلَيْكُمُ الليل سَرْمَداً إلى يَوْمِ القيامة مَنْ إله غَيْرُ الله﴾ [القصص: ٧١].

فصل


معنى الآية أخبروني ماذا تقولون «إنِْ كَانَ» يعني القرآن ﴿مِنْ عِندِ الله وَكَفَرْتُمْ بِهِ﴾ أيها المشركون ﴿وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بني إِسْرَائِيلَ على مِثْلِهِ﴾. المثل صلة بعين عَلَيْهِ أي على أنه من عند الله فَآمَنَ يعني الشاهد «وَاسْتَكْبَرتُمْ» عن الإيمان به. واختلفوا في هذا الشاهد فقال قتادة والضحاك وأكثر المفسرين: هو عبد الله بن سلام شهد نبوة المصطفى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فآمن به، واستكبر اليهود، فلم يؤمنوا كما روى أنس (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) قال: «سمع عبد الله بن سَلاَم بِمَقْدِم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فأتاه وهو يخترف في أرض، فنظر إلى وجهه، فعلم أنه ليس وجه كَذَّاب، وتأمله فتحقق أنه النبي المُنْتَطَر فقال له: إني سائلك عن ثلاثة لا يَعْلَمُهُنَّ إلاَّ نبي، ما أوَّلُ أَشْرَاطَ السَّاعَةِ؟ وما أوَّلُ طَعَام أهْلِ الجَنَّةِ؟ وما ينزع الولد إلى أبيه أو إلى أمه. فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أخبرني بهن جبريلُ آنفاً قال: جبريل قال: نعم قال: ذَاكَ عدوّ اليهود من الملائكة فقرأ هذه الآية: ﴿مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ على قَلْبِكَ بِإِذْنِ الله مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ [البقرة: ٩٧]. أم أول أشراط الساعة فنار تحشر الناس من المَشْرِق إلى المغرب وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كَبِد حُوت، وأما الولد فإذا سبق ماء الرجل نزعهُ وإن سبق ماء المرأة نزعته فقال: أشهد أنك رسول الله حقاً. ثم قال يا رسول الله: إن اليهود قوم بُهْتٌ، وإن علموا بإسلامي قبل أن تسألهم
386
عني بَهَتُونِي عنْدك، فجاءت اليهود فقال لهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: أيُّ رجل عبد اللهن فيكم؟ فقالوا: خَيْرُنا وابن خَيْرِنَا وسيدُنا وابنُ سيِّدِنا وِأعلَمُنا وابن أَعْلَمِنَا قال: أفرأيتم (إن أسلم) عبد الله بن سلام؟ فقالوا: أعاذَه الله من ذلك» فخرج إليه عبد الله فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسولُ الله فقالوا: أشَرُّنَا وابْنُ شَرِّنَا وانتقصوه فقال: هذا ما كنت أخاف منه يا رسول الله فقال سعد بن أبي وقّاص: ما كنا نقول وفي رواية ما سمعت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول لأحد يمْشِي على الأرض إنه من أهل الجنة إلا لعبد الله بن سَلاَم وفيه نزلت هذه الآية: ﴿وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بني إِسْرَائِيلَ على مِثْلِهِ﴾.
وقيل: الشاهد: هو موسى بن عِمْرَانَ عليه الصَّلاَة والسَّلام قال الشعبي: قال مسروق في هذه الآية: والله ما نزلت في عبد الله بن سلام، لأن آل حم نزلت بمكة، وإنما أسلم عبد الله بن سلام بالمدينة قبل وفاة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بعامين، فكيف يمكن حمل هذه الآية المكية على واقعةٍ حدثت في عهد رسول الله صلى الله عليه سولم بالمدينة؟! وإنما نزلت الآية في محاجّة كانت من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لقومه. وأجاب الكلبيُّ بأن السورة مكمية إلا هذه الآية فإنها مدينة وكانت الآية تنزل فيأمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يضَعَهَا في سورة كَذَا وكَذَا، وهذه الآية نزلت بالمدينة وأنّ الله تعالى أمر رسوله بأن يضعها في السورة المكية في هذا الموضع المعين. قال ابن الخطيب: ولِقائِلٍ أن يقول: إن الحديث الذي رَوَيْتُمْ عن عبد الله بن سلام مشكِلٌ؛ لأن ظاهر الحديث يشعر بأنه لما سأل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن المسائل الثلاث، فلما أجاب النبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بذلك الجواب آمن عبد الله بن سلام لأجل أنّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ذكر تلك الجوابات وهذا بعيدٌ من وَجْهَيْنِ:
الأول: أن الإخبار عن أول أشراط الساعة وعن أول طعام يألكه أهل الجنة إخْبَار عن وقوع شيءٍ من المُمْكِنَات، وما هذا سبيله فإنه لا يُعْرَفُ كَوْنُ ذلك الخبر صدقاً إلاَّ إذا عرف أولاً كونُ المُخْبر صادقاً، فلو عرفنا صدق المُخْبِر يكون ذلك الخبر صادقاً لزم الدور. وهو محال.
الثاني: أنا نعلم بالضرورة أن الجوابات المذكورة عن هذه المسائل لا يبلغ العلم بها إلى حدِّ الإعجاز ألبتة بل نقول: الجوابات الباهرة عن المسائل الصعبة لما يبلغ إلى حد الإعجاز.
والجواب يحتمل أنه جاء في بعض كتب الأنبياء المتقدمين أن رَسُولَ آخِرِ الزمان يُسْأَلُ عن هذه المسائل وهو يجيب عنها بهذه الجوابات وكان عبد الله بن سلام عالماً بهذا المعنى ولما سأل النبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أجاب بتلك الأجوبة فلا حاجة بنا إلى أن نقول: العِلْمُ بهذه الجوابات مُعْجزةٌ والله أعلم.
387
وقيل: المراد بالشاهد التوراة. ومثل القرآن هو التوراة فشهد موسى على التوراة، ومحمد على الفرقان، وكل واحد يُصَدِّقُ الآخرَ، لأن التوراة مشتملة على البشارة بمحمدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والقرآن مصدق التوراة ثم قال: ﴿فَآمَنَ واستكبرتم﴾ فلم تؤمنوا ﴿إِنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين﴾ وهذا تهديد. وهو قائم مقام الجواب المحذوف، والتقدير قل أرأيتم إنْ كَانَ من عند الله ثم كفرتم به فإنكم لا تكونون مهتدين بل تكونون ضالّين.
قوله تعالى: ﴿وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَآ إِلَيْهِ... ﴾ في سبب نزول وجوه:
الاول: أن كفار مكمة قالوا: إِن عَامَّةَ من يتبع محمداً الفقراءُ والأرذالُ مثلُ عمَّار، وصُهَيْب، وابْن مَسْعُودٍ ولو كان هذا الدين خيراً ما سبقونا إليه هؤلاء.
والثاني: قيل: لما أسلمت جُهَيْنَةُ ومُزَيْنَة، وأسْلَم، وغِفار، قالت بنو عامر وعطفان وأسد وأشجع: لو كان هذا خيراً ما سبقنا إليه رعاة البَهْمِ.
الثالث: قيل: إنَّ أَمَةً لعمرَ أسلمت وكان عمر يضربها ويقول: لولا أنّي فترت لزِدْتُكِ ضَرْباً فكان كفار قريش يقولون: لو كان ما يدعونا إليه محمد خيراً ما سبقنا إليه.
الرابع: قيلأ: كان اليهود يقولون هذا الكلام حين أسلم عبد الله بن سلام وأصحابه.
قوله: «لِلَّذِينَ آمَنُوا» يجوز أن تكون لام الصلة، أي لأجلهم، يعني أن الكفار قالوا: لأجل إيمان الذين آمنوا، وأن تكون للتبليغ ولو جروا على مقتضى الخطاب لقالوا: ما سبقتمونا ولكنهم التفتوا فقالوا ما سبقونا. والضمير في «كان» و «إليه» عائدان على القرآن، أو ما جاء به الرسول أو الرسول.
388
قوله: ﴿وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُواْ بِهِ﴾ العامل في «إذْ» مقدر أي ظهر عنادُهُمْ، وتسبب عنه (قوله) «فَسَيَقُولُونَ» ولا يعمل في «إذْ» فَسَيَقُولُونَ، لتضاد الزمانين، أعني المُضِيَّ والاسْتِقْبَالَ ولأجل الفاء أيضاً.

فصل


المعنى وإذ لم يهتدوا بالقرآن كما اهتدى به أهل الإيمان فسيقولون هذا إفك قديم كما قالوا: أسَاطِيرُ الأَوَّلين.
قوله (تعالى) :﴿وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ موسى﴾ العامة على كسر ميم «مِنْ» حرف جر، وهي مع مجرورها خبر مقدم. والجملة حالية، أو خبر مستأنف وقرأ الكلبي بنصب الكتاب تقديره: وأنْزَلَ مِنْ قِبْلِهِ كِتَابَ مُوسَى وقرىء: وَمَنْ قَبْلَه بفتح الميم كِتَابَ مُوسَى بالنصب، على أن «من» موصولة، وهي مفعول أول لآتَيْنَا مقدَّراً، و «كتاب موسى» مفعوله الثاني أي وآتينا الذي قبله كِتَابَ مُوسَى.
قوله: «إمَاماً ورَحْمَةً» حالان من «كتاب موسى». وقيل: منصوبان بمقدر أي أَنْزَلْنَاهُ إِمَاماً ولا حاجة إليه. وعلى كونهما حالين هما منصوبان بما نصب به «مِنْ قَبْل» من الاستقرار. وقال أبو عبيدة: فيه إضمار أي جعلناه إماماً ورحمة من الله لمن آمن به.
ومعنى الآية: ومن قبل القرآن كتابُ موسى يعني التوراة إماماً يهتدى به، ورحمة من الله وفي الكلام محذوف تقديره: وتقجمه كتاب موسى إماماً ورحمةً ولم يَهْتَدُوا به كما قال في الآية الأخرى ﴿وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُواْ بِهِ﴾.
قوله: ﴿وهذا كِتَابٌ مُّصَدِّقٌ﴾ أي القرآن يصدِّق الكتب التي قبله، في أن محمداً رسول من عند الله.
389
قوله: «لِسَاناً» حال من الضمير في «مُصَدِّق» ويجوز أن يكون حالاً من «كِتَابٍ» والعامل التنبيه، أو معنى الإشادة. و «عربياً» صفة ل «لِسَاناً» وهو المسوغ لوقوع هذه الجامدة حالاً، وجوز أبو البقاء أن يكون مفعولاً به ناصبه «مصدق» وعلى هذا تكون الإشارة إلى غير القرآن؛ لأن المراد باللسان العربي القرآن. وهو خلاف الظاهر. وقيل: هو على حذف مضاف، أي مُصَدِّق ذَا لسانٍ عَرَبيٍّ وهو النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقيل: هو على إسقاط حرف الجرف، أي بلسان وهو ضعيف.
قوله: «لتنذر متعلق بمُصَدِّق، و» بُشْرَى «عطف على محلّه تقديره: للإنذار وللبُشْرَى. ولما اختلف العلة والمعلول وصل العامل إليه باللام، وهذا فيمن قرأ بتاء الخطاب. فأما من قرأ بياء الغيبة وقد تقدم ذلك في يس فإنَّهُمَا متَّحِدَانِ. وقيل: بشرى عطف على لفظ» لِتُنْذِرَ «أي فيكون مجروراً فقط. وقيل: هي مرفوعة على خبر ابتداء مضمر تقديره: هِيَ بُشْرَى. ونقل أبو حيان وجه النصب عطفاً على محل» لِتُنْذِرَ «عن الزمخشري وأبي البقاء ثم قال:» وهذا لايصح على الصحيح من مذاهب النحويين، لأنهم يشترطون في الحمل على المحل أن يكون بحقّ الأصالة. وأن يكون للموضع مُحْرز. وهنا المحل ليس بحق الأصَالة؛ إذ الأصل في المفعول الجر (له)، والنصب ناشىء عنه، لكنه لما كثر بالشروط المذكورة وصل إليه الفعل فنصبه «. انتهى.
قوله: الأصل في المفعول له الجر بالحرف ممنوع بدليل قول النحويين إنه ينصب
390
بشروط ذكروها ثم يقولون: ويجوز جره بلام فقولهم: ويجوز ظاهر في أنه فرع أصل.
قال الزجاج (رَحِمَهُ الله) : الأجوزُ أن يكون» وبشرى «في موضع رفع أي وهُو بُشْرَى.
قال و (لا) يجوز أن يكون في موضع نَصْب على معنى لينذر الذين ظلموا وبشرى للمحسنين. وقوله للمحسنين متعلق ببشرى، أو بمحذوف على أنَّه صفة لها.

فصل


المراد بالذين ظلموا مشركوا مكمة، والحاصل أن المقصودَ من إنزال هذا الكتاب إنذار المعرضين وبشارة المطيعين.
391
قوله :﴿ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ الله ﴾ مفعولا «أرأيتم » محذوفان تقديره أرأيتم حالكم إنْ كَانَ كَذَا لستم ظالمين ؟ وجواب الشرط أيضاً محذوف تقديره : فقد ظَلَمْتُمْ. ولهذا أتى بفعل الشرط١ ماضياً. وقدره الزمخشري : ألستم ظالمين٢ ؟ ورد عليه أبو حيان بأنه لو كان كذلك لوجبت الفاء، لأن الجملة الاستفهامية متى وقعت جواباً للشرط لزمت الفاء. ثم إن كانت أداة الاستفهام همزة فقدمت على الفاء نحو : إنْ تَزُرْنَا أَفَلاَ نُكْرِمُكَ ؟ وإن كانت غيرها تقدمت الفاء عليها نحنو : إنْ تَزُرْنَا فَهَلْ تَرَى إلاَّ خَيْراً٣ ؟
قال شهاب الدين : والزمخشري ذكر أمراً تقديرياً فسر به المعنى لا الإعراب٤.
وقال ابن عطية و«أرَأَيْتُم » يحتمل أن تكون مُنَبِّهة، فهي لفظ موضوع للسؤال، لا يقتضي مفعولاً. ويحتمل أن تكون الجملة كان وما عملت سادّة مسدّ مفعوليها٥. قال أبو حيان : وهذا خلاف ما قرّره النحاة٦، وقد تقدم تحقيق مَا قَرَّره. وقيل : جواب الشرط هو قوله :﴿ فَآمَنَ واستكبرتم ﴾٧. وقيل : هو محذوف تقديره فمن المُحِقّ منا والمبطل ؟٨ وقيل :«فمن أضل »٩. قال ابن الخطيب : جواب الشرط محذوف، والتقدير أن يقال : إن كان هذا الكتاب من عند الله ثُمَّ كَفَرْتُمْ به وشَهِدَ شاهدٌ مِنْ بَنِي ِإسْرَائِيلَ على صحته ثم استكبرتم لكنتم من الخاسرين.
ثم حذف هذا الجواب. ونظيره قوله :«إنْ أَحْسَنْتَ إلَيْكَ وأَسَأتَ إلَيَّ وأَقْبَلْتُ إِلَيْكَ١٠ وأَعرضْتَ عني فَقَدْ ظَلَمْتَنِي » وكذا ههنا التقدير أخبروني إن ثبت أن القرآن من عند الله بسبب عجز الخلق عن معارضته ثم كفرتم به وجعل أيضاً شاهده١١ أعلم بني إسرائيل بكونه معجزاً من عند الله فلو استكبرتم وكفرتم ألسم أضل الناس وأظلمهم ؟ واعلم أن جواب الشرط محذوف في بعض الآيات كما في هذه الآية وكما في قوله تعالى :﴿ وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الجبال أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأرض أَوْ كُلِّمَ بِهِ الموتى ﴾ [ الرعد : ١٣ ] وقد يذكر كما في قوله تعالى :﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ الله ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ ﴾ [ فصلت : ٥٢ ] وقوله :﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ الله عَلَيْكُمُ الليل سَرْمَداً إلى يَوْمِ القيامة مَنْ إله غَيْرُ الله ﴾ [ القصص : ٧١ ].

فصل


معنى الآية أخبروني ماذا تقولون «إنِْ كَانَ » يعني القرآن ﴿ مِنْ عِندِ الله وَكَفَرْتُمْ بِهِ ﴾ أيها المشركون ﴿ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بني إِسْرَائِيلَ على مِثْلِهِ ﴾. المثل صلة بعين عَلَيْهِ أي على أنه من عند الله فَآمَنَ يعني الشاهد «وَاسْتَكْبَرتُمْ » عن الإيمان به. واختلفوا في هذا الشاهد فقال قتادة والضحاك وأكثر المفسرين : هو عبد الله بن سلام شهد نبوة المصطفى صلى الله عليه وسلم فآمن١٢ به، واستكبر اليهود، فلم يؤمنوا كما روى أنس ( رَضِيَ اللهُ عَنْهُ١٣ ) قال :«سمع عبد الله بن سَلاَم بِمَقْدِم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاه وهو يخترف في أرض، فنظر إلى وجهه، فعلم أنه ليس وجه كَذَّاب، وتأمله فتحقق أنه النبي المُنْتَطَر فقال له : إني سائلك عن ثلاثة لا يَعْلَمُهُنَّ إلاَّ نبي، ما أوَّلُ أَشْرَاطَ السَّاعَةِ ؟ وما أوَّلُ طَعَام أهْلِ الجَنَّةِ ؟ وما ينزع الولد١٤ إلى أبيه أو إلى أمه. فقال صلى الله عليه وسلم أخبرني بهن جبريلُ آنفاً قال : جبريل قال : نعم قال : ذَاكَ عدوّ اليهود من الملائكة فقرأ هذه الآية :﴿ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ على قَلْبِكَ بِإِذْنِ الله مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ﴾ [ البقرة : ٩٧ ]. أم أول أشراط الساعة فنار تحشر الناس من المَشْرِق إلى المغرب وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كَبِد حُوت، وأما الولد فإذا سبق ماء الرجل نزعهُ وإن سبق ماء المرأة نزعته فقال : أشهد أنك رسول الله حقاً. ثم قال يا رسول الله : إن اليهود قوم بُهْتٌ، وإن علموا بإسلامي قبل أن تسألهم عني بَهَتُونِي عنْدك، فجاءت اليهود فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : أيُّ رجل عبد الله فيكم ؟ فقالوا : خَيْرُنا وابن خَيْرِنَا وسيدُنا وابنُ سيِّدِنا وِأعلَمُنا وابن أَعْلَمِنَا قال : أفرأيتم ( إن أسلم )١٥ عبد الله بن سلام ؟ فقالوا : أعاذَه الله من ذلك فخرج إليه عبد الله فقال : أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسولُ الله فقالوا : أشَرُّنَا وابْنُ شَرِّنَا وانتقصوه فقال : هذا ما كنت أخاف منه يا رسول الله فقال سعد بن أبي وقّاص : ما كنا نقول وفي رواية ما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول لأحد يمْشِي على الأرض إنه من أهل الجنة إلا لعبد الله بن سَلاَم وفيه نزلت هذه الآية :﴿ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بني إِسْرَائِيلَ على مِثْلِهِ ﴾.
وقيل : الشاهد : هو موسى بن عِمْرَانَ عليه الصَّلاَة والسَّلام قال الشعبي : قال مسروق في هذه الآية : والله ما نزلت في عبد الله بن سلام، لأن آل حم نزلت بمكة، وإنما أسلم عبد الله بن سلام بالمدينة قبل وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعامين، فكيف يمكن حمل هذه الآية المكية على واقعةٍ حدثت في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة ؟ ! وإنما نزلت الآية في محاجّة كانت من رسول الله صلى الله عليه وسلم لقومه. وأجاب١٦ الكلبيُّ بأن السورة مكية إلا هذه الآية فإنها مدينة وكانت الآية تنزل فيأمر١٧ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يضَعَهَا في سورة كَذَا وكَذَا، وهذه الآية نزلت بالمدينة وأنّ الله تعالى أمر رسوله بأن يضعها في السورة المكية في هذا الموضع المعين١٨. قال ابن الخطيب : ولِقائِلٍ أن يقول : إن الحديث الذي رَوَيْتُمْ عن عبد الله بن سلام مشكِلٌ ؛ لأن ظاهر الحديث يشعر بأنه لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن المسائل الثلاث، فلما أجاب النبيّ صلى الله عليه وسلم بذلك١٩ الجواب آمن٢٠ عبد الله بن سلام لأجل أنّ النبي صلى الله عليه وسلم ذكر تلك الجوابات وهذا بعيدٌ من وَجْهَيْنِ :
الأول : أن الإخبار عن أول أشراط الساعة وعن أول طعام يأكله أهل الجنة إخْبَار عن وقوع شيءٍ من المُمْكِنَات، وما هذا سبيله فإنه لا يُعْرَفُ كَوْنُ ذلك الخبر صدقاً إلاَّ إذا عرف أولاً كونُ المُخْبر صادقاً، فلو عرفنا صدق المُخْبِر يكون ذلك الخبر٢١ صادقاً لزم الدور. وهو محال.
الثاني : أنا نعلم بالضرورة أن الجوابات المذكورة عن هذه المسائل لا يبلغ العلم بها إلى حدِّ الإعجاز ألبتة بل نقول : الجوابات الباهرة عن المسائل الصعبة لما يبلغ٢٢ إلى حد الإعجاز.
والجواب يحتمل أنه جاء في بعض كتب الأنبياء المتقدمين أن رَسُولَ آخِرِ الزمان يُسْأَلُ عن هذه المسائل وهو يجيب عنها بهذه الجوابات وكان عبد الله بن سلام عالماً بهذا المعنى ولما سأل النبيّ صلى الله عليه وسلم أجاب بتلك الأجوبة فلا حاجة بنا إلى أن نقول : العِلْمُ بهذه الجوابات مُعْجزةٌ والله أعلم٢٣.
وقيل : المراد بالشاهد التوراة٢٤. ومثل القرآن هو التوراة فشهد موسى على التوراة، ومحمد على الفرقان، وكل واحد يُصَدِّقُ الآخرَ، لأن التوراة مشتملة على البشارة بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم والقرآن مصدق التوراة ثم قال :﴿ فَآمَنَ واستكبرتم ﴾ فلم تؤمنوا ﴿ إِنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين ﴾ وهذا تهديد. وهو قائم مقام الجواب المحذوف، والتقدير قل أرأيتم إنْ كَانَ من عند الله ثم كفرتم به فإنكم لا تكونون مهتدين بل تكونون ضالّين.
١ قاله أبو حيان في البحر المحيط ٨/٥٧..
٢ الكشاف ٣/٥١٧ و٥١٨..
٣ البحر المحيط المرجع السابق..
٤ الدر المصون ٥/٤..
٥ نقله عنه أبو حيان في البحر ٨/٥٧..
٦ المرجع السابق..
٧ ذكره أبو حيان ولم ينسبه..
٨ السابق..
٩ ذكره أبو حيان عن الحسن رضي الله عنه..
١٠ في الرازي: عليك..
١١ وفيه: وجعل شهادة..
١٢ في ب وأمر به..
١٣ زيادة من أ..
١٤ في ب الوالد تحريف..
١٥ ما بين القوسين سقط من أ الأصل..
١٦ في ب فأجاب..
١٧ كذا في النسختين وهو تحريف من الناسخ والأصح فيؤمر للمفعول..
١٨ وانظر في هذا تفسير الإمام الفخر الرازي ٢٨/٩ و١٠ وانظر في هذا أيضا القرطبي ١٦/١٨٨ و١٨٩ والكشاف للزمخشري ٣/٥١٨..
١٩ في ب بهذا الجواب وفي الرازي بتلك الجوابات..
٢٠ كذا في النسختين وفي الرازي: من..
٢١ في ب المخبر..
٢٢ في ب تبلغ وفي الرازي: لما لم يبلغ العلم بها..
٢٣ الرازي ٢٨/١٠..
٢٤ القرطبي ١٦/١٨٨ وهو رأي مسروق. وانظر البحر المحيط أيضا ٨/٥٧ و٥٨..
قوله تعالى :﴿ وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَآ إِلَيْهِ. . . ﴾ في سبب نزول وجوه :
الأول : أن كفار مكة قالوا : إِن عَامَّةَ من يتبع محمداً الفقراءُ والأرذالُ مثلُ عمَّار، وصُهَيْب، وابْن مَسْعُودٍ ولو كان هذا الدين خيراً ما سبقونا إليه هؤلاء١.
والثاني : قيل : لما أسلمت جُهَيْنَةُ ومُزَيْنَة، وأسْلَم، وغِفار، قالت بنو عامر وعطفان وأسد وأشجع : لو كان هذا خيراً ما سبقنا إليه رعاة البَهْمِ٢.
الثالث : قيل : إنَّ أَمَةً لعمرَ أسلمت وكان عمر يضربها ويقول : لولا أنّي فترت لزِدْتُكِ ضَرْباً فكان كفار قريش يقولون : لو كان ما يدعونا إليه محمد خيراً ما سبقنا إليه٣.
الرابع : قيل : كان اليهود يقولون هذا الكلام حين أسلم عبد الله بن سلام٤ وأصحابه.
قوله :«لِلَّذِينَ آمَنُوا » يجوز أن تكون لام الصلة، أي لأجلهم، يعني أن الكفار قالوا : لأجل إيمان الذين آمنوا٥، وأن تكون للتبليغ ولو جروا على مقتضى الخطاب لقالوا : ما سبقتمونا ولكنهم التفتوا فقالوا ما سبقونا٦. والضمير في «كان » و«إليه » عائدان على القرآن، أو ما جاء به الرسول أو الرسول.
قوله :﴿ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُواْ بِهِ ﴾ العامل في «إذْ » مقدر أي ظهر عنادُهُمْ٧، وتسبب عنه ( قوله٨ ) «فَسَيَقُولُونَ » ولا يعمل في «إذْ » فَسَيَقُولُونَ، لتضاد الزمانين، أعني المُضِيَّ والاسْتِقْبَالَ ولأجل الفاء أيضاً٩.

فصل


المعنى وإذ لم يهتدوا بالقرآن كما اهتدى به أهل الإيمان فسيقولون هذا إفك قديم كما قالوا : أسَاطِيرُ الأَوَّلين١٠.
١ نقله صاحب الكشاف ٣/٥١٩..
٢ حكي عن الكلبي والزجاج وحكاه القشيري عن ابن عباس انظر القرطبي ١٦/١٩٠..
٣ نقله الزمخشري في كشافه السابق..
٤ وهو قول أكثر المفسرين فيما نقله القرطبي في مرجعه السابق..
٥ قاله الزمخشري في الكشاف ٣/٥١٩..
٦ الرازي ٢٨/١١..
٧ التبيان ١١٥٤..
٨ زيادة من ب وانظر الرازي ٢٨/١١..
٩ فلا يعمل ما بعدها فيما قبلها وهو قول أبي حيان في البحر المحيط ٨/٥٩ بالمعنى..
١٠ الجامع لأحكام القرآن للإمام القرطبي ١٦/١٩٠..
قوله ( تعالى )١ :﴿ وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ موسى ﴾ العامة على كسر ميم «مِنْ » حرف جر، وهي مع مجرورها خبر مقدم. والجملة حالية، أو خبر مستأنف وقرأ الكلبي بنصب الكتاب٢ تقديره : وأنْزَلَ مِنْ قِبْلِهِ كِتَابَ مُوسَى وقرئ : وَمَنْ قَبْلَه بفتح الميم كِتَابَ مُوسَى بالنصب، على أن «من » موصولة، وهي مفعول أول لآتَيْنَا مقدَّراً، و«كتاب موسى » مفعوله الثاني أي وآتينا الذي قبله كِتَابَ مُوسَى٣.
قوله :«إمَاماً ورَحْمَةً » حالان من «كتاب موسى »٤. وقيل : منصوبان بمقدر أي أَنْزَلْنَاهُ إِمَاماً٥ ولا حاجة إليه. وعلى كونهما حالين هما منصوبان بما نصب به «مِنْ قَبْل » من الاستقرار. وقال أبو عبيدة٦ : فيه إضمار أي جعلناه إماماً ورحمة من الله لمن آمن به.
ومعنى الآية : ومن قبل القرآن كتابُ موسى يعني التوراة إماماً يهتدى به، ورحمة من الله وفي الكلام محذوف تقديره : وتقدمه كتاب موسى إماماً ورحمةً ولم يَهْتَدُوا به كما قال في الآية الأخرى٧ ﴿ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُواْ بِهِ ﴾.
قوله :﴿ وهذا كِتَابٌ مُّصَدِّقٌ ﴾ أي القرآن يصدِّق الكتب التي قبله، في أن محمداً رسول من عند الله.
قوله :«لِسَاناً » حال من الضمير في «مُصَدِّق » ويجوز أن يكون حالاً من «كِتَابٍ » والعامل التنبيه٨، أو معنى الإشادة. و«عربياً » صفة ل «لِسَاناً » وهو المسوغ لوقوع هذه الجامدة حالاً، وجوز أبو البقاء أن يكون مفعولاً به ناصبه٩ «مصدق » وعلى هذا تكون الإشارة إلى غير القرآن ؛ لأن المراد باللسان العربي القرآن. وهو خلاف الظاهر. وقيل : هو على حذف مضاف، أي مُصَدِّق ذَا لسانٍ عَرَبيٍّ١٠ وهو النبي صلى الله عليه وسلم وقيل : هو على إسقاط حرف الجرف، أي بلسان١١ وهو ضعيف.
قوله :«لتنذر » متعلق بمُصَدِّق، و«بُشْرَى » عطف على محلّه تقديره : للإنذار وللبُشْرَى١٢. ولما اختلف العلة والمعلول وصل العامل إليه باللام، وهذا فيمن قرأ بتاء الخطاب١٣. فأما من قرأ بياء الغيبة١٤ وقد تقدم ذلك في يس فإنَّهُمَا متَّحِدَانِ. وقيل : بشرى عطف على لفظ «لِتُنْذِر » أي فيكون مجروراً فقط١٥. وقيل : هي مرفوعة على خبر ابتداء مضمر تقديره١٦ : هِيَ بُشْرَى. ونقل أبو حيان١٧ وجه النصب عطفاً على محل «لِتُنْذِرَ » عن الزمخشري١٨ وأبي البقاء ثم قال :«وهذا لا يصح على الصحيح من مذاهب النحويين، لأنهم يشترطون في الحمل على المحل أن يكون بحقّ الأصالة. وأن يكون للموضع مُحْرز١٩. وهنا المحل ليس بحق الأصَالة ؛ إذ الأصل في المفعول الجر ( له )٢٠، والنصب ناشىء عنه، لكنه لما كثر بالشروط المذكورة وصل إليه الفعل فنصبه »٢١. انتهى.
قوله : الأصل في المفعول له الجر بالحرف ممنوع بدليل قول النحويين إنه ينصب بشروط٢٢ ذكروها ثم يقولون : ويجوز جره بلام فقولهم : ويجوز ظاهر في أنه فرع أصل.
قال الزجاج ( رَحِمَهُ الله٢٣ ) : الأجوزُ أن يكون «وبشرى » في موضع رفع أي وهُو بُشْرَى.
قال و ( لا )٢٤ يجوز أن يكون في موضع نَصْب على معنى لينذر الذين ظلموا وبشرى للمحسنين٢٥. وقوله للمحسنين متعلق ببشرى، أو بمحذوف على أنَّه صفة لها.

فصل


المراد بالذين ظلموا مشركو مكة، والحاصل أن المقصودَ من إنزال هذا الكتاب إنذار المعرضين وبشارة المطيعين.
١ زيادة من ب..
٢ البحر المحيط ٨/٥٩ وهي شاذة غير متواترة..
٣ نسبها أبو حيان أيضا إلى الكلبي المرجع السابق ولم ينسبها الزمخشري فجعلها قراءة واحدة الكشاف ٣/٥١٩..
٤ التبيان ١١٥٥..
٥ البحر المحيط المرجع السبق ولم ينسب هذا الرأي لمعين..
٦ لم أجده في كتابه مجاز القرآن عند هذه الآية ولعله له في كتاب آخر ولا فرق بينه وبين الذي سبقه من التقدير..
٧ في ب الأولى..
٨ يقصد الهاء من قوله: "وهذا" وانظر البحر المحيط ٨/٥٩ والتبيان ١١٥٥ والبيان ٢/٣٦٩ والحال في الحقيقة هو "عربيا" فيكون "لسانا" توطئة للحال أي تأكيدا. انظر القرطبي ١٦/١٩١ والبحر المرجع السابق..
٩ أي هذا الكتاب يصدق لسان محمد صلى الله عليه وسلم. التبيان ١١٥٥..
١٠ نقله أبو حيان في بحره المرجع السابق..
١١ السابق..
١٢ قاله صاحب التبيان في مرجعه السابق ١١٥٥..
١٣ وهو أبو رجاء والأعرج وشيبة، وأبو جعفر، ونافع، وابن كثير، وهي قراءة متواترة انظر السبعة ٥٩٦ والنشر تقريبه ١٧٣، وابن خالويه في حجته ٣٢٦..
١٤ باقي السبعة..
١٥ أي للإنذار والبشرى..
١٦ وهو اختيار الزجاج ورجحه قال: "الأجود أن يكون "بشرى" في موضع رفع والمعنى وهو بشرى للمحسنين" معاني القرآن وإعرابه ٤/٤٤١..
١٧ في البحر ٨/٥٩..
١٨ الكشاف ٣/٥٢٠..
١٩ أي طالب لذلك المحل..
٢٠ كذا في أ وفي ب: إذ الأصل في المفعول له الجر، وهو الصحيح الموافق لما في البحر لأبي حيان فضلا عن المعنى المقصود..
٢١ بالمعنى قليلا من البحر المحيط ٨/٥٩ و٦٠..
٢٢ هذه الشروط أن يكون مصدرا خلافا ليونس، معللا، قيل: ومن أفعال الباطن وقد شرط المتأخرون والأعلم، مشاركته لفعله وقتا وفاعلا، كما شرط المبرد والرياشي تنكيره فإن فقد أي شرط من الشروط السابقة جر باللام، أو من، أو الباء، قيل: أو في، وهناك المزيد في همع السيوطي وغيره بتصرف من الهمع ١/١٩٤..
٢٣ زيادة من أ الأصل..
٢٤ زيادة من النسختين ففي معاني القرآن له: "ويجوز أن يكون... ويبشر المحسنين بشرى". معاني القرآن وإعرابه ٤/٤٤١..
٢٥ ذكره العلامة الإمام الفخر الرازي ٢٨/١٢ و١٣..
قوله تعالى: ﴿إِنَّ الذين قَالُواْ رَبُّنَا الله ثُمَّ استقاموا﴾ لما قرر دلائل التوحيد والنُّبوة وذكر شبهات المنكرين وأجاب عنها، ذكر بعد ذلك طريقة المحققين فقال: ﴿إِنَّ الذين قَالُواْ رَبُّنَا الله ثُمَّ استقاموا﴾ وقد تقدم تفسيره في سورة السجدة. والفرق بين الموضعين أن في سورة السجدة ذكر أن الملائكة ينزلُونَ ويقولون: لاَ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا، وههنا رفع الواسطة وذكر أنه لا خوف عليهم ولا هم يحزنون؛ فإذا جمعنا بين الآيتين حصل من مجموعهما أن الملائكة يلتقونهم بالبشارة من غير واسطة.
قوله: ﴿فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ﴾ الفاء زائدة في خَبَر الموصول، لما فيه من معنى الشرط. ولم تمنع «إنَّ» من ذلك إبقاء معنى الابتداء بخلاف لَيْتَ، ولَعَلَّ، وكَأَنَّ.
قوله تعالى: ﴿أولئك أَصْحَابُ الجنة﴾ قالت المعتزلة هذه الآية تدل على مسائل:
أولها: أن قوله: ﴿أولئك أَصْحَابُ الجنة خَالِدِينَ فِيهَا﴾ يفيد الحصر وأن أصحاب الجنة ليسوا إلا الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا وهذا يدل على أن صاحب الكبيرة قبل التوبة لا يدخ الجنة.
وثانيها: قوله ﴿جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ يدل على فساد قول من يقول: الثواب فضل لا جزاء.
391
وثالثها قوله: ﴿جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ يدل على إثبات العمل للعبد.
ورابعها: يدل على أن العبد يستحق على الله جزاء عمله وتقدم جواب ذلك.
قوله: ﴿خَالِدِينَ﴾ منصوب على الحالية و «جَزَاءً» منصوب إما بعامل مضمر، أي يُجْزَوْنَ جزاءً أو بما تقدم، لأن معنى أولئك أصحاب الجنة جَازَيْنَاهُمْ بِذَلِكَ.
392
قوله تعالى :﴿ أولئك أَصْحَابُ الجنة ﴾ قالت المعتزلة هذه الآية تدل على مسائل :
أولها : أن قوله :﴿ أولئك أَصْحَابُ الجنة خَالِدِينَ فِيهَا ﴾ يفيد الحصر وأن أصحاب الجنة ليسوا إلا الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا وهذا يدل على أن صاحب الكبيرة قبل التوبة لا يدخ الجنة.
وثانيها : قوله ﴿ جَزَاءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾ يدل على فساد قول من يقول : الثواب فضل لا جزاء.
وثالثها قوله :﴿ جَزَاءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾ يدل على إثبات العمل للعبد.
ورابعها : يدل على أن العبد يستحق على الله جزاء عمله١ وتقدم جواب ذلك.
قوله :﴿ خَالِدِينَ ﴾ منصوب على الحالية و«جَزَاءً » منصوب إما بعامل مضمر، أي يُجْزَوْنَ جزاءً٢ أو بما تقدم، لأن معنى أولئك أصحاب الجنة جَازَيْنَاهُمْ بِذَلِكَ.
١ وقد ذكر الرازي وجها خامسا وهو كون العبد مستحقا على الله تعالى وأعظم أنواع هذا النوع الإحسان إلى الوالدين. انظر هذا الوجه وما قبله من الأوجه في الرازي ٢٨/١٣ و١٤..
٢ التبيان ١١٥٥..
قوله تعالى: ﴿وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً﴾ تقدم نظيره. قرأ الكوفيون: إحْساناً، وباقي السبعة «حسناً» بضَمِّ الحاء وسكون السين، فالقراءة الأولى يكون «إحْسَاناً» فيها منصوباً بفعل مقدر أي وصيناه أن يحسن أليهما إِحْسَاناً وقيل: بل هو مفعول به على تضمين وصينا معنى «أَلْزَمْنَا» فيكون مفعولاً ثانياً وقيل: بل هو منصوب على المفعول له، أي وصَّيْنَا بهما إحْسَاناً منا إليهما. وقيل: هو منصوب على المصدر، لأن معنى وصينا أحْسَنًّا، فهو مصدر صريحٌ، والمفعول الثاني هو المجرور بالباء. وقال ابن عطية: إنها تتعلق إما «بوصَّيْنَا» وإما «بإحْسَاناً» وردَّ عليه أبو حيان هذا الثاني بأنه مصدر مؤول فلا يتقدم معموله عليه، ولأن «أَحْسَنَ» لا يتعدى بالباء، وإنما يتعدى باللام لا تقول: أَحْسِنْ بزَيْدٍ على معنى وصول الإحسان إليه. ورد بعضهم هذا بقوله: ﴿أَحْسَنَ بي إِذْ أَخْرَجَنِي﴾ [يوسف: ١٠٠]. وقيل: هو بغير هذا المعنى. وقدر بعضهم: ووصينا الإنسان بوالديه ذَا إحْسَانٍ، يعني فيكون حالاً. وأما «حُسْناً» فقيل
392
فيها ما تقدم في «إحسان». وقرأ عِيسَى والسُّلَمي بفتحهما. وقد تقدم معنى القراءتين في البقرة وفي لقمان. قال ابن الخطيب: حجة من قرأ إحساناً قوله تعالى في سورة بني إسرائيل: ﴿وبالوالدين إِحْسَاناً﴾ [الإسراء: ٢٣] ومعناه أمر بأن يوصل إليهما إحساناً. وحجة القراءة الأخرى قوله تعالى في سورة العنكبوت: ﴿وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ حُسْناً﴾ [العنكبوت: ٨] ولم يختلفوا فيه. والمراد أنا أمرناه بأن يوصل إليهما فعلاً حسنا، كما يقال: هذا الرجل عِلْمٌ وكَرَمٌ. قوله: ﴿حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً﴾ قرأ أهل الحجاز وأبو عمرو بفتح الكاف، والباقون بضمها، وقيل: هما لغتان بمعنى واحد، مثل الضَّعْف والضُّعْف، والفَقْر والفُقْر، ومن غير المصادر الدَّفُّ، والدُّفُّ، والشَّهْدُ والشُّهْدُ وقال الواحدي: الكُرْهُ مصدر من كَرِهْتُ الشيء أَكْرَهُهُ والكَرْهُ الاسمُ كأنه الشيء المكروه، قال تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ القتال وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ﴾ [البقرة: ٢١٦] فهذا بالضم، وقال: ﴿تَرِثُواْ النسآء كَرْهاً﴾ [النساء: ١٩] فهذا في موضع الحال، وما كان مصدراً في موضع الحال فالفتح فيه أحسن. وقال أبو حاتم: الكره بالفتح لا يحسن، لأنه بالفتح الغَصْبُ والغَلبة. ولا يلتفت لما قاله لتواتر هذه القراءة. وانتصابهما إمَّا على الحال من الفاعل أي ذات كره، وإِمَّا على النعت لمصدر مقدر أي حَمْلاً كُرْهاً.

فصل


قال المفسرون: حملته أمُّه مشقةً على مشقةٍ، ووضعته بمشقَّةٍ وليس المراد ابتداء الحمل فإن ذلك لا يكون مشقة، لقوله تعالى: {فَلَماَّ تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ
393
فَلَمَّآ أَثْقَلَتْ} [الأعراف: ١٨٩] فحينئذ حملته كرهاً ووضعته كرهاً يريد شدة الطلق.

فصل


دلت الآية على أن حق الأم أعظم لأنه تعالى قال: ﴿وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً﴾ فذكرهما معاً، ثم خص الأُمَّ بالذكر فقال: ﴿حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً﴾ وذلك يدل على أن حقها أعظمُ وأَنَّ وصول المشاقّ إليهما بسبب الولد كثيرة والأخبار كثيرة في هذا الباب.
قوله: ﴿وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ﴾ أي مدة حمله. وقرأ العامة وفِصَالُهُ مَصْدَر «فَاصَل» كأن الأم فَاصَلَتْهُ وهُوَ فَاصَلَهَا. والجَحْدَرِيُّ والحَسَنُ وقَتَادَةُ: وفَصْلُهُ. قيل: والفَصْلُ والفِصَالُ بمعنى كالعَظْمِ والعِظَامِ والقَطْفِ والقِطَافِ. ولو نصب «ثلاثين» على الظرف الواقع موقع الخبر جاز وهو الأصل، هذا إذا لم نُقدر مضافاً فإن قدرناه أي مُدَّة حَمْلِهِ لم يجز ذلك وتعين الرفع لتصادق الخَبَر والمُخْبَرِ عَنْهُ.

فصل


دلت الآية على أن أقل مدة الحمل ستة أشهر، لأنه لما كان مجموع مدة الحمل والرَّضَاع ثلاثونَ شَهْراً وقال تعالى: ﴿والوالدات يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ﴾ [البقرة: ٢٣٣] فإذا أسقطنا الحولين الكاملين وهي أربعة وعشرون شهراً من ثلاثين بقي مدة الحمل ستة أشهر. وروى عكرمة عن ابن عباس (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما) قال: إذا حملتِ المرأةُ تسعة أشهر أرضعت واحداً وعشرينَ شهراً. وروي عن أبي بكر (الصديق) رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَنَّ امرأةً رفعت إليه وقد ولدت لستة أشهر فأمر برجمها. فقال عمر: لا رَجْمَ عليها وذكر الطريق المتقدمة. وعن عقمان نحوه وأنه يعم بذلك فقرأ ابن عباس عليه الآية. وأما مدة أكثر الحمل فليس في القرآن ما يدل عليه.
قوله: ﴿حتى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ﴾ لا بد من جملة محذوفة، تكون «حَتَّى» غاية لها، أي عاش واستمرت حياته حتى إذا بلغ أشده، قال ابن عباس في رواية عطاء الأشد ثماني عشرة سنة وقيل: نهاية قوته وغاية شبابه واستوائه، وهو مابين ثماني عشرة سنة
394
إلى أربعين سنة، فذلك قوله: ﴿وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً﴾ وقال السدي والضحاك: نزلت في سعد بن أبي وقاص، وقد مَضَت القِصَّةُ. وقيل: نزلت في أبي بكر الصديق وأبيه أبي قُحَافَةً عُثْمَانَ بْنِ عمرو، وأمه أم الخير بنت صخر بن عمرو. وقال علي بن أبي طالب: الآية في أبي بكر الصديق أسلم أبواه جميعاً، ولم يجتمع لأحد من المهاجرين أبواه غيره أوصاه الله بهما ولزم ذلك من بعده، وكان أبو بكر صحب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهو ابن ثماني عشرة سنة، والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ابن عشرين سنة في تجارته إلى الشام فلما بلغ أربعين سنة، ونُبِّىء النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ آمن به ودعا ربه فقال: ﴿رَبِّ أوزعني أَنْ أَشكُرَ نِعْمَتَكَ التي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وعلى وَالِدَيَّ﴾ بالهداية والإيمان. وأكثر المفسرين على أن الأشد ثلاثُ وثلاثون سنةً.

فصل


قال ابن الخطيب: مراتب سن الحيوان ثلاثة، لأن بدن الحيوان لا يتكون إلا برطوبة غريزية وحرارة غريزية، والرطوبة الغريزية زائدة في أول العمر، وناقصة في آخر العمر والانتقال من الزيادة إلى النقصان لا يعقل حصوله إلى إذا حصل الاستواء في وسط هاتين المدتين فثبت أن مدة العمر منقسمة إلى ثلاثة أقسام:
فأولها: أن تكون الرطوبة الغريزية زائدة على الحرارة الغريزية، وحيئنذ تكون الأعضاء عظيمة التمدد في ذَوَاتِها وزيادتها في الطول والعرض والعُمْق وهذا هو سن النُّشُوِّ (والانتماء).
والثانية: وهي المرتبة المتوسطة أن تكون الرطوبة الغريزية وافيةً بحفظ الحرارة الغريزية من غير زيادة ولا نُقْصَان، وهذا هو سنّ الوقوف وهو سِنّ الشباب.
والمرتبة الثالثة: أن تكون الرطوبة الغريزية ناقصة عن الوفاء بفحظ الحرارة الغريزية. ثم هذا النقصان على قسمين:
فالأول: هو النقصان الخفي وهو سن الكهولة. والثاني: هو النقصان الظاهر وهو سن الشَّيْخُوخَةِ.
قوله: «أَرْبَعِينَ» أي تمامها، «فأربعين» مفعول به. قال المفسرون: لم يبعث نَبِيٌّ قَطُّ إلاَّ بعد أربعين سنة. قال ابن الخطيب: وهذا يشكل بعيسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ فإنه
395
تعالى جعله نبياً من أول عمره إلا أنه يجب أن يقال: الأغلب أن ما جاء (هـ) الوحي إلا بعد الأربعين وهكذا كان الأمر في حق نبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
قوله: «أَوْزِعْنِي» قال ابن عباس (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما) معناه أَلْهِمْنِي. قال الجوهري: أَوْزَعْتُهُ أَغْرَبْتُهُ به، فَأُوزعَ بِه فَهو مُوزعٌ به أي مُغْرّى به، واسْتَوْزَعْتُ اللهَ فَأَوْزَعَنِي أي اسْتَلْهَمْتُهُ فأَلْهَمَنِي.
قوله: «وأَن أعمل صالحاً ترضاه» قال ابن عباس (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما) أجاب الله عزَّ وجَلَّ دعاء أبي بكر، فأعتق تعسةً من المؤمنين يُعَذَّبُونَ في الله، منهم بلالٌ، وعامرُ بنُ فُهَيْرة، فلم يرد شيئاً من الخير إلا أعانه الله عليه. ودعا أيضاً فقال: «فَأَصْلِح لِي فِي ذُرِّيَّتِي» فأجاب الله تعالى فلم يكن له ولد إلا آمنوا جميعاً. فاجتمع له إسلام أبويه وأولاده جميعاً. فأدرك أبو قحافة النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وابنه أبو بكر، وابنه عبد الرحمن بن أبي بكر، وابن عبد الرحمن أبو عتيق، كلهم أدركوا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ولم يكن ذلك لأحد من الصحابة.
قوله: ﴿وَأَصْلِحْ لِي فِي ذريتيا﴾ أصلح يتعدى بنفسه لقوله: ﴿وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ﴾ [الأنبياء: ٩٠] وإنَّمَا تعدى ب «في» لتضمنه معنى: الطف بي في ذريتي أو لأنه جعل الذرية طرفاً للاصلاح كقوله:
٤٤٥٢ - يَخْرُجُ فِي عَرَاقِيها نُصَلِّي والمعنى هب لي الصلاح في ذريتي، وأوقعه فيهم.
قوله: ﴿إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ المسلمين﴾ والمراد أن الدعاء لا يصح إلا مع التوبة، ومع كونه من المسلمين.
قوله: ﴿أولئك الذين نتقبل عنهم﴾ قرأ الأَخَوانِ وحَفْصٌ: نَتَقَبَّلُ بفتح النون مبنياً للفاعل ونصب «أحسن» على المفعول به، وكذلك «نتَجَاوَزُ» والباقون للمفعول،
396
ورفع «أحْسَن: لقيامه مقام الفاعل، ومكان النون ياء مضمومة في الفعلين.
الحَسَنُ والأَعْمَشُ وعِيسَى بالياء من تحت، والفاعل الله تعالى.
(فصل)
ومعنى أولئك أي أهل هذا القول الذي تقدَّم ذكره، فمن يدعو بهذا الدعاء نتقبل عنهم، والتقبل من الله هو إيجاب الثواب له على عمله. وقوله: ﴿أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ﴾ يعني أعمالهم الصالحة التي عملوها في الدنيا وكلها حسن.
فإن قيل: كيف قال: ﴿أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ﴾ والله يَتَقبَّل الأحْسَنَ وَمَا دُونَه؟!
فالجواب من وجهين:
الأول: المراد بالأحسن الحسن، كقوله تعالى: ﴿واتبعوا أَحْسَنَ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ﴾ [الزمر: ٥٥] وكقولهم: النَّاقِصُ والأشجُّ أعدلا بني مروان أي عادلاً بني مروان.
الثاني: أنّ الحسن من الأعمال هو المباح الذي لا يتعلق به ثواب، ولا عقاب، والأحسن ما يغاير ذلك وهو المندوب أو الواجب.
وقوله: ﴿وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ﴾ فلا يعاقبهم عليها.
قوله: ﴿في أصحاب الجنة﴾ فيه أوجه:
أظهرها: أنه في محل أي كائنين في جملة أصحاب الجنة كقولك: «أَكْرَمَنِي الأَميرُ في أصحابِهِ»
أي في جُمْلَتِهِم.
والثاني: أن «في» معناها «مَعَ».
الثالث: أنها خبر ابتداء مضمر أي هُمْ في أصحاب الجنَّة.
قوله: ﴿وَعْدَ الصدق﴾ مصدر مؤكد لمضمون الجملة السابقة لأن قوله: ﴿أولئك الذين نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ﴾ في معنى الوعد، فيكون قوله: «نَتَقَبَّلُ وَنَتَجَاوَزُ» وعداً من الله بالتقبل والتجاوز والمعنى (أنه) يعامل من صفته ما قدمناه بهذا الجزاء، وذلك وعد من الله، فبين أنه صدق لا شك فيه.
397
قوله :﴿ أولئك الذين نتقبل عنهم ﴾ قرأ الأَخَوانِ وحَفْصٌ : نَتَقَبَّلُ بفتح النون مبنياً للفاعل ونصب «أحسن » على المفعول به، وكذلك «نتَجَاوَزُ » والباقون بنيابتهما للمفعول، ورفع «أحْسَن : لقيامه مقام الفاعل، ومكان النون ياء مضمومة في الفعلين١. والحَسَنُ والأَعْمَشُ وعِيسَى بالياء من تحت، والفاعل الله تعالى٢.
( فصل )
ومعنى أولئك أي أهل هذا القول الذي تقدَّم ذكره، فمن يدعو بهذا الدعاء نتقبل عنهم، والتقبل من الله هو إيجاب الثواب له على عمله. وقوله :﴿ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ ﴾ يعني أعمالهم الصالحة التي عملوها في الدنيا وكلها حسن.
فإن قيل : كيف قال :﴿ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ ﴾ والله يَتَقبَّل الأحْسَنَ وَمَا دُونَه ؟ !
فالجواب من وجهين :
الأول : المراد بالأحسن الحسن، كقوله تعالى :﴿ واتبعوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ ﴾ [ الزمر : ٥٥ ] وكقولهم : النَّاقِصُ والأشجُّ أعدلا بني مروان أي عادلاً بني مروان.
الثاني : أنّ الحسن من الأعمال هو المباح الذي لا يتعلق به ثواب، ولا عقاب، والأحسن ما يغاير ذلك وهو المندوب أو الواجب٣.
وقوله :﴿ وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ ﴾ فلا يعاقبهم عليها.
قوله :﴿ في أصحاب الجنة ﴾ فيه أوجه :
أظهرها : أنه في محل أي كائنين في جملة أصحاب الجنة كقولك :«أَكْرَمَنِي الأَميرُ في أصحابِهِ » أي في جُمْلَتِهِم٤.
والثاني : أن «في » معناها «مَعَ »٥.
الثالث : أنها خبر ابتداء مضمر أي هُمْ في أصحاب الجنَّة٦.
قوله :﴿ وَعْدَ الصدق ﴾ مصدر مؤكد لمضمون الجملة السابقة لأن قوله :﴿ أولئك الذين نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ ﴾ في معنى الوعد، فيكون قوله :«نَتَقَبَّلُ وَنَتَجَاوَزُ » وعداً من الله بالتقبل والتجاوز٧ والمعنى ( أنه٨ ) يعامل من صفته ما قدمناه بهذا الجزاء، وذلك وعد من الله، فبين أنه صدق لا شك فيه٩.
١ قراءة متواترة ذكرها صاحب السبعة ٥٩٧ والقارئون بالياء ابن كثير، نافع، وأبو عمرو، وابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر، وانظر الكشف لمكي أيضا ٢/٢٧٢..
٢ قراءة شاذة ذكرها بدون نسبة الكشاف ٣/٥٢١ وابن خالويه في الشواذ ١٣٩ والبحر المحيط ٨/٦١..
٣ وهو ما قال به الرازي في تفسيره ٢٨/٢١ و٢٢..
٤ البحر المحيط ٨/٦١ والكشاف ٣/٥٢٣..
٥ البحر المحيط ٨/٦١..
٦ قاله أبو البقاء في التبيان ١١٥٦..
٧ قاله الرازي وأبو حيان في تفسيريهما الأول في التفسير الكبير ٢٨/٢٢ والثاني في البحر المحيط ٨/٦١..
٨ زيادة للسياق..
٩ الرازي السابق..
قوله تعالى: ﴿والذي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَآ﴾ لما وصف الولد البارَّ بوالديه، وصف الولد العاقَّ بوالديه ههنا. واعلم أنه قد تقدم الكلام على أُفٍّ. و «لكما» بيان أي التأفيف لكما نحو: «هَيْتَ لَكَ» وهي كلمة كَرَاهَيِة. ﴿أتعدانني أَنْ أُخْرَجَ﴾ كم قبري حياً ﴿وَقَدْ خَلَتِ القرون مِن قَبْلِي﴾ ولم يبعث منهم أحد. قال ابن عباس، والسدي، ومجاهد: نزلت في عبد الله. وقيل: في عبد الرحمن بن أبي بكر قبل إسلامه كان أبواه يدعوانه إلى الإسلام، وهو يأبى، وهو قوله: أُفٍّ كما أَحْيوا لي عَبْدَ الله بن جُدْعَان، وعامرَ بن كعب ومشايخ قريش حتى أسألهم عما تقولون. واحتجوا بهذا القول بأنه (لما) كاتب معاوية إلى ابن مروان بأن يبايع الناس ليزيد قال عبد الرحمن بن أبي بكر: لقد جئتم شيئاً نُكراً أتبايعون أبناءكم فقال: (مروان) يا أيها الناس هو الذي قال الله فيه: ﴿والذي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَآ﴾ والصحيح أنها نزلت في كل كافر عاقٍّ لوالديه. قاله الحسن وقتادة. قال الزجاج: قوله من قال: إنها نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر قبل إسلامه يبطله قوله: ﴿أولئك الذين حَقَّ عَلَيْهِمُ القول في أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمْ﴾ فأعلم الله تعالى أن هؤلاء قد حقت عليم كلمة العذاب، وعبد الرحمن مؤمن من أفاضل المؤمنين، فلا يكون ممّن حقَّت عليهم كلمة العذاب. قال ان الخطيب: وهذا القول هو الصحيح فإن قالوا: روى أه لما دعاه أبواه إلى الإسلام، وأخبراه بالبعث بعد الموت قال: أَتَعِدَانني أَنْ أُخْرَجَ من القبر يعني أبعث بعد الموت «وَقَدْ خلت القرون من قبلي» يعني الأمم الخالية، فلم يرجعوا منهم عبد الله بن جدعان، وفلان وفلان. فنقول: قوله: أولئك الذي حق عليهم القول المراد هؤلاء الذين ذكرهم عبد الرحمن من المشركين الذين ماتوا قبله هم الذين حق عليهم القول فالضمير عائد إلى المُشارِ إليهم بقوله: ﴿وَقَدْ خَلَتِ القرون مِن قَبْلِي﴾ لا
398
إلى المشار إليه بقوله: ﴿والذي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَآ﴾. هذا جواب الكلبي في دَفْعِ ذلك الدليل، وهو حسن. وأيضاً روي أن مَرْوَان لما خاطب عبد الرحمن بن أبي بكر بذلك الكلام سمعت عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها ذلك فغضبت وقالت: والله ما هُوَ به، ولكن الله كفَّر أباك وأنت في صلبه. وإذا ثبت ذلك كان المراد كُلّ ولد اتصف بالصفات المذكورة. ولا حاجة إلى تخصيص اللفظ بشخص معين.
قوله: ﴿ا﴾ العامة على نوني مكسورتين، الأولى للرفع والثانية للوقاية وهشام بالإدغام ونافع في رواية بنون واحدة. وهذه شبيهة بقوله: «تَأْمُرُونِّي أَعْبُد». وقرأ الحسن وشيبة وأبو جعفر وعبد الوارث عن أبي عمرو بفتح النون الأولى، كأنهم فروا من توالي مثلين مكسورين بعدهما ياء.
واقل أبو البقاء: وهي لغة شاذة في فتح نون الاثنين. قال شهاب الدين: إن عنى نون الاثنين في الأسماء نحو قوله:
٤٤٥٣ - عَلَى أَحْوَذِيَّيْنَ اسْتَقَلَّتْ................................
فليس هذا منه، وإن عنى في الفعل فلم يثبت ذلك لُغَةً، وإنما الفتح هنا لما ذكرت.
قوله: ﴿أَنْ أُخْرَجَ﴾ هو الموعود به، فيجوز أن نقدر الباء قبل «أن» وأن لا نقدِّرَهَا.
399
قوله: ﴿وَقَدْ خَلَتِ﴾ جملة حالية، وكذلك ﴿وَهُمَا يَسْتَغثِيَانِ الله﴾ أي يَسْأَلاَنِ الله، واستغاث يتعدى بنفسه تارة، وبالباء أخرى، وإن كان ابن مالك زعم أنه متعدٍّ بنفسه، وعابَ قولَ النحاة: مُسْتَغَاثٌ بِهِ قال شهاب الدين: لكنه لم يرد في القرآن إلا متعدياً بنفسه، (كقوله) :﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ﴾ [الأنفال: ٩] ﴿فاستغاثه الذي مِن شِيعَتِهِ﴾ [القصص: ١٥] ﴿وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ﴾ [الكهف: ٢٩]. قال ابن الخطيب: معناه يستغيثان الله من كفره وإنكاره، فلما حذف الجار وصل للفعل، ويجوز أن يقال: حذف الباء، لأنه أريد بالاستغاثة الدعاء، فحذف الجار، لأنَّ الدعاء لا يَقْتَضِيهِ.
قوله: «وَيْلَكَ» منصوب على المصدر بفعل ملاق له في المعنى دون الاشتقاق، ومثله: وَيْحَهُ ووَيْسَهُ، وَوَيْتَهُ. وإما على المفعول به بتقدير ألْزَمَكَ اللهُ وَيْلَكَ، وعلى كلا التقديرين الجملة معمولة لقول مضمر، أي يَقُولاَنِ وَيْلَكَ آمِنْ، (والقول في محل نصب على الحال أي يستغيثان الله قَائِلِينَ ذلك، والمعنى يقولان له ويلَكَ آمنْ) وصدِّقْ بالبْعثِ، وهو دعاء عليه بالثُّبُورِ والمراد الحث والتحريض على الإيمان لا حقيقة الهَلاَك.
قوله: ﴿إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ﴾ قرأ العامة بكسر إنّ، استئنافاً، أو تعليلاً، وقرأ عمرو بْنُ فَائِدٍ والأعرجُ بفتحها على أنها معمولة «لآمِنْ» على حذف الباء أي آمن بأن وعد الله حق بالبعث «فَيَقُولُ» لهما ﴿مَا هاذآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأولين﴾.
قوله: ﴿١٦٤٨; ئِكَ الذين حَقَّ عَلَيْهِمُ القول﴾ أي وجب عليهم العذاب ﴿في أُمَمٍ﴾ أي مع أمم. وقد تقدم ﴿قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمْ مِّنَ الجن والإنس إِنَّهُمْ كَانُواْ خَاسِرِينَ﴾.
قوله: ﴿وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ﴾ قال ابن عباس (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا) يريد
400
من سبق إلى الإسلام فهوأفضل ممَّنْ تخلف عنه ولو ساعةً. وقال مقاتل: ولكل واحدٍ من الفريقين يعني البارَّ بوالديه والعاقّ لهما «دَرَجَاتٌ» في الإيمان والكفر والطاعة والمعْصِيَةِ.
فإن قيل: كيف يجوز إطلاق لفظ الدرجات في أهل النار، وقد روي: الجَنَّةُ دَرَجَاتُ والنَّار دركات؟
فالجواب من وجوه:
أحدهما: أن ذلك على جهة التغليب.
وثانيها: قال ابن زيد: دَرَدُ أهل الجنة تذهب عُلُوًّا، ودَرَدُ أهلِ النار تذهب هُبُوطاً.
الثالث: المراد بالدرجات المراتب المتزايدة، فدرجات أهل الجنة في الخيرات والطاعات ودرجات أهل النار في المعاصي والسيئات.
قوله: ﴿وَلِيُوَفِّيَهُمْ﴾ معلَّلة بمحذوف تقديره جَاؤُوهُمْ بذلك. وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وعاصم وهشام بالياء من تحت وباقي السبعة بالنون. والسُّلَميّ بالتاء من فوق: أسند التَّوفيَةً للدرجات مجازاً. قوله: ﴿وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ﴾ إما استئناف وإما حال مؤكَّدة.
401
قوله :﴿ أولئك الذين حَقَّ عَلَيْهِمُ القول ﴾ أي وجب عليهم العذاب ﴿ في أُمَمٍ ﴾ أي مع أمم. وقد تقدم ﴿ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمْ مِّنَ الجن والإنس إِنَّهُمْ كَانُواْ خَاسِرِينَ ﴾.
قوله :﴿ وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ ﴾ قال ابن عباس ( رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا١ ) يريد من سبق إلى الإسلام فهو أفضل ممَّنْ تخلف عنه ولو ساعةً. وقال مقاتل : ولكل واحدٍ من الفريقين يعني البارَّ بوالديه والعاقّ لهما «دَرَجَاتٌ » في الإيمان والكفر والطاعة والمعْصِيَةِ٢.
فإن قيل : كيف يجوز إطلاق لفظ الدرجات في أهل النار، وقد روي : الجَنَّةُ دَرَجَاتُ والنَّار دركات ؟
فالجواب من وجوه :
أحدهما : أن ذلك على جهة التغليب.
وثانيها : قال ابن زيد : دَرَجُ أهل الجنة تذهب عُلُوًّا، ودَرَجُ أهلِ النار تذهب هُبُوطاً.
الثالث : المراد بالدرجات المراتب المتزايدة، فدرجات أهل الجنة في الخيرات والطاعات ودرجات أهل النار في المعاصي والسيئات٣.
قوله :﴿ وَلِيُوَفِّيَهُمْ ﴾ معلَّلة بمحذوف تقديره جَاؤُوهُمْ بذلك. وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وعاصم وهشام بالياء من تحت وباقي السبعة بالنون٤. والسُّلَميّ بالتاء٥ من فوق : أسند التَّوفيَةً للدرجات مجازاً. قوله :﴿ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ﴾ إما استئناف وإما حال مؤكَّدة.
١ زيادة من أ..
٢ الرازي ٢٨/٢٤ والقرطبي ١٦/١٩٨..
٣ الرازي ٢٨/٢٤..
٤ قراءة متواترة ذكرها صاحب الإتحاف ٣٩٢، والسبعة ٥٩٨ وباقي السبعة هم نافع وابن عامر وحمزة والكسائي..
٥ نسبها ابن خالويه في المختصر إلى علي بن أبي طالب وعبد الرحمن بن أبي بكر وهي شاذة وإن كانت جائزة لغة، ونسبها المؤلف كنسبة أبي حيان في البحر ٨/٦٢ بينما أوردها الكشاف قراءة دون عزو الكشاف ٣/٥٢٣، وقد أشار وقرر بأن هذه الجملة معللة لمحذوف كما تكلم المؤلف أعلى..
قوله: ﴿وَيَوْمَ يُعْرَضُ﴾ اليوم منصوب بقول مضمر، أي يقال لهم: أَذْهَبْتُمْ في يوم عرضهم. وجعل الزمخشري هذا مثل قولهم: «عُرِضَتْ النَّاقَةُ عَلَى الْحَوْضِ» فيكون قلباً. وردهُ أبو حيان بأنه ضرورة وأيضاً العرض أمر نسبي فتصح إلى الناقة، وإلى
401
الحوض. وقد تقدم الكلام في القلب وأنَّ فيه ثلاثة مذاهب.
قوله: ﴿أَذْهَبْتُمْ﴾ قرأ ابن كثير: أَأَذْهَبْتُمْ بهمزتين الأولى مخففة والثانية مُسَهَّلة بَيْنَ بَيْنَ ولم يُدخل بينهما ألفاً. وهذا على قاعدته في: «أأنذرتهم» ونحوه. وابن عامر قرأ أيضاً بهمزتين، لكن اختلف رواياه عنه: فهشام سهل الثانية وخففها، وأدخل ألفاً في الوجهين، وليس على أصله فإنه من أهل التحقيق. وابن ذكوان بالتحقيق فقط، دون إدخال ألف، والباقون بهمزة واحدة فيكون إما خبراً وإما استفهاماً سقطت أداته للدلالة عليها.
والاستفهام معناه التقريع وكلتا القراءتين فصيحتان لأن العرب تسْتَفْهِمُ وتترك الاستفهام فتقول: أذْهَبْتَ فَفَعَلْتَ كَذَا؟ وذَهَبتَ فَفَعَلْتَ كَذَا؟.
قوله: ﴿فِي حَيَاتِكُمُ﴾ يجوز تعلقه «بأَذْهَبْتُمْ: ويجوز تعلقه بمحذوف على أنه حال من» طَيْبَاتِكُمْ «.

فصل


قيل: المعنى يعرض الذين كفروا على (النار) أي يَدْخُلُون النار. وقيل: تدخل عليهم النارُ ليروا أهوالها، ويقال لهم: أَذْهَبتُمٍ طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمعتم بها، والمعنى أن ما قدر لكم من الطيبات والدَّرَجَات فقد استوفيتموه في الدنيا، فلم يبق لكم بعد استيفاء حضكم شيء منها. وعن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: لَوْ شِئْتُ لَكُنْتُ أَطْيَبَكُمْ طَعَاماً وأحْسَنَكُمْ لِبَاساً، ولكنِّي أسْتَبْقِي طَيِّباتِي. قال الواحدي: إن الصالحين يؤثرون
402
التقشف والزهد في الدنيا رجاء أن يكون ثوابهم في الآخرة أكمل، لأن هذه الآية لا تدل على المنع من التمتع، لأن هذه الآية وردت في حق الكافر، وإنما وبخ الله الكافر، لأنه تمتع بالدنيا ولم يؤد شكر المنعم بطاعته، والإيمان به، وأما المؤمن فإنه يؤدي بإيمانه شكر المنعم، فلا يبّخ بتمتعه، ويدل على ذلك قوله تعالى: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ الله التي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرزق﴾ [الأعراف: ٣٢] نعم لا يُنْكَر أنَّ الاحتراز عن التنعيم أولى؛ لأن النفس إذا اعتادت التنعيم صعب عليها الاحتراز والانقياد وحينئذ ربّما حمله المَيْلُ إلى تلك الطيبات على فعل ما لا يَنْبَغِي. روى عمر (رَضِيَ اللَّهُ عَنْه) » قال: دخلت على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فإذا هو على زُمّالٍ حَصِيرٍ قد أثر الزّمّال بجنبه فقلت يا رسول الله: ادعه الله أن يُوسِّعَ على أمتك، فإنَّ فارساً والرومَ قد وسع عليهم وهم يعبدون غير الله فقال: أولَئِكَ قوم قد عُجِّلَتْ لهم طيباتهم في الحياة الدنيا «وروت عائشة (رَضِيَ اللَّهُ عَنْها) قالت: ما شبع آل محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من خبز الشعير يومين متتابعين حتى قُبضَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وعنها قالت: لقد كان يأتي علينا الشَّهْرُ ما نُوقِدُ فيه ناراً ما هو إلا الماء والتمز.
وعن ابن عباس (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما) قال: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يَبِيتُ الليالي المتتابعةَ طاوياً وأهلُه لا يجدون شيئاً، وكان أكثر خبزهم خبزَ الشعير، والأحاديث فيه كثيرة.
قوله: ﴿فاليوم تُجْزَوْنَ عَذَابَ الهون﴾ أي العذاب الذي فيه ذُلّ وخِزْي. وقرىء: عَذَاب الهَوَانِ ﴿بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأرض بِغَيْرِ الحق وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ﴾ فعلّل تعالى ذلك العذاب بأمرين:
أحدهما: الاستكبار والترفع وهو ذنب القلب.
والثاني: الفِسق، وهو ذَنْب الجوارح وقدم الأول على الثاني، لأن أحوال القلب أعظم وقعاً من أعمال الجوارح، ويمكن أن يكون المراد من الاستكبار أنهم يكتبرون عن قول الدين الحق، ويستكبرون عن الإيمان بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والمراد بالفسق المعاصي.

فصل


دلت الآية على ان الكفار يخاطبون بفروع الإسلام، لأن الله تعالى علل عذابهم بأمرين:
403
أولهما: الكفر، وثانيهما: الفسق وهذا الفِسق لا بدّ وأن يكون مغايراً لذلك الكفر لأن العَطْفَ يوجب المغايرة فثبت أن فسق الكافر يوجب العذاب في حقهم، ولا معنى للفسق إلا ترك المأمورات وفعل المنهيَّات.
404
قوله تعالى: ﴿واذكر أَخَا عَادٍ إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بالأحقاف... ﴾ الآية لما ذكر دلائل النبوة والتوحيد وكان أهل مكة بسبب استغراقهم في لذات الدنيا أعرضوا عنها ولم يلتفتوا إليها لهذا السبب قال تعالى في حقهم: ﴿وَيَوْمَ يُعْرَضُ الذين كَفَرُواْ عَلَى النار أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدنيا﴾ [الأحقاف: ٢٠] فلما كان الأمر كذلك بين أن قوم عاد كانوا أكثر أموالاً وقوةً وجاهاً، ثم إن الله تعالى سلَّط عليهم العذاب بكفرهم وذكر قصتهم ليعتبر بها أهل مكة فيتركوا الاغترار بما وجدوه في الدنيا ويقبلوا على طلب الدين الحق فقال: «وَاذْكُرْ يا محمد لقومك أَخَا عَادٍ» أي هوداً عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ.
قوله: ﴿إِذْ أَنذَرَ﴾ بدل من «أخا» بدل اشتمال وتقدم تحقيقه. وقوله ﴿بالأحقاف﴾ هي جمع حِقْفٍ وهو الرمل المستطيل المعوجُّ ومنه احْقَوْقَفَ الهِلاَلُ، قال امرؤ القيس:
404
قال ابن عباس (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما) وادٍ بين عمان ومَهْرة. وقال مقاتل: كانت منازل عاد باليمن في حضرموت، بموضع يقال له: مَهْرَةَ إليها تنسب الإبل المَهْرِيَّة، وكانوا أهل عُمُد سيارة في الربيع فإذا العُود رَجَعُوا إلى منازلهم وكانوا من قبيلة إرَم، وقال قتادة: ذكر لنا أن عاداً كانوا حياً من اليمن كانوا أهل رمل مشرفين على البحر، بأرض يقال لها الشِّحْر.
قوله: ﴿وَقَدْ خَلَتِ﴾ يجوز أن يكون حالاً من الفاعل، أو من المفعول والرابط الواو، والنُّذُر جمع نَذِيرٍ ويجوز أن يكون معترضة بين «أَنْذَرَ» وبين «أَنْ لا تَعْبُدُوا» أي أنذرهم بأن لا.
وقوله: ﴿مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ﴾ أي مضت الرسل من قبل هود ومن خلفه أي بعده. (والمعنى أعلمهم أن الرسل الذي بعثوا قبله والذين يبعثون) بعده كلهم منذرون نحو إنذاره.

فصل


قال المفسرون: إن هُوداً عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ كان قد أنذرهم وقال: أن لا تعبدوا إلا الله إنِّي أَخَافُ عَلَيْكُم العذاب قالوا جئتنا لتأفكنا «أي لتصرفنا» عَنْ آلِهَتِنَا أي عن عِبَادَتِهَا، والإفْكُ الصَّرْفُ، يقالُ: أَفِكَهُ عَنْ رَأيهِ إذا صَرَفَهُ عنه. وقيل: المراد لتلفتنا بالكذب. ﴿فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ﴾ من معاجلة العذاب على الكفر ﴿إِن كُنتَ مِنَ الصادقين﴾ في وعدك أن العذاب نازل بنا قال هود: إنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ وهو يعلم متى يأتيكم العذاب ﴿وَأُبَلِّغُكُمْ مَّآ أُرْسِلْتُ بِهِ﴾ من الوحي والتحذير من العذاب، فأما العلم بوقته فما أوحاه إليَّ ﴿ولكني أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ﴾ وهذا يحتمل أ، المراد أنكم لا تعلمون أن الرسل لم يبعثوا مقترحين ولا سائلين عن غير ما أُذِنَ لهم فيه وإنما بعثوا مبلغين.
ويحتمل أن يكون المراد قوماً تجهلون من حيث إنكم بَقِيتُم مُصرِّين على كفركم وجهلكم فيغلب على ظني أنه قرب الوقت الذي ينزل عليكم العذاب بسبب هذا الجهل المفرط والوقاحة التامة.
ويحتمل أن يكون المراد قوماً تجهلون حيث تُصِرُّونَ على طلب العذاب وهب أنه لم يظهر لكم كوني صادقاً ولكن لم يظهر لكم أيضاً كوني كاذباً، فالإقدام على الطلب الشديد لهذا العذاب جهل عظيم.
405
قوله: ﴿فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً﴾ في «هاء» «رَأَوْهُ» قولان:
أحدهما: أنه عائد على «ما» في قوله «ما تَعِدُنا».
الثاني: أنه ضمير مبهم يفسره «عَارِضاً» إما تمييزاً، أو حالاً. قالهما الزمخشري.
وردَّه أبو حيان بأن التمييز المفسِّر للضمير محصورٌ في باب رُبَّ، وفي نِعْمَ وبِئْسَ، وبأنَّ الحالَ لم يُعْهَد فيها أن توضع الضمير قبلها، وأن النَّحويِّين لا يعرفون ذلك. وذكر المبرد في الضمير ههنا قولين:
الاول: ما تقدم. والثاني: أنه يعود إلى غير مذكور وبينه قوله:: «عارضاً» كقوله: ﴿مَا تَرَكَ على ظَهْرِهَا مِن دَآبَّةٍ﴾ [فاطر: ٤٥]. ولم يذكر الأرض لكونها معلومة فكذا الضمير ههنا، عائد إلى السحاب، كأنه قيل: فلما رأَوا السَّحَابَ عارِضاً. وهذا اختيار الزجاج. ويكون من باب الإضمار لا على شريطة التفسير.
والعارض السحابة التي ترى في ناحية السماء ثم تطبّق السماء. قال أهل اللغة: العَارِضُ المُعْتَرِضُ من السَّحَاب في الجوِّ، قال:
٤٤٥٤ - فَلَمَّا أَجَزْنَا سَاحَةَ الحَيِّ وَانْتَحَى بِنَا بَطْنُ حقْفٍ ذِي حِقَافٍ عَقَنْقَلِ
٤٤٥٥ - يَامَنْ رَأَى عَارِضاً أَرقْتُ لَهُ بَيْنَ ذِرَاعَيْ وَجَبْهَةِ الأَسَدِ
قوله: ﴿مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ﴾ صفة ل «عَارِضاً»، وإضافة غير محضة فم ثَمَّ سَاغَ
406
أن يكون نعتاً لنكرة وكذلك «مُمْطِرُنَا» وقع نعتاً «لِعَارِضٍ» ومثله:
٤٤٥٦ - يَا رُبَّ غَابِطِنَا لَوْ كَانَ يَطْلُبُكُمْ لاَقَى مُبَاعَدَةً مِنْكُمْ وَحِرْمَانَا
وقد تقدم أن أوديةً جمع وادٍ، وأن أفْعِلَةً وردت جمعاً لفاعل في ألفاظ كَوَادٍ وأدْوِيَةٍ ونَادٍ وأنْدِيَةٍ، وحَائِزٍ وأَحْوِزَةٍ.

فصل


قال المفسرون: كانت عاد قد حبس عنهم المطر أيماً فساق الله إليهم سحابة سوداء فخرجت عليهم من وادٍ لهم يقال له: المغيث، فلما رأوها استبشروا وقالوا: هذا عارض ممطرنا فقال الله تعالى: ﴿بَلْ هُوَ مَا استعجلتم بِهِ﴾ من العذاب. ثم بين ماهيته فقال: ﴿رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ ثم وصف تلك الريح فقال: ﴿تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا﴾ أي تهلك كل شيء من الحيوان والناس بأم ربها. ومعناه أن هذا ليس من باب تأثيراتٍ الكواكب والقِرانَات بل هو أمر حدث ابتداءً بقدرة الله تعالى لأجل تَعْذِبكم.
قوله: ﴿بَلْ هُوَ مَا استعجلتم بِهِ﴾ قرىء: «ما اسْتُعْجلْتُمْ» مبنياً للمفعول. وقوله: «ريحٌ» يجوز أن يكون خبر مبتدأ مضمر أي هُوَ رِيحٌ، ويجوز أن يكون بدلاً من «هِيَ» و «فِيهَا عَذَابٌ» صفة ل «رِيحٍ» وكذلك «تُدَمّر».
وقرىء: يَدْمُر كل شيء، بالياء من تحت مفتوحة، وسكون الدال، وضمّ الميم بالرفع على الفاعلية، أي تهلك كل شيء.
وزيد بن علي كذلك إلا أنه بالتاء من فوق ونصب كل والفاعل ضمير الريح؛ وعلى هذا فيكون (دَمَرَ) الثلاثي لازماً ومتعدياً.
407
قوله: ﴿فَأْصْبَحُواْ لاَ يرى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ﴾ قرأ حمزة وعاصم لا يُرَى بضشم الياء من تحت مبْنيًّا للمفعول «مَسَاكِنُهُمْ» بالرفع لقيامه مقام الفاعل، والباقون من السبعة فتح تاء الخطاب مَسَاكِنَهُمْ بالنَّصب مفعولاً به. والجَحْدَرِيُّ والأعمشُ وابنُ أبي إسحاق والسُّلَمِيّ وأبو رجاء بضم التاء من فوق مبنياً للمفعول مَسَاكِنُهُمْ بالرفع لقيامه مقام الفاعل، إلا أن هذا عند الجمهور لا يجوز، أعني إذا كان الفاصل «إلا» فإنه يمتنع لحاق علامة التأنيث (في الفعل) إلاَّ في ضرورة كقوله (رَحِمَهُ اللهُ) :
٤٤٥٧ - كَأَنَّهُ جَمَلٌ وَهُمٌ وَمَا بَقِيَتْ إلاَّ النُّحَيْزَةُ وَالأَلْوَاحُ والْعُصُبُ
وعيسى الهمداني: لا يُرَى بالياء من تحت مبنياً للمفعول مَسْكَنُهُمْ بالتوحيد.
ونصرُ بنُ عاصم بتاء الخطاب مَسْكَنَهُمْ بالتوحيد أيضاً منصوباً. واجْتُزِىءَ بالوَاحِدِ عَن الْجَمْعِ.

فصل


روي أن الريح كانت تحمل الفُسْطَاطَ فَترْفَعُهَا في الجوِّ، وتحمل الظَّعِينَةَ حتى تُرَى كأنها جَرادَةٌ وقيل: إن أوّل من أبصر العذاب امرأة بينهم قالت: (رَأَيْتُ) ريحاً فيها كشُهب النار.
وروي أن أول ما عرفوا به أنه عذاب أليم أنهم رأوا ما كان في الصحراء من
408
رجالهم ومواشيهم تطير بهم الريح بين السماء والأرض، فدخلوا بيوتهم وأغلقوا أبوابهم فقلعت الريح الأبواب، وصَرَعَتْهُمْ وأمال الله تعالى عليهم الأَحْقَافَ فكانوا تحتها سبعَ ليالٍ وثمانيةَ أيَّام، لَهُمْ أنينٌ، ثم أمر الله الريح فكشف عنه الرِّمال واحتملهم، فرَمَتْ بهم في البحر. وروي أن هوداً لما أحسَّ بالريح خط على نفسه على المؤمنين خطًّا إلى جنب عين تنبعُ، وكانت الريح التي تصيبيهم ريحاً طَيِّبةً هادية، وا لريح التي تُصيبُ قوم عاد ترفعهم من الأرض وتطير بهم إلى السماء، وتضربهم على الأرض، وأثر المعجزةِ إنما ظهر في تلك الريح من هذا الوجه. قال عليه الصلاة وةالسلام، «مَا أَمَرَ اللهُ خَازِنَ الرِّيَاحِ أنْ يُرْسِلَ عَلَى عَادٍ إلاَّ مِثْلَ مِقْدَارِ الخَاتَم» وذَلِكَ القَدْرُ أهْلَكَهُمْ بكُلِّيَّتِهِمْ وذلك إظهارُ قدرة الله تعالى. «وعن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه كان إذا رأى الريح فزع وقال:» اللَّهم إِنِّي أَسْأَلُكَ خَيْرَهَا وَخَيْرَ مَا أُرْسِلَتْ بِهِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّها وشَرِّ مَا أُرْسِلَتْ به «قال تعالى: ﴿كَذَلِكَ نَجْزِي القوم المجرمين﴾ والمقصود به تخويف كفار مكة فإن قيل: لما قال (تعالى) :﴿وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ﴾ [الأنفال: ٣٣] فكيف يحصل التخويف؟
فالجواب: أن ذلك قبل نزول الآية.
قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ مَكَّنَاهُمْ فِيمَآ إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ﴾ ما موصولة، أو موصوفة.
وفي «إنْ» ثلاثة أوجه:

أحدها: شرطية، وجوابها محذوف والجملة الشرطية صلة ما، والتقدير: في الَّذي إنْ مَكَّنَّاكُمْ فيه طَغَيْتُمْ.
والثاني: أنها مزيدة تشبيهاً للموصولة بما النافية والتوقيتية، وهو كقوله:
409
والثالث: وهو الصحيح أنها نافية بمعنى مكّناكم في الذي ما مكّناهم فيه من القوة والبَسْطَةِ وسَعَةِ الأرزاق. ويدل له قوله في مواضع: ﴿أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً﴾ [الروم: ٩] وأمثاله. وإنما عدل عن لفظ «ما» النافية إلى «إنْ» كراهية لاجتماع متماثلين لفظاً. قال الزمخشري: وقد أَغَيُّ أبو الطيب في قوله:
٤٤٥٩ - لَعْمُرَكَ ما ما بانَ مِنْكَ لَضَارِبٌ.................................
وما ضره لو اقتدى بعذوبة لفظ التنزيل فقال: «مَا إنْ بان».

فصل


معنى الآية مكناهم فيما لم نمكنكم فيه من قوة الأبدان وطولِ العمر، وكَثْرةِ المال ثم إنهم مع زيادة القُوَّة ما نَجَوْا من عذاب الله تعالى فكيف يكون حالكم؟ ثم قال: ﴿وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً﴾ أي فتحنا عليهم أبواب النعم وأعطيناهم سمْعاً، فما استعملوه في سَمَاع الدلائل وأعطيناهم أبصاراً فما استعملوها في دلائل ملكوت السموات والأرض، وأعطيناهم أفئدة فما استعملوها في طلب معرفة الله تعالى بل صرفوا كل هذه القُوَى إلى طلب الدنيا ولذاتها فلا جَرَمَ ما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من عذاب الله تعالى.
قوله: ﴿فَمَآ أغنى﴾ يجوز أن يكون «ما» نفياً وهو الظاهر. أو استفهاماً للتقرير.
واستبعده أبو حيان لأجل قوله: ﴿مِّن شَيْءٍ﴾ قال: إذ يصير التقدير أي شيء أعنى عنهم من
410
شيء؟ فزاد «من» فِي الوَاجِبِ، وهو لا يجوز على الصحيح.
قال شهاب الدين: قالوا يجوز زيادتها في غير المُوجب. وفسروا غير الموجب بالنفي والنهي والاستفهام وهذا استفهام.
قوله: ﴿إِذْ كَانُواْ﴾ معمول ل «أغْنى» وِهيَ مُشْربة معنى التعليل، أي لأنهم كانوا يجحدون فهو كقوله ضَرَبْتُهُ إذْ أَسَاءَ، أي ضربته لأنه أساء. وفي هذه الآية تخويف لأهل مكة. ثم قال: ﴿وَحَاقَ بِه مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾ يعني أنهم كانوا يطلبون نزول العذاب على سبل الاسْتِهْزَاء.
قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِّنَ القرى﴾ يا كفار مكة كحِجْر ثَمُود وعاد باليمن وأرض سدوم ونحوها بالشام ﴿وَصَرَّفْنَا الآيات﴾ الحُجج بيناها لهم لعل أهل القرى يرجعون. قال الجبائي: قوله: ﴿لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ معناه لكي يرجعوا عن كفرهم وذلك يدل على أنه تعالى أراد رجوعهم ولم يرد إصرارهم وأجيب: بأنه فصل ما لو فعله غيره لكان ذلك لأجل الإرادة المذكورة وإنَّما ذهبنا إلى هذا التأويل للدلائل الدالة على أنه تعالى مريد لجميعِ الكائنات.
قوله تعالى: ﴿فَلَوْلاَ نَصَرَهُمُ الذين اتخذوا مِن دُونِ الله قُرْبَاناً آلِهَةَ﴾ القُرْبَانُ ما تُقُرِّب به إلى الله.
أي اتخذوها شفعاء وقالوا: هؤلاء شفعاؤنا عند الله ﴿مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى الله زلفى﴾ [الزمر: ٣].
قوله: ﴿قُرْبَاناً﴾ فيه أربعة أوجه:
أظهرها: أن المفعول الأول ل «اتَّخَذَ» محذوف، هو عائد..... «قُرْبَاناً» نصب على الحال، و «آلِهَةً» هو المفعول الثاني للاتِّخَاذ، والتقدير..... نَصَرَهُم الَّذِينَ اتَّخَذُوهُمْ مُتَقَرَّباً بهم آلهة.
411
والثاني: أن المفعول الأول محذوف كما تقدم و «قُرْبَاناً» مفعولاً ثانياً و «آلهة» بدل منه. وإليه نحا أبن عطية والحَوْفِيُّ وأبو البقاء، إلا أن الزمخشري منع هذه الوجه قال: «الفساد المعنى». ولم يبين جهة الفاسد. قال أبو حيان: ويظهر أن المعنى صحيح على ذلك الإعراب. قال شهاب الدين: ووجه الفساد والله أعلم أن القُرْبَانَ اسم لما تقرب به إلى الإله، فلو جعلناه مفعولاً ثانياً و «آلهةً» بدلاً منه لزم أن يكون الشيء المُتَقَرَّبُ به آلهةً والغرض أنه غيرُ آلهة. بل هو شيء يتقرب به إليها فهو غيرها فكيف تكون الآلهة بدلاً منه؟ وهذا مَا لاَ يَجُوزُ.
الثالث: أن «قرباناً» مفعولٌ من أجله. وعزاه أبو حيان للحَوْفي. وإليه ذهب أبو البقاء أيضاً. وعلى هذا ف «آلِهَةً» مفعولٌ ثان، والأول محذوف كما تقدم.
الرابع: أن يكون مصدراً. نقله مكي. ولولا أنه ذكر وجهاً ثانياً وهو المفعول من أجله لكان كلامه مؤولاً بأنه أراد بالمصدر المفعول من أجله لبُعْدِ معنى المصدر.
قوله: ﴿بَلْ ضَلُّواْ عَنْهُمْ﴾ قال مقاتل: بل ضلت الآلهة عنهم فلم ينفعهم عد نزول العذاب لهم.
قوله: ﴿وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ﴾ العامة على كسر الهمزة، وسكون الفاء، مصدر أَفِكَ يَأفِكُ إفْكاً، أي كَذِبُهُمْ وابن عباس بالفتح وهو مصدر له أيضاً. وابن عباس أيضا وعكرمة والصَّباح بنْ العلاء أَفَكَهُمْ بثلاث فتحات فعلاً ماضياً، أي صَرَفَهُمْ. وأبو عياض وعكرمة أيضاً كذلك، إلا أنه بتشديد الفاء للتكثير، وابن الزبير، وابن
412
عباس أيضاً آفَكَهُمْ بالمد فعلا ماضياً أيضاً. وهو يحتمل أن يكون بزنة فَاعَل، فالهمزة أصلية، وأن يكون بزنة أَفْعَلَ فالهمزة زائدة والثانية بدل من همزة.
وإذا قلنا: إنه أفعل، فهمزته يحتمل أنت تكون للتعدية، وأن تكون أفعل بمعنى المُجَرّد وابن عباس أيضاً آفكُهُمْ بالمد وكسر الفاء، ورفع الكاف جعله اسم فاعل بمعنى صارفهم. وقرى أَفَكُهُمْ بفتحتين ورفع الكاف على أنه مصدر لأفِكَ أيضاً فيكون له ثلاثة مصادر الإفك والأَفك بفتح الهمزة وكسرها مع سكون الفاء وفتح الهمزة والفاء، وزاد أبو البقاء أنه قرىء: آفَكُهُمْ بالمد وفتح الفاء، ورفع الكاف قال: بمعنى أَكْذَبُهُمْ. فجعله أفعل تفضيل.
قوله: ﴿وَمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ﴾ يجوز أن تكون ما مصدرية، وهو الأحسن، ليعطف على مثله، وأن تكون بمعنى الذي، والعائد محذوف أي يَفْتَرُونَهُ والمصدر من قوله: «إفكهم» يجوز أن يكون مضافاً إلى الفاعل بمعنى كُذِبُهُمْ، وإلى المفعول بمعنى صَرْفُهُمْ.
والمعنى: وذلك إفكهم أي كذبهم الذي كانوا يقولون: إنها تقربهم إلى الله وتشفع لهم ﴿وَمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ﴾ يكذبونَ أنَّها آلِهَةٌ.
413
قال المفسرون : إن هُوداً عليه الصلاة والسلام كان قد أنذرهم وقال : أن لا تعبدوا إلا الله إنِّي أَخَافُ عَلَيْكُم العذاب قالوا جئتنا لتأفكنا «أي لتصرفنا »١ عَنْ آلِهَتِنَا أي عن عِبَادَتِهَا، والإفْكُ الصَّرْفُ، يقالُ : أَفِكَهُ عَنْ رَأيهِ إذا صَرَفَهُ عنه. وقيل : المراد لتلفتنا بالكذب٢. ﴿ فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا ﴾ من معاجلة العذاب على الكفر ﴿ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين ﴾ في وعدك أن العذاب نازل بنا.
١ قاله ابن قتيبة في غريب القرآن ٤٠٥ وأبو عبيدة في المجاز ٢/٢١٣..
٢ الرازي ٢٨/٢٧..
قال هود :﴿ إنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ وهو يعلم متى يأتيكم العذاب { وَأُبَلِّغُكُمْ مَّآ أُرْسِلْتُ بِهِ ﴾ من الوحي والتحذير من العذاب، فأما العلم بوقته فما أوحاه إليَّ ﴿ ولكني أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ ﴾ وهذا يحتمل أن المراد أنكم لا تعلمون أن الرسل لم يبعثوا مقترحين ولا سائلين عن غير ما أُذِنَ لهم فيه وإنما بعثوا مبلغين.
ويحتمل أن يكون المراد قوماً تجهلون من حيث إنكم بَقِيتُم مُصرِّين على كفركم وجهلكم فيغلب على ظني أنه قرب الوقت الذي ينزل عليكم العذاب بسبب هذا الجهل المفرط والوقاحة التامة.
ويحتمل أن يكون المراد قوماً تجهلون حيث تُصِرُّونَ على طلب العذاب وهب أنه لم يظهر لكم كوني صادقاً ولكن لم يظهر لكم أيضاً كوني كاذباً، فالإقدام على الطلب الشديد لهذا العذاب جهل عظيم١.
١ المرجع السابق..
قوله :﴿ فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً ﴾ في «هاء »١ «رَأَوْهُ » قولان :
أحدهما : أنه عائد على «ما » في قوله «ما تَعِدُنا ».
الثاني : أنه ضمير مبهم يفسره «عَارِضاً » إما تمييزاً، أو حالاً. قالهما الزمخشري٢.
وردَّه أبو حيان بأن التمييز المفسِّر للضمير محصورٌ في باب رُبَّ٣، وفي نِعْمَ وبِئْسَ٤، وبأنَّ الحالَ لم يُعْهَد فيها أن توضع الضمير قبلها، وأن النَّحويِّين لا يعرفون ذلك٥. وذكر المبرد في الضمير ههنا قولين :
الأول : ما تقدم. والثاني : أنه يعود إلى غير مذكور وبينه قوله :: «عارضاً » كقوله :﴿ مَا تَرَكَ على ظَهْرِهَا مِن دَآبَّةٍ ﴾ [ فاطر : ٤٥ ]. ولم يذكر الأرض لكونها معلومة فكذا الضمير ههنا، عائد إلى السحاب، كأنه قيل : فلما رأَوا السَّحَابَ عارِضاً٦. وهذا اختيار الزجاج٧. ويكون من باب الإضمار لا على شريطة التفسير٨.
والعارض السحابة التي ترى في ناحية السماء ثم تطبّق٩ السماء. قال أهل اللغة : العَارِضُ المُعْتَرِضُ من السَّحَاب١٠ في الجوِّ، قال :
٤٤٥٨ - يُرَجِّي الْمَرْء مَا إنْ لاَ يَرَاهُ وَتَعْرِضُ دُونَ أَدْنَاهُ الخُطُوبُ
٤٤٥٥ يَا مَنْ رَأَى عَارِضاً أَرقْتُ لَهُ بَيْنَ ذِرَاعَيْ وَجَبْهَةِ الأَسَدِ١١
قوله :﴿ مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ ﴾ صفة ل «عَارِضاً »، وإضافة غير محضة١٢ فم ثَمَّ سَاغَ أن يكون نعتاً١٣ لنكرة وكذلك «مُمْطِرُنَا » وقع نعتاً «لِعَارِضٍ »١٤ ومثله :
٤٤٥٦ يَا رُبَّ غَابِطِنَا لَوْ كَانَ يَطْلُبُكُمْ لاَقَى مُبَاعَدَةً مِنْكُمْ وَحِرْمَانَا١٥
وقد تقدم أن أوديةً جمع وادٍ، وأن أفْعِلَةً وردت جمعاً لفاعل في ألفاظ كَوَادٍ وأدْوِيَةٍ ونَادٍ وأنْدِيَةٍ، وحَائِزٍ١٦ وأَحْوِزَةٍ.

فصل


قال المفسرون : كانت عاد قد حبس عنهم المطر أياماً فساق الله إليهم سحابة سوداء فخرجت عليهم من وادٍ لهم يقال له : المغيث، فلما رأوها استبشروا وقالوا : هذا عارض ممطرنا فقال الله تعالى :﴿ بَلْ هُوَ مَا استعجلتم بِهِ ﴾ من العذاب. ثم بين ماهيته فقال :﴿ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾
١ في ب "ما" بدل "ها" وهو لحن بين..
٢ في الكشاف ٣/٥٢٤ وقد رجح الثاني من الوجهين قائلا: "وهذا الوجه أعرب وأفصح"..
٣ كرب رجلا..
٤ مثل: نعم تلميذا في المدرسة زيد..
٥ وهذا بالمعنى من البحر المحيط ٨/٦٤ فقد قال: "وهذا الذي ذكره أي الزمخشري أنه أعرب وأفصح ليس جاريا على ما ذكر النحاة، لأن المبهم الذي يفسره ويوضحه التمييز لا يكون إلا في باب رب، نحو رب رجلا لقيته وفي باب نعم وبئس على مذهب البصريين نحو: نعم رجلا زيدا، وبئس غلاما عمرو؛ وأما أن الحال يوضح المبهم ويفسره فلا نعلم أحدا ذهب إليه وقد حصر النحاة المضمر الذي يفسره ما بعده فلم يذكر فيه مفعول رأى إذا كان ضميرا، ولا أن الحال يفسر الضمير ويوضحه"..
٦ نقله عه الإمام الفخر الرازي ٢٨/٢٧..
٧ قال: "أي فلما رأوا السحاب الذي نشأت منه الريح التي عذبوا بها قد عرضت في السماء". معاني القرآن وإعرابه ٤/٤٤٥..
٨ الرازي السابق..
٩ وهذا رأي أبي زيد فيما نقله عنه الرازي السابق..
١٠ قال أبو عبيدة في المجاز ٢/٢١٣: "والعارض السحاب الذي يرى في قطر من أقطار السماوات من العشي ثم الصبح وقد حبا ثم استوى" بينما أطلق ابن قتيبة في غريب القرآن ٤٠٥ بأنه السحاب فقط..
١١ سبق هذا البيت وأتى به شاهدا هنا على أن العارض هو السحاب المعترض..
١٢ أي في تقدير الانفصال أي مستقبلا أوديتهم..
١٣ في ب صفة..
١٤ التبيان ١١٥٧..
١٥ من البسيط لجرير بديوانه ٤٩٢. والشاهد: رب غابطنا حيث إن الإضافة هنا في تقدير الانفصال فرب لا تدخل إلا على نكرات أي رب غابط لنا وقد تقدم..
١٦ كذا وردت في النسختين بحاء مهملة وفي البحر بجيم معجمة قال: "والجائز الخشبة الممتدة في أعلى السقف". انظر البحر ٨/٦٤ وهذا الجمع شاذ، لأن قياس فاعل الاسم ّفواعل" أو فواعيل وفعلان وفعلان والضم أكثر والصفة يجمع في الغالب على فعلان وقد يكسر على فعال وفعل وفعال وفعلة وفعل وفعلاء ويجيء على فواعل إذا كان وصفا لغير العقلاء"، بتصرف من شرح الشافية ٢/١٥١ ـ ١٥٨..
ثم وصف تلك الريح فقال :﴿ تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا ﴾ أي تهلك كل شيء من الحيوان والناس بأمر ربها. ومعناه أن هذا ليس من باب تأثيراتٍ الكواكب والقِرانَات بل هو أمر حدث ابتداءً بقدرة الله تعالى لأجل تَعْذِيبكم١.
قوله :﴿ بَلْ هُوَ مَا استعجلتم بِهِ ﴾ قرئ :«ما اسْتُعْجلْتُمْ » مبنياً للمفعول٢. وقوله :«ريحٌ » يجوز أن يكون خبر مبتدأ مضمر أي هُوَ رِيحٌ، ويجوز أن يكون بدلاً من «هِيَ »٣ و«فِيهَا عَذَابٌ » صفة ل «رِيحٍ » وكذلك «تُدَمّر »٤.
وقرئ : يَدْمُر كل شيء، بالياء من تحت مفتوحة، وسكون الدال، وضمّ الميم بالرفع على الفاعلية، أي تهلك كل شيء٥.
وزيد بن علي كذلك إلا أنه بالتاء من فوق ونصب كل٦ والفاعل ضمير الريح ؛ وعلى هذا فيكون ( دَمَرَ ) الثلاثي لازماً ومتعدياً٧.
قوله :﴿ فَأْصْبَحُواْ لاَ يرى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ ﴾ قرأ حمزة وعاصم لا يُرَى بضم الياء من تحت مبْنيًّا للمفعول «مَسَاكِنُهُمْ » بالرفع لقيامه مقام الفاعل، والباقون من السبعة٨ بفتح تاء الخطاب مَسَاكِنَهُمْ بالنَّصب مفعولاً به. والجَحْدَرِيُّ والأعمشُ وابنُ أبي إسحاق والسُّلَمِيّ وأبو رجاء بضم التاء من فوق٩ مبنياً للمفعول مَسَاكِنُهُمْ بالرفع لقيامه مقام الفاعل، إلا أن هذا عند الجمهور لا يجوز، أعني إذا كان الفاصل «إلا » فإنه يمتنع لحاق علامة التأنيث ( في الفعل )١٠ إلاَّ في ضرورة١١ كقوله ( رَحِمَهُ اللهُ ) :
٤٤٥٧ كَأَنَّهُ جَمَلٌ وَهُمٌ وَمَا بَقِيَتْ إلاَّ النُّحَيْزَةُ وَالأَلْوَاحُ والْعُصُبُ١٢
وعيسى الهمداني : لا يُرَى بالياء من تحت مبنياً للمفعول مَسْكَنُهُمْ بالتوحيد١٣.
ونصرُ بنُ عاصم بتاء الخطاب مَسْكَنَهُمْ١٤ بالتوحيد أيضاً منصوباً. واجتزئ بالوَاحِدِ عَن الْجَمْعِ.

فصل


روي أن الريح كانت تحمل الفُسْطَاطَ فَترْفَعُهَا في الجوِّ، وتحمل الظَّعِينَةَ حتى تُرَى كأنها جَرادَةٌ١٥ وقيل : إن أوّل من أبصر العذاب امرأة بينهم قالت :( رَأَيْتُ )١٦ ريحاً فيها كشُهب النار.
وروي أن أول ما عرفوا به أنه عذاب أليم أنهم رأوا ما كان في الصحراء من رجالهم١٧ ومواشيهم تطير بهم الريح بين السماء والأرض، فدخلوا بيوتهم وأغلقوا أبوابهم فقلعت١٨ الريح الأبواب، وصَرَعَتْهُمْ وأمال الله تعالى عليهم الأَحْقَافَ فكانوا تحتها سبعَ ليالٍ وثمانيةَ أيَّام، لَهُمْ أنينٌ، ثم أمر الله الريح فكشف عنه الرِّمال واحتملهم، فرَمَتْ بهم في البحر. وروي أن هوداً لما أحسَّ بالريح خط على نفسه على المؤمنين خطًّا إلى جنب عين تنبعُ، وكانت الريح التي تصيبيهم ريحاً طَيِّبةً هادية، والريح التي تُصيبُ قوم عاد ترفعهم من الأرض وتطير بهم١٩ إلى السماء، وتضربهم على الأرض، وأثر المعجزةِ إنما ظهر في تلك الريح من هذا الوجه. قال عليه الصلاة والسلام، «مَا أَمَرَ اللهُ خَازِنَ الرِّيَاحِ أنْ يُرْسِلَ عَلَى عَادٍ إلاَّ مِثْلَ مِقْدَارِ الخَاتَم » وذَلِكَ القَدْرُ أهْلَكَهُمْ بكُلِّيَّتِهِمْ وذلك إظهارُ قدرة الله تعالى. «وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا رأى الريح فزع وقال :«اللَّهم إِنِّي أَسْأَلُكَ خَيْرَهَا وَخَيْرَ مَا أُرْسِلَتْ بِهِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّها وشَرِّ مَا أُرْسِلَتْ به » قال تعالى :﴿ كَذَلِكَ نَجْزِي القوم المجرمين ﴾ والمقصود به تخويف كفار مكة فإن قيل : لما قال ( تعالى )٢٠ :﴿ وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ ﴾ [ الأنفال : ٣٣ ] فكيف يحصل التخويف ؟
فالجواب : أن ذلك قبل نزول الآية٢١.
١ الرازي ٢٨/٢٨..
٢ شاذة ذكرها بدون نسبة أبو حيان في البحر ٨/٦٤..
٣ في التبيان: من "ما"..
٤ التبيان ١١٥٧..
٥ ذكرها أبو حيان في مرجعه السابق دون نسبة أيضا وهي شاذة كما ذكرها الزمخشري في الكشاف ٣/٥٢٤..
٦ البحر المحيط ٨/٦٤ وهي قراءة شاذة كسابقتها..
٧ وحكمنا على هذا التعدي واللزوم من اختلاف القراءات تلك..
٨ وهم ابن كثير ونافع وابن عامر وأبو عمرو والكسائي وهي متواترة انظر السبعة ٥٩٨ والإتحاف ٣٩٣ والكشف لمكي ٢/٢٧٤..
٩ وهي شاذة ذكرها أبو الفتح بن جني في المحتسب ٢/٢٦٥ وانظر البحر ٨/٦٥ والكشاف ٣/٥٢٤..
١٠ ما بين الأقواس ساقط من نسخة ب..
١١ قال أبو الفتح: "أما "ترى" بالتاء ورفع المساكن فضعيف في العربية والشعر أولى بجوازه من القرآن وذلك أنه من مواضع العموم في التذكير فكأنه في المعنى لا يرى شيء إلا مساكنهم وإذا كان المعنى هذا كان التذكير لإرادته هو الكلام". المحتسب ٢/٢٦٦..
١٢ كذا رواه المؤلف تبعا للبحر المحيط لأبي حيان وفي اللسان: كأنها ـ أي الناقة ـ وهو من البسيط والوهم: أراد به الضخم. والجمل والجمل حبل السفينة. والنحيزة من نحز البعير إذا أصابه النحاز وهو داء يصيب الإبل، ولوح الجسد عظمة يصفها صارت من الهزال بمنزلة الحبل فما بقي فيها شيء سوى النفس والعظم والعصب. والشاهد: تأنيث الفعل في "بقيت" رغم الفصل بإلا وتلك ضرورة شعرية وانظر البحر ٨/٦٥ واللسان "وهم" ٤٩٣٤ ومجمع البيان للطبرسي ٩/١٣٥ والديوان ٢/٤٣ تحقيق د. عبد القدوس أبو صالح ط مؤسسة الإيمان بيروت الطبعة الأولى..
١٣ قراءة شاذة ذكرها أبو حيان في البحر ٨/٦٥..
١٤ المحتسب ٢/٢٦٥ والبحر المرجع السابق..
١٥ الكشاف ٣/٥٢٤..
١٦ سقط من ب..
١٧ في ب رحالهم بالحاء..
١٨ في ب فقفلت وفي الرازي: فعلقت وكلها معان متقاربة وممكنة..
١٩ في ب والرازي: نظيرهم..
٢٠ زيادة من أ..
٢١ انظر الرازي ٢٨/٢٨ و٢٩..
قوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ مَكَّنَاهُمْ فِيمَا إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ ﴾ ما موصولة، أو موصوفة١.
وفي «إنْ » ثلاثة أوجه :
أحدها : شرطية، وجوابها محذوف والجملة الشرطية صلة ما، والتقدير : في الَّذي إنْ مَكَّنَّاكُمْ فيه طَغَيْتُمْ٢.
والثاني : أنها مزيدة تشبيهاً للموصولة بما النافية والتوقيتية٣، وهو كقوله :
٤٤٥٨ يُرَجِّي الْمَرْء مَا إنْ لاَ يَرَاهُ وَتَعْرِضُ دُونَ أَدْنَاهُ الخُطُوبُ٤
والثالث : وهو الصحيح أنها نافية بمعنى مكّناكم في الذي ما مكّناهم فيه من القوة والبَسْطَةِ وسَعَةِ الأرزاق٥. ويدل له قوله في مواضع :﴿ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً ﴾ [ الروم : ٩ ] وأمثاله. وإنما عدل عن لفظ «ما » النافية إلى «إنْ » كراهية لاجتماع متماثلين لفظاً. قال الزمخشري : وقد أَغَثُّ٦ أبو الطيب في قوله :
٤٤٥٩ لَعْمُرَكَ ما ما بانَ مِنْكَ لَضَارِبٌ . . . . . . . . . . . . . . . ٧
وما ضره لو اقتدى بعذوبة لفظ التنزيل فقال :«مَا إنْ بان ».

فصل


معنى الآية مكناهم فيما لم نمكنكم فيه من قوة الأبدان وطولِ العمر، وكَثْرةِ المال ثم إنهم مع زيادة القُوَّة ما نَجَوْا من عذاب الله تعالى فكيف يكون حالكم ؟ ثم قال :﴿ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً ﴾ أي فتحنا عليهم أبواب النعم وأعطيناهم سمْعاً، فما استعملوه في سَمَاع الدلائل وأعطيناهم أبصاراً فما استعملوها في دلائل ملكوت السموات والأرض، وأعطيناهم أفئدة فما استعملوها في طلب معرفة الله تعالى بل صرفوا كل هذه القُوَى إلى طلب الدنيا ولذاتها فلا جَرَمَ ما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من عذاب الله تعالى٨.
قوله :﴿ فَمَآ أغنى ﴾ يجوز أن يكون «ما » نفياً وهو الظاهر. أو استفهاماً للتقرير٩.
واستبعده أبو حيان لأجل قوله :﴿ مِّن شَيْءٍ ﴾ قال : إذ يصير التقدير أي شيء أغنى عنهم من شيء ؟ فزاد «من » فِي الوَاجِبِ١٠، وهو لا يجوز على الصحيح١١.
قال شهاب الدين : قالوا يجوز زيادتها في غير المُوجب. وفسروا غير الموجب بالنفي والنهي والاستفهام وهذا استفهام١٢.
قوله :﴿ إِذْ كَانُواْ ﴾ معمول ل «أغْنى » وِهيَ مُشْربة معنى التعليل، أي لأنهم كانوا يجحدون فهو كقوله ضَرَبْتُهُ إذْ أَسَاءَ، أي ضربته لأنه أساء١٣. وفي هذه الآية تخويف لأهل مكة. ثم قال :﴿ وَحَاقَ بِه مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ﴾ يعني أنهم كانوا يطلبون نزول العذاب على سبل الاسْتِهْزَاء.
١ قاله العكبري في التبيان ١١٥٨..
٢ نقله أبو حيان في البحر ٨/٦٥..
٣ البيان ٢/٣٧٢ والتبيان السابق والبحر السابق أيضا وذكره القرطبي في الجامع ١٦/٢٠٨ وابن قتيبة في الغريب ٤٠٨ وتأويل المشكل ١٩٦..
٤ أنشده الأخفش ولم أجده في معاني القرآن له وهو من الوافر وهو لإياس بن الأرت، وشاهده: زيادة إن حيث إن المعنى لا يتأثر بدونها. وانظر القرطبي ١٦/٢٠٨ والبحر ٨/٦٥ والكشاف ٣/٥٢٥ وشرح شواهد ٤٥/٣٤٤ والإنصاف ٣/٥٢٥..
٥ وهو اختيار الزمخشري في الكشاف ٣/٥٢٥، وأبي حيان في البحر ٨/٦٥ وسبق إليه الفراء في المعاني ٣/٥٩ والزجاج أيضا في معاني القرآن وإعرابه ٤/٤٤٦، واختار المبرد ـ فيما نقله عنه النحاس في الإعراب ـ أن تكون "إن" بمعنى النفي أيضا انظر النحاس في إعرابه ٤/١٧٠..
٦ أغث فلان في حديثه إذا جاء بكلام غث ولا معنى له وهو فعل لازم، انظر اللسان غثث ٣٢١٣..
٧ هذا صدر بيت من الطويل للمتنبي من قصيدة يمدح بها طاهر بن الحسين العلوي وعجزه:
................................. بأقتل مما بان منك لعائب
ورواية الديوان: يرى أن ما ما... البيت.
ولذلك علق ابن المنير على الزمخشري قائلا بيت المتنبي ليس كما أنشده: لعمرك وإنما هو: يرى أن الخ... ولا يستقيم إلا كذلك لأن قبله، هو ابن رسول الله وابن صفيه وشبههما شبهت بعد التجارب. ومعنى البيت أن لسانه لا ينقاعد عن سنانه هذا للعائب، وهذا للمضارب وما الأولى نافية والثانية موصولة واسم أن محذوف تقديره يرى أنه ما الذي ظهر منك لضارب بأقتل من الذي بان منك لعائب أي لا يرى القتل أشد من العيب بل العيب عنده أشد من القتل. والشاهد تكرير لفظ "ما" حيث الثقل المشبع كما أوضح أعلى. وانظر الديوان ٢/٢٨٥ والكشاف ٣/٥٢٥ وشرح شواهده ٤/٣٤٣ والإنصاف على الكشاف ٣/٥٢٥..

٨ الرازي ٢٨/٢٩..
٩ ذكر هذين الوجهين ابن الأنباري في البيان ٢/٣٧٢ وأبو حيان في البحر ٨/٦٤..
١٠ في البحر: في الموجب..
١١ وانظر البحر ٨/٦٤..
١٢ الواقع أن ابن هشام ذكر في المغني ماهية ونوع الاستفهام وحدده بها. وأخبرنا أن الكوفيين لا يشترطون نفيا أو نهيا أو استفهاما مستدلين بقوله: "قد كان من مطر" ويقول عمر بن أبي ربيعة... فما قال من كاشح لم يضر. وخرج الكسائي على زيادتها: إن من أشد الناس عذابا يوم القيامة المصورون وممن جوز الزيادة في الإيجاب الفارسي قال في قوله: "وينزل من السماء من جبال فيها من برد". يجوز كون من ومن الأخيرتين زائدتين وأوله المخالفون والمشترطون لشروط الزيادة. بتصرف من المغني ٣٢٥ و٣٢٣..
١٣ بالمعنى من الكشاف ٣/٥٢٦..
قوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِّنَ القرى ﴾ يا كفار مكة كحِجْر ثَمُود وعاد باليمن وأرض سدوم ونحوها بالشام ﴿ وَصَرَّفْنَا الآيات ﴾ الحُجج بيناها لهم لعل أهل القرى يرجعون. قال الجبائي : قوله :﴿ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ معناه لكي يرجعوا عن كفرهم وذلك يدل على أنه تعالى أراد رجوعهم ولم يرد إصرارهم وأجيب : بأنه فصل ما لو فعله غيره لكان ذلك لأجل الإرادة المذكورة وإنَّما ذهبنا إلى هذا التأويل للدلائل الدالة على أنه تعالى مريد لجميعِ الكائنات١.
١ الرازي ٢٨/٢٩..
قوله تعالى :﴿ فَلَوْلاَ نَصَرَهُمُ الذين اتخذوا مِن دُونِ الله قُرْبَاناً آلِهَةَ ﴾ القُرْبَانُ ما تُقُرِّب به إلى الله.
أي اتخذوها شفعاء وقالوا : هؤلاء شفعاؤنا عند الله١ ﴿ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى الله زلفى ﴾ [ الزمر : ٣ ].
قوله :﴿ قُرْبَاناً ﴾ فيه أربعة أوجه :
أظهرها : أن المفعول الأول ل «اتَّخَذَ » محذوف، هو عائد. . . . . «قُرْبَاناً » نصب على الحال، و«آلِهَةً » هو المفعول الثاني للاتِّخَاذ، والتقدير. . . . . نَصَرَهُم الَّذِينَ اتَّخَذُوهُمْ مُتَقَرَّباً بهم آلهة٢.
والثاني : أن المفعول الأول محذوف كما تقدم و«قُرْبَاناً » مفعولاً ثانياً و«آلهة » بدل منه٣. وإليه نحا أبن عطية والحَوْفِيُّ٤ وأبو البقاء٥، إلا أن الزمخشري منع هذه الوجه قال :«الفساد المعنى »٦. ولم يبين جهة الفاسد. قال أبو حيان : ويظهر أن المعنى صحيح على ذلك الإعراب٧. قال شهاب الدين : ووجه الفساد والله أعلم أن القُرْبَانَ اسم لما تقرب به إلى الإله، فلو جعلناه مفعولاً ثانياً و«آلهةً » بدلاً منه لزم أن يكون الشيء المُتَقَرَّبُ به آلهةً والغرض أنه غيرُ آلهة. بل هو شيء يتقرب به إليها فهو غيرها فكيف تكون الآلهة بدلاً منه ؟ وهذا مَا لاَ يَجُوزُ٨.
الثالث : أن «قرباناً » مفعولٌ من أجله. وعزاه أبو حيان للحَوْفي٩. وإليه ذهب أبو البقاء أيضاً١٠. وعلى هذا ف «آلِهَةً » مفعولٌ ثان، والأول محذوف كما تقدم.
الرابع : أن يكون مصدراً. نقله مكي١١. ولولا أنه ذكر وجهاً ثانياً وهو المفعول من أجله لكان كلامه مؤولاً بأنه أراد بالمصدر المفعول من أجله لبُعْدِ معنى المصدر.
قوله :﴿ بَلْ ضَلُّواْ عَنْهُمْ ﴾ قال مقاتل : بل ضلت الآلهة عنهم فلم ينفعهم عد نزول العذاب لهم.
قوله :﴿ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ ﴾ العامة على كسر الهمزة، وسكون الفاء، مصدر أَفِكَ يَأفِكُ إفْكاً، أي كَذِبُهُمْ وابن عباس بالفتح١٢ وهو مصدر له أيضاً. وابن عباس أيضا وعكرمة والصَّباح بنْ العلاء أَفَكَهُمْ١٣ بثلاث فتحات فعلاً ماضياً، أي صَرَفَهُمْ. وأبو عياض١٤ وعكرمة أيضاً كذلك، إلا أنه بتشديد الفاء للتكثير١٥، وابن الزبير١٦، وابن عباس أيضاً آفَكَهُمْ١٧ بالمد فعلا ماضياً أيضاً. وهو يحتمل أن يكون بزنة فَاعَل١٨، فالهمزة أصلية، وأن يكون بزنة أَفْعَلَ١٩ فالهمزة زائدة والثانية بدل من همزة.
وإذا قلنا : إنه أفعل، فهمزته يحتمل أن تكون للتعدية٢٠، وأن تكون أفعل بمعنى المُجَرّد٢١ وابن عباس أيضاً آفكُهُمْ بالمد وكسر الفاء، ورفع الكاف جعله اسم فاعل بمعنى صارفهم. وقرى أَفَكُهُمْ٢٢ بفتحتين ورفع الكاف على أنه مصدر لأفِكَ أيضاً فيكون له ثلاثة مصادر الإفك والأَفك بفتح الهمزة وكسرها مع سكون الفاء وفتح الهمزة والفاء، وزاد أبو البقاء أنه قرئ : آفَكُهُمْ بالمد وفتح الفاء، ورفع الكاف قال : بمعنى أَكْذَبُهُمْ٢٣. فجعله أفعل تفضيل.
قوله :﴿ وَمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ ﴾ يجوز أن تكون ما مصدرية، وهو الأحسن، ليعطف على مثله، وأن تكون بمعنى الذي، والعائد محذوف أي يَفْتَرُونَهُ والمصدر من قوله :«إفكهم » يجوز أن يكون مضافاً إلى الفاعل بمعنى كُذِبُهُمْ، وإلى المفعول بمعنى صَرْفُهُمْ.
والمعنى : وذلك إفكهم أي كذبهم الذي كانوا يقولون : إنها تقربهم إلى الله وتشفع لهم ﴿ وَمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ ﴾ يكذبونَ أنَّها آلِهَةٌ٢٤.
١ القرطبي ١٦/٢٠٩..
٢ بالمعنى من الكشاف ٣/٥٢٦ وإلى هذا ذهب أبو حيان في البحر ٨/٦٦ وقد أخذه على ما أظن من الزمخشري الأسبق..
٣ البحر المرجع السابق..
٤ ذكر أبو حيان رأيهما في المرجع السابق..
٥ التبيان ١١٥٩ وقد ذكر ابن الأنباري في البيان أيضا ٢/٣٧٢..
٦ الكشاف السابق..
٧ الكشاف السابق، والبحر المرجع السابق..
٨ الدر المصون للسمين مخطوط بمكتبة الإسكندرية لوحة رقم ٩٨..
٩ البحر المحيط المرجع السابق. وقد ذكر هذا الوجه ابن الأنباري في البيان المرجع السابق..
١٠ التبيان ١١٥٩..
١١ مشكل إعراب القرآن له ٢/٣٠٣ وذكره ابن الأنباري في البيان المرجع السابق..
١٢ في رواية كما ذكر ذلك صاحب البحر المحيط ٨/٦٦ وذكرها أيضا صاحب اللسان أفك ٩٧ وهي شاذة متواترة..
١٣ فعلا ماضيا ـ كما ذكرـ وهي شاذة ذكرها أبو الفتح في المحتسب ٢/٢٦٧، وابن خالويه في المختصر ١٣٩ وانظر أيضا معاني القرآن للفراء ٢/٥٩..
١٤ التبيان ١١٥٩ و١١٦٠..
١٥ المحتسب والمختصر المرجعين السابقين وهي شاذة أيضا..
١٦ عبد اله بن الزبير الصحابي المعروف..
١٧ المرجعين السابقين ومعاني القرآن للزجاج ٤/٤٤٦ وهي شاذة أيضا..
١٨ كقاتل..
١٩ كأكرم..
٢٠ أي صارهم إلى الإفك أو وجدهم كذلك كما تقول: أحمدت الرجل وجدته محمودا..
٢١ مثل صد أو أصد. وانظر المحتسب ٢/٢٦٧ و٢٦٨..
٢٢ وهي رواية قطرب وأبي الفضل الرازي البحر ٨/٦٦ وهي قراءة شاذة. معاني القرآن للفراء ٣/٥٩ وانظر المحتسب المرجع السابق وهي شاذة كسابقتها..
٢٣ ولم يعين من قرأ بها وهي قراءة شاذة انظر التبيان ١١٥٨..
٢٤ معنى كلام أبي حيان ف البحر ٨/٦٧..
قوله تعالى: ﴿وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الجن... ﴾ الآية لما بين أن في الإنس مَنْ آمَنَ، ومنهم من كفر، بين أيضاً أن في الجن من آمن ومنهم من كفر، وأن مؤمنهم مُعَرّض للثواب، وأن كافرهم معرض للعقاب.
قوله: ﴿وَإِذْ صَرَفْنَآ﴾ منصوب باذْكُرْ مقدراً. وقرىء: صَرفنا بالشديد للتكثير «مِنْ الْجِنِّ» صفلة ل «نَفَراً» ويجوز أن يتعلق ب «صَرْفَنا» و «مِنْ» لابتداء الغاية.
قوله: «يسمعون» صفة أيضاً لنفراً، أو حال، لتخصصه بالصفة إن قلنا: إن «مِنَ الْجِنِّ» صفة له وراعى معنى النفر فأعاد ليه الضمير جمعاً، ولو راعى لفظه فقال: يستمع لجاز.
قوله: ﴿فَلَمَّا حَضَرُوهُ﴾ يجوز أن تكون الهاء للقرآن وهو الظاهر، وأن تكون للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وحينئذ يكون في الكلام التفات من قوله: «إلَيْكَ» إلى الغيبة في قوله «حَضَرُوهُ».
قوله: ﴿فَلَمَّا قُضِيَ﴾ العامة على بنائه للمفعول، أي فرغ من قراءة القرآن وهو يؤيد عود «هاء» حضروه على القرآن. وأبو مِجْلزٍ وحبيب بن عبد الله قَضَى مبنياً للفاعل، أي أتم الرسول قراءته وهي تؤيد عودها على الرسول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ.

فصل


ذكروا في كيفية هذه الواقعة قولين:
الأول: قال سعيد بن جبير: كانت الجن تَسْتَمع، فلما رجموا قالوا: هذا الذي حدث في السماء إما حدث لشيء في الأرض؟ فذهبوا يطلبون السّبب. وكان قد اتفق أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لما أَيِسَ من أهله مكة أن يُجِيبُوه خرج إلى الطائف، ليَدْعُوَهُمْ إلى الإسلام فلما انصرف إلى مكة وكان ببطن مكة نخلة قام يقرأ القرآن، فمر به نفرٌ من أشراف (جِنِّ) نَصِيبِينَ، كان إبليس بعثهم ليعرف السبب الذي أوجب حراسة السماء بالرجم فسمعوا القرآن، فعرفوا أن ذلك هو السبب.
والقول الثاني: أن الله أمر رسوله أن يُنْذِرَ الجنَّ ويدعوهم إلى الله تعالى ويقرأ
414
عليهم القرآن فصرف إليه نفراً من الجن ليَسْتَمِعُوا منه القرآن، ويُنْذِرُوا قومهم (انتهى).

فصل


نقل القاضي في تفسيره أن الجنَّ كانوا يهوداً؛ لأن في الجن مِلَلاً كما في الإنس من اليهود والنَّصارَى والمجوس وعبدة الأوثان، وأطبق المحقِّقون على أن الجنة مكلفون. سئل أبن عباس: هل للجن ثواب؟
قال: نعم: لهم ثواب وعليهم عقاب يلتقون في أبواب الجنة ويزدَحِمُونَ على أبوابها.

فصل


قال الزمخشري: النَّفَرُ دون العَشَرَةِ ويجمع على «أَنْفَارٍ» روى الطبري عن ابن عباس أن أولئك الجنَّ كانوا سبعة نفر من أهل نصِيبِين، فجعلهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ رسلاً إلى قومهم.
وعن زِرِّ بن حبيش كانوا تسعة، أحدهم زوبعة. وعن قتادة: ذكر لنا أنهم صرفوا إليه من نِينَوَى. واختلفت الروايات في أنه هل كان عبد الله بن مسعود مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ليلة الجن؟

فصل


روى القاضي في تفسيره عن أنس قال: كنت مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهو بظاهر المدينة إذْ أَقْبَلَ شيخ يَتَوَّكأ علىعُكَّازِهِ فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنها لمشية جنِّيِّ، ثم أتَى فسلم على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إنها لنغمةُ جِنِّيّ، مفاق الشيخ: أَجَلْ يا رسول الله فقال له النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من أَيِّ الجن أنت؟ قال يار سول الله: أنا هَامُ بن هِيم بن لاقيس بن إبليس فقال له النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: لا أدري بينك ونبين إبليس إلا أبوين قال: أجل يا رسول الله. قال كم أتى عليك مِنَ العُمر. قال: أكلت عُمر الدنيا إلا القليل كنت حين قَتَلَ قابيلُ هابيلَ غلاماً ابن أعوام فكنت أَتَشَوفُ على الآكام، وأصْدَادُ الهَامَ وأُوْرِشُ بين
415
الأنَام. فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بئس العملُ قال يا رسول الله دعني من العتب، فإني ممن آمن مع نوحٍ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ وعاتبته في دعوته فبكا وأبكاني وقال: إني والله لَمِنَ النّادمينت، وأعوذ بالله أن أكون من الجاهلين. ولَقِيتُ إبراهيم وآمنت به، وكنت بينه وبين الأرض إذ رُمِيَ به في المَنْجَنِيق، كنت معه في النار إذْ أُلْقِيَ فيها وكنت مع يوسف إذ أُلقِيَ في الجُبِّ فسبقته إلى قصره ولَقِيتُ موسى بْنَ عِمْرَان بالمكان الأثير. وكنت مع عيسى ابن مَرْيَمَ فقال لي: إن لَقِيتَ مُحَمَّداً فاقرأ عليه السلام علّمني التوراة وإن عيسى علمني الإنجيل، فعلّمني القرآن. قال أنس: فعَلَّمَهُ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عَشْرَ سُوَرٍ، وقُبِضَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ولم يَنْعِهِ إلينا. قال عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه ولا أراه إلا حيًّا. وروي أنه عمله سورة الواقعة، و ﴿عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ﴾ [النبأ: ١ و ﴿إِذَا الشمس كُوِّرَتْ﴾ [التكوير: ١] و ﴿قُلْ يا أيها الكافرون﴾ [الكافرون: ١] وسرة الإخلاص والمُعَوِّذَتَين.

فصل


اختلفوا في عدد النفر، فقال ابن عباس (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما) كانوا سبعة وقد تقدم، وقيل: كانوا تسعةً. وروى عاصم عن زِرِّ بن حُبَيْش كان زوبعة من التسعة الذين استمعوا القرآن، فلما حضروه قالوا أنصتوا أي قال بعضهم لبعض أنصتوا أي اسْكُتُوا مستمعين يقال: أَنْصَتَ لِكَذَا، واسْتَنْصَتُّ لَهُ. روي في الحديث أن الجنة ثلاثة أصناف، صنف لهم أجنحة يطيرون في الهواء، وصنف حيَّاتٍ وكِلاَب، وصنف يحلّون ويظْعَنُون.
ثم إنهم لما استمعوا القرآن حتى فرغ من تلاوته ﴿وَلَّوْاْ إلى قَوْمِهِم﴾ انصرفوا إليهم «مُنْذِرِينَ» مخوفين داعين بأمر رسول الله صلى لله عليه وسلم وذلك لا يكون إلا بعد إيمانهم، لأنهم لا يَدْعُونَ غيرهم إلى سماع القرآن، والتصديق به، إلا وقد آمنوا. وعند ذلك ﴿قَالُواْ ياقومنآ إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنزِلَ مِن بَعْدِ موسى مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ أي لكتب الأنبياء، وذلك أن كتب سائر الأنبياء كانت مشتملةً على الدعوة إلى التوحيد والدعوة إلى النبوة والمَعَاد وتطهير الأخلاق، وكذلك هذا الكتاب مشتمل على هذه المعاني وهو معنى قوله ﴿يهدي إِلَى الحق وإلى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾.
فإنْ قيل: كيف قالوا: من بعد موسى، ولم يقولوا: من بعد عيسى؟
416
فالجواب: أنه روي عن عطاءٍ والحسن أنه كان دينهم اليهودية فلذلك قالوا: إنا سمعنا كتاباً أنزل بعد موسى. وعن ابن عباس (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما) أن الجنَّ ما سمعت أمر عيسى فلذلك قالوا: من بعد موسى ثم إن الجن لما وصفوا القرآن بهذه الصفات الفاضلة قالوا يا قومنا أجيبوا دَاعِيَ الله «يعني محمَّداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.

فصل


دلت هذه الآية على أنه صلى الله عليه سولم كان مبعوثاً إلى الجِنِّ كما كان مبعوثاً إلى الإنْسِ.
قال مقاتل: لم يبعث الله نبياً إلى الإنس وإلى الجن قبله.
فإن قيل: قوله ﴿أَجِيبُواْ دَاعِيَ الله﴾ أمر بإجابته في كل ما أمر به فيدخل فيه الأمر بالإيمان فكيف قال: وآمنوا به»
؟
فالجواب: أفاد ذكر الإيمان على التعيين، لأنه أهم الأقسام وِأشرفها وقد جرت عادة القرآن الكريم بأنه يذكر اللفظ العام ثم يعطف عليه أشرف أنواعه، كقوله: ﴿وملائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ﴾ [البقرة: ٩٨] وقوله ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النبيين مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ﴾ [الأحزاب: ٧] ولما أمر بالإيمان به ذكر فائدة ذلك الإيمان فقال: ﴿يَغْفِرْ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ﴾ قال بعضهم: كلمة «من» هنا زائدة والتقدير: يغفر لكم ذُنُوبَكُمْ، وقيل: بل فائدته أن كلمة «من» هنا لابتداء الغاية والمعنى أنه يقع ابتداء الغفران بالذنوب ثم ينتهي إلى عَفْوِ ما صدر عنكم من ترك الأَوْلَى والأكمل. ويجوز أن تكون تبعيضيةً.
قوله: ﴿وَيُجِرْكُمْ مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ قال ابن عباس (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما) فاستجاب لهم من قومهم نحو سبعينَ بَعْلاً من الجن فَرَجَعُوا إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فوافقوه في البَطْحَاء فقرأ عليهم القُرْآنَ وأمرهم ونَهَاهُمْ.

فصل


اختلفوا في أن الجن هل لهم ثواب أم لا؟ فقيل: لا ثَوَابَ لهم إلا النجاة من النار، ثم يقال لهم: كُونُوا تراباً مثلَ البهائم. واحتجوا على ذلك بقوله: (ويُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ) وقو قول أبي حنيفة والصحيح أن حكمهم حكم بني آدم يستحقون الثواب على
417
الطاعة والعقاب على المعصية.
وهو قولُ ابن أَبِي لَيْلَى ومَالِكٍ وتقدم عن ابن عباس أيضاً نحوُ ذلِكَ. قال الضحاك: يدخلون الجنة، ويأكلون ويشربون، لأن كل دليل دل على أن البشر يستحقون الثواب على الطاعة فهو بعينه قائم في حقِّ الجنِّ. والفرق بينهما بَعيداً جِدًّا، وذكر النقاش في تفسيره حديثاً أنه يدخلون الجنة. فقيل: هل يصيبون من نعيمها؟ قال: يُلْهِمُهُم اللهُ تسبيحهُ وذِكْرَه فيصيبهم من لذته ما يصيب بني آدم من نعيم الجنة. وقال أَرطَأَةُ بْنُ المُنْذِر: سألت ضمرةَ بن حبيب هل للجن ثواب؟ ققال: نعم وقرأ: ﴿لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَآنٌّ﴾ [الرحمن: ٥٦]. وقال عمر بن العزيز: إن مؤمني الجنِّ حول الجنة في رَبَض وَرِحابٍ ولُبْسِ فيها.
قوله: ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض أي لا يعجز الله فيفوته ﴿وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءُ﴾ أنصار يمنعونه من الله ﴿أولئك فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ﴾.
قوله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ الله الذي خَلَقَ السماوات والأرض..﴾ اعلم أنه تعالى قرر من أول سورة إلى ههنا أمر التوحيد والنبوة. ثم ذكر ههنا تقرير القادر من تأمل في ذلك علم أن المقصود من القرآن كله تقرير هذه الأصول الثلاثة. واعلم أن المقصود من هذه الآية الدلالة على كونه تعالى قادراً على البعث، لأنه تعالى أمام الدليل على خلق السموات والأرض وخلقهام أعظم من أعادة هذا الشّخص حيًّا بعد أن كان ميِّتاً، والقادر على الأكمل لا بدّ وأن يكون قادراً على ما دونه.
قوله: ﴿وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ﴾ العامة على سكون العين وفتح الياء مضارع «عِيِيَ» بالكسر يَعْيَا بالفتح فلما دخل الجازم حذف الألف. وقرأ الحسن يَعِي بكسر العين وسكون الياء. قالوا: وأصلها عَيِيَ بالكسر فجعل الكسر فتحة، على لغة طَيِّةء فَصَار «عَيَا»، كما قالوا في بَقِي: بَقَا. ولما بنى الماضي على «فَعَلَ» بالفتح جاء مضارعه على يَفْعِلُ بالكسر فصار يَعْيي مثل يَرْمِي، فلما دخل الجَازم حذف الياء الثانية فصار: لَمْ يَعْيِ بعين ساكنة وياءٍ مكسورة، ثم نقل حركة الياء إلى العين فصار اللفظ كما
418
تَرَى. وقد تقدم أن عَيِيَ وحَيِيَ فيها لغتان، الفَكّ والإدغام. فأما حَيِيَ فتقدَّمَ في الأنفال و (أما) عَيِيَ فكقوله:
٤٤٦٠ - عَيّوا بأمْرِهِمْ كمَا عَيْيَتُ ببيضَتِهَا الحَمَامَهْ
والعي عدم الاهتداء إلى جهةٍ. ومنه العَيُّ في الكلام، وعَيِيَ بالأَمر إذا لم يهتد لوجهه.
قوله: «بِقَادِرٍ» الباء زائدة وحَسَّنَ زيادتَها كَوْنُ الكلام في قوة «أَلَيْسَ اللهُِ بِقَادرٍ». قال أبو عبيدة، والأخفش: الباء زائدة للتوكيد، كقوله: ﴿تَنبُتُ بالدهن﴾ [المؤمنون: ٢٠] وقاس الزجاج «مَا ظَنَنْتُ أَنَّ أحداً بِقَائِمٍ» عَلَيْهَا. والصحيح التوقف. وقال الكسائي والفراء العرب تدخل الباء في الاستفهام فتقول: ما أظُنُّكَ بقائمٍ.
وقرأ عيسى، وزيد بن علي «قَادِرٌ» بغير ياء.
قوله: «بلى» إيجاب لما تضمنه الكلام من النفي في قوله: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْاْ﴾.
419
قوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ يُعْرَضُ الذين كَفَرُواْ على النار﴾ فيقال لهم: أَلْيسَ هَذا بالْحَقِّ قَالُوا بَلَى فقوله: أليس هذا معمول لقول مضمر هو حال كما تقدم في نظيره. والمقصود من هذا الاستفهام التهكم والتوبيخ على استهزائهم بوعد الله تعالى ووعيده. فيقال لهم ﴿فَذُوقُواْ العذاب بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ﴾.
قوله تعالى: ﴿فاصبر كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ العزم مِنَ الرسل﴾ الفاء في قوله «فَاصْبِر» عاطفة هذه الجملة على ما تقدم، والسببية فيها ظاهرة. واعلم أنه تعالى لما قرر المَطَالِبَ الثَّلاثَة وهي التوحيد والنبوة وأجاب عن الشبهات أردفه بما يجري مجرى الوعظ والنصيحة للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وذلك لأن كانوا يؤذونه ويُوجِسُون صدره فقال تعالى: ﴿فاصبر كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ العزم﴾ أي أُولو الجِدِّ والصَّبْر والثَّبَات وقال ابن عباس (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما) أولو الحَزْم.
قوله: ﴿مِنَ الرسل﴾ يجوز أن تكون من تبعيضية، وعلى هذا فالرُّسُلُ أَولُو عَزْم وَغيرُ أُولِي عَزْمٍ. ويجوز أن يكون للبيان فكلهم على هذا أُولو عَزْم. قال ابن زيد: كُلّ الرُّسُلِ كانوا أولى عزم ولم يبعث الله نبياً إلا كان ذَا عَزْم وحَزْمٍ، ورأي وكمال عقل. وإنما دخلت مِنْ للتَّجْنِيس لا للتبعيض كما يقال اشتريت (أكسية) من الخَزِّ وأَرْدِيَةً من البزّ. وقيل: الأنبياء كلهم أولو العزم إلا يُونُسَ لعجلة كانت منه، ألا ترى أنه قيل للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: ﴿وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ الحوت﴾ [القلم: ٤٨] وقيل هم نُجَبَاء الرسل، وهم المذكورون في سورة الأنعام، وهم ثَمَانِيَةَ عَشَرَ لقوله بعد ذكرهم: «أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللهُ فبهداهُم اقْتَدِهْ». وقال الكلبي: هم الذين أمروا بالجهاد، وأظهروا المكاشفة مع أعداء الدين وقيل: هم ستة: نوحٌ وهودٌ، وصالحٌ، ولوطُ، وشعيبٌ،
420
ومُوسَى، وهم المذكورون على النَّسقِ في سورة الأعْراف والشُّعَرَاءِ.
وقال مقاتل: هم ستة، نوح صبر على أذى قومه، كانوا يضربونه حتى يُغْشَى عَلَيْه، وإبراهيم صَبَرَ على النار وذبْح الوَلَد، وإسحاق صبر على الذبح، ويعقوب، صبر على فَقْد ولده، وذَهَابِ بصره، ويوسفُ صبر في الجُبِّ والسِّجْن، وأيوبُ صبر على الضُرِّ.
وقال ابن عباس وقتادة: هم نوح، وإبراهيم، وموسى وعيسى أصحاب الشرائع، فهم مع مُحَمَّد خمسة. وقال البغوي: ذكرهم الله على التخصيص في قوله: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النبيين مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وموسى وَعِيسَى ابن مَرْيَمَ﴾ [الأحزاب: ٧] وفي قوله: ﴿شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدين مَا وصى بِهِ نُوحاً﴾ [الشورى: ١٣] الآية روي أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال لعائشة: يا عائشةُ إن الله لم يرض لاولي العزم إلا بالصّبر على مكروهها، والصبر على محبوبها لم يرضَ إلا ان كلفني ما كلفهم قال: ﴿فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل﴾، وإني والله لا بدّ لي من طاعة، والله لأصبرنَّ كما صَبَرُوا وأَجْهَدَنَّ ولا قوة إلا بالله.
قوله: ﴿وَلاَ تَسْتَعْجِل لَّهُمْ﴾ العذاب فإنه نازل بهم. قيل: إن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ضجر من قومه بعضَ الضَّجَر، وأحبَّ أن ينزل الله العذاب بمن أبى من قومه، فأمر بالصبر، وترك الاستعجال. ثم أخبر أن ذلك العذاب إذ أنزل بهم يستقصرون مدة لبثهم في الدنيا حتى يحسبونها ساعة من نهار فقال: ﴿كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ﴾ من العذاب ﴿لَمْ يلبثوا إِلاَّ سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ﴾ إذا عاينوا العذاب صار طُول لَبْثهِمْ في الدنيا والبْرزَخ كأنه ساعةٌ من النهار، أو كان لم يكن لهول ما عاينوا، لأن ما مضى وإن كان طويلاً صار كأنه لم يكن، قال الشاعر:
٤٤٦١ - كَأَنَّ شَيْئاً لَمْ يَكُنْ إذَا مَضَى كَأَنَّ شَيْئاً لَمْ يَكُنْ إذَا أَتَى
واعلم أنه تم الكلام ههنا.
قوله: «بلاغ» العامة على رفعه. وفيه وجْهَان:
أحدهما: أنه خبر مبتدأ محذوف، فقدره بعضهم: تلكَ الساعةُ بلاغٌ، لدلالة قوله: ﴿إِلاَّ سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ﴾. وقيل: تقديره هذا أي القرآن والشرع بلاغٌ من الله إليكم.
والثاني: أنه مبتدأ والخبر قله «لَهُمْ» الواقع بعد قوله ﴿وَلاَ تَسْتَعْجِل﴾ أي لهم بلاغ
421
فيوقف على «ولا تستعجل». وهو ضعيف جداً، للفصل بالجملة التشبيهية، ولأن الظاهر تَعَلُّق «لهم» بالاسْتِعْجَالِ فهو يشبه الهيئة والقطع.
وقرأ زيد بن علي والحسن وعيسى «بلاغاً» نصباً على المصدر أي بلِّغ بلاغاً. ويؤيده قراءة ابن مِجْلَزِ «بَلِّغْ» أمراً. وقرأ أيضاً «بَلَّغَ» فعلاً ماضياً. ويؤخذ من كلام مَكِّيٍّ أنه يجوز نصبه نعتاً «لِسَاعَةِ» فإنه قال: «ولو قرىء بلاغاً بالنصب على المصدر، أو على النعت لساعة جاز». وكأنه لو لم يطلع على ذلك قراءة. وقرأ الحسن أيضاً: بَلاَغٍ بالجر، ويُخَرِّج على الوصف ل «نَهَار» على حذف مضاف أي من نهارٍ ذي بلاغ، أو وصف الزمان بالبلاغ مبالغةً. والبلاغ بمعنى التَّبلْيغ.
قوله: «فهل يهلك» العام على بنائه للمفعول. وابن محيصن يَهْلِكُ بفتح الياء وكسر اللام مبنياً للفاعل. وعنه أيضاً فتح اللام وهي لغةٌ والماضي هَلِكَ، بالكسر. قال ابن جني: «كُلٌّ مَرْغُوبٌ عَنْهَا». وزيد بن ثابت: بضم الياء وكسر اللام، فالفاعل هو الله تعالى. ﴿القوم الفاسقون﴾. نصباً على المفعول به. وقرىء: «تَهْلِكُ» بالنو وكسر اللام ونب «الْقَوْم».

فصل


المعنى فهل يهلك بالعذاب إذا نزل إلاّ القَوْم الفاسقون الخارجون عن أمر الله قال الزجاج: تأويله لا يَهْلِكُ مع رحمة الله وفضْلِهِ إلاَّ القَوْم الفاسقون، ولهذا قال
422
قومٌ: مَا فِي الرَّجَاءِ لِرَحْمَةِ الله أقْوَى مِنْ هذه الآية.
روى أبيّ بن كعب (رَضِيَ اللَّهُ عَنْه) قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «مَنْ قَرَأَ سُورَة الأَحْقَافِ أُعْطِيَ مِنَ الأَجْرِ بِعَدَدِ كُلِّ رَمْلٍ فِي الدُّنْيَا عَشْرَ حَسَنَاتٍ ومُحِيَ عَنْهُ عَشْرُ سَيِّئاتٍ ورُفِعَ لَهُ عَشْرُ دَرَجَاتٍ» (اللَّهُمَّ تَوفَّنَا مُسْلِمِينَ).
423
سورة محمد
424
وعند ذلك ﴿ قَالُواْ يا قومنا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنزِلَ مِن بَعْدِ موسى مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ﴾ أي لكتب الأنبياء، وذلك أن كتب سائر الأنبياء كانت مشتملةً على الدعوة إلى التوحيد والدعوة إلى النبوة والمَعَاد وتطهير الأخلاق، وكذلك هذا الكتاب مشتمل على هذه المعاني وهو معنى قوله ﴿ يهدي إِلَى الحق وإلى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾.
فإنْ قيل : كيف قالوا : من بعد موسى، ولم يقولوا : من بعد عيسى ؟
فالجواب : أنه روي عن عطاءٍ والحسن أنه كان دينهم اليهودية فلذلك قالوا : إنا سمعنا كتاباً أنزل بعد موسى. وعن ابن عباس ( رضي الله عنهما )١ أن الجنَّ ما سمعت أمر عيسى فلذلك قالوا : من بعد موسى ثم إن الجن لما وصفوا القرآن بهذه الصفات الفاضلة قالوا يا قومنا أجيبوا دَاعِيَ الله «يعني محمَّداً صلى الله عليه وسلم٢.
١ زيادة من أ..
٢ الرازي ٢٨/٣٢..

فصل


دلت هذه الآية على أنه صلى الله عليه وسلم كان مبعوثاً إلى الجِنِّ كما كان مبعوثاً إلى الإنْسِ.
قال مقاتل : لم يبعث الله نبياً إلى الإنس وإلى الجن قبله.
فإن قيل : قوله ﴿ أَجِيبُواْ دَاعِيَ الله ﴾ أمر بإجابته في كل ما أمر به فيدخل فيه الأمر بالإيمان فكيف قال : وآمنوا به » ؟
فالجواب : أفاد ذكر الإيمان على التعيين، لأنه أهم الأقسام وِأشرفها وقد جرت عادة القرآن الكريم بأنه يذكر اللفظ العام ثم يعطف عليه أشرف أنواعه، كقوله :﴿ وملائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ ﴾ [ البقرة : ٩٨ ] وقوله ﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النبيين مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ ﴾ [ الأحزاب : ٧ ] ولما أمر بالإيمان به ذكر فائدة ذلك الإيمان فقال :﴿ يَغْفِرْ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ ﴾ قال بعضهم : كلمة «من » هنا زائدة١ والتقدير : يغفر لكم ذُنُوبَكُمْ، وقيل : بل فائدته أن كلمة «من » هنا لابتداء الغاية والمعنى أنه يقع ابتداء الغفران بالذنوب ثم ينتهي إلى عَفْوِ ما صدر عنكم من ترك الأَوْلَى والأكمل٢. ويجوز أن تكون تبعيضيةً٣.
قوله :﴿ وَيُجِرْكُمْ مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ قال ابن عباس ( رضي الله عنهما ) فاستجاب لهم من قومهم نحو سبعينَ بَعْلاً من الجن فَرَجَعُوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوافقوه في البَطْحَاء فقرأ عليهم القُرْآنَ وأمرهم ونَهَاهُمْ٤.

فصل


اختلفوا في أن الجن هل لهم ثواب أم لا ؟ فقيل : لا ثَوَابَ لهم إلا النجاة من النار، ثم يقال لهم : كُونُوا تراباً مثلَ البهائم. واحتجوا على ذلك بقوله :( ويُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ) وهو قول أبي حنيفة والصحيح أن حكمهم حكم بني آدم يستحقون الثواب على الطاعة والعقاب على المعصية.
وهو قولُ ابن أَبِي لَيْلَى ومَالِكٍ٥ وتقدم عن ابن عباس أيضاً نحوُ ذلِكَ. قال الضحاك : يدخلون الجنة، ويأكلون ويشربون، لأن كل دليل٦ دل٧ على أن البشر يستحقون الثواب على الطاعة فهو بعينه قائم في حقِّ الجنِّ. والفرق بينهما بَعيداً جِدًّا٨، وذكر النقاش في تفسيره حديثاً أنه يدخلون الجنة. فقيل : هل يصيبون من نعيمها ؟ قال : يُلْهِمُهُم اللهُ تسبيحهُ وذِكْرَه فيصيبهم من لذته ما يصيب بني آدم من نعيم الجنة. وقال أَرطَأَةُ بْنُ المُنْذِر : سألت ضمرةَ بن حبيب هل للجن ثواب ؟ ققال : نعم وقرأ :﴿ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَآنٌّ ﴾٩ [ الرحمن : ٥٦ ]. وقال عمر بن العزيز : إن مؤمني الجنِّ حول الجنة في رَبَض١٠ وَرِحابٍ ولُبْسِ فيها١١.
١ ذكرت في البحر والرازي دون تحديد انظر البحر ٨/٦٨ والرازي ٢٨/٣٣..
٢ الرازي السابق..
٣ البحر السابق..
٤ ذكره القرطبي ١٦/٢١٧..
٥ والشافعي وانظر القرطبي ١٦/٢١٧ و٢١٨..
٦ في ب يدل مضارعا..
٧ في ب يدل مضارعا..
٨ الرازي ٢٨/٣٣..
٩ من الرحمن عز وجل ٥٦..
١٠ أي حول الجنة فالربض هو ما حول الشيء..
١١ انظر البغوي في معالم التنزيل..
قوله : ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض أي لا يعجز الله فيفوته ﴿ وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءُ ﴾ أنصار يمنعونه من الله ﴿ أولئك فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ﴾.
قوله تعالى :﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ الله الذي خَلَقَ السماوات والأرض. . ﴾ اعلم أنه تعالى قرر من أول السورة إلى ههنا أمر التوحيد والنبوة. ثم ذكر ههنا تقرير القادر من تأمل في ذلك علم أن المقصود من القرآن كله تقرير هذه الأصول الثلاثة. واعلم أن المقصود من هذه الآية الدلالة على كونه تعالى قادراً على البعث، لأنه تعالى أمام الدليل على خلق السموات والأرض وخلقها أعظم من أعادة هذا الشّخص حيًّا بعد أن كان ميِّتاً، والقادر على الأكمل لا بدّ وأن يكون قادراً على ما دونه١.
قوله :﴿ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ ﴾ العامة على سكون العين وفتح الياء مضارع «عِيِيَ » بالكسر يَعْيَا بالفتح فلما دخل الجازم حذف الألف. وقرأ الحسن يَعِي بكسر العين٢ وسكون الياء. قالوا : وأصلها عَيِيَ بالكسر فجعل الكسر فتحة، على لغة طَيِّىء فَصَار «عَيَا »، كما قالوا في بَقِي : بَقَا. ولما بنى الماضي على «فَعَلَ » بالفتح جاء مضارعه على يَفْعِلُ٣ بالكسر فصار يَعْيي مثل يَرْمِي، فلما دخل الجَازم حذف الياء الثانية٤ فصار : لَمْ يَعْيِ٥ بعين ساكنة وياءٍ مكسورة، ثم نقل حركة الياء إلى العين٦ فصار اللفظ كما تَرَى٧. وقد تقدم أن عَيِيَ وحَيِيَ فيها لغتان، الفَكّ٨ والإدغام٩. فأما حَيِيَ فتقدَّمَ في الأنفال١٠ و ( أما )١١ عَيِيَ فكقوله :
٤٤٦٠ عَيّوا بأمْرِهِمْ كمَا عَيْ يَتُ ببيضَتِهَا الحَمَامَهْ١٢
والعي عدم الاهتداء إلى جهةٍ. ومنه العَيُّ في الكلام، وعَيِيَ بالأَمر إذا لم يهتد لوجهه١٣.
قوله :«بِقَادِرٍ » الباء زائدة وحَسَّنَ زيادتَها كَوْنُ الكلام في قوة «أَلَيْسَ اللهُِ بِقَادرٍ »١٤. قال أبو عبيدة١٥، والأخفش١٦ : الباء زائدة للتوكيد، كقوله :﴿ تَنبُتُ بالدهن ﴾ [ المؤمنون : ٢٠ ] وقاس الزجاج «مَا ظَنَنْتُ أَنَّ أحداً بِقَائِمٍ » عَلَيْهَا١٧. والصحيح التوقف. وقال الكسائي١٨ والفراء١٩ العرب تدخل الباء في الاستفهام فتقول : ما أظُنُّكَ بقائمٍ.
وقرأ عيسى، وزيد بن علي «قَادِرٌ » بغير ياء٢٠.
قوله :«بلى » إيجاب لما تضمنه الكلام من النفي في قوله :﴿ أَوَلَمْ يَرَوْاْ ﴾.
١ بالمعنى من الرازي ٢٨/٣٤..
٢ قراءة شاذة ذكرها أبو حيان في البحر ٨/٦٨ والقرطبي في الجامع ١٦/٣١٩..
٣ كرسى يرسي، وقضى يقضي، ومشى يمشي... الخ..
٤ فهي متطرفة والثقل ينشأ منها..
٥ وهذا إعلال بالحذف..
٦ أما هذا فهو إعلال بالنقل فاجتمع في الكلمة إعلالان كما هو واضح..
٧ بالمعنى من البحر المحيط ٨/٦٨..
٨ كما في عيي..
٩ وهو عي وحي..
١٠ من الآية ٤٢ وهي قوله: "ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة"..
١١ زيادة لتوضيع السياق وتبينيه..
١٢ البيت من مجزوء الكامل، ولم أجده هكذا في الديوان وهو لعبيد بن الأبرص وإنما:
برمت بنو أسد كما برمت ببيضتها الحمامه
وعليه فلا شاهد فيه والشاهد "عيوا" حيث أدغم يائي الفعل "عيي" وهو قليل وشاذ والأفصح الفك حيث لم يأت هذا إلا قليلا وانظر القرطبي ١٦/٢١٩ وأدب الكاتب ٥٤ والبحر ٨/٥٣ وفتح القدير ٥/٢٦ والديوان ١٣٨ دار صادر بيروت وانظر اللسان عيي ٣٢٠٢..

١٣ المرجع السابق..
١٤ بالمعنى من البحر ٨/٦٨..
١٥ قال: "مجازها: قادر والعرب تؤكد الكلام بالباء وهي مستغنى عنها" وانظر مجاز القرآن ٢/٢١٣..
١٦ قال: "فهو بالباء كالباء في قوله: كفى بالله، وهي مثل: تنبت بالدهن". انظر المعاني له ٦٩٤..
١٧ قال: "ولو قلت: ظننت أن زيدا بقائم لم يجز، ولو قلت: ما ظننت أن زيدا بقائم جاز بدخول "ما" انظر معانيه ٤/٧٤٧..
١٨ القرطبي ١٦/٢١٩..
١٩ قال: "دخلت الباء للم، والعرب تدخلها مع الجحود إذا كانت رافعة لما قبلها ويدخلونها إذا وقع عليها فعل يحتاج إلى اسمين مثل قولك: ما أظنك بقائم وما أظن أنك بقائم، وما كنت بقائم فإذا خلفت الباء نصبت الذي كانت فيه بما يعمل فيه من الفعل، ولو ألغيت الباء من "قادر" في هذا الموضع رفعه لأنه خبر لأن". انظر معاني القرآن له ٣/٥٩ والقرطبي ١٦/٢١٩..
٢٠ لم أجد هذه القراءة هكذا وإنما يقدر بلفظ المضارع انظر الكشاف ٣/٥٢٨ ومعاني الفراء ٣/٥٩ وإعراب النحاس ٤/١٧٣ و١٧٣ ومعاني الزجاج ٤/٤٤٧، وبها قرأ آخرون بما فيهم يعقوب انظر الإتحاف ٣٩٢ وهي من الأربعة فوق العشر المتواترة..
قوله تعالى :﴿ وَيَوْمَ يُعْرَضُ الذين كَفَرُواْ على النار ﴾ فيقال لهم : أَلْيسَ هَذا بالْحَقِّ قَالُوا بَلَى فقوله : أليس هذا معمول لقول مضمر١ هو حال كما تقدم في نظيره٢. والمقصود من هذا الاستفهام التهكم والتوبيخ على استهزائهم بوعد الله تعالى ووعيده. فيقال لهم ﴿ فَذُوقُواْ العذاب بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ ﴾.
١ قاله الفراء في معاني القرآن ٣/٥٧ والزمخشري في الكشاف ٣/٥٢٨ وأبو حيان في البحر ٨/٦٨..
٢ وهو قوله: "يوم يعرض الذين كفروا عل النار أذهبتم طيباتكم" وهي الآية ٢٠ من نفس السورة..
قوله تعالى :﴿ فاصبر كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ العزم مِنَ الرسل ﴾ الفاء في قوله «فَاصْبِر » عاطفة هذه الجملة على ما تقدم١، والسببية٢ فيها ظاهرة. واعلم أنه تعالى لما قرر المَطَالِبَ الثَّلاثَة وهي التوحيد والنبوة وأجاب عن الشبهات أردفه بما يجري مجرى الوعظ والنصيحة للرسول صلى الله عليه وسلم وذلك لأن كانوا يؤذونه ويُوجِسُون٣ صدره فقال تعالى :﴿ فاصبر كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ العزم ﴾ أي أُولو الجِدِّ والصَّبْر والثَّبَات٤ وقال ابن عباس ( رضي الله عنهما ) أولو الحَزْم٥.
قوله :﴿ مِنَ الرسل ﴾ يجوز أن تكون من تبعيضية، وعلى هذا فالرُّسُلُ أَولُو عَزْم وَغيرُ أُولِي عَزْمٍ. ويجوز أن يكون للبيان فكلهم على هذا أُولو عَزْم٦. قال ابن زيد : كُلّ الرُّسُلِ كانوا أولى عزم ولم يبعث الله نبياً إلا كان ذَا عَزْم وحَزْمٍ، ورأي وكمال عقل. وإنما دخلت مِنْ للتَّجْنِيس٧ لا للتبعيض كما يقال اشتريت ( أكسية )٨ من الخَزِّ وأَرْدِيَةً من البزّ٩. وقيل : الأنبياء كلهم أولو العزم إلا يُونُسَ لعجلة كانت منه، ألا ترى أنه قيل للنبي صلى الله عليه وسلم :﴿ وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ الحوت ﴾ [ القلم : ٤٨ ] وقيل هم نُجَبَاء الرسل، وهم المذكورون في سورة الأنعام، وهم ثَمَانِيَةَ عَشَرَ١٠ لقوله بعد ذكرهم :«أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللهُ فبهداهُم اقْتَدِهْ »١١. وقال الكلبي : هم الذين أمروا بالجهاد، وأظهروا المكاشفة مع أعداء الدين١٢ وقيل : هم ستة : نوحٌ وهودٌ، وصالحٌ، ولوطُ، وشعيبٌ، ومُوسَى، وهم المذكورون على النَّسقِ في سورة الأعْراف والشُّعَرَاءِ
وقال مقاتل : هم ستة، نوح صبر على أذى قومه، كانوا يضربونه حتى يُغْشَى عَلَيْه، وإبراهيم صَبَرَ على النار وذبْح الوَلَد، وإسحاق صبر على الذبح، ويعقوب، صبر على فَقْد ولده، وذَهَابِ بصره، ويوسفُ صبر في الجُبِّ والسِّجْن، وأيوبُ صبر على الضُرِّ.
وقال ابن عباس وقتادة : هم نوح، وإبراهيم، وموسى وعيسى أصحاب الشرائع، فهم مع مُحَمَّد خمسة. وقال البغوي : ذكرهم الله على التخصيص في قوله :﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النبيين مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وموسى وَعِيسَى ابن مَرْيَمَ ﴾ [ الأحزاب : ٧ ] وفي قوله :﴿ شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدين مَا وصى بِهِ نُوحاً ﴾ [ الشورى : ١٣ ] الآية١٣ روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة : يا عائشةُ إن الله لم يرض لأولي العزم إلا بالصّبر على مكروهها، والصبر على محبوبها لم يرضَ إلا أن كلفني ما كلفهم قال :﴿ فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل ﴾، وإني والله لا بدّ لي من طاعة، والله لأصبرنَّ كما صَبَرُوا وأَجْهَدَنَّ ولا قوة إلا بالله.
قوله :﴿ وَلاَ تَسْتَعْجِل لَّهُمْ ﴾ العذاب فإنه نازل بهم. قيل : إن النبي صلى الله عليه وسلم ضجر من قومه بعضَ الضَّجَر، وأحبَّ أن ينزل الله العذاب بمن١٤ أبى من قومه، فأمر بالصبر، وترك الاستعجال. ثم أخبر أن ذلك العذاب إذ أنزل بهم يستقصرون مدة لبثهم في الدنيا حتى يحسبونها ساعة من نهار فقال :﴿ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ ﴾ من العذاب ﴿ لَمْ يلبثوا إِلاَّ سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ ﴾ إذا عاينوا العذاب صار طُول لَبْثهِمْ في الدنيا والبْرزَخ كأنه ساعةٌ من النهار، أو كان لم يكن لهول ما عاينوا، لأن ما مضى وإن كان طويلاً صار كأنه لم يكن، قال الشاعر :
٤٤٦١ كَأَنَّ شَيْئاً لَمْ يَكُنْ إذَا مَضَى كَأَنَّ شَيْئاً لَمْ يَكُنْ إذَا أَتَى١٥
واعلم أنه تم الكلام ههنا.
قوله :«بلاغ » العامة على رفعه. وفيه وجْهَان :
أحدهما : أنه خبر مبتدأ محذوف، فقدره بعضهم : تلكَ الساعةُ بلاغٌ، لدلالة قوله :﴿ إِلاَّ سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ ﴾١٦. وقيل : تقديره هذا أي القرآن والشرع بلاغٌ من الله إليكم١٧.
والثاني : أنه مبتدأ والخبر قله «لَهُمْ » الواقع بعد قوله ﴿ وَلاَ تَسْتَعْجِل ﴾ أي لهم بلاغ فيوقف على «ولا تستعجل ». وهو ضعيف جداً، للفصل بالجملة التشبيهية، ولأن الظاهر تَعَلُّق «لهم » بالاسْتِعْجَالِ فهو يشبه الهيئة والقطع١٨.
وقرأ زيد بن علي والحسن وعيسى «بلاغاً »١٩ نصباً على المصدر أي بلِّغ بلاغاً. ويؤيده قراءة ابن مِجْلَزِ «بَلِّغْ » أمراً٢٠. وقرأ أيضاً «بَلَّغَ » فعلاً ماضياً٢١. ويؤخذ من كلام مَكِّيٍّ أنه يجوز نصبه نعتاً «لِسَاعَةِ » فإنه قال :«ولو قرئ بلاغاً بالنصب على المصدر، أو على النعت لساعة جاز »٢٢. وكأنه لو لم يطلع على ذلك قراءة. وقرأ الحسن أيضاً : بَلاَغٍ بالجر٢٣، ويُخَرِّج على الوصف ل «نَهَار » على حذف مضاف أي من نهارٍ ذي بلاغ٢٤، أو وصف الزمان بالبلاغ مبالغةً. والبلاغ بمعنى التَّبلْيغ.
قوله :«فهل يهلك » العام على بنائه للمفعول. وابن محيصن يَهْلِكُ بفتح الياء وكسر اللام مبنياً للفاعل٢٥. وعنه أيضاً٢٦ فتح اللام وهي لغةٌ والماضي هَلِكَ، بالكسر٢٧. قال ابن جني٢٨ :«كُلٌّ مَرْغُوبٌ عَنْهَا ». وزيد بن ثابت : بضم الياء وكسر اللام، فالفاعل هو الله تعالى. ﴿ القوم الفاسقون ﴾٢٩. نصباً على المفعول به. وقرئ :«تَهْلِكُ » بالنون وكسر اللام ونصب «الْقَوْم »٣٠.

فصل


المعنى فهل يهلك بالعذاب إذا نزل إلاّ القَوْم الفاسقون الخارجون عن أمر الله٣١ قال الزجاج : تأويله لا يَهْلِكُ مع رحمة الله وفضْلِهِ إلاَّ القَوْم الفاسقون٣٢، ولهذا قال قومٌ : مَا فِي الرَّجَاءِ لِرَحْمَةِ الله أقْوَى مِنْ هذه الآية٣٣.
١ من أخبار الكفار في الآخرة والمعنى بينهما مرتبط أي هذه حالهم مع الله فلا تستعجل أنت واصبر ولا تخف إلا الله. وهو قول أبي حيان في البحر المرجع السابق..
٢ وهذا لايمنع كونها عاطفة فالسببية أكثر من العاطفة..
٣ في ب ويوحشون..
٤ انظر الرازي ٢٨/٣٥..
٥ القرطبي ١٦/٢٢٠..
٦ قاله الزمخشري في الكشاف ٣/٥٢٨ وأبو حيان في البحر ٨/٦٨..
٧ في ب للجنس..
٨ زيادة على النسختين لازمة..
٩ نسب هذا الرأي القرطبي في الجامع لابن عباس..
١٠ الآية ٩٠ منها..
١١ القرطبي السابق..
١٢ القرطبي السابق أيضا وقد ذكر رحمة الله عليه كثيرا من الآراء في تفسيره العظيم انظر الجامع ١٦/٢٢٠ و٢٢١..
١٣ انظر معالم التنزيل له ٦/٤٧..
١٤ في ب ممن غير مراد..
١٥ في الرازي: لم يزل وقد أتى به استئنافيا للمعنى المذكور أعلى وانظر الرازي ٢٨/٣٥ والبيت لم أعرف قائله وهو من بحر الرجز..
١٦ ذكره أبو حيان ولم يعينه انظر البحر ٨/٦٩..
١٧ انظر المرجع السابق وهو رأي الحسن فيما نقله القرطبي في الجامع ١٦/٢٢٢..
١٨ بالمعنى من البحر المحيط المرجع السابق..
١٩ ذكرها أبو الفتح في المحتسب وهي شاذة انظر المحتسب ٢/٢٦٨..
٢٠ المرجع السابق..
٢١ ذكرها ابن خالويه في المختصر ١٤٠ وذكر أنها عن أبي مجلز أيضا..
٢٢ قال: "لو نصب في الكلام على المصدر أو على النعت لساعة لجاز" مشكل إعراب القرآن ٣/٣٠٤..
٢٣ التبيان ١١٥٩ والبحر ٨/٦٩..
٢٤ المرجع السابق..
٢٥ المحتسب ٢/٢٦٨ وهي شاذة..
٢٦ قال في المحتسب: "وبعض الناس يقول: فهل يهلك"..
٢٧ كذا في البحر لأبي حيان وفي المحتسب أنها بفتح اللام..
٢٨ كذا في النسختين وفي المحتسب: وهي مرغوب عنها أي تلك القراءة الأخيرة وانظر المحتسب ٢/٢٦٨..
٢٩ البحر ٨/٦٩ ومختصر ابن خالويه ١٤٠..
٣٠ الكشاف ٣/٥٢٨ وكلها شواذ ولم يحدد من قرأ بها..
٣١ وهو رأي ابن عباس وغيره انظر القرطبي ١٦/٢٢٢..
٣٢ معاني القرآن وإعرابه للزجاج ٤/٤٤٨..
٣٣ القرطبي المرجع السابق..
Icon