تفسير سورة الأحقاف

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد
تفسير سورة سورة الأحقاف من كتاب البحر المديد في تفسير القرآن المجيد .
لمؤلفه ابن عجيبة . المتوفي سنة 1224 هـ

سورة الأحقاف
مكية: وقيل: إلا قوله: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ «١» الآية، وقوله: فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ «٢». وهى خمس وثلاثون آية. ومناسبتها لما قبلها: قوله: ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللَّهِ هُزُواً «٣» أي: حيث قلتم: إن محمدا اختلقها، مع قوله: تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ، فهى رد عليهم.
[سورة الأحقاف (٤٦) : الآيات ١ الى ٣]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (٢) ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (٣)
يقول الحق جلّ جلاله: حم يا محمد، أو: الوحي إلى محمد، تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ أي:
هذا تنزيل القرآن، وهو من الله الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ، فمَن حفظه، وعرف ما فيه، وعمل بمضمنه كان عزيزا على الله، حكيماً فيما يبدئ ويعيد. ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما من المخلوقات إِلَّا بِالْحَقِّ أي:
إلا ملتبساً بالحق الذي تقتضيه الحكمة التكوينية والتشريعية، فالاستثناء مفرغ من أعم المفاعيل، أو من أعم الأحوال، أي: ما خلقناهما في حال من الأحوال إلا حال ملابستنا بالحق، وفيه من الدلالة على وجود الصانع، وصفات كماله، وابتناء أفعاله على حكمة بالغة، ما لا يخفى، وَأَجَلٍ مُسَمًّى تنتهي إليه، وهو يوم القيامة، يَوْمَ تُبدل الأرض غَيْرَ الأرض والسموات. وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا به من هول ذلك اليوم، الذي لا بُد لكل مخلوق من الانتهاء إليه، مُعْرِضُونَ لا يؤمنون به، ولا يهتمُّون بالاستعداد له، ويجوز أن تكون «ما» مصدرية، أي: عن إنذارهم ذلك اليوم معرضون.
وحاصل افتتاح السورة: أنّ الوحي الخاص إلى محمد هو منزل من الله العزيز، الذي عَزَّ عن الافتراء عليه، وأعزَّ بالوحي مَن تمسّك به، الحكيم في تنزيله وحيه، مرشداً لعباده لِمَا فيه صلاحهم وهداهم، ومن حكمته: أنّ
(١) الآية ١٠ من السورة.
(٢) الآية الأخيرة.
(٣) من الآية ٣٥ من سورة الجاثية.
خلق السموات والأرض دالاًّ بذلك على توحيده، وكماله في أوصافه وتدابيره، المقتضية لترتُّب دار الجزاء على دار العمل، بحيث لا يُسَوِّي بين مبطل ومحق، فأرشد بخلق الأشياء إلى حكمته دلالة، ثم بإنزال الوحي بذلك قالة، ومع وضوح الأمر في دلالتهما أعرض الذين كفروا من غير دليل عقلي ولا نقلي متواتر ولا آحاد، على أنَّ ما اقتضاه الوحي إلى محمد من التوحيد، والجزاء المرتب على الإخلاص له، والصدق في عبودية الله، والدعاء إلى محاسن الأخلاق، مما اجتمعت عليه الرسل قبله، فليس بمبدع مِن عنده. هـ. من الحاشية.
الإشارة: حم يا حبيب ممجد، قد مجدناك بإنزال كتابتا، وعززناك برسالتنا، ما خلقنا الكائنات إلا ملتبسة بأسرار الحق، وأهل الغفلة معرضون عن هذا.
قال القشيري: حَمَيْتُ قلوبَ أهل عنايتي، فصرفتُ عنها خواطر التجويز، ورميتها في مشاهد اليقين بنور التحقيق، فيها شواهد برهانهم، أي: برهان العيان- فأضفنا إليها لطائف إحساننا، فكملت مَنالها من عين الوصلة.
وغديناهم بنسيم الأنس في ساحات القربة. (العزيز) المعز للمؤمنين بإنزال الكتب، (الحكيم) لكتابه عن التبديل والتحويل. هـ. وخواطر التجويز هي خواطر الشك في المقدور، يجوز الوقوع وعدمه بسبب ضعف اليقين، فإذا انتفى عن القلب خواطر التجويز، دخله السكون والطمأنية، وارتاح في ظل برد الرضا والتسليم. والله تعالى أعلم.
ثم وبّخهم على الشرك بعد ظهور بطلانه، فقال:
[سورة الأحقاف (٤٦) : الآيات ٤ الى ٦]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤) وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ (٥) وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ (٦)
يقول الحق جلّ جلاله: قُلْ يا محمد، توبيخاً وتبكيتاً لهم: أَرَأَيْتُمْ أخبروني ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، ما تعبدون من الأصنام من دون الله، أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أيّ شيء خَلقوا في الأرض إن كانوا آلهة؟ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ أي: أم لهم شركة مع الله في خلق السموات، حتى يتوهم
أن تكون لهم شائبة استحقاق للعبادة؟ فإنَّ مَن لا مدخل له في شيء من الأشياء، بوجه من الوجوه، بمعزل من ذلك الاستحقاق بأسره، وإن كان من الأحياء العقلاء، فما ظنك بالجماد؟ ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أي: من قبل القرآن، يعني: أن هذا الكتاب ناطق بالتوحيد، وإبطال الشرك، وما من كتاب أنزل مِن قَبله من كتب الله إلا وهو ناطق بمثل ذلك، فأتوا بكتاب واحد مُنزل مِن قبله، شاهد بصحة ما أنتم عليه من عبادة غير الله، أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ أو بقيةٍ من علم بقيت عندكم من علوم الأقدمين، شاهدة باستحقاق الأصنام للعبادة، إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في أن الله أمركم بعبادة الأوثان، فإن الدعوى لا تصح ما لم يقم عليها برهان عقلي، ولا سلطان نقلي، وحيث لم يقم عليها شيء، بل قامت على خلافها أدلةُ العقل والنقل تبين بطلانها.
وَمَنْ أَضَلُّ أي: لا أحد أشد ضلالا مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ، غاية لنفي الإجابة، وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ، لأنهم جمادات لا يسمعون.
وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ عند قيام الساعة كانُوا لَهُمْ أَعْداءً أي: الأصنام لعَبَدَتِهَا، وَكانُوا أي:
الأصنام بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ، جاحدين، يقولون: ما دعوناهم إلى عبادتنا، والحاصل: أنهم في الدنيا لا ينفعونهم، وفي الآخرة يتبرءون منهم، ويكونون عليهم ضِداً، ولَمَّا أسند إليهم ما يُسند إلى العقلاء من الاستجابة والغفلة عبَّر عنهم ب «من» و «هم»، ووصفُهم بترك الاستجابة تهكماً بها وبعبدَتِها. والله تعالى أعلم.
الإشارة: يقال لأهل الغفلة:
أرأيتم ما تركنون إليه من الخلق، هل لهم قوة على نفعكم أو ضركم؟ أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ الآية. فلا أحد أضل ممن يرجو الضعيف مثله، الذي لا يستجيب له إلى يوم القيامة، وهو غافل عن إجابته في الحال والمآل، وإذا أحبّه على هوى الدنيا صارت يوم القيامة عدواة ومقتا.
ثم ذكر كفرهم بالتنزيل المتقدم، فقال:
[سورة الأحقاف (٤٦) : الآيات ٧ الى ٨]
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (٧) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٨)
يقول الحق جلّ جلاله: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ، واضحات، أو: مبينات، جمع بيِّنة، وهي الحجة والشاهد، قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ أي: لأجله وفي شأنه، والمراد بالحق: الآيات المتلوة، وبالذين كفروا:
المتلُوّ عليهم، فوضع الظاهر موضع الضمير للتسجيل عليهم بالكفر والمتلُو بالحق، والأصل: قالوا في شأن الآيات، التي هي حق لَمَّا جاءَهُمْ أي: بادهوا الحق بالجحود ساعة أتاهم، وأول ما سمعوه، من غير إجالة فكر ولا إعادة نظر: هذا سِحْرٌ مُبِينٌ ظاهر كونه سحر.
أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ، إضراب وانتقال من حكاية شناعتهم السابقة- وهي تسميتهم الآيات سحراً، إلى حكاية ما هو أشنع منها، وهو كون الرّسول صلّى الله عليه وسلم افْتَراهُ أي: اختلقه، وأضافه إلى الله كذباً، والضمير للحق، والمراد به الآيات. قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أي: إن افتريته على سبيل الفرض لعاجلني الله بعقوبة الافتراء، فلا تقدرون على كفه عن معاجلتي، ولا تملكون لي شيئاً مِن دفعه، فكيف أفتريه وأتعرّض لعقابه الذي لا مناص منه؟! هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ من القدح في وحي الله- تعالى- والطعن في آياته، وتسميته سحراً تارة وفرية أخرى. كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ حيث يشهد لي بالصدق والبلاغ، وعليكم بالكذب والجحود، وهو وعيد بجزاء إفاضتهم، وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ لمَن تاب وآمن، وهو وعد لمَن آمن بالمغفرة والرحمة، وترغيب في الإسلام.
الإشارة: رمي أهل الخصوصية بالسحر عادةٌ مستمرة، وسُنَّة ماضية، ولقد سمعنا هذا فينا وفي أشياخنا مراراً، فيقول أهل الخصوصية: إن افترينا على الله كذباً عاجلنا بالعقوبة، فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً... الآية.
ثم أمر نبيه بالجواب عما رموه به، فقال:
[سورة الأحقاف (٤٦) : الآيات ٩ الى ١٠]
قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ وَما أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٩) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠)
يقول الحق جلّ جلاله: قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً أي: بديعاً، كخف وخفيف، ونصب ونصيب، فالبدع والبديع من الأشياء: ما لم يتقدم مثله، أي: لستُ بأول مرسل فتُنكر نبوتي، بل تقدمت الرسل قبلي، واقترِحتْ عليهم المعجزات، فلم يقدروا على الإتيان بشيء إلا ما أظهره الله على أيديهم، في الوقت الذي يُريد. قيل: كانت
326
قريش تقترح على رسول الله ﷺ آيات تظهر لهم، ويسألونه عن الغيبيات، عناداً ومكابرة، فأمر صلّى الله عليه وسلم بأن يقول لهم: ما كنت بِدعاً من الرسل، قادرا على ما لم يقدروا عليه، حتى آتيكم بكل ما تقترحونه، وأخبركم بكل ما تسألون عنه من الغيوب، فإنَّ مَن قبلي من الرّسل- عليهم السلام- ما كانوا يأتون إلا بما آتاهم الله- تعالى- من الآيات، ولا يُخبرون إلا بما أوحي إليهم، وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ أي: لا أدري ما يُصيبنا فيما يُستقبل من الزمان من أفعاله تعالى، وماذا يبرز لنا من قضاياه. وعن الحسن: ما أدري ما يصير إليه أمري وأمركم في الدنيا.
وعن ابن عباس رضي الله عنه: ما يُفعل بي ولا بكم في الآخرة.
وقال: إنه منسوخ بقوله: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ. «١» قال شيخ شيوخنا الفاسي: وهو بعيد، ولا يصح النسخ لأنه لا يكون في الأخبار، ولأنه لم يزل يعلم أن المؤمن في الجنة، والكافر في النار، من أول ما بعثه الله، لكن محمل قول ابن عباس وغيره على أنه لم تكشف له الخاتمة، فقال: لا أدري، وأما مَن وافى على الإيمان، فقد أعلم بنجاته من أول الرسالة، وإلا فكان للكفار أن يقولوا: وكيف تدعونا إلى ما لا تدري له عاقبة؟ قاله ابن عطية. هـ. وقال أبو السعود: والأوفق بما ذكر من سبب النزول: أن «ما» عبارة عما عِلْمُه ليس من وظائف النبوة، من الحوادث الواقعات الدنيوية، دون ما سيقع في الآخرة، فإنَّ العلم بذلك من وظائف النبوة، وقد ورد به الوحي، الناطق بتفاصيل الفعل بالجانبين. هذا، وقد رُوي عن الكلبي: «أن أصحاب النبي ﷺ قالو له ﷺ وقد ضجروا من إذاية المشركين: متى نكون على هذا؟ فقال: ما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ أأترَكُ بمكة أو أومر بالخروج إلى أرض ذات نخيل وشجر، قد رفعتْ إليّ ورأيتها. هـ. «٢». وسيأتي في الإشارة تحقيق المسألة- إن شاء الله تعالى.
ثم قال: إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ أي: ما أفعل إلا الاتباع، على معنى: قصر أفعاله صلّى الله عليه وسلم على اتباع الوحي، لا قصر اتباعه على الوحي، كما هو المتبادر، وهو جواب عن اقتراحهم الإخبار بالغيوب، أو عن استعجال المسلمين أن يتخلّصوا من إذاية المشركين، والأول هو الأوفق بقوله: وَما أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ أُنذركم عقاب الله- تعالى- حسبما يُوحى إليّ من الإنذار بالمعجزات الباهرة.
(١) الآية الثانية من سورة الفتح.
(٢) ذكر الواحدي فى أسباب النّزول (ص ٣٩٥) عن الكلبي، عن أبى صالح، عن سيدنا ابن عباس: لمّا اشتد البلاء بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، رأى فى المنام أنه يهاجر إلى أرض ذات نخل وشجر وماء، فقصّها على أصحابه، فاستبشروا بذلك، ورأوا فيها فرجا مما هم فيه من أذى المشركين، ثم إنهم مكثوا برهة لا يرون ذلك، فقالوا: يا رسول الله! متى نهاجر إلى الأرض التي رأيت؟ فسكت النبي ﷺ فأنزل الله تعالى: وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ.
ومعلوم أن الكلبي لم يسمع من أبى صالح، وأبا صالح لم يسمع ابن عباس رضي الله عنه. [.....]
327
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ ما يُوحى إليَّ من القرآن مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لا بسحر ولا مفترى، كما تزعمون وَقد كَفَرْتُمْ بِهِ، وَشَهِدَ شاهِدٌ عظيم مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ الواقفين على شئون الله وأسرار الوحي، بما أتوا من التوراة. والشاهد: عبد الله بن سلام، عند الجمهور، ولهذا قيل: إن الآية مدنية، لأن إسلام «عبد الله بن سلام» بالمدينة. قلت: لَمّا عَلِمَ اللهُ ما يكون من ابن سلام من الإسلام أخبر به قبل وقوعه، وجعل شهادته المستقبلة كالواقعة، فالآية مكية.
وقوله: عَلى مِثْلِهِ أي: مثل القرآن من المعاني المنطوية في التوراة، المطابقة لما في القرآن من الوعد والوعيد وغير ذلك، فإنَّ ما فيه عين ما فيها فى الحقيقة، كايعرب عنه قوله تعالى: وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ «١» والمثلية باعتبار كونه من عند الله. وقيل: المثل: صلة.
فَآمَنَ ذلك الشاهد لَمّا تحقق برسالته. رُوي أنه لما قَدِمَ رسولُ الله ﷺ نظر إلى وجهه، فعلم أنه ليس بوجه كذاب، وقال له: إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبيّ: ما أول أشراط الساعة؟ وما أول طعام يأكله أهل الجنة؟ وما بالُ الولد ينزع إلى أبيه أو إلى أمة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما أول أشراط الساعة فنارٌ تحشُرُ الناسَ من المشرق إلى المغرب، وأول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد الحوت، وأما الولد فإذا سبقَ ماءُ الرجل نزعه، وإن سبق ماءُ المرأة نزعته، فقال: أشهد أنك رسول الله حقاًُ، فأسلم «٢».
وَاسْتَكْبَرْتُمْ عن الإيمان به، وجواب الشرط محذوف، والمعنى: أخبروني إن كان من عند الله، وشهد بذلك أعلم بني إسرائيل، فآمن به من غير تلعثم، واستكبرتم عن الإيمان به بعد هذه البينة، فمَن أضل منكم؟ بدليل قوله تعالى: أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ... الآية «٣» أو: إن كان القرآن من عند الله وكفرتم به ألستم ظالمين؟ ويدل عليه قوله: إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ، والتقديران صحيحان، لأن عدم الهداية مستلزم الضلال، ووصفهم بالظلم للإشعار بعلة الحكم، فإن تركه- تعالى- لهدايتهم إنما هو لظلمهم. وقال الواحدي:
معنى: إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ: إن الله جعل جزاء المعاندين للإيمان بعد الوضوح والبيان أن يمدهم في ضلالتهم، ويحرمهم الهداية. هـ.
(١) الآية ١٩٦ من سورة الشعراء
(٢) أخرجه البخاري في (تفسير سورة البقرة، باب مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْريلَ ح ٤٤٨٠) مطولا، عن أنس رضي الله عنه، وكذا أخرجه أحمد فى المسند (٣/ ١٠٨) والبيهقي فى الدلائل (٢/ ٥٢٨- ٥٢٩).
(٣) الآية ٥٢ من سورة فصلت
328
الإشارة: قل ما كنت بِدعاً من الرسل، وكذلك الوليّ يقول: ما كنت بِدعاً من الأولياء، مع العصمة والحفظ وصريح الوعد بالنجاة، لا تساع معرفتهم وعلمهم بالله لأنهم لا يقفون مع وعد ولا وعيد لأن غيب المشيئة لا يعلم حقيقته إلا الله، وقد يكون الوعد معلقاً بشروط أخفاها الله عنهم، ليتحقق اختصاصه بحقيقة العلم، وفي الحديث: «لا تأمن مكري وإن أَمَّنتك»، ولذلك كان العارف لا يزول اضطراره، ولا يكون مع غير الله قراره، وعلى ذلك الششتري في نونيته، حيث قال:
وأي وِصَالٍ فى القضيّة يدّعى وأكمل مَن الْخَلْق لم يدَّع الأمْنا؟
هذا، وقد قال تعالى في حق رسوله صلّى الله عليه وسلم: وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى «١» وقال: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ «٢»، ومع ذلك كله لم يقف مع ظاهر الوعد، لغيب المشيئة، فقال في حديث ابن مظعون: «والله لا أدري- وأنا رسول- ما يُفعل بي» وحديث ابن مظعون بالمدينة بعد الهجرة «٣»، فتبيَّن أنَّ الأمن الحقيقي لا يحصل لأحد قبل الختام، وإن كان الغالب والطرف الراجح أن من وُعد بخيرٍ أو بُشِّر به يُنْجَز له بفضل الله وكرمه، والكريم إذا وعد لا يُخلف، لكن المشيئة وقهرية الربوبية لا تزال فوق رأس العبد حتى يلقاه. والله تعالى أعلم.
قال القشيري: وفي الآية دليل على فساد قول أهل البدع، حيث لم يُجوزوا إيلام البريء عقلاً لأنه لو لم يَجُزْ ذلك لكان يقول: أعْلَمُ قطعاً أني معصومٌ، فلا محالةَ يغفر لي، ولكنه قال هذا ليُعلم أن الأمر أمرُه، والحكمَ حكمُه، له أن يفعلَ بعباده ما يريد. هـ.
وقال الورتجبي: لا أدري أين استغرق في بحار وصال جماله الأبدي، وهناك لججات تغيب في ذرة منها جميعُ الأرواح العاشقة، والأسرار الوالهة، والقلوب الحائرة. هـ. والحاصل: أنه لا يدري نهاية مناله من الله، لنفي الغاية في حقه تعالى والنهاية، وهو صريح استبعاد الششتري دعوى الوصال، والله أعلم. هـ من الحاشية.
(١) الآيتان: ٤- ٥ سورة الضحى
(٢) الآية الثانية من سورة الفتح.
(٣) حديث عثمان بن مظعون- رضي الله عنه- أخرجه البخاري فى (الجنائز، باب الدخول على الميت بعد الموت إذا أدرج فى أكفانه، ح ١٢٤٣) ولفظه: عن خارجة بن زيد بن ثابت: أن أم العلاء- امرأة من الأنصار، بايعت النبي صلى الله عليه وسلم- أخبرته أنه اقتسم المهاجرون قرعة فطار لنا عثمان بن مظعون فأنزلناه فى أبياتنا، فوجع وجعه الذي توفى فيه، فلما توفى وغسّل، وكفن فى أثوابه، دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: رحمة الله عليك أبا السائب، فشهادتى عليك لقد أكرمك الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «وما يدريك أن الله قد أكرمه؟» فقلت: بأبى أنتَ يا رسول الله، فمن يكرمه الله؟ فقال: «أما هو فقد جاءه اليقين، والله إنى لأرجو له الخير، والله ما أدرى، وأنا رسول الله، ما يفعل بي، فو الله لا أزكى أحدا بعده أبدا.
329
ثم حكى مقالة أخرى للكفار من مقالاتهم الباطلة، فقال:
[سورة الأحقاف (٤٦) : الآيات ١١ الى ١٢]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ (١١) وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ (١٢)
يقول الحق جلّ جلاله: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أي: لأجلهم، وهو كلام كفار مكة، قالوا: إنَّ عامة مَن يتبع محمد السُّقاط، يعنون الفقراء، كعمار وصهيب وبلال وابن مسعود- رضي الله عنهم- قالوا: لَوْ كانَ ما جاء به محمد من القرآن والدين خَيْراً مَّا سَبَقُونا إِلَيْهِ، فإن معالي الأمور لا تنالها أيدي الأراذل، فإنَّ عامتهم فقراء وموالٍ ورُعاة، قالوه زعماً منهم أن الرئاسة الدينية مما تُنال بأسباب دنيوية، كما قالوا: لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ «١»، وضلّ عنهم أنها منوطة بكمالات نفسانية، وملكات روحانية، مبناها: الإعراض عن زخارف الدنيا، والإقبال على الله بالكلية، وأنّ مَن فاز بها حازها بحذافيرها، ومَن حرمها فما له عند الله من خلاق. والحاصل: أن هذه المقالة سببها الرضا عن النّفس، وهو أصل كل معصيةٍ وغفلةٍ. ثم قال تعالى: وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ، العامل في الظرف محذوف لدلالة الكلام عليه، أي: وإذ لم يهتدوا به ظهر عنادهم، وقالوا ما قالوا. فَسَيَقُولُونَ غير مكتفين بنفي خيريته: هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ أي: كذب متقادم، كقوله: أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ «٢».
وقال القشيري: إنه تكذيب للرسل فيما بُيّن لهم، فيما أُنزل عليهم من بعثة محمد رسولاً، يعني: فيكون كقوله تعالى: إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ «٣». وقيل لابن عباس: أين نجد في القرآن «مَن كره شيئاً عاداه»، فقرأ هذه الآية: وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا.. الخ.
وَمِنْ قَبْلِهِ أي: من قبل القرآن كِتابُ مُوسى أي: التوراة، فكتاب: مبتدأ، و «من قبله» : خبر، والاستقرار هو العامل في قوله: إِماماً وَرَحْمَةً على أنهما حالان من الكتاب، أي: قدوة يُؤْتمُ به في دين الله
(١) من الآية ٣١ من سورة الزخرف.
(٢) من الآية ٢٥ من سورة الأنعام.
(٣) من الآية ٤٨ من سورة القصص، وكذا من الآية ٣٠ من سورة الزخرف.
330
وشرائعه، ورحمة من الله- تعالى- لمَن آمن به. وَهذا القرآن، الذي يقولون في حقه ما يقولون، هو كِتابُ عظيم الشأن مُصَدِّقٌ لكتاب موسى، الذي هو أماماً ورحمة، أو: لما بين يديه من جميع الكتب الإلهية. قال ابن عرفة: وجه مناسبتها لما قبلها: أنه لما تضمن قوله: فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ تقبيحهم إياه بأنه إما كذب في نفسه، أو شبيه بما قبله من الأكاذيب والافتراءات، عقبه ببيان أنه إما صدق في نفسه، أو شبيه بما قبله من الكتب الصادقة. هـ.
حال كون الكتاب لِساناً عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا: متعلق بمُصَدِّق، أو بأنزل، محذوفاً، وفيه ضمير الكتاب، أو: الله- تعالى، أو: الرسول صلّى الله عليه وسلم، ويؤيده: قراءة الخطاب «١»، وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ في حيز النصب، عطف على محل «ليُنذر» لأنه مفعول له، أي: للإنذار والبشرى، أو: وهو بشرى للمحسنين، للمؤمنين المطيعين.
الإشارة: قال في الحِكَم: «أصل كل معصيةٍ وغفلةٍ وشهوةٍ: الرضا عن النفس، وأصلُ كل طاعةٍ ويقظةٍ وعفةٍ:
عدمُ الرضا منك عنها، ولأن تصحب جاهلاً لا يرضى عن نفسه، خير من أن تصحب عالماً يرضى عن نفسه، فأيُّ علمٍ لعالمٍ يرضى عن نفسه؟ وأيّ جهل لجاهل لا يرضى عن نفسه؟»
«٢»، وعلامة الرضا عن النفس: تغطية مساوئها، وإظهار محاسنها، كما قال الشاعر:
وَعَيْنُ الرِضَا عَن كُلِّ عَيْبٍ كَلِيلَةٌ ولَكِن عَين السخط تبدى المساويا
وإذا نقصها له أحدٌ انتقم منه وغضب، وإذا مدحها له فَرِحَ واستبشر، ويرى أنه أهل لكل خيرٍ، وأولى من غيره، فيقول إذا رأى مَن حاز خيراً أو رئاسة، كما قال الكفار: لَوْ كَانَ خَيْرًا مَّا سبقونآ إليه، وعلامة عدم الرضا عنها: إظهار مساوئها، واتهامها في كل حال.
وقال أبو حفص الحداد: مَن لم يتَّهم نفسه على دوام الأوقات، ولم يخالفها في جميع الأحوال، ولم يجرها إلى مكروهها في سائر أيامه، كان مغروراً، ومَن نظر إلى نفسه باستحسان شيء منها فقد أهلكها، وكيف يصح لعاقل الرضا عن نفسه؟! والكريم ابن الكريم ابن الكريم يقول: وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي «٣» هـ.
(١) قرأ «لتنذر» بالخطاب، نافع، وابن عامر، وأبو جعفر بخلفه، ويعقوب، وقرأ الباقون بالغيب. انظر الإتحاف (٢/ ٤٦٩- ٤٧٠).
(٢) حكمة رقم/ ٣٥، انظر تبويب الحكم ص/ ١٧.
(٣) من الآية ٣٥ من سورة يوسف.
331
فإذا لم يرضَ عن نفسه، وهذّبها، استقامت أحواله، وكان من المحسنين، الذين قال الله- تعالى- فِى شأنهم:
[سورة الأحقاف (٤٦) : الآيات ١٣ الى ١٤]
إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١٣) أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٤)
يقول الحق جلّ جلاله: إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا أي: جمعوا بين التوحيد، الذي هو خاصة العلم، والاستقامة في الظاهر، التي هي منتهى العمل، فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ من لحوق مكروه، وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ على فوات مرغوب، و «ثم» للدلالة على تراخي رتبة العمل، وتوقف الاعتداد به على التوحيد. ودخلت الفاء لتضمن الموصول معنى الشرط، والتعبير بالمضارع للدلالة على دوام نفي الحزن عنهم، أُولئِكَ الموصوفون بما ذكر من الاسمين الجليلين، أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها: حال من أصحاب الجنة، والعامل:
معنى الإشارة، جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ من الأعمال الصالحة، و «جزاء» مصدر لمحذوف، أي: جوّزوا جزاء، أو بمعنى ما تقدم، فإن قوله: أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ في معنى: جزيناهم.
الإشارة: مضى تفسير الاستقامة، وأنَّ مَن درج على الإيمان والاستقامة حظي بكل كرامة، ووصل إلى جزيل السلامة، وقيل: السين في الاستقامة سين الطلب، وأنَّ المستقيم يتوسل إلى الله- تعالى- في أن يقيمه على الحق، ويثبته على الصدق. هـ.
قال الورتجبي: ما قال القوم هذا القول- أي: «ربنا الله» - حتى شاهدوه بقلوبهم، وعقولهم، وأرواحهم، وأسرارهم، مشاهدة الحق سبحانه، فإذا رأوه يقولون: هذا الهلال، وصاحوا، وضحكوا، فهذا القول منهم بعد كشف مشاهدة الحق لهم، فلما رأوه أحبوه وعرفوه، وشربوا من بحار وصالة، حتى تمكنوا، فاستقاموا بقوتها في موازاة رؤية أنوار الأزل والآباد، واستقاموا في مراد الله منهم، وأداء حقوق عبوديته، فلا يبقى عليهم خوف الحجاب، ولا حزن العتاب، قال الله تعالى: فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ. هـ.
ثم وصّى بالربوبية الصغرى بعد الكبرى، فقال:

[سورة الأحقاف (٤٦) : الآيات ١٥ الى ١٦]

وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (١٥) أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (١٦)
يقول الحق جلّ جلاله: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بأن يُحسن بِوالِدَيْهِ حُسْناً»
وقرأ أهل الكوفة إِحْساناً وهما مصدران، وقرىء: «حَسَناً» بفتح الحاء والسين، أي: يفعل بهما فعلاً حَسَناً، أو: وصينا إيصاءً حسنا، حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً أي: حملته بكُرْهٍ ومشقة، ووضعته كذلك، وذكره للحث على الإحسان والبرور بها، فإن الإحسان إليها أوجب، وأحق من الأب. ونصبهما على الحال، أي: حملته كارهة، أو: ذات كُره، وفيه لغتان الفتح والضم، وقيل: بالفتح مصدر، وبالضم اسمه. وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ أي: ومدةُ حمله وفصاله، وهو الفطام. وقرأ يعقوبُ: «وفصله» وهما لغتان كالفَطْم والفطام، ثَلاثُونَ شَهْراً لأن في هذه المدة عُظَّم مشقة التربية، وفيه دليل على أنَّ أقل مدة ستةُ أشهر لأنه إذ حط منه للفطام حولان، لقوله تعالى: حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ «٢» يبقى للحمل ستة، قيل: ولعل تعيين أقل مدة الحمل، وأكثر مدة الرضاع لانضباطهما، وارتباطِ النسب والرضاع بهما.
حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ أي: اكتهل، واستحكم عقله وقوته، وانتهت قامته وشبابه، وهي ما بين ثماني عشرة سنة إلى أربعين، وقال زيد بن أسلم: الحلم، وقال قتادة: ستة وثلاثون سنة، وهو الراجح، وقال الحسن: قيام الحجة عليه. وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وهو نهاية الأشدّ، وتمام العقل، وكمال الاستواء.
قيل: لم يُبعث نبيّ إلا بعد الأربعين، قال ابن عطية: وإنما ذكر- تعالى- الأربعين، لأنها حدّ الإنسان في فلاحه ونجاته، وفي الحديث. «إن الشيطان يمدّ يده على وجه مَن زاد على الأربعين ولم يتب، فيقول: بأبي وجه لا يفلح» «٣». هـ. ومن حديث أنس قال صلّى الله عليه وسلم: «مَن بلغ أربعين سنة أمّنه الله من البلايا الثلاث الجنون والجذام
(١) أثبت المفسر- رحمه الله- قراءة «حسنا» بضم الحاء وسكون السين، بلا همز ولا ألف، مفعولا به، وهى قراءة ابن كثير، ونافع، وأبى عمرو، وابن عامر. وقرأ عاصم وحمزة والكسائي وخلف «إحسانا» على أنها مصدر. انظر السبعة/ ٥٩٦ والإتحاف ٢/ ٤٧٠.
(٢) من الآية ٢٣٣ من سورة البقرة. [.....]
(٣) ذكره ابن عطية، (١٣/ ٣٤٨) وأبو حيان فى البحر المحيط (٨/ ٦١) بلفظ: «ان الشيطان يجر يده..». ولم أقف على هذا الحديث عند غيرهما.
333
والبرص، فإذا بلغ الخمسين خفّف الله عنه الحساب، فإذا بلغ ستين سنة رزقه الله الإنابة كما يحب، فإذا بلغ سبعين سنة غفر الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذنبه وما تأخر، وشفع في أهل بيته، وناداه منادٍ من السماء: هذا أسير الله في أرضه».
وهذا في العبد المقبل على الله. والله تعالى أعلم. وقُرئ: «حتى إذا استوى وبلغ أشُدَّه».
قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أي: ألهمني أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ من الهداية والتوحيد، والاستقامة على الدين، وَعَلى والِدَيَّ كذلك، وجمع بين شكر النعمة عليه وعلى والديه لأن النعمة عليهما نعمةٌ عليه، وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ، التنكير للتفخيم والتكثير، قيل: هو الصلوات الخمس، والعموم أحسن، وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي أي: واجعل الصلاح سارياً في ذريتي راسخاً فيهم، أو: اجعل ذريتي مَوقعاً للصلاح دائماً فيهم، إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ من كل ذنب، وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ الذين أخلصوا لك أنفسهم، وانقادوا إليك بكليتهم. «١»
قال علىّ رضي الله عنه: نزلت في أبي بكر- رضي الله عنه، ولم تجتمع لأحد من أصحاب النبي ﷺ من المهاجرين مَن أسلم أبواه غيره، وأوصاه الله بهما. هـ. فاجتمع لأبي بكر إسلام أبي قحافة وأمه «أم الخير» وأولاده، عبد الرحمن، وابنه عتيق، فاستجاب الله دعاءه في نفسه وفي ذريته، فإنه آمن بالنبي صلّى الله عليه وسلم وهو ابن ثمان وثلاثين سنة، ودعا لهم وهو ابن أربعين سنة. قال ابن عباس: أعتق أبو بكر تسعةً من المؤمنين، منهم: بلال، وعامر بن فهيرة، ولم يُرد شيئاً من الخير إلا أعانه الله عليه. «٢» هـ.
قال ابن عطية: معنى الآية: هكذا ينبغي للإنسان أن يكون، فهي وصية الله- تعالى- للإنسان في كل الشرائع، وقول مَن قال: إنها في أبي بكر وأبويه ضعيف، لأن هذه نزلت في مكة بلا خلاف، وأبو قُحافة أسلم يوم الفتح. هـ. قلت: كثيراً ما يقع في التنزيل تنزيل المستقبل منزلة الماضي، فيُخبر عنه كأنه واقع، ومنه: وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ «٣» ووَ وَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لاَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ «٤»، وهذه الآية في إسلام إبي قحافة.
والله تعالى أعلم.
أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا «٥» من الطاعات، فإن المباح لا يُثاب عليه إلا بنية صالحة، فإنه يَنقلِب حينئذ طاعة، وضمّن «يتقبل» معنى يتجاوز، فعدّاه بعَن إذ لا عمَلَ يستوجبُ القبول، لولا عفوُ
(١) ذكره القرطبي (٧/ ٦٢٠١).
(٢) انظر تفسير البغوي (٧/ ٢٥٨) وزاد المسير (٧/ ٣٧٨).
(٣) الآية ١٠ من سورة الأحقاف.
(٤) الآيتان ٦- ٧ من سورة فصلت.
(٥) قرأة حمزة والكسائي وحفص (نتقبل، ونتجاوز) بالنون المفتوحة و «أحسن» بالنصب، وقرأ الباقون (يتقبل- يتجاوز) بالياء المضمومة، ورفع «أحسن».. انظر الإتحاف (٢/ ٤٧١).
334
الله وتجاوزه عن عامله، إذ لا يخلو عمل من خلل أو نقص، فإذا تجاوز الحق عن عبده قَبِلَه منه على نقصه، فلولا حلمه- تعالى- ورأفته ما كان عملٌ أهلا للقبول. وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فيغفرها لهم، فِي جملة أَصْحابِ الْجَنَّةِ، كقولك: أكرمني الأمير فى ناس من أصحابه، أي: أكرمني في جملة مَن أكرمهم، ونظمني في سِلكِهمْ، ومحله: نصب على الحال، أي: كائنين في أصحاب الجنة، ومعدودين فيهم، وَعْدَ الصِّدْقِ أي:
وعدهم وعداً صدقاً، فهو مصدر مؤكد، لأن قوله: نَتَقَبَّلُ ونَتَجاوَزُ وعد من الله- تعالى لهم بالتقبُّل والتجاوز، الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ في الدنيا على ألسنة الرسل- عليهم السلام.
الإشارة: لمَّا كانت تربية الأبوين مظهراً لنعمة الإمداد بعد ظهور نعمة الإيجاد، وصّى الله- تعالى- بالإحسان إليهما، وفي الحقيقة: ما ثَمَّ إلا تربيةُ الحق، ظهرت في تجلِّي الوالدين، قذف الرأفة في قلوبهما، حتى قاما بتربية الولد، فالإحسان إليها إحسان إلى الله- تعالى- في الحقيقة. وقال الورتجبي: وصى الإنسانَ بالإحسان إلى أبويه، لأنهما أسباب وجوده، ومصادر أفعال الحق بَدَا منهما بدائعُ قدرته، وأنوارُ ربوبيته، فحُرمتهما حرمة الأصل، ومَن صبرَ في طاعتهما رزقه الله حُسنَ المعاشرة على بساط حُرمته وقُربته.
قال بعضهم: أوصى اللهُ العوام ببر الوالدين لِما لهما عليه من نعمة التربية والحِفظ، فمَن حفظ وصية الله في الأبوين، وفّقه بركةُ ذلك، لحِفظِ حرمات الله، وكذلك رعاية الأوامر والمحافظةُ عليها تُوصل بركتُها بصاحبها إلى محل الرضا والأنس. هـ.
قال القشيري: وشر خصال الولد: التبرُّم بطول حياتهما، والتأذي بما يجب من حقهما، وعن قريب يموت الأصل، وقد يبقى النسل، ولا بد ان يتبعَ الأصل. هـ. أي: فيعق إن عقّ أصله، ويبر إن بر، وفى الحديث: «برّوا آباءكم تبركمْ أبناؤكم» «١». ثم قال: ولقد قالوا في هذا المعنى وأنشدوا:
رُوَيْدَكَ إنَّ الدَّهْرَ فيه كفاية لِتَفْرِيق ذات البَيْنِ فارتقِبِ الدَّهرا «٢». هـ.
قلت: وقد تقدم أن حُرمة الشيخ أوكد من حرمة الوالدين، فيُقدم أمره على أمرهما، كما تقدّم عن الجنيد في سورة النساء «٣». والله تعالى أعلم.
(١) رواه الطبراني فى الأوسط (ح/ ١٠٠٢) من حديث ابن عمر رضي الله عنه. قال الهيثمي فى مجمع الزوائد (٨/ ١٣٨) : ورجاله رجال الصحيح غير شيخ الطبراني.
(٢) منسوب إلى أبى على الثقفي، كما فى طبقات السلمى/ ٣٦٤ وطبقات الشافعية الكبرى (٣/ ١٩٥)، ونسب إلى عبيد الله بن عبد الله طاهر، فى زهر الآداب (٢/ ٦٠٤) وأمالى المرتضى (١/ ١١٩).
(٣) راجع إشارة الآية ٣٦ من سورة النّساء.
335
ثم ذكر وبال عقوقهما، فقال:
[سورة الأحقاف (٤٦) : الآيات ١٧ الى ١٩]
وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ ما هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٧) أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (١٨) وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١٩)
قلت: وَالَّذِي قالَ: مبتدأ، وخبره: أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ، والمراد ب «الذي قال» الجنس، ولذلك جمع الخبر.
يقول الحق جلّ جلاله: وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ عند دعوتهما إلى الإيمان: أُفٍّ لَكُما، وهو صوت يصدر عن المرء عند تضجُّره وقَنَطِه، واللام لبيان المؤفّف، كما في «هيتَ لك» وفيه أربعون لغة، مبسوطة في محلها، أي: هذا التأفيف لكما خاصة، أو لأجلكما دون غيركما.
وعن الحسن: نزلت في الكافر العاقّ لوالديه، المكذِّب بالبعث، وقيل: نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنه، قبل إسلامه. وأنكرت عائشة- رضي الله عنها- ذلك، وقالت: والله ما نزال في آل أبي بكر شيئاً من القرآن، سوى براءتي «١»، ويُبطل ذلك «٢» قطعاً: قوله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ، لأنَّ عبد الرحمن بن أبي بكر أسلم، وكان من فضلاء الصحابة، وحضر فتوحَ الشام، وكان له هناك غناء عظيم، وكان يسرد الصيامَ. قال السدي:
ما رأيت أعبد منه. هـ. وقال ابن عباس: نزلت في ابنٍ لأبي بكر، ولم يسمه، ويرده ما تقدّم عن عائشة، ويدل على العموم: قوله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ، ولو أراد واحداً لقال: حق عليه القول.
ثم قال لهما: أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ أي: أُبعث وأُخرج من الأرض، وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي ولم يُبعث أحد منهم، وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللَّهَ، يسألانه أن يغيثه ويوفقه للإيمان، أو يقولان: الغِياث بالله منك، ومن قولك، وهو استعظام لقوله، ويقولان له: وَيْلَكَ دعاء عليه بالثبور والهلاك، والمراد به: الحث والتحريض
(١) أخرجه بنحوه البخاري فى (التفسير- سورة الأحقاف، باب وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما.. ح ٤٨٢٧).
(٢) أي: القول بأن الآية نزلت فى سيدنا عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنه.
336
على الإيمان، لا حقيقة الهلاك، آمِنْ بالله وبالبعث إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ بالبعث والحساب حَقٌّ لا مرية فيه، وأضاف الوعد إليه- تعالى- تحقيقاً للحق، وتنبيهاً على خطئه، فَيَقُولُ مكذّباً لهما: ما هذا الذي تسميانه وعْد اللهِ إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ، أباطيلهم التي سطروها في كتبهم، من غير أن يكون له حقيقة.
أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ، وهو قوله تعالى لإبليس: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ «١» كما يبنئ عنه قوله تعالى-: فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أي: في جملة أمم قد مضت، إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ حيث ضيّعوا فطرتهم الأصلية، الجارية مجرى رؤوس أموالهم، باتباعهم الشيطان، وتقليداً بآبائهم الضالين.
وَلِكُلٍّ من الفريقين المذكورين، الأبرار والفجار، دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا أي: منازل ومراتب من جزاء ما عملوا من الخير والشر، ويقال في جانب الجنة: درجات، وفي جانب النار: دركات، فغلب هنا جانب الخير.
قال الطيبي: ولكلٍّ من الجنسين المذكورين درجاتٌ، والظاهر أن أحد الجنسين ما دلّ عليه قوله: إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا «٢»، والآخر قوله: وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما، ثم غلب الدرجات على الدركات، لأنه لمّا ذكر الفريق الأول، ووصفَهم بثباتٍ في القول، واستقامةٍ في الفعْل، وعقَّب ذلك بذكر فريقِ الكافرين، ووصفهم بعقوق الوالدين، وبإنكارهم البعثَ، وجعل العقوقَ أصلاً في الاعتبار، وكرر في القِسم الأول الجزاء، وهو ذكر الجنة مراراً ثلاثاً، وأفْردَ ذكر النار، وأخّره، وذكرَ ما يجمعُهما، وهو قوله: وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ غلب الدرجات على الدركات لذلك، وفيه ألا شيء أعظم من التوحيد والثبات عليه، وبر الوالدين والإحسان إليهما، ولا شيء أفحش من عقوق الوالدين، وإنكار الحشر، وفي إيقاع إنكار الحشر مقابلاً لإثبات التوحيد الدلالة على أن المنكر معطل مبطل لحكمة الله في إيجاد العالم. هـ.
وَلِيُوَفِّيَهُمْ «٣» أَعْمالَهُمْ، وقرأ المكي والبصري بالغيب، أي: وليوفيهم الله جزاء أعمالهم، وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ بنقص ثواب الأولين، وزيادة عقاب الآخرين، واللام متعلقة بمحذوف، أي: وليوفيهم أعمالهم، ولا يظلمهم حقوقهم، فعل ما فعل من ترتيب الدرجات أو الدركات.
(١) الآية ١٨ من سورة الأعراف.
(٢) الآية ١٣ من السورة نفسها.
(٣) أثبت المفسر- رحمه الله- قراءة «ولنوفيهم» بنون العظمة، وهى قراءة نافع، وابن عامر، وحمزة، والكسائي، وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وعاصم: «وليوفيهم» بالياء. انظر: السبعة لابن مجاهد/ ٥٩٨. [.....]
337
الإشارة: عقوق الأساتيذ «١» أقبح من عقوق الوالدين، كما أن برهما أوكد لأن الشيخ أخرجك من ظلمة الجهل إلى نور المعرفة بالله، والوالدان أخرجاك إلى دار التعب، مُعرض لأمرين، إما السلامة أو العطب، والمراد بالشيخ هنا شيخ التربية، لا شيخ التعليم، فلا يقدّم حقه على حق الوالدين، هذا ومَن يَسّر اللهُ عليه الجمع بين بِر الوالدين والشيخ فهو كمال الكمال. وبالله التوفيق.
ثم ذكر جزاء العاقّ المنكر للبعث، فقال.
[سورة الأحقاف (٤٦) : آية ٢٠]
وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (٢٠)
قلت: «ويوم» : منصوب بقول مقدّر قبل «أذهبتم» أي: يُقال لهم: أَذْهبتُمْ طيباتِكُم يوم عرضكم، أو بالذكر، وهو أحسن.
يقول الحق جلّ جلاله: وَاذكر يَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أي: يُعذّبون بها، من قولهم: عُرض بنو فلان على السيف، إذا قُتلوا به، وقيل: المراد: عرض النار عليهم، من قولهم: عرضت الناقة على الحوض، يريدون: عرض الحوض عليها، فقلبوا. وإذا عُرضوا عليها يُقال لهم: أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ أي:
أخذتم ما كُتب لكم من حظوظ الدنيا ولذائذها فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا فقد قدمتم حظكم من النعيم في الدر الفانية.
قال ابن عرفة: قيل: المراد بالطيبات المستلذات، والظاهر: أن المراد أسباب المستلذات، أي: الأسباب التي تتوصلون بها إلى نيل المستلذات فى الدر الآخرة، إذ نسيتموها في الدنيا، أي: تركتموها ولم تفعلوها. هـ. قلت:
يُبعده قوله: وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها أي: فلم يُبق ذلك لكم شيئاً منها، بل قدمتم جنتكم في دنياكم.
وعن عمر- رضي الله عنه: لو شئتُ كنتُ أطيبَكم طعاماً، وألينكم لباساً، ولكني أستبقي طيباتي. ولما قَدِم الشامَ صُنعَ له طعامٌ لم يُر قبله مثله، قال: هذا لنا، فما للفقراء المسلمين الذين ماتوا وهم لا يشبعون من خبز الشعير؟ قال خالد:
لهم الجنة، فاغروْرقتْ عينا عمر وبكى، وقال: لئن كان حظنا من الحطام، وذهبوا بالجنة، لقد باينونا بونا بعيدا «٢».
(١) أساتيذ جمع أستاذ. ويجمع أيضا على أساتذة وأستاذين، وهو فارسى معرّب، والأستاذ: المعلم والمقرئ والعالم، وأستاذ الصناعة:
رئيسها. انظر محيط المحيط (ص ٩، مادة الأستاذ).
(٢) انظر هذه الأخبار وغيرها فى كتاب «مناقب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب» لابن الجوزي/ ١٥٣- ١٦٧.
338
وقال أبو هريرة رضي الله عنه: إنما كان طعامنا مع النبي ﷺ الماء والتمر، والله ما كان نرى سمراءَكم هذه، وقال أبو موسى: ما كان لباسنا مع النبي ﷺ إلا الصوف.
ورُوي: أن النبي ﷺ دخل على أهل الصُّفة، وهم يرقعون ثيابهم بالأدَم، ما يجدون لها رقاعا، فقال: «أنتم اليوم خيرٌ أم يوم يغدو أحدكم في حُلة، ويروح في أخرى، ويُغدا عليه بجفنة «١» ويُراح بأخرى، ويُسترُ بيته كما تُستر الكعبة» ؟ قالوا: نحن يومئذ خير، فقال لهم: «بل أنتم اليوم خير» «٢».
وقال عمرو بن العاص «٣» : كنت أتغدّى عند عمر الخبزَ والزيتَ، والخبز والخل، والخبز واللبن، والخبز والقديد، وأجلّ ذلك اللحم الغريض «٤»، وكان يقول: لا تنخلوا الدقيق، فإنه كله طعامٌ، ثم قال عمر رضي الله عنه: والله الذي لاَ إله إِلاَّ هُوَ، لولا أني أخاف أن تنقص حسناتي يوم القيامة لشاركتهم في العيش! ولكني سمعتُ اللهَ يقول لقوم: أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها. هـ «٥».
فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ أي: الهوان، وقرىء به، بِما كُنْتُمْ في الدنيا تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ، بغير استحقاق لذلك، وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ، وتخرجون عن طاعة الله عزّ وجل، أي:
بسبب استكباركم وفسقكم.
الإشارة: مازالت الأكابر من الأولياء تتنكب الحظوظ والشهوات، مجاهدةً لنفوسهم، وتصفيةً لقلوبهم، فإنَّ تَتَبُّعَ الشهوات يُقَسي القلب، ويكسِف نور العقل، كما قال الشاعر:
إنَارَةُ العقل مَكْسُوفٌ بطَوْع هَوىً... وعَقْلُ عَاصِي الهَوَى يَزْدَادُ تنْوِيرا.
هذا في حال سيرهم، فإذا تحقق وصولهم فلا كلام عليهم لأنهم يأخذون من الله، ويتصرفون به في أمورهم كلها، فلا حرج عليهم في نيل ما أنعم الله به عليهم، حيث أمِنوا ضرره، ومن ذلك: ما رُوي عن إبراهيم بن أدهم،
(١) الجفنة: قصعة الطعام، والجمع جفان وجفنات.
(٢) عزاه فى كنز العمال (ح ٦٢٢٧) لهناد وأبى نعيم فى الحلية عن الحسن مرسلا. كما ذكره بنحوه (ح ٦٢٢٦) وعزاه للطبرانى والبيهقي، عن عبد الله بن يزيد الخطمي.
(٣) فى القرطبي: حفص بن أبى العاص.
(٤) الغريض: الطري. انظر اللسان (غرض، ٥/ ٣٢٤١).
(٥) ذكره بأطول من هنا: القرطبي فى تفسيره (٧/ ٦٢٠٨) ثم قال: «والذي يضبط هذا الباب ويحفظ قانونه: على المرء أن يأكل ما وجد، طيبا كان أو قفارا، ولا يتكلف الطيب ويتخذه عادة، وقد كان النبي ﷺ يشبع إذا وجد، ويصبر إذا عدم، ويأكل الحلوى إذا قدر عليها، ويشرب العسل إذا اتفق له، ويأكل اللحم إذا تيسر له، ولا يعتمده أصلا، ولا يجعله دينا، ومعيشة النبي ﷺ وسلم معلومة... » انظر بقيته.
339
أنه أصلح ذات يوم طعاماً كثيراً، ودعا نفراً يسيراً، منهم الأوزاعي والثوري، فقال له الثوري: أما تخاف أن يكون هذا إسرافاً؟ فقال: ليس في الطعام إسراف، إنما الإسراف في الثياب والأثاث، ودفع أيضاً إلى بعض إخوانه دراهم، فقال: خذ لنا بهذه زُبداً وعسلاً وخبزاً حُوَّاري «١»، فقال: يا أبا إسحاق: هذا كله؟ قال: ويحك إذا وجدنا أَكَلْنا أكلَ الرجال، وإذا عُدمنا صبرنا صبر الرجال، وإن معروفاً الكرخي كان يُهدي له طيبات الطعام، فيأكل، فيقال له: إن أخاك بشرا كان لا يأكل من هذا، فيقول: أخي بِشْر قبضه الورعْ، وأنا بسطتني المعرفة، وإنما أنا ضيف في دار مولاي، إذا أطعمني أكلت، وإذا جوّعني صبرت، مالى وللاعتراض والتمييز. هـ.
والحاصل: أن الناس أقسام ثلاثة: عوام، لا همة لهم في السير، وإنما قنعوا أن يكونوا من عامة أهل اليمين.
فهؤلاء يأخذون كل ما أباحته الشريعة، إذ لا سير لهم حتى يخافوا من تخلُّفهم، وخواص، نهضت همتُهم إلى الله، وراموا الوصول إليه، وهم في السير لم يتحقق وصولهم، أو من العُبَّاد والزهّاد، يخافون إن تناولوا المستلذات تفتَّرت عزائمهم، فهؤلاء يتأكد في حقهم ترك الحظوظ والشهوات، والقسم الثالث: خواص الخواص، قد تحقق وصولهم، ورسخت أقدامهم في المعرفة، فهؤلاء لا كلام معهم، ولا ميزان عليهم.
قال في الإحياء، بعد كلام: وأ كل الشهوات لا يُسلَّم إلا لمَن نظر من مشكاة الولاية والنبوة، فيكون بينه وبين الله علامة في استرساله وانقباضه، ولا يكون ذلك إلا بعد خروج النفس من طاعة الهوى والعادة بالكلية، حتى يكون أكلُه إذا أكل بنية، كما يكون إمساكه بنية، فيكون عاملاً له في إفطاره وإمساكه. ثم قال: وينبغي أن يتعلّم الحزم من عُمر، فإنه كان يرى النبي ﷺ يُحب العسل ويأكله، ثم لم يقس نفسه عليه، بل لمّا عُرض عليه ماء مبرّد بالعسل جعل يُدير الإناء في كفه، ويقول: أَشربُها فتذهب حلاوتها وتبقى تباعتُها، اعزلوا عني حسابها، وتركها، رضي الله عنه «٢».
ثم ذكر وبال مَن تمتع بدنياه، وأعرض عن أخراه، فقال:
[سورة الأحقاف (٤٦) : الآيات ٢١ الى ٢٥]
وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٢١) قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٢) قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (٢٣) فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٤) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلاَّ مَساكِنُهُمْ كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (٢٥)
(١) الحوارى هو الدقيق الأبيض، وهو لباب الدقيق وأجوده وأخلصه. انظر اللسان (حور ٢/ ١٠٤٤).
(٢) ذكره بنحوه ابن الجوزي فى مناقب أمير المؤمنين (ص ١٦٤) عن ثابت.
340
يقول الحق جلّ جلاله: وَاذْكُرْ أَخا عادٍ وهو هود عليه السّلام إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ: بدل اشتمال أي: وقت إنذاره قومه بِالْأَحْقافِ: جمع حِقْف، وهو رمل مستطيل فيه انحناء، من: احقوقف الشيء إذا اعوجَّ، وكان عاد أصحاب عُمُد، يسكنون بين رمال مُشرفة على البحر، بأرض يُقال لها: «الشِّحْر» بأرض اليمن. وعن ابن عباس:
الأحقاف: واد بين عُمان ومَهْرَة، وقال مقاتل: كانت منازل عاد باليمن، في حضرموت، بموضع يقال له: مَهْرة، وإليه تنسب الإبل المهرية، ويقال لها: المهاري، وكانوا أهل عمد سيارة في الربيع، فإذا هاج العود رجعوا إلى منازلهم، وكانوا من قبيلة إِرَم «١»، والمشهور: أن الأحقاف اسم جبل ذا رمل مستطيل، كانت منازل عاد حوله.
وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ: جمع نذير، بمعنى المنذر، أي: مضت الرسل، مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أي: من قبل هود ومَن بعده، وقوله: وَقَدْ خَلَتِ.. الخ: جملة معترضة بين إنذار قومه وبين قوله: أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ مؤكدة لوجوب العمل بموجب الإنذار، وإيذاناً باشتراكهم في العبادة المذكورة، والمعنى: واذكر لقومك إنذار هود قومَه عاقبةَ الشرك والعذاب العظيم، وقد أنذر مَن تقدمه مِن الرسل، ومَن تأخر عنه قومهم قبل ذلك. إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ إن عصيتموني عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ يوم القيامة.
قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا لتصرفنا عَنْ آلِهَتِنا، عن عبادتها، فَأْتِنا بِما تَعِدُنا من العذاب العظيم إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ في وعدك بنزوله بنا، قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ بوقت نزوله، أو بجميع الأشياء التي من جملتها ذلك، عِنْدَ اللَّهِ وحده، لا علم لي بوقت نزوله، ولا دخل لي فى إتيانه وحلوله، وإنما عِلْم ذلك عند الله، فيأتيكم به في وقته المقدّر له. وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ من التخويف والإنذار من غير وقف على تعيين وقت نزول العذاب، وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ حيث تقترحون عليَّ ما ليس من وظائف الرسل، من الإتيان بالعذاب وتعيين وقته.
(١) انظر تفسير البغوي ٧/ ٢٦٢.
341
رُوي: أنهم قحطوا سنين، ففزعوا إلى الكعبة، وقد كانت بنتها العمالقة، ثم خربت، فطافوا بها، واستغاثوا، فعرضت لهم ثلاث سحابات سوداء وحمراء وبيضاء، وقيل لهم: اختاروا واحدة، فاختاروا السوداء، فمرتْ إلى بلادهم، فلما رأوها مستقبلة أوديتهم، فرحوا واستبشروا، وهذا معنى قوله، تعالى: فَلَمَّا رَأَوْهُ أي: العذاب الذي استعجلوه بقولهم: فَأْتِنا بِما تَعِدُنا، وقيل: الضمير مبهم، يُفسره قوله: عارِضاً على أنه تمييز، أي: رأوا عارضاً، والعارض: السحاب، سُمي به لأنه يعرض السحاب في أُفق السماء. قال المفسرون: ساق الله السحابة السوداء التي اختاروها بما فيها من النقمة، فخرجت عليهم من واد يُقال له: «مغيث»، فلما رأوها مستقبلة أوديتهم، أي: متوجهة إليها، فرحوا، وقالوا: هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا أي: ممطر إياناً، لأنه صفة النكرة، فيقدر انفصاله.
قال الله تعالى: بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ من العذاب، وقيل: القائل هود عليه السلام، رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ، فجعلت تحمل الفساطيط، وتحمل الظعينة فترفعها في الجو، فتُرى كأنها جرادة.
قال ابن عباس: لما دنا العارض، قاموا فنظروا، فأول ما عرفوا أنه عذاب رأوا ما كان خارجاً من ديارهم من حالهم ومواشيهم، تطير بهم الريح بين السماء والأرض، مثل الريش، فدخلوا بيوتهم، وأغلقوا أبوابهم، فألقت الريح أبوابهم، وصرعتهم، وأمر الله تعالى الريح فأمالت عليهم الرمال، فكانوا تحت الرمل سبع ليالٍ وثمانية أيام حسوماً، لهم أنين، ثم أمر الله تعالى الريح، فكشفت عنهم الرمال، فاحتملتهم، فرمت منهم في البحر، وشدخت الباقي بالحجارة «١».
وقيل: أول مَن أبصر العذاب امرأة منهم، قالت: رأيت ريحاً فيها كشهب النار، وهو معنى قوله: تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ أي: تهلك من نفوس عاد وأموالهم الجم الكثير، فعبّر عن الكثرة بالكلية. بِأَمْرِ رَبِّها أي: رب الريح، وفي ذكر الأمر والرب، والإضافة ألى الريح، من الدلالة على عظيم شأنه- تعالى- ما لا يخفى، فَأَصْبَحُوا لا يُرى «٢» إِلَّا مَساكِنُهُمْ أي: فجاءت الريح فدمرتهم، فصاروا بحيث لا يُرى شيء إلا مساكنهم خاوية، ومَن قرأ بتاء الخطاب، فهو لكل مَن يتأتى منه الرؤية، تنبيهاً على أن حالهم صار بحيث لو نظر كل أحد بلادَهم لا يَرى فيها إلا مساكنهم.
(١) انظر تفسير البغوي (٧/ ٢٦٣).
(٢) قرأ عاصم وحمزة ويعقوب «يرى» بضم الياء، و «مساكنهم» برفع النّون، نائب فاعل، وقرأ الباقون «ترى» بالتاء وفتحها، و «مساكنهم» بالنصب، مفعولا به. انظر الإتحاف (٢/ ٤٧٢- ٤٧٣).
342
كَذلِكَ أي: مثل ذلك الجزاء الفظيع نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ وننجي المؤمنين. رُوي أن هود عليه السلام ومَن معه من المؤمنين في حظيرته، ما يصيبهم من الرّيح إلا ماتلين على الجلود، وتلذه الأنفس، وإنها لتمرّ من عاد بالظعن بين السماء والأرض، وتدمغهم بالحجارة. سبحان الحكيم القدير، اللطيف الخبير.
الإشارة: إنما جاءت النُذر من عهد آدم عليه السلام إلى قيام الساعة، تأمر بعبادة الله، ورفض كل ما سواه، فمَن تمسّك بذلك نجى، ومَن عبد غير الله، أو مال إلى سواه، عاجلته العقوبة في الظاهر أو الباطن. والله تعالى أعلم.
ثم خوّف هذه الأمة بما جرى على عاد، فقال:
[سورة الأحقاف (٤٦) : الآيات ٢٦ الى ٢٨]
وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٢٦) وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢٧) فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْباناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذلِكَ إِفْكُهُمْ وَما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٨)
قلت: فِيما: موصولة، أو موصوفة، ومفعول اتَّخَذُوا الأول: محذوف، وآلِهَةً: مفعول ثان، أي:
اتخذوهم آلهة، وقُرْباناً: حال، ولا يصح أن يكون مفعولا ثانيا ل «اتخذوا»، و «آلهة» : بدل، لفساد المعنى، وأجازه ابن عطية، ووجه فساده: أن اتخاذهم آلهة منافٍ لاتخاذهم قرباناً لأن القربان مقصود لغيره، والآلهة مقصودة بنفسها، فتأمله، و «إن» نافية، والأصل: فيما ما مكنكم فيه، ولمّا كان التكرار مستثقلاً جيء بأن، كما قالوا في مهما، والأصل: مَا مَا، فلبشاعة التكرار قلبوا الألف هاء، وقيل: «إن» صلة، أي: في مثل ما مكنكم فيه، والأول أحسن.
يقول الحق جلّ جلاله: وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ أي: قررنا عاد ومكناهم في التصرُّف فِيما أي: في الذي، أو في شيء ما مَكَّنَّاكُمْ يا معشر قريش فِيهِ من السعة والبسطة، وطول الأعمار، وسائر مبادئ التصرفات، فما إغنى عنهم شيء من ذلك، حين نزل بهم الهلاك، وهذا كقوله تعالى: كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ، «١» أو: ولقد مكنهم في مثل ما مكنكم فيه، فما جرى عليهم يجري
(١) من الآية ٦ من سورة الأنعام.
343
عليكم، حيث خالفتم نبيكم، والأول أوفق بقوله: كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ «١» وقوله: هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً «٢».
وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً أي: آلات الإدراك والفهم، ليعرفوا بكل واحدة منها ما خلقتْ له، وما نيطت به معرفته، من فنون النعم، ويستدلوا بها شئون منعمها، ويداوموا على شكرها، ويوحدوا خالقها، فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ حيث لم يستعملوه في استماع الوحي ومواعظ الرسل، وَلا أَبْصارُهُمْ حيث لم يُبصروا ما نصب من الآيات الدالة على وحدانيته- تعالى- ووجوب وجوده، وَلا أَفْئِدَتُهُمْ حيث لم يتفكّروا بها في عظمة الله- تعالى- وأسباب معرفته، فما أغنت عنهم مِنْ شَيْءٍ أي: شيئاً من الإغناء. ومِنْ: زائدة للتأكيد، وقوله: إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ: ظرف لقوله: فَما أَغْنى جارٍ مجرى التعليل، لاستواء مؤدّي التعليل والظرف في قولك: ضربته إذ أساء، أو: لإساءته، لأنك إذا ضربته وقت إساءته فإنما ضربته فيه لوجود إساءته فيه، وكذلك الحال في «حيث» دون سائر الظروف غالباً، أي: فما أغنت عنهم آلات الإدراك لأجل جحودهم بآيات الله. وَحاقَ أي: نزل بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ من العذاب الذي كانوا يستعجلونه بطريق الاستهزاء، ويقولون: فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ.
وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى يا أهل مكة، كحِجر ثمود، وقرى لوط، والمراد: أهل القرى، ولذلك قال: وَصَرَّفْنَا الْآياتِ، كرّرناه، لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ أي: كرّرنا عليهم الحجج وأنواع العِبر لعلهم يرجعون من الطغيان إلى الإيمان، فلم يرجعوا، فأنزلنا عليهم العذاب.
فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْباناً آلِهَةً أي: فهلاّ منعهم وخلصهم من العذاب الأصنام الذين اتخذوهم آلهة من دون الله، حال كونها متقرباً بها إلى الله، حيث كانوا يقولون: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى «٣»، وهؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ «٤» بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ أي: غابوا عن نصرتهم، وَذلِكَ إِفْكُهُمْ وَما كانُوا يَفْتَرُونَ، الإشارة إلى امتناع نصرة آلهتهم وضلالهم، أي: وذلك أثر إفكهم الذي هو اتخاذها آلهة، وثمرة شركهم، وافترائهم على الله الكذب.
(١) الآية ٢١ من سورة غافر. [.....]
(٢) من الآية ٧٤ من سورة مريم.
(٣) من الآية ٣ من سورة الزمر.
(٤) من الآية ١٨ من سورة يونس.
344
وقرأ ابن عباس وابن الزبير: إِفْكُهُمْ «١» أي: صرفهم عن التوحيد. وقُرئ: بتشديد الفاء، للتكثير «٢».
الإشارة: التمكُّن من كثرة الحس لا يزيد إلا ضعفاً في المعنى، وبُعداً من الحق، ولذلك يقول الصوفية: كل ما زاد في الحس نقص في المعنى، وكل ما نقص من الحس زاد في المعنى، والمراد بالمعنى: كشف أسرار الذات وأنوار الصفات، وما مكّن اللهُ- تعالى- عبدَه من الحواس الخمس إلا ليستعملها فيما يقربه إليه، ويوصله إلى معرفته، فإذا صرفها في غير ذلك، عُوقب عليها. وبالله التوفيق.
ثم ذكر حال من أغنى عنه سمعه ونفعه، حيث استعمله فيما وصله إلى ربه، فقال:
[سورة الأحقاف (٤٦) : الآيات ٢٩ الى ٣٢]
وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (٢٩) قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (٣٠) يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (٣١) وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٣٢)
قلت: «النفر» بالفتح: الجماعة من ثلاثة إلى عشرة، وقيل: إلى سبعة، ولا يُقال نفر فيما زاد على عشرة، والرهط والقوم والعشيرة والمعشر معناهم الجمع، ولا واحد لهم من لفظه، وهو للرجال دون النساء. قاله فى المصباح. ومِنَ الْجِنِّ: نعت للنفر، وكذا يَسْتَمِعُونَ.
يقول الحق جلّ جلاله: وَاذكر إِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ أي: أملناهم إليك، وأقبلنا بهم نحوك، وهم جن نصيبين، أو جن نينوى، قال في القاموس: «نِينوى» بكسر أوله، موضع بالكوفة، وقرية بالموصل
(١) انظر مختصر ابن خالويه (ص ١٤٠) والبحر المحيط (٨/ ٦٦).
(٢) «أفكهم» وبذلك قرأ أبو عياض، كما فى مختصر ابن خالويه/ ١٤٠ والمحتسب (٢/ ٢٦٧) وزاد فى البحر المحيط (٨/ ٦٦) :
وعكرمة.
345
ليونس عليه السلام. هـ. يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ منه عليه السلام فَلَمَّا حَضَرُوهُ أي: الرسول صلّى الله عليه وسلم، أو القرآن، أي: كانوا منه حيث يسمعونه، قالُوا أي: قال بعضهم لبعض: أَنْصِتُوا اسكتوا مستمعين، فَلَمَّا قُضِيَ، تمّ وفرغ من تلاوته، وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ، مقدّرين إنذارهم عند رجوعهم إليهم.
رُوي: أن الجنَّ كانت تسترق السمع، فلما حُرست السماء، ورُموا بالشُهب، قالوا: ما هذا إلا لأمر حدث، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها، لتعرفوا ما هذا، فنهض سبعة أو تسعة من أشراف جن نصيبين أو نينوى، منهم: «زوبعة» فمضوا نحو تهامة، ثم انتهوا إلى وادي نخلة، فوافقوا رسول الله ﷺ وهو قائم يصلي صلاة الفجر، فاستمعوا القرآن، وذلك عند منصرفه من الطائف، حين ذهب يدعوهم إلى الله، فكذّبوه، وردُّوا عليه، وأغروا به سفاءهم، فمضى على وجهه، حتى وصل إلى نخلة، فصلّى بها الغداة، فوافاه نفر الجن يصلي، فاستمعوا لقراءته، ولم يشعُر بهم، فأخبره الله تعالى باستماعهم «١».
وقيل: أمره اللهُ- تعالى- أن يُنذر الجن، ويقرأ عليهم، فصرف الله إليه نفراً منهم، وجمعهم له، فقال صلّى الله عليه وسلم:
إني أُمرت أن أقرأ على الجن، فمَن يتبعني؟ قالها ثلاثاً، فأطرقوا إلا عبد الله مسعود، قال: فانطلقنا حتى إذا كنا بأعلى مكة، فى شعب الحجون، فخطّ خطّاً، فقال: لا تخرج عنه حتى أعود إليك، ثم افتتح القرآن، وسمعت لغطاً شديداً، حتى خفت على رسول الله ﷺ فجعلت أرى أمثال النسور تهوي وتمشي، وغشيته أسوِدة كثيرة حالت بيني وبينه، حتى ما أسمع صوته، ثم تتقطع كقطع؟؟؟، ففرغ صلّى الله عليه وسلم مع الفجر، فقال: أنمتَ؟ فقلت: لا والله، ولقد هممت مراراً أن أستغيث بالناس حتى سمعتك تقرعهم بعصاك، تقول: اجلسوا، فقال: لو خرجت لم آمن عليك أن يتخطفك بعضهم، ثم قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «هل رأيت شيئاً؟» قلت: نعم، رجالاً سوداً، في ثياب بيض، قال: «أولئك جن نصيبن» «٢» وكانوا اثني عشر ألفاً، والسورة التي قرأ عليهم: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ.
فلمَّا رجعوا إلى قومهم قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى، قيل: قالوا ذلك لأنهم كانوا على اليهودية، وعن ابن عباس: إن الجن لم تكن سمعت بأمر عيسى عليه السلام وهو بعيد. حال كون الكتاب مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ من العقائد الصحيحة، أو إلى الله، وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ يُوصل إلى الله، وهو الشرائع والأعمال الصالحة.
(١) أخرجه بمعناه البخاري فى (الأذان، باب الجهر بقراءة صلاة الفجر ح ٧٧٣) وكذا أخرجه فى (التفسير، سورة الجن) من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنه.
(٢) انظر تفسير البغوي ٧/ ٢٦٧.
346
يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ وهو محمد صلى الله عليه وسلم، وَآمِنُوا بِهِ أي: بالرسول أو القرآن. وصفوه بالدعوة إلى الله- تعالى- بعد ما وصفوه بالهداية إلى الحق والطريق المستقيم لتلازمهما، دعوهم إلى ذلك بعد بيان حقيقته واستقامته، ترغيباً في الإجابة، ثم أكدوه بقولهم: يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ أي: بعض ذنوبكم، وهو ما كان في حق خالصٍ لله- تعالى- فإنّ حقوق العباد لا تُغفر بالإيمان، وقيل: تغفر. وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ موجع.
واختلف في مؤمني الجن، هل يثابون على الطاعة، ويدخلون الجنة، أو يُجارون من النار فقط؟ قال الفخر:
والصحيح أنهم في حكم بني آدم، يستحقون الثواب على الطاعة، والعقاب على المعصية، وهو قول مالك، وابن أبي ليلى، وقال الضحاك: يدخلون الجنة ويأكلون ويشربون. هـ. ويؤيده قوله تعالى: وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا كما تقدّم في الأنعام «١».
وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ أي: لا ينجي منه مهرب، وإظهار «داعي الله» من غير اكتفاء بضميره، للمبالغة في الإيجاب، بزيادة المهابة والتقرير وتربيته، وإدخال الروعة. وتقييد الإعجاز بكونه في الأرض لتوسيع الدائرة، أي: فليس بمعجز له- تعالى- وإن هرب في أقطار الأرض ودخل فى أعماقها.
وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ ينصرونه من عذاب الله، وهو بيان لاستحالة نجاته بواسطة، إثر بيان استحالة نجاته بنفسه، وجمع «الأولياء» مبالغة، إذا كان لا ينفعه أولياء، فأولى واحد. أُولئِكَ الموصوفون بعدم إجابة داعي الله فِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي: ظاهر، بحيث لا تخفى ضلالته على أحد، حيث أعرضوا عن إجابة مَن هذا شأنه، وجمع الإشارة باعتبار معنى «مَنْ»، وأفرد أولاً باعتبار لفظها.
الإشارة: قد استعملت الجن الأدب بين يديه صلّى الله عليه وسلم حيث قالوا: أنصتوا، فالجلوس مع الأكابر يحتاج إلى أدب كبير، كالصمت، والوقار، والهيبة، والخضوع، كما كانت حالة الصحابة- رضي الله عنهم- مع الرّسول صلّى الله عليه وسلم إذا تكلم أنصتوا كأنما على رؤوسهم الطير. قال الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه: «إذا جالست الكبراء فدع ما تعرف إلى مالا تعرف، لتفوز بالسر المكنون» فإذا انقضى مجلس التذكير رجع كل واحد منذراً وداعياً إلى الله كلَّ مَن لقيه، وقد كان صلّى الله عليه وسلم يقول لأصحابه: «ليبلغ الشاهد الغائب» «٢» فمَن بلغه ذلك واستجاب ربح وغنم، ومَن لا يجب داعي الله
(١) راجع تفسير الآية ١٣٢ من سورة الأنعام. وانظر فى حكم مؤمنى الجن: تفسير القرطبي (٧/ ٦٢٢٤) و «آكام المرجان فى أحكام الجان» للشبلى النّعمانى.
(٢) جزء من حديث خطبة الرّسول فى حجة الوداع، أخرجه البخاري فى (الحج، باب الخطبة أيام منى ح ١٧٤١)، ومسلم فى (القسامة، باب تعليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال رقم ١٦٧٩، ح ٢٩، ٣٠) عن أبى بكرة رضي الله عنه.
347
خاب وخسر، والاستجابة أقسام، قال القشيري: فمستجيبٌ بنفسه، ومستجيبٌ بقلبه، ومستجيبٌ بروحه، ومستجيبٌ بسرِّه، ومَن توقف عند دعاء الداعي إليه، ولم يُبادر إلى الاستجابة هُجِرَ فيما كان يُخَاطب به. هـ.
قلت: المستجيب بنفسه هو المستجيب بالقيام بوظائف الإسلام، والمستجيب بقلبه القائم بوظائف الإيمان، والمستجيب بروحه القائم بوظائف الإحسان، والمستجيب بسره هو المتمكن من دوام الشهود والعيان، وقول: هجر فيما يُخاطب به، أي: كان يُخاطب بملاحظة الإحسان، فإذا لم يبادر قِيد بسلاسل الامتحان. والله تعالى أعلم.
ثم برهن على قوله، فليس بمعجزه فى الأرض، فقال:
[سورة الأحقاف (٤٦) : الآيات ٣٣ الى ٣٤]
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٣) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٤)
قلت: وَلَمْ يَعْيَ: حال من فاعل «خلق»، يُقال: عَي، كرضَى، وَعِيَ بالإدغام، وهو أكثر. قاله في الصحاح.
وفي القاموس: عَيَّ بالأمر وعيى كرضى، وتَعايا واسْتَعيا وتَعَيَّا: لم يهتدِ لوجه مُراده، أو عَجَزَ عنه ولم يُطِقْ إحكامه. هـ. وبِقادِرٍ: خبر «أن»، ودخلت الباء لاشتمال النفي الذي في صدر الآية على «أنّ» وما في حيّزها، قال الزجاج: لوقلت: ما ظنت أنَّ زيداً بقائم، جاز.
يقول الحق جلّ جلاله: أَوَلَمْ يَرَوْا أي: ألم يتفكروا ولم يعلموا علماً جازماً أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ، ابتداء من غير مثال يحتويه، ولا قانون يحتذيه، وَالحال أنه لَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ أي: لم يتعب ولم ينصب بذلك أصلاً، ولم يعجز عنه، أليس مَن فعل ذلك بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى:
جواب النفي، أي: بلى هو قادر على ذلك، إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ تقرير للقدرة على وجه عام، ليكون كالبرهان على المقصود.
ثم ذكر عقاب مَن أنكر البعث المبرهن عليه، فقال: وَاذكر يَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ فيقال لهم: أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ، فالإشارة إلى ما يُشاهدونه من فظيع العذاب، وفيه تهكُّم بهم، وتوبيخ لهم، على استهزائهم بوعد الله تعالى ووعيده، ونفيه بقولهم: «وما نحن بمعذبين»، قالُوا في جواب الملائكة: بَلى
وَرَبِّنا
إنه لحق، أكدوا جوابهم بالقسم كأنهم يطمعون في الخلاص بالاعتراف بحقيقتهما كما في الدنيا، وأنَّى لهم ذلك؟ قالَ تعالى لهم: فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ بها في الدنيا، ومعنى الأمر: الإهانة بهم والتوبيخ لهم، نعوذ بالله من موارد الهوان.
الإشارة: تربية اليقين تطلب في أمرين، حتى يكونا كرأي العين: وجود الحق أو شهوده، وإتيان الساعة وقربها، حتى تكون نُصب العين، وتقدّم حديث حارثة شاهداً على إيمانه، حيث قال: «وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون... » الحديث.
ثم أمر بالصبر على ما يسمع من الكفرة، فى إمكان البعث وغيره، فقال:
[سورة الأحقاف (٤٦) : آية ٣٥]
فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ (٣٥)
قلت: لَهُمْ: متعلق بتستعجل، وأما تعليقه ببلاغ فضعيف، لا يليق بإعجاز التنزيل، خلافاً لوقف الهبطي، وبَلاغٌ: خبر عن مضمر، أي: هذا بلاغ.
يقول الحق جلّ جلاله: فَاصْبِرْ يا محمد على ما يُصيبك من جهة الكفرة كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ أي: الثبات والحزم مِنَ الرُّسُلِ، فإنك مِن جملتهم، بل من أكملهم وأفضلهم، و «من» للتبعيض، واختلف في تعيينهم، فقيل: هم المذكرون في الأحزاب وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ «١» وهم أهل الشرائع، الذي اجتهدوا في تأسيسها وتقريرها، وصبروا على تحمُّل مشاقها، وسياسة مَن تمسّك بها، ومعاداة الطاعنين فيها. وقيل: هم الصابرون على بلاء الله تعالى، كنوح صَبَر على إذاية قومه، كانوا يضربونه حتى يُغشى عليه، وإبراهيم صبر على النار، وذَبْحِِ ولده، ومفارقة وطنه، وترك ولده ببلد خالية من العمران، ويعقوب على فقد ولده، وذهَاب بصره، ويوسف على الجُب والسجن، وأيوب على الضُر، وموسى قال له قومه: إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قالَ كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ «٢» وعلى مكابدة التيه مع قومه، وداود بكى على خطيئته أربعين سنة، وعيسى لم يضع لبنة على لبنة.
(١) الآية ٧ من سورة الأحزاب.
(٢) الآيتان ٦١، ٦٢ من سورة الشعراء.
349
وقيل: هم اثنا عشر نبياً، أُرسلوا إلى بني إسرائيل، فعصوهم، فأوحى الله إلى الأنبياء: إني مرسل عذابي على عصاة بني إسرائيل، فشقَّ عليهم، فأوحى الله إليهم: أن اختاروا لأنفسكم، إن شئتم أنزلتُ بكم العذاب، وأنجيت بني إسرائيل، وإن شئتم أنجبتكم وأنزلت ببني إسرائيل، فتشاوروا بينهم، فاجتمع رأيهم على أن ينزل بهم العذاب ويُنجي بني إسرائيل، فسلّط عليهم ملوك الأرض، فمنهم مَن نُشر بالمناشير، ومنهم مَن سُلخ جلدة رأسه ووجهه، ومنهم مَن رُفع على الخشب، ومنهم مَن أُحرق بالنار. نسأل الله العافية، فإنهم أقوياء ونحن ضعفاء.
وقيل: «من» للتبيين، كقولك: اشتريت ثياباً من الخز، فكلهم أولو العزم، وقيل: إلا يونس، لقوله: وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ «١» وآدم لقوله: وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً «٢».
ثم قال تعالى: وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ أي: لكفار مكة نزول العذاب، فإنه نازل بهم، كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ من العذاب لَمْ يَلْبَثُوا في الدنيا إِلَّا ساعَةً يسيرة مِنْ نَهارٍ لما يُشاهدونه من شدة العذاب وطول مدته. قال الثعالبي: وإذا علمت أيها الأخ أن الدنيا أضغاث أحلام، كان من الحزم اشتغالك الآن بتحصيل الزاد للمعاد، وحفظ الحواس، ومراعاة الأنفاس، ومراقبة مولاك، فاتخذه صاحبا، ودع الناس جانبا، ثم نقل عن الغزالي ما يهيج النفس إلى النهوض إلى الله، والفرار مما سواه، فانظره.
هذا بَلاغٌ أي: هذا الذي وُعظتم به كفاية في الموعظة، أو تبليغ من الرسول، أو مني إليك، ومنك إلى العالمين. فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ أي: ما يُهلك إلا الخارجون عن هذا الاتعاظ، أو عن هذه المواعظ، أو عن الطاعة، أو: فلا يهلك مع هذه المواعظ البالغة، والأدلة القاطعة إلا مَن هلك عن بينة، أو: فلا يهلك مع رحمة الله وتفضُّله إلا الهالكون، ونظير ما ختم به هنا ما ختم به سورة الأنبياء: إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ الآية «٣».
فائدة: قال ابن عباس: إذا عسر على المرأة ولدها، فليكتب هاتين الآتين الكريمتين في صحيفة، ثم تغسل وجهها منها، وتُسقى منها: بسم الله الرحمن الرحيم، لا إله إلا الله، العظيم الحليم، سبحان الله رب السموات والأرض، ورب العرش العظيم، كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلاّ عشية أو ضحاها، كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ. صدق الله العظيم. هـ.
(١) الآية ٤٨ من سورة القلم.
(٢) الآية ١١٥ من سورة طه.
(٣) الآية ١٠٦ من سورة الأنبياء. [.....]
350
الإشارة: أولو العزم من الأولياء هم أولو الجد والتشمير، قد خلّصهم البلاء وشحّرهم، فهم جلاليون الظاهر، جماليون الباطن، قد أسّسوا منار الطريق، وأظهروا معالم التحقيق، قاسوا شدائد المجاهدة، وأفضوا إلى دوام المشاهدة، عالجوا سياسة الخلق، حتى هدى الله على أيديهم الجم الغفير، فهم خلفاء الرسل في تجديد الشرائع، وإحياء الدين- جعلنا الله منهم بمنِّه وكرمه. فيُقال لكل وليّ من أولي العزم: فاصبر كما صبر أولو العزم من الأولياء قبلك.
قال القشيري: والصبرُ هو الوقوفُ لحكم الله تعالى، والثبات من غير بَثّ الاستكراه. هـ. أي: من غير إظهار الشكوى والتذكرة. قلت: وأعظم مواطن الصبر عند ورود الفاقات، وتوالي الأزمات، وصيانة الوجه عن ذل المخلوقات، ولله در القائل.
اِرض بِأدْنَى الْعَيْشِ وَاشْكر عَلَيْهِ شُكْرَ مَن الْقلُّ كَثيرٌ لَدَيْهِ
وجَانِب الْحرص الَّذِي لَمْ يَزَل يَحُطُّ قَدْرَ الْمتَراقِي إِلَيهِ
وحَامِ عَنْ عِرْضِكَ وَاسْتَبقهِ كَمَا يُحامي اللَّيْثُ عَنْ لُبْدَتَيْهِ
واصبر على ماناب مِن نوبٍ صَبْرَ أُولِي الْعَزْمِ، وَاغْمِضْ عَلَيْهِ
ولبدتي الأسد: جانبا كتفيْه.
ويُقال لأُولي العزم، حين يُؤذون من جهة الخلق: وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ... الآية. وقوله تعالى: كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ... الآية، قال القشيري: مُدةُ الخلق من مبتدأ خلقتهم إلى مُنتهى آجالهم، بالإضافة إلى الأزلية، كلحظةٍ، بل هي أقلُّ، إذ الأول لا ابتداء له ولا انتهاء، وأيّ خَطَرٍ لما حصل في لحظةٍ.. خيراً كان أو شرًّا؟. هـ.
قال الورتجبي، ثم بيَّن أن عند معاينة سطوات القهريات، لا يهلك فيها إلا الخارجون من نعوت استعداد معرفتي، حين يحتجبون بظلمات نعوتهم «١» بقوله: فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ الخارجون بالدعاوى الباطلة. هـ. وبالله التوفيق، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
(١) فى الورتجبي: ظنونهم.
351
Icon