فيها ثلاث آيات
ﰡ
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ :
المسألة الْأُولَى : فِي مَسَاقِ الْآيَةِ، وَهِيَ أَشْرَفُ آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ فَإِنَّهَا اسْتَوْفَتْ أَدِلَّةَ الشَّرْعِ عَقْلِيَّهَا وَسَمْعِيَّهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ من دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا من الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ ﴾ فَهَذِهِ بَيَانٌ لِأَدِلَّةِ الْعَقْلِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالتَّوْحِيدِ، وَحُدُوثِ الْعَالَمِ، وَانْفِرَادِ الْبَارِّي سُبْحَانَهُ بِالْقُدْرَةِ وَالْعِلْمِ وَالْوُجُودِ وَالْخَلْقِ، ثُمَّ قَالَ :﴿ ائْتُونِي بِكِتَابٍ من قَبْلِ هَذَا ﴾ عَلَى مَا تَقُولُونَ، وَهَذِهِ بَيَانٌ لِأَدِلَّةِ السَّمْعِ فَإِنَّ مُدْرِكَ الْحَقِّ إنَّمَا يَكُونُ بِدَلِيلِ الْعَقْلِ أَوْ بِدَلِيلِ الشَّرْعِ حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ من مَرَاتِبِ الْأَدِلَّةِ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ، ثُمَّ قَالَ :﴿ أَوْ أَثَارَةٍ من عِلْمٍ ﴾ يَعْنِي أَوْ عِلْمٍ يُؤْثَرُ، أَوْ يُرْوَى وَيُنْقَلُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَكْتُوبًا ؛ فَإِنَّ الْمَنْقُولَ عَنْ الْحِفْظِ مِثْلُ الْمَنْقُولِ عَنْ الْكُتُبِ.
المسألة الثَّانِيَةُ : قَالَ قَوْمٌ : إنَّ قَوْلَهُ :﴿ أَوْ أَثَارَةٍ من عِلْمٍ ﴾ يَعْنِي بِذَلِكَ عِلْمَ الْخَطِّ، وَهُوَ الضَّرْبُ فِي التُّرَابِ لِمَعْرِفَةِ الْكَوَائِنِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ أَوْ فِيمَا مَضَى مِمَّا غَابَ عَنْ الضَّارِبِ، وَأَسْنَدُوا ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يَصِحَّ.
وَفِي مَشْهُورِ الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ :«كَانَ نَبِيٌّ من الْأَنْبِيَاءِ يَخُطُّ، فَمَنْ وَافَقَ خَطَّهُ فَذَلِكَ » وَلَمْ يَصِحَّ أَيْضًا.
وَاخْتَلَفُوا فِي تَأْوِيلِهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : إنَّهُ جَاءَ لِإِبَاحَةِ الضَّرْبِ بِهِ ؛ لِأَنَّ بَعْضَ الْأَنْبِيَاءِ كَانَ يَفْعَلُهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : جَاءَ لِلنَّهْيِ عَنْهُ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ :«فَمَنْ وَافَقَ خَطَّهُ فَذَلِكَ ». وَلَا سَبِيلَ إلَى مَعْرِفَةِ طَرِيقِ النَّبِيِّ الْمُتَقَدِّمِ فِيهِ فَإِذًا لَا سَبِيلَ إلَى الْعَمَلِ بِهِ :
لَعَمْرُك مَا تَدْرِي الضَّوَارِبُ بِالْحَصَى | وَلَا زَاجِرَاتُ الطَّيْرِ مَا اللَّهُ صَانِعٌ |
المسألة الثَّالِثَةُ : إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُبْقِ من الْأَسْبَابِ الدَّالَّةِ عَلَى الْغَيْبِ الَّتِي أَذِنَ فِي التَّعَلُّقِ بِهَا وَالِاسْتِدْلَالِ مِنْهَا إلَّا الرُّؤْيَا، فَإِنَّهُ أَذِنَ فِيهَا وَأَخْبَرَ أَنَّهَا جُزْءٌ من النُّبُوَّةِ، وَكَذَلِكَ الْفَأْلُ. فَأَمَّا الطِّيَرَةُ وَالزَّجْرُ فَإِنَّهُ نَهَى عَنْهُمَا. وَالْفَأْلُ هُوَ الِاسْتِدْلَال بِمَا يَسْتَمِعُ من الْكَلَامِ عَلَى مَا يُرِيدُ من الْأَمْرِ إذَا كَانَ حَسَنًا، فَإِنْ سَمِعَ مَكْرُوهًا فَهُوَ تَطَيُّرٌ، وَأَمَرَ الشَّرْعُ بِأَنْ يَفْرَحَ بِالْفَأْلِ، وَيَمْضِيَ عَلَى أَمْرِهِ مَسْرُورًا بِهِ. فَإِذَا سَمِعَ الْمَكْرُوهَ أَعْرَضَ عَنْهُ وَلَمْ يَرْجِعْ لِأَجْلِهِ، وَقَالَ كَمَا عَلَّمَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - :«اللَّهُمَّ لَا طَيْرَ إلَّا طَيْرُك، وَلَا خَيْرَ إلَّا خَيْرُك، وَلَا إلَهَ غَيْرُك ». وَقَدْ رُوِيَ عَنْ بَعْضِ الْأُدَبَاءِ :
الْفَأْلُ وَالزَّجْرُ وَالْكُهَّانُ كُلُّهُمْ | مُضَلِّلُونَ وَدُونَ الْغَيْبِ أَقْفَالٌ |
رُوِيَ أَنَّ امْرَأَةً تَزَوَّجَتْ فَوَلَدَتْ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ من يَوْمِ زُوِّجَتْ، فَأَتَى بِهَا عُثْمَانَ، فَأَرَادَ أَنْ يَرْجُمَهَا، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لِعُثْمَانَ : إنَّهَا إنْ تُخَاصِمْكُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ تَخْصِمْكُمْ ؛ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ :﴿ وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا ﴾. وَقَالَ :" وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ " فَالْحَمْلُ سِتَّةُ أَشْهُرٍ، وَالْفِصَالُ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ شَهْرًا ؛ فَخَلَّى سَبِيلَهَا.
وفِي رِوَايَةٍ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ قَالَ لَهُ ذَلِكَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَهُوَ اسْتِنْبَاطٌ بَدِيعٌ.
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ :
المسألة الْأُولَى : لَا خِلَافَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ فِي الْكُفَّارِ بِنَصِّ الْقُرْآنِ، لِقَوْلِهِ فِي أَوَّلِهَا :﴿ وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ ﴾، أَيْ فَيُقَالُ لَهُمْ : أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمْ الدُّنْيَا، يُرِيدُ أَفْنَيْتُمُوهَا فِي الْكُفْرِ بِاَللَّهِ وَمَعْصِيَتِهِ، وَإِنَّ اللَّهَ أَحَلَّ الطَّيِّبَاتِ من الْحَلَالِ وَاللَّذَّاتِ، وَأَمَرَ بِاسْتِعْمَالِهَا فِي الطَّاعَاتِ، فَصَرَفَهَا الْكُفَّارُ إلَى الْكُفْرِ فَأَوْعَدَهُمْ اللَّهُ بِمَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْهُمْ، وَقَدْ يَسْتَعْمِلُهَا الْمُؤْمِنُ فِي الْمَعَاصِي، فيَدْخُلُ فِي وَعِيدٍ آخَرَ وَتَنَالُهُ آيَةٌ أُخْرَى بِرَجَاءِ الْمَغْفِرَةِ، وَيَرْجِعُ أَمْرُهُ إلَى الْمَشِيئَةِ، فَيُنَفِّذُ اللَّهُ فِيهِ مَا عَلِمَهُ مِنْهُ وَكَتَبَهُ لَهُ.
المسألة الثَّانِيَةُ : رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ لَقَى جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، وَقَدْ ابْتَاعَ لَحْمًا بِدِرْهَمٍ، فَقَالَ لَهُ : أَمَا سَمِعْت اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ :﴿ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمْ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا ﴾ وَهَذَا عِتَابٌ مِنْهُ لَهُ عَلَى التَّوَسُّعِ بِابْتِيَاعِ اللَّحْمِ وَالْخُرُوجِ عَنْ جِلْفِ الْخُبْزِ وَالْمَاءِ ؛ فَإِنَّ تَعَاطِي الطَّيِّبَاتِ من الْحَلَالِ تَسْتَشْرِي لَهَا الطِّبَاعُ، وَتَسْتَمِرُّ عَلَيْهَا الْعَادَةُ، فَإِذَا فَقَدْتهَا اسْتَسْهَلْت فِي تَحْصِيلِهَا بِالشُّبُهَاتِ، وَحَتَّى تَقَعَ فِي الْحَرَامِ الْمَحْضِ بِغَلَبَةِ الْعَادَةِ، وَاسْتَشْرَاهِ الْهَوَى عَلَى النَّفْسِ الْأَمَارَةِ بِالسُّوءِ، فَأَخَذَ عُمَرُ الْأَمْرَ من أَوَّلِهِ، وَحَمَاهُ من ابْتِدَائِهِ كَمَا يَفْعَلُهُ مِثْلُهُ.
وَاَلَّذِي يَضْبِطُ هَذَا الْبَابَ وَيَحْفَظُ قَانُونَهُ : عَلَى الْمَرْءِ أَنْ يَأْكُلَ مَا وَجَدَ طَيِّبًا كَانَ أَوْ قَفَارًا، وَلَا يَتَكَلَّفُ الطَّيِّبَ، وَيَتَّخِذَهُ عَادَةً ؛ وَقَدْ كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَشْبَعُ إذَا وَجَدَ، وَيَصْبِرُ إذَا عَدِمَ، وَيَأْكُلُ الْحَلْوَى إذَا قَدَرَ عَلَيْهَا، وَيَشْرَبُ الْعَسَلَ إذَا اتَّفَقَ لَهُ، وَيَأْكُلُ اللَّحْمَ إذَا تَيَسَّرَ، وَلَا يَعْتَمِدُهُ أَصْلًا، وَلَا يَجْعَلُهُ دَيْدَنًا، وَمَعِيشَةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعْلُومَةٌ، وَطَرِيقَةُ أَصْحَابِهِ بَعْدُ مَنْقُولَةٌ ؛ فَأَمَّا الْيَوْمَ عِنْدَ اسْتِيلَاءِ الْحَرَامِ، وَفَسَادِ الْحُطَامِ، فَالْخَلَاصُ عَسِيرٌ، وَاَللَّهُ يَهَبُ الْإِخْلَاصَ، وَيُعِينُ عَلَى الْخَلَاصِ بِرَحْمَتِهِ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَدِمَ عَلَيْهِ نَاسٌ من الْعِرَاقِ فَرَأَى الْقَوْمُ كَأَنَّهُمْ يَتَقَزَّزُونَ فِي الْأَكْلِ، فَقَالَ : مَا هَذَا يَا أَهْلَ الْعِرَاقِ ؟ وَلَوْ شِئْت أَنْ يُدَهْمَقُ لِي كَمَا يُدَهْمَقُ لَكُمْ، وَلَكِنَّا نَسْتَبْقِي من دُنْيَانَا مَا نَجِدُهُ فِي آخِرَتِنَا. أَلَمِ تَسْمَعُوا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ قَوْمًا فَقَالَ :﴿ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمْ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا ﴾.