تفسير سورة الأحقاف

صفوة البيان لمعاني القرآن
تفسير سورة سورة الأحقاف من كتاب صفوة البيان لمعاني القرآن .
لمؤلفه حسنين مخلوف . المتوفي سنة 1410 هـ
مكية، وآياتها خمس وثلاثون

بسم الله الرحمان الرحيم
﴿ إلا بالحق ﴾ أي خلقنا متلبسا بالحق الذي تقتضيه المشيئة الإلهية، والحكمة الربانية. ﴿ وأجل مسمى ﴾ أي وإلا بتقدير أمد معين لبقاء هذه المخلوقات نفتى في نهايته ؛ وذلك عند قيام الساعة. والأجل : المدة المضروبة للشيء. ﴿ والذين كفروا عما أنذروا ﴾ من قيام الساعة وحدوث أهوالها والبعث في اليوم الآخر والجزاء﴿ معرضون ﴾.
﴿ أرأيتم ما تدعون من دون الله ﴾ أي أخبروني ومفعول " أرأيتم " الأول هو " ما تدعون "، وجملة " ماذا خلقوا " سدت مسد مفعولها الثاني. وقوله " أروني " تأكيد له ؛ لأنها بمعنى أخبروني. ﴿ من الأرض ﴾ أي العوالم السفلية تفسير لقوله " ماذا خلقوا ". ﴿ أم لهم شرك ﴾ أي بل ألهم شركة معه تعالى في خلق السموات ؛ أي العوالم العلوية. يقال : شركه في البيع يشركه – مثل علمه يعلمه – شركة ؛ والاسم الشرك، وجمعه أشراك. ﴿ ائتوني بكتاب ﴾ إلهي دال على صحة دينكم ! ! والأمر للتبكيث بعجزهم عن الإتيان بدليل نقلي، بعد تبكيتهم بالعجز عن الإتيان بدليل عقلي. ﴿ من قبل هذا ﴾ الكتاب، أي القرآن الناطق بإبطال الشرك.
﴿ أو أثارة من علم ﴾ بقية من علم يؤثر عن الأولين ويسند إليهم، شاهدة باستحقاقهم العبادة. و " أثارة "
- بفتح الهمزة – مصدر كالسماحة، معناها البقية. يقال : سمنت الناقة على أثارة، أي على عتيق شحم كان عليهم قبل ذلك ؛ فكأنها حملت شحما على بقية شحمها.
﴿ أم يقولون افتراه ﴾ بل أيقولون اختلق القرآن وتقوله محمد ! ؟ من الافتراء وهو الاختلاق والكذب. والاستفهام للإنكار والتعجيب. ﴿ تفيضون فيه ﴾ أي تندفعون فيه من القدح في آيات القرآن ؛ من الإفاضة، وهي الأخذ في الشيء باندفاع. وأصله من فاض الماء : إذا سال منصبا. وأفاض إناءه : إذا ملأه حتى أساله.
﴿ ما كنت بدعا من الرسل ﴾ ما كنت أول الرسل الذين جاءوا بكتاب من عند الله ؛ بل كان قبلي رسل كثيرون أرسلوا بالكتب إلى أمم قبلكم، فكيف تنكرون عليّ ما جئتكم به ؟ يقال : هو بدع في هذا الأمر، أي أول لم يسبقه أحد. أو ما كنت بديعا منهم ؛ أي لست مبتدعا لأمر يخالف ما جاءوا به من الدعوة إلى التوحيد. فهو صفة مشبهة، كخل بمعنى خليل ؛ من الابتداع وهو الاختراع.
﴿ وما أدري ما يفعل بي ولا بكم ﴾ لا أعلم من تلقاء نفسي ما سيفعله الله بي ولا بكم مما لا سبيل إلى العلم به إلا الوحي﴿ إن أتبع إلا ما يوحى إلي ﴾ أي ما أفعل إلا اتباع ما يوحيه الله إليّ ؛ فلا أعلم ما لم يوح إلي من الغيب ولا أخبر به.
﴿ وكفرتم به ﴾ أي وقد كفرتم به ؛ أي بالقرآن الموحى إلي به. ﴿ وشهد شاهد ﴾ عظيم الشأن﴿ من بني إسرائيل ﴾ الواقفين على أسرار الوحي بما أوتوا من التوراة. ﴿ على مثله ﴾ أي على مثل القرآن من المعاني المنطوية في التوراة، من التوحيد والبعث والوعد والوعيد وغير ذلك من أصول الشرع ؛ فإنها في الحقيقة عين ما فيه. ﴿ فآمن ﴾ بالقرآن﴿ واستكبرتم ﴾ عن الإيمان به. وجواب الشرط محذوف ؛ أي فقد ظلمتم. والمراد بالشاهد : عبد الله بن سلام من مؤمني اليهود، وكان من العلماء بالتوراة.
﴿ لو كان خيرا ﴾ أي لو كان القرآن الذي جاء به محمد – صلى الله عليه وسلم – خيرا.
﴿ ما سبقونا إليه ﴾ أي ما سبقنا إليه أولئك الضعفاء الفقراء ؛ كعمار وبلال وأضرابهما﴿ فسيقولون هذا إفك قديم ﴾ أي فسيقول الكافرون الذين لم يهتدوا بالقرآن : هذا القرآن كذب قديم من أخبار الأولين، نسبه محمد إلى ربه. وهو كقولهم : " أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا " ١. والإفك : الكذب.
١ آية ٥ الفرقان..
﴿ إن الذين قالوا ربنا الله... ﴾ أي يجمعوا بين التوحيد الذي هو خلاصة العلم، وبين الاستقامة في الدين التي هي منتهى العمل.
﴿ ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا ﴾ أمرناه أن يحسن إليهما إحسانا، ويبرهما بصنوف البر في
حياتهما وبعد مماتهما. والإحسان : خلاف الإساءة. وقرئ " حسنا ". نزلت هذه الآية إلى قوله " وعد الصدق الذي كانوا يوعدون " في أبي بكر الصديق رضي الله عنه. وهو مثل في الجمع بين التوحيد والاستقامة في الدين. ﴿ حملته أمه كرها ووضعته كرها ﴾ أي ذات كره ومشقة أثناء ثقل الحمل والوضع ؛ منصوب على الحال من الفاعل. وقرئ بفتح الكاف، وهما لغتان بمعنى ؛ كالضعف والضعف. ﴿ بلغ أشده ﴾ أي بلغ زمن استحكام القوة وكمال العقل، وقدر بثلاث وثلاثين سنة ؛ لكونه آخر سن النشوء والنماء. ﴿ وبلغ أربعين سنة ﴾ هو أكبر الأشد وتمام الشباب ؛ وهو سن النبوة عند الجمهور.
﴿ قال رب أوزعني ﴾ رغبني ووفقني إلى شكر نعمتك [ آية ١٩ النمل ص ١٢١ ]
﴿ وعد الصدق ﴾ وعدهم الله وعد الصدق ؛ أي وعدا صادقا.
﴿ والذي قال لوالديه ﴾ عند دعوتهما إياه إلى الإيمان. والمراد به الجنس ؛ فهو في معنى الجمع، ولذا أخبر عنه بقوله : " أولئك الذين حق عليهم القول ". ﴿ أف لكما ﴾ إظهارا لتضجره ؛ وهو صوت يصدر عند التضجر. أو اسم للفعل الذي هو أتضجر. ﴿ ويلك ﴾ أي يقولون له " ويلك ". وهي في الأصل كلمة دعاء بالثبور والهلاك ؛ وهي مصدر منصوب بفعل ملاق له في المعنى الأصلي، أي هلكت هلاكا. والمراد هنا : حث المخاطب وتحريضه على الإيمان، لا لدعاء عليه بذلك. ﴿ آمن ﴾ أمر بالإيمان، وهو من جملة مقولهما، وكذا﴿ إن وعد الله حق ﴾.
﴿ أساطير الأولين ﴾ خرافاتهم وأباطيلهم التي سطروها في كتبهم.
﴿ أولئك ﴾ خبر " والذي قال لوالديه " كما قدمنا. ﴿ حق عليهم القول ﴾ هو قوله تعالى لإبليس : " لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين " ١.
١ آية ٨٥ ص..
﴿ ويوم يعرض الذين كفروا... ﴾ أي يعذبون بها ؛ من قولهم : عرض الأسرى على السيف، إذا قتلوا به. ﴿ أذهبتم طيباتكم ﴾ أي يقال لهم ذلك. ﴿ عذاب الهون ﴾ أي الهوان. أو الخزي.
﴿ واذكر أخا عاد ﴾ هو هود عيه السلام﴿ إذ أنذر قومه بالأحقاف ﴾ جمع حقف، وهو في الأصل : ما استطال من الرمل واعوج، ولم يبلغ أن يكون جبلا. أو جمع حقاف الذي هو جمع حقف. والمراد بها : منازل عاد الأولى باليمن، وكانت في شمال حضرموت، وفي شمالها الربع الخالي، وفي شرقها عمان. وموضعها اليوم رمال خالية، وكان أهلها من أشد الناس قوة.
﴿ لتأفكنا عن آلهتنا ﴾ لتصرفنا عن عبادة آلهتنا إلى عبادة ما تدعونا إليه وإلى اتباع قولك ! أو لنزيلنا عن عبادتها بالافك والكذب [ آية ٧٥ المائدة ص ٢٠٢ ].
﴿ رأوه عارضا ﴾ أي رأوه سحابا عارضا في أفق السماء. والعرب تسمى السحاب – الذي يرى في بعض آفاق السماء عشيا، ثم يصبح من الغد قد استوى وحبا بعضه إلى بعض - : عارضا ؛ وذلك لعرضه في بعض أرجاء السماء حين نشأ.
﴿ تدمر كل شيء ﴾ تهلك كل شيء تمر عليه﴿ بأمر ربها ﴾ إياها بإهلاكه.
﴿ فيما إن مكناكم فيه ﴾ أي في الذي لم يمكنكم فيه من السعة والبسطة والقوة. ﴿ وحاق بهم ﴾ نزل وأحاط بهم.
﴿ وصرفنا الآيات ﴾ كررناها بأساليب مختلفة﴿ لعلهم يرجعون ﴾ عما هم فيه من الكفر والمعاصي إلى الإيمان والطاعة ؛ فلم يرجعوا.
﴿ فلولا نصرهم ﴾ فهلا منعهم من الهلاك﴿ الذين اتخذوا من دون الله ﴾ أي الآلهة الذين اتخذوهم من دون الله﴿ قربانا ﴾ متقربا بها إلى الله في زعمهم ؛ حيث قالوا : " ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى " ١. وأصله : كل ما يتقرب به إلى الله تعالى من طاعة أو نسيكة ؛ وجمعه قرابين. وهو حال من " آلهة " الواقعة مفعولا ثانيا ل " اتخذوا ". ﴿ وذلك إفكهم ﴾ أي ضلال آلهتهم عنهم، أثر إفكهم وكذبهم الذي هو اتخاذهم آلهة، وزعمهم أنها تقربهم إلى الله تعالى.
١ آية ٣ الزمر..
﴿ وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن... ﴾ أي واذكر لقومك إذ وجهنا إليك جماعة من الجن، وكانوا من جن نصيبين من ديار بكر قرب الشام. أو من جن نينوى قرب الموصل. وكان عليه الصلاة والسلام يصلى بأصحابه صلاة الفجر بنخلة في طريق الطائف، ببينها وبين مكة مسيرة ليلة، ويقرأ سورة العلق – وقيل سورة الرحمان – فاستمعوا للقرآن، ثم عادوا إلى قومهم منذرين. ﴿ فلما قضي ﴾ فرغ من التلاوة. وعن ابن عباس : أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشعر بهم في هذه الواقعة، ولم يقصد إبلاغهم القرآن، وإنما صادف حضورهم وقت قراءته ؛ ويؤيده ظاهر آية " قل أوحى إلي أنه استمع نفر من الجن "، وهم المعنيون في هذه الآية. ولا يعارضه ما روي عن ابن مسعود من ذهابه صلى الله عليه وسلم إلى الجن، وإبلاغهم القرن وإنذارهم به ؛ فإنه في واقعة أخرى. بل دلت الأحاديث على أن وفادة الجن كانت ست مرات، ولتعدد الوقائع اختلفت الروايات في عدد الجن الذين حضروا، وفي المكان والزمان.
والمقصود من ذكر القصة : توبيخ كفار مكة ؛ إذ كفروا بالقرآن وجحدوا أنه من عند الله، وهم أهل اللسان الذي نزل به القرآن، ومع ذلك عجزوا عن معارضته، ومن جنس الرسول الذي جاء به ؛ والجن – وهم ليسوا من أهل لسانه، ولا من جنس الرسول – استمعوه وأنصتوا إليه، وآمنوا به بمجرد سماعه. والنفر -بفتحتين- : ما بين الثلاثة والعشرة، ويطلق على ما فوق العشرة إلى الأربعين.
﴿ أو لم يروا... ﴾ أي ألم يتفكروا ولم يعلموا﴿ أن الله الذي خلق السموات والأرض ﴾ أي
العالمين العلوي والسفلي﴿ ولم يعي بخلقهن ﴾ لم يتعب ولم ينصب به ؛ من عيي بالأمر وعىّ – كفرح – إذا تعب، كأعيا. أو لم يعجز عنه ولم يتحيّر فيه ؛ من عيي بأمره وعىّ : إذا لم يهتد لوجهه، وانقطعت حيلته فيه.
﴿ بلى ﴾ أي هو قادر على إحياء الموتى. ﴿ أليس هذا بالحق ﴾ أي أليس هذا العذاب بالحق ! وقد كنتم تقولون " وما نحن بمعذبين " ١ !.
١ آية ١٣٨ الشعراء.
﴿ أولوا العزم من الرسل ﴾ ذوو الجد والثبات، والصبر على الشدائد والأذى – في القيام بأعباء الرسالة. وأصح الأقوال : أنهم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم. وهم أصحاب الشرائع المذكورون في قوله تعالى : " وإذا أخذنا من النبيين ميثاقهم " ١. وقوله : " شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا " ٢.
﴿ بلاغ ﴾ أي هذا الذي وعظتم به كاف في الوعظ إذا تدبرتم فيه. أو تبليغ من الرسول لكم. أو هذا القرآن تبليغ من الله لكم على لسان رسوله. والله أعلم.
١ آية ٧ الأحزاب..
٢ آية ١٣ الشورى..
Icon