ﰡ
مكّيّة وخمس وثلاثون اية ربّ يسّر وتمّم بالخير بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (٢) مرّ تفسيره فى سورة الجاثية.
ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا خلقا متلبّسا بِالْحَقِّ دليلا على وجود الصانع القديم الحكيم وعلى البعث للمجازاة على ما يقتضيه الحكمة والعدالة وَأَجَلٍ مُسَمًّى اى بتقدير أجل مسمى ينتهى اليه السماوات والأرض اى يوم القيامة وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا اى عن الانذار او عما انذروا به فى القران من عذاب يوم القيامة مُعْرِضُونَ (٣) لا يتفكرون فى جوازه عقلا ووجوبه سمعا بشهادة المعجزات ولا يستعدون لحلوله ويدعون من دون الله الهة بلا دليل.
قُلْ لهم يا محمد أَرَأَيْتُمْ الاستفهام للتقرير اى حمل المخاطب على الإقرار ما تَدْعُونَ اى ما تعبدونه مِنْ دُونِ اللَّهِ أصناما أَرُونِي ماذا خَلَقُوا ما استفهامية فى محل النصب على انه مفعول لخلقوا او فى محل الرفع بمعنى اىّ شىء الذي خلقوه مِنَ الْأَرْضِ بيان لما أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ أم منقطعة اى بل الهم مشاركة مع الله فِي خلق السَّماواتِ الموصول مع صلته مفعول أول لارايتم وجملة أروني الى آخرها مفعول ثان والمعنى أخبروني عن حال الهتكم بعد تأمل هل يتعقل انهم خلقوا شيئا من اجزاء العالم او يتصور منهم ان يكونوا شركاء لله فى الخلق يعنى لا يتصور
وَمَنْ أَضَلُّ عطف على مقولة القول يعنى لا أحد أضل مِمَّنْ يَدْعُوا اى يعبد ويطلب حاجاته مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إذا دعاه لو سمع دعاءهم فرضا ان يعلم سرائرهم ويراعى مصالحهم إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ اى ما دامت الدنيا وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ (٥) لانها اما جمادات لا يسمع ولا يعقل واما عباد مسخرون مشتغلون بأحوالهم كعيسى وعزير والملائكة.
وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ يوم القيامة عطف على لا يستجيب كانُوا اى كانت المعبودون لَهُمْ أَعْداءً يضرونهم ولا ينفعونهم وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ (٦) مكذبين قائلين تبرّانا إليك ما كانوا ايّانا يعبدون يعنى ليسوا فى الدارين على منفعة إذ لا ينفعهم فى الدنيا ويضرهم فى الاخرة فلا أضل ممن عبدها وترك عبادة الله السميع البصير الخبير القادر المجيب. وقيل الضمير فى قوله كانوا بعبادتهم كافرين للعابدين القائلين والله ربّنا ما كنّا مشركين.
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ عطف على قوله والّذين كفروا عمّا انذروا معرضون او على يدعوا فى ممّن يدعوا يعنى ومن اضلّ ممن قال للحق هذا سحر مبين إذا تتلى عليه آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ اى لاجله وفى شأنه والمراد به الآيات ووضعه موضع ضميرها ووضع الّذين كفروا موضع ضمير المتلو عليهم للتسجيل عليها بالحق وظهور الصدق وعليهم بالكفر والانهماك فى الضلالة لَمَّا جاءَهُمْ اى فورا حين مجيئها إليهم
أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ محمد من قبل نفسه أم منقطعة استفهام للانكار والتعجيب وإضراب عن قولهم انه سحر الى قولهم انه مفترى قُلْ يا محمد إِنِ افْتَرَيْتُهُ فرضا لكى تتبعونى فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً اى لا تقدرون ان تردوا عنى شيئا من عذاب الله فكيف اجترأ على الله واعرض نفسى للعقاب من غير توقع نفع ولا دفع ضرر من قبلكم هُوَ أَعْلَمُ اى الله اعلم بِما تُفِيضُونَ اى تخوضون فِيهِ من تكذيب آياته والقول بانه سحر او مفترى كَفى بِهِ الباء زائدة والضمير فى محل الرفع على الفاعلية شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ يعنى ان الله يشهد لى بالصدق والبلاغ بخلق المعجزات وعليكم بالكذب والإنكار وهو وعيد بجزاء إفاضتهم وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٨) وعد بالمغفرة والرحمة لمن تاب وأمن واشعار بحلمه عنهم وعدم استعجالهم بالتعذيب مع عظم جرمهم..
قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ اى بديعا مثل نصف ونصيف يعنى لست باول الرسل ادعى ما لم يدعه أحد قبلى بل قد بعث قبلى كثير من الرسل فلم تنكرون نبوتى بعد شهادة المعجزة- او لست اقدر على ما لم يقدر الرسل من قبلى وهو الإتيان بالمقترحات كلها وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ ما اما موصولة منصوبة او استفهامية مرفوعة ولا لتأكيد النفي المشتمل على ما يفعل بي والتقدير ما أدرى ما يفعل بي ولا ما يفعل بكم قيل معناه ما أدرى ما يفعل بي ولا بكم يوم القيامة فلما نزلت هذه الاية فرح المشركون وقالوا واللات والعزى ما أمرنا وامر محمد عند الله الا واحد وما له علينا مزية وفضل ولولا انه ابتدع ما يقول من ذات نفسه لا خبره الذي بعثه بما يفعل به فانزل الله ليغفر لك الله ما تقدّم من ذنبك وما تاخّر فقالت الصحابة هنيئا لك يا نبى الله قد علمنا ما يفعل بك وإذا ما يفعل بنا فانزل الله ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنّات الاية وانزل وبشّر المؤمنين بانّ لهم من الله فضلا كبيرا فبين الله ما يفعل به ربهم قال البغوي وهذا
له وإنكاح الأزواج بلا سوق مهر ويؤذونه ويخوّفونه على ترك الاتباع فمقتضى سياق الاية ان النبي ﷺ أخبرهم بانه لا يطمع منهم ولا يخافهم ويعلم انهم غير قادرين على ما أرادوا بل الخير والشر كلاهما من الله تعالى يحكم ما يشاء ويفعل ما يريد فمعنى الاية ما أدرى ما يفعل بي ولا بكم من النصر والخذلان وانا لا اتبعكم على شىء من التقادير- إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ من القران لا اتركه ابدا قال البيضاوي جواب عن اقتراح الكفار الاخبار عمّا لم يوح اليه من الغيوب او عن استعجال المسلمين ان يتخلصوا من أذى المشركين وبه قال البغوي قال جماعة قوله ما أدرى ما يفعل بي ولا بكم فى الدنيا واما فى الاخرة فقد علم انه فى الجنة ومن كذّبه فهو فى النار ثم اختلفوا فقال ابن عباس لمّا اشتد البلاء باصحاب رسول الله ﷺ راى رسول الله ﷺ فيما يرى النائم وهو بمكة ارض سباخ ونخل رفعت له يهاجر إليها فقال له أصحابه متى تهاجر إليها فسكت فانزل الله هذه الاية ما أدرى ما يفعل بي ولا بكم ءانزل فى مكانى او اخرج وإياكم الى الأرض التي رفعت لى- وقال بعضهم معنى ما أدرى ما يفعل بي ولا بكم اى الى ماذا يصير امرى فى الدنيا اما ان اخرج كما أخرجت الأنبياء من قبلى منهم ابراهيم عليه السلام او اقتل كما قتل بعض الأنبياء من قبلى منهم يحيى عليه السلام وأنتم ايها المصدقون تخرجون معى او تتركون أم ماذا يفعل بكم وما أدرى ما يفعل بكم ايها المكذبون اترمون بالحجارة كما رمى قوم لوط أم يخسف بكم كما خسف بقارون أم
قُلْ أَرَأَيْتُمْ أخبروني ماذا حالكم إِنْ كانَ القران مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ حال بتقدير قد اى وقد كفرتم به ايها المشركون ويجوز ان يكون الواو للعطف على فعل الشرط وكذا الواو فى قوله وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ قال قتادة والضحاك هو عبد الله بن سلام بن الحارث ابو يوسف من ولد يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن ابراهيم عليهم السلام روى البخاري والبيهقي عن انس ومحمد بن إسحاق عن رجل من ال عبد الله بن سلام عنه والامام احمد ويعقوب بن سفيان عن عبد الله بن سلام والبيهقي عن موسى بن عقبة وعن ابن شهاب قال عبد الله بن سلام لمّا سمعت رسول الله ﷺ وعرفت صفته واسمه وهيئته والذي كنا نتوقع له فكنت مسرّا لذلك صامتا عليه حتى قدم رسول الله ﷺ المدينة فلمّا قدم نزل معنا فى بنى عمرو بن عوف فاخبر رجل بقدومه وانا فى رأس نخلة اعمل فيها وعمتى خالدة بنت الحارث تحتى جالسة فلمّا سمعت بقدوم رسول الله ﷺ كبّرت فقالت لو كنت سمعت بموسى بن عمران ما زدتّ قال قلت لها اى عمة هو والله اخر موسى بن عمران وعلى دينه بعث بما بعث به قالت فذاك اذن قال ثم خرجت الى رسول الله ﷺ فلمّا ان رايت وجهه عرفت ان وجهه ليس بوجه كذّاب فكان أول ما سمع من النبي ﷺ قوله يا ايها الناس أطعموا الطعام وأفشوا السلام وصلوا الأرحام وصلوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام. فقال يا محمد انى سائلك عن ثلاث خلال لا يعلمهن
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا عطف على قال الّذين كفروا للحقّ الاية لِلَّذِينَ آمَنُوا منهم اى فى حقهم لَوْ كانَ دين محمد ﷺ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ اخرج ابن جرير عن قتادة قال قال أناس من المشركين نحن أعزّ ونحن خير فلو كان خيرا ما سبقنا اليه فلان وفلان فنزلت هذه الاية واخرج ابن المنذر عن عون بن ابى شداد قال كانت لعمر بن الخطاب امة أسلمت قبله يقال لها زنين فكان عمر يضربها على إسلامها حتى تفتن وكان كفار قريش يقولون لو كان خيرا ما سبقتنا اليه رنين فانزل الله فى شأنها هذه الاية واخرج ابن سعد نحوه عن الضحاك والحسن وقال البغوي بناء على نزول الاية السابقة فى عبد الله بن سلام انه قال الذين كفروا من اليهود للذين أمنوا من اليهود لو كان دين محمد خيرا ما سبقونا اليه يعنى عبد الله بن سلام وأصحابه وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ اى بالقران كما اهتدى به اهل الايمان ظرف لمحذوف مثل ظهر عنادهم او ضلوا وهو معطوف على قوله قال الّذين كفروا وعطف على محذوف تعلق به الظرف قوله فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ (١١) الفاء للسببية فان هذا القول مسبب لظهور عنادهم وضلالهم وهو كقولهم أساطير الاوّلين يعنى أكاذيب الأولين يعنى اختلق هذا اهل الزمان السابق ثم تلقاه منهم محمد-.
أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها حال من المستكن فى اصحاب والعامل فيه معنى الاشارة والجملة فى مقام التعليل لنفى الخوف جَزاءً مصدر لفعل دلّ عليه الكلام اى جوزوا جزاء بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٤) من اكتساب الفضائل العلمية والعملية-.
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ اللام للعهد والمراد به ابو بكر الصديق رضى الله عنه روى عن ابن عباس ان الاية نزلت فى ابى بكر وهو المروي عن على رضى الله قال نزلت فى ابى بكر اسلم أبواه جميعا ولم يجتمع من المهاجرين أبواه فى الإسلام غيره وقال السدىّ
أُولئِكَ ان كان المراد بالإنسان الجنس فالاشارة الى عامة الموصوفين بالصفات المتقدمة ظاهر وان كان المراد به ابو بكر او سعد فالمشار اليه هو ومن كان مثله فى الصفات المذكورة فذكر حكم ابى بكر وسعد فى ضمن العموم على سبيل الكناية وهو ابلغ من الصريح فانه كدعوى الشيء مع بينة وبرهان الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا فان المباح حسن ولا يثاب عليها او هى من قبيل اضافة الصفة الى موصوفها يعنى
وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ إذا دعواه الى الايمان بالله والإقرار الموصول مبتدا خبره أولئك والجملة مستأنفة اخرى لبيان حكم من خالف المذكورين أُفٍّ لَكُما وهى كلمة كراهية قرأ نافع وحفص «وابو جعفر- ابو محمد» بالتنوين وكسر الفاء وقرأ ابن كثير وابن عامر «ويعقوب- ابو محمد» بفتح الفاء بغير تنوين والباقون بكسر الفاء بغير تنوين أَتَعِدانِنِي قرأ هشام بنون واحدة مشددة والباقون بنونين مكسورتين وقرأ نافع وابن كثير «ابو جعفر- ابو محمد» بفتح الياء والباقون بإسكانها والاستفهام للانكار والتوبيخ فى مقام التعليل للتأنيف أَنْ أُخْرَجَ من قبرى حيّا بعد الموت وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي الجملة حال من فاعل اخرج وهاهنا جملة محذوفة معطوفة على هذه الجملة تقديره ولم يخرج أحد منهم وَهُما اى أبواه يَسْتَغِيثانِ اللَّهَ اى يقولان الغياث بالله منك او يسئلانه تعالى ان يغيثه بالتوفيق للايمان الجملة حال من والديه وَيْلَكَ مصدر لفعل محذوف اى هلكت هلاكات والجملة مقدرة بالقول اى ويقولان له ويلك آمِنْ بالله وبالبعث بعد الموت إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ بالبعث حَقٌّ هذه الجملة فى مقام التعليل للامر بالايمان فَيَقُولُ ذلك الولد الكافر لوالديه ما هذا الوعد إِلَّا أَساطِيرُ اى أكاذيب الْأَوَّلِينَ (١٧)
قال البغوي وأنكرت عائشة ان يكون هذا فى عبد الرحمان بن ابى بكر وقالت انما نزلت فى فلان سمت رجلا- وقال الحافظ ابن حجر ونفى عائشة أصح اسنادا واولى بالقبول وقال البغوي والصحيح انها نزلت فى كافر عاق لوالديه المسلمين كذا قال الحسن وقتادة وقال الزجاج قول من قال نزلت فى عبد الرحمان بن ابى بكر قبل إسلامه يبطله قوله تعالى.
أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ اى وجب وثبت عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ بانهم اهل النار فان عبد الرحمان كان من أفاضل المسلمين فِي أُمَمٍ اى مع امم كافرة قَدْ خَلَتْ اى مضت مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ بيان لامم وجملة قد خلت صفة لامم وفى امم متعلق بحقّ وهو صلة للموصول والموصول خبر لاسم الاشارة والجملة خبر لقوله والّذى قال لوالديه إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (١٨) تذييل..
وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا اى من جزاء ما عملوا من الخير او من أجل
وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ اى يعذبون بها أصله يعرض النار عليهم فقلب مبالغة كقولهم عرضت الناقة على الحوض أَذْهَبْتُمْ مقدر بالقول اى يقال لهم أذهبتم وهو ناصب اليوم قرأ ابن كثير وابن عامر وابو جعفر ويعقوبء أذهبتم بالاستفهام فقرأ ابن ذكوان وروح- ابو محمد بهمزتين محققتين بغير مد وابن كثير وابو جعفر ويعقوب «اى رويس» وهشام «ابو محمد بخلاف عنه ابو محمد» بهمزة ومد «اى همزة سهلة ابو محمد» وهشام أطول مدا على «وابو جعفر- ابو محمد» أصله وابن كثير «ورويس- ابو محمد» يسهل الثانية على أصله «اى بغير إدخال- ابو محمد» والباقون بهمزة واحدة على الخبر قال البغوي كلاهما فصيحتان لان العرب تستفهم للتوبيخ وتترك الاستفهام طَيِّباتِكُمْ ولذائذكم فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا باستيفاء ما كتب لكم حظّا منها فى الدنيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها فما بقي لكم منها شىء فَالْيَوْمَ الفاء للسببية عطف على استمتعتم تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ اى العذاب الذي فيه ذل وهوان بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (٢٠) اى بسبب الاستكبار الباطل والفسوق عن طاعة الله.
قال البغوي وبّخ الله الكافرين بالتمتع فى الدنيا فاثر النبي ﷺ وأصحابه الصالحون اجتناب اللذات ل الدنيا رجاء لثواب الاخرة روى الشيخان
معلقا فى يدىّ فقال ما هذا يا جابر قلت اشتهيت لحما فاشتريته فقال عمر فكلما اشتهيت يا جابر اشتريت اما تخاف هذه الاية أذهبتم طيّباتكم فى حياتكم الدّنيا- وقد روى القصة من حديث ابن عمر- وفى رواية من حديث جابر اما يجد أحدكم ان يطوى بطنه لجاره وابن عمه- وروى رزين عن زيد بن اسلم قال استسقى يوما عمر فجئ بماء قد شيب بعسل فقال انه طيب لكنى اسمع الله عزّ وجلّ نفى على قومه شهواتهم فقال أذهبتم طيّباتكم فى حياتكم الدّنيا واستمتعتم بها
وَاذْكُرْ أَخا عادٍ يعنى هود عليه السلام إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ عادا إذ مع ما أضيف اليه بدل اشتمال من أخا عاد اى اذكر وقت إنذاره بِالْأَحْقافِ اى فى الأحقاف قال ابن عباس الأحقاف بين عمان ومهرة وقال مقاتل منازل عاد كان باليمن فى حضرموت بموضع يقال لها مهرة تنسب إليها الإبل المهرية وكانوا اهل عهد سيارة فى الربيع فاذا هاج العود رجعوا الى منازلهم وكانوا من قبيلة ارم قال قتادة ذكر لنا ان عادا كانوا حيّا باليمن كانوا اهل رمل مشرفين على البحر بأرض يقال له يشجر
قالُوا أَجِئْتَنا استفهام تقرير لِتَأْفِكَنا اى لتصرفنا عَنْ آلِهَتِنا اى عن عبادتها فَأْتِنا بِما تَعِدُنا من العذاب على الشرك إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٢) فى وعيدك شرط مستغن عن الجزاء بما مضى.
قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ لوقت عذابكم عِنْدَ اللَّهِ اى يأتيكم فى وقت مقدر له من المستقبل ولا يستلزم عدم وقوع العذاب الان كونى كاذبا ولا مدخل لى فيه فاستعجلوا وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إليكم من التوحيد والاحكام والأحبار بنزول العذاب ان لم تؤمنوا وَلكِنِّي قرأ نافع وابو عمرو «وابو جعفر- ابو محمد» والبزي بفتح الياء والباقون بإسكانها أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (٢٣) لا تعلمون ان الله هو العليم القدير والرسل انما بعثوا منذرين مبلغين لا معذبين ولا مقترحين..
فَلَمَّا رَأَوْهُ الضمير عائد الى ما تعدنا وهو العذاب او مبهم تفسيره عارِضاً اى على هيئة سحاب يعرض اى يبدو فى عرض السماء مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ وقد كانوا قد حبس عنهم المطر قبل ذلك سنتين (وقد مرّ قصتهم فى سورة الأعراف وغيرها) استبشروا بها وقالُوا هذا الذي نراه عارِضٌ سحاب عرض مُمْطِرُنا اى يأتينا بالمطر قال الله تعالى او قال هود ليس هذا سحابا ممطرا كما زعمتم بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ من العذاب رِيحٌ
تُدَمِّرُ اى تهلك كُلَّ شَيْءٍ مرت به من أنفسهم وأموالهم بِأَمْرِ رَبِّها اى رب الريح فجاءت الريح الشديد تحمل الفسطاط وتحمل الظعينة حتى ترى كانها جرادة وأول ما عرفوا انها عذاب إذا راوا ما كان خارجا من ديارهم من رجال عاد وأموالهم تطير بهم الريح بين السماء والأرض فدخلوا بيوتهم وأغلقوا أبوابهم فجاءت الريح فغلقت أبوابهم وصرعتهم وامر الله الريح فامالت عليهم الرمال وكانوا تحت الرمل سبع ليال وثمانية ايام ثم امر الله الريح فكشفت عنهم الرمال فاحتملتهم فرمت بهم فى البحر فَأَصْبَحُوا لا يُرى عطف على قال الله او قال هود المحذوف قرأ عاصم وحمزة ويعقوب «وخلف- ابو محمد» بضم الياء للغيبة على البناء للمفعول إِلَّا مَساكِنُهُمْ بالضم عندهم على انه مفعول ما لم يسم فاعله والباقون بالتاء للخطاب يعنى لا ترى يا محمد او يا مخاطب مطلقا ومساكنهم عندهم بالنصب على المفعولية كَذلِكَ اى جزاء مثل جزائهم نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (٢٥) روى ان هودا عليه السلام لما أحس بالريح اعتزل بالمؤمنين فى الخطير- عن عائشة قالت ما رايت رسول الله ﷺ مستجمعا ضاحكا حتى ارى منه لهواته انما كان يتبسم وكان إذا راى غيما او ريحا عرف ذلك فى وجهه متفق عليه وفى رواية عند البغوي فقلت يا رسول الله ان الناس إذا راوا الغيم فرحوا رجاء ان يكون فيها المطر وإذا رايته عرف فى وجهك الكراهية فقال يا عائشة ما يؤمننى ان يكون فيه عذاب قد عذب قوم بالريح وقد راى قوم العذاب فقالوا هذا عارض مّمطرنا- وعنها قالت كان النبي ﷺ إذا عصت الريح قال اللهم انى أسئلك خيرها وخير ما فيها وخير ما أرسلت به وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها وشر ما أرسلت به وإذا تخيلت السماء تغير لونه وخرج ودخل واقبل وأدبر فاذا أمطرت سرى عنه فعرفت ذلك عائشة فسالته فقال لعله يا عائشة كما قال عاد فلمّا راوه عارضا مّستقبل أوديتهم
وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ يعنى عادا فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ من القوة والمال ما موصولة او موصوفة وان نافية وهى احسن هاهنا من ما لئلا يلزم التكرار لفظا اى فى الذي او فى شىء مكّنّاكم فيه- او شرطية والجواب محذوف والتقدير ولقد مكّنّاهم فى الّذى او فى شىء ان مكّنّاكم فيه كان بغيكم اكثر او زائدة يعنى مكّنّاهم فيما مكّنّاكم فيه والاول اظهر لقوله تعالى احسن أثاثا وكانوا اكثر منهم وأشدّ قوّة واثارا وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً بمعنى اسماعا وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً قلوبا ليعرفوا تلك النعم ويستدلوا بها على ما نحها ويواظبوا على شكرها فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ من زائدة يعنى لم ينفعهم شىء منها شيئا من النفع إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ ظرف جرى مجرى التعليل من حيث ان الحكم مرتب على ما أضيف اليه فهو علة لما اغنى وَحاقَ اى نزل بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٢٦) من العذاب.
وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ يا اهل مكة مِنَ الْقُرى كحجر ثمود وارض سدوم قرى قوم لوط والمراد أهلها وَصَرَّفْنَا الْآياتِ اى كررنا الحجج والبينات لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢٧) اى لكى يرجعوا يعنى اهل مكة عن كفرهم تعليل للصرف وفيه التفات من الخطاب الى الغيبة.
فَلَوْلا نَصَرَهُمُ فهلا منعهم من عذاب الله الَّذِينَ اتَّخَذُوا اى الذين اتخذوهم مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْباناً آلِهَةً اى الهة يتقربون بها الى الله حيث قالوا هؤلاء شفعاؤنا عند الله
وَإِذْ صَرَفْنا اى أهلنا إِلَيْكَ هذه الجملة الى آخرها معترضة لتسلّية النبي ﷺ نَفَراً وهى جماعة دون العشرة وجمعه انفار مِنَ الْجِنِّ قال ابن عباس كانوا سبعة من جن نصيبين فيجعلهم رسول الله ﷺ رسلا الى قومهم وقال الآخرون كانوا تسعة قال البغوي روى عاصم عن زر بن حبيش ان رذبعة من التسعة الذين استمعوا القران يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ حال من نفر فَلَمَّا حَضَرُوهُ اى القران او الرسول قالُوا أَنْصِتُوا قال بعضهم لبعض اسكتوا نسمعه فَلَمَّا قُضِيَ اى أتم وفرغ من قراءته وَلَّوْا انصرفوا إِلى قَوْمِهِمْ من الجن مُنْذِرِينَ (٢٩) مخوّفين داعين بامر رسول الله ﷺ وقد ذكرنا القصة بوجوهها فى سورة الجن لما سبق منى تفسيرها.
قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى قال عطاء كان دينهم اليهودية قلت لعل معنى قولهم انزل من بعد موسى ناسخا للتورية بخلاف الإنجيل والزبور فانهما لم يكونا ناسخين لكثير من احكام التورية حيث قال الله تعالى فى عيسى عليه السلام ويعلّمه الكتاب والحكمة والتّورية والإنجيل وقال حكاية عنه ولاحلّ لكم بعض الّذى حرّم عليكم مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ من التورية والإنجيل وغيرهما
يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ محمدا ﷺ الى الإسلام وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ ما كان حقا لله بخلاف المظالم فانها لا يغفر بالايمان وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (٣١) فاستجاب لهم من قومهم نحو سبعين رجلا من الجن فرجعوا الى رسول الله ﷺ فوافقوه فى البطحاء فقرأ عليهم القران فامرهم ونهاهم وفيه دليل على انه ﷺ كان مبعوثا الى الجن والانس جميعا وقد ذكرنا اختلاف العلماء فى حكم مؤمن الجن فى سورة الجن.
وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ اى لا يعجز الله فيفوته إذا أراد الله تعذيبه وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ يمنعونه من عذاب الله هذه الجملة حال من فاعل ليس بمعجز والجملة الشرطية اعنى من لا يجب داعى الله إلخ معترضة أُولئِكَ اى الذين لم يجيبوا داعى الله فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٣٢) فان الهداية منحصرة فى اتباع الرسول.
أَوَلَمْ يَرَوْا الاستفهام للانكار والواو للعطف على محذوف تقديره أينكرون هؤلاء الكفار عن البعث بعد الموت ولم يروا اى لم يعتقدوا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ اى لم يتعب ولم يعجز بِخَلْقِهِنَّ فان قدرته ذاتية لا ينقص ولا ينقطع بالإيجاد ابد الآبدين بِقادِرٍ الباء زائدة واسم الفاعل فى محل النصب على انه مفعول ثان ووجه دخول الباء على خبر انّ المفتوحة انّ انّ مع جملتها قائم مقام مفعولى يروا والنفي فى افعال القلوب يتوجه الى المفعول الثاني. هذا قراءة الجمهور وفى قراءة ابن مسعود قادرا بغير الباء وقرأ يعقوب يقدر بصيغة الفعل المضارع عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٣) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ منصوب بقول مضمر تقديره يقال لهم أَلَيْسَ هذا اشارة
فَاصْبِرْ يا محمد على أذى الكفار الفاء للسببية يعنى إذا علمت انهم يذوقون عذاب النار فاصبر ولا تهتم للانتقام كَما صَبَرَ اى صبرا مثل صبر أُولُوا الْعَزْمِ اى اولى الصبر والثبات والجد مِنَ الرُّسُلِ قبلك فانك من جملتهم واختلفوا فيهم قال ابن زيد كل رسول كان صاحب عزم فان الله لم يبعث نبيّا الا كان ذا عزم وحزم ورأى وكمال عقل ومن للتبيين- وقال بعضهم الأنبياء كلهم أولوا عزم الا يونس بن متى لعجلة كانت منه الا ترى انه قيل للنبى ﷺ ولا تكن كصاحب الحوت وقيل الا يونس والا آدم لقوله تعالى ولم نجد له عزما وقال قوم هم نجباء الرسل المذكورون فى سورة الانعام وهم ثمانية عشر ابراهيم وإسحاق ويعقوب ونوح وداود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وزكريا ويحيى وعيسى والياس وإسماعيل واليسع.
ويونس ولوطا قال الله تعالى بعد ذكرهم أولئك الّذين هدى الله فبهديهم اقتده وقال الكلبي هم الذين أمروا بالجهاد وأظهروا المكاشفة مع اعداء الله وقيل هم ستة نوح وهود وصالح ولوط وشعيب وموسى وهم المذكورون على النسق فى سورة الأعراف والشعراء وقال مقاتل هم ستة نوح صبر على أذى قومه وابراهيم صبر على النار وإسحاق صبر على الذبح ويعقوب صبر على فقد ولده وذهاب بصره ويوسف صبر فى البئر والسجن وأيوب صبر على الضرّ وقال ابن عباس
روى البغوي عن مسروق قال قالت لى عائشة قال لى رسول الله ﷺ يا عائشة ان الدنيا لا ينبغى لمحمد ولا لال محمد يا عائشة ان الله لم يرض من اولى العزم الا الصبر على مكروهها والصبر على محبوبها ولم يرض الا ان كلفنى ما كلفهم وقال فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرّسل وانى والله ما بدلى من طاعته وانى والله لاصبرنّ كما صبروا واجهدنّ كما جهدوا ولا قوة الا بالله ( «١» ) عن ابن مسعود قال كانى انظر الى رسول الله ﷺ يحكى نبيّا من الأنبياء ضربه قومه فادموه وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول اللهم اغفر لقومى فانهم لا يعلمون- متفق عليه وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ اى لا تدع على كفار قريش بنزول العذاب عليهم فانه نازل بهم فى وقته لا محالة- كانه ضجر وضاق قلبه بكثرة مخالفات قومه فاحب ان ينزل العذاب بمن ابى منهم فامر بالصبر وترك الاستعجال ثم اخبر عن قرب العذاب فقال كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ من العذاب فى الاخرة لَمْ يَلْبَثُوا فى الدنيا زمانا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ استقصروا من هوله مدة لبثهم فى الدنيا حتى يحسبونها ساعة ولان ما مضى وان كان طويلا فهو إذا انقضى صار كان لم يكن وجملة كانّهم واقع موقع التعليل لعدم الاستعجال