ﰡ
يشاركه فيهما أحد، لأنهما من صفاته اللازمة المختصة به وهذا، والله أعلم، وأستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
تفسير سورة الأحقاف عدد ١٦- ٦٦- ٤٦
نزلت بمكة بعد الجاثية، عدا الآيات ١٠، ١٥، ٣٥ فإنها نزلت بالمدينة، وهي خمس وثلاثون آية، وستمئة وأربع وأربعون كلمة، وألفان وخمسمائة وخمسة وتسعون حرفا.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قال تعالى: «حم» ١ تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ» ٢ تقدم تفسيرها بنظيراتها التي قبلها حرفيا «ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ» الذي تقتضيه الحكمة الكونية والتشريعية وهذا الاستثناء مفرغا من أعم الأحوال من فاعل خلقنا أو مفعوله، أي ما خلقناهما في حال من الأحوال إلا حالا ملابسا بالحق، وفيه دلالة على وجود الصانع وصفات كماله وابتغاء أفعاله على حكم بالغة عظيمة وانتهائها إلى غايات جليلة بالغة، وكل ذلك يؤجل إلى قدر مقدر في اللوح المحفوظ لا يتبدل ولا يتغير، ولا يقدم ولا يؤخر، يدلك عليه قوله عز قوله «وَأَجَلٍ مُسَمًّى» ينتهي إليه فناؤهما، وهو معلوم لديه وحده، لأن علمه مما اختص به نفسه المقدسة. قال تعالى «وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا» به في هذا القرآن من بعث وحساب وغيره «مُعْرِضُونَ» ٣ عنه لا يلتفتون إليه والواو للحال أي والحال أنهم في إعراض عريض عنه، فيا سيد الرسل «قُلْ» لهؤلاء المعرضين «أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ» أخبروني عنها وكيف تعبدونها وهي أوثانا جامدة لا حقيقة لها «أَرُونِي» ماهيتها و «ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ» حتى تستحق العبادة «أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِيحتى عدلتموها بخالقها كلا «ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا» القرآن جاء فيه ما تقولونه، وهو ليس فيه شيء من ذلك «أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ» وبقية منه يؤثر عن الغير، ومن هنا سميت الأحاديث أخبارا، أي أروني مطلق علم من العلوم السالفة «إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» ٤ في زعمكم هذا بأنها أهل للعبادة فإذا لم يكن عندكم شيء من ذلك فأنتم إذا ظالمون.
مطلب عدم سماع دعاء الكفرة من قبل أوثانهم وتفتيده وتبرؤ الرسول صلّى الله عليه وسلم من علم الغيب وإسلام عبد الله بن سلام:
«وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ» دعاءه ولو ظل دائبا يدعوها ليل نهار «إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ» لا تجيبه لأنها جماد لا تبصر ولا تسمع ولا تفهم باللفظ ولا بالإشارة «وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ» ٥ لأنهم لا يدرون بهم. هذا إذا كانوا أصناما أو كواكب، أما إذا كانوا من ذوي العقول فإن كانوا من المقربين المقبولين عند الله كعيسى والمسيح وعزير والملائكة فلاشتغالهم عنهم بما هو خير، أو كونه بمحل ليس من شأنه الذي فيه أن يسمع دعاء الداعي، لأن الله تعالى يصون سمعهم عن سماع دعائه، لأن ما لا يرضاه الله يؤلمهم سماعه، وإن كان لا يضره لأنه لم يأمر به ولم يرده، ويتنزه الله تعالى عن مثله، وإن كان من أعداء الله كشياطين الجن والإنس الذين عبدوا من دون الله فإن كان ميتا فلاشتغاله بما هو فيه من الشر لو فرض سماعه، والميت ليس من شأنه السماع ولما يتحقق منه السماع إلا معجزة كسماع أهل القليب لقوله صلّى الله عليه وسلم ما أنتم بأسمع منهم وما جاء في السلام على الأموات وأنهم يردون السلام فذلك من قبل أرواحهم الخالية عن أجسادهم، لأن الأرواح كلها خالدة المنعم منها والمعذب، وهؤلاء المتخذين للعبادة ليسوا بأولئك، وإن كان حيا فإن كان بعيدا عنه فالأمر ظاهر بعدم السماع وإن كان قريبا سليم الحاسة فلا فائدة من إجابته، إذ لا يقدر على إجابة طلبه.
قال تعالى «وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ» العابدون والمعبودون «كانُوا» أي المعبودون «لَهُمْ» لعابديهم «أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ» ٦ جاحدين لها منكريها يقولون كما أخبر الله عنهم (تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ) الآية ٦٣ من سورة
ولم يفضل ولي قط دهرا | نبيا أو رسولا بانتحال |
هذا، قالوا لما نزلت هذه الآية فرح المشركون وقالوا واللات والعزّى ما أمرنا وأمر محمد عند الله إلا واحدا، ولولا أنه ابتدع ما يقوله من ذاته لأخبره الذي بعثه ما يفعل، وقال الكلبي: لما ضجر أصحاب محمد من أذى المشركين قالوا له حتى متى تكون على هذه الحالة فقال ما أدري ما يفعل بي ولا بكم، وهل أترك في مكة أم أومر بالخروج إلى أرض رفعت لي بالمنام ذات نخيل وشجر.
وما أخرجه أبو داود في ناسخه من أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى في سورة الفتح ج ٣ (لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) وأن الأصحاب قالوا له هنيئا لك يا نبي الله، قد علمنا ما يفعل بك، فماذا يفعل بنا؟ فأنزل الله الآية ٤٨ من الأحزاب ج ٣ وهي (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيراً) وقوله تعالى (لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) الآية ٥ من سورة الفتح ج ٣، لا يصح لأن هذه خبر من الأخبار لا يدخلها النسخ وهي محكمة.
وهذه الآية المدنية الأولى من هذه السورة، قال تعالى «قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ» هذا القرآن الذي أتلوه عليكم منزل «مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ» أيها اليهود «وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ» في المعنى يعني التوراة والإنجيل
وأخرج البخاري في صحيحه عن أنس بن مالك قال: بلغ عبد الله بن سلام مقدم النبي صلّى الله عليه وسلم المدينة، وهو في أرض يخترق النخيل، فأتاه وقال إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي، ما أول أشراط الساعة، وما أول طعام يأكله أهل الجنة، ومن أي ينزع الولد إلى أبيه، ومن أي شيء ينزع الولد إلى أخواله؟ فقال صلّى الله عليه وسلم أخبرني بهن آنفا جبريل، أما أول أشراط الساعة فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب، وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيارة كبد الحوت، وأما الشّبه في الولد فإن الرجل إذا غشي المرأة فسبقها ماؤه كان الشبه له، وإذا سبقت كان الشبه لها، قال أشهد أنك رسول الله. ثم قال يا رسول الله إن اليهود قوم بهت، إن علموا بإسلامي قبل أن تسألهم عني بهتوني عندك فجاءت اليهود ودخل عبد الله ابن سلام البيت، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم أي رجل فيكم عبد الله بن سلام؟ فقالوا أعلمنا وابن أعلمنا وخيرنا وابن خيرنا، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم أفرأيتم إن أسلم عبد الله، قالوا أعاذه الله من ذلك، زاد في رواية، فأعاد عليهم، فقالوا مثل ذلك، قال فخرج عبد الله إليهم، فقال أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله، فقالوا شرنا وابن شرنا، ووقعوا فيه، زاد في رواية، فقال عبد الله بن سلام هذا الذي كنت أخافه يا رسول الله أن يصموني به وأنا براء مما يقولون، ولكن الشريف يخاف أن يلصق به ما يعيبه، وبهذا ثبت كذب اليهود وبهتهم.
قالوا وكان اسمه الحصين، فلما أسلم سماه رسول الله عبد الله، وفي كتب اليهود أن الحصين هذا رأى النبي صلّى الله عليه وسلم حينما قدم بصرى وصار يتردد إليه ويعلمه التوراة، حتى انهم نسبوا تأليف القرآن إليه لعنهم الله وأخزاهم ما أبهتهم، لأن هذا لم يصل
قال تعالى «وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا» من أهل مكة «لِلَّذِينَ آمَنُوا» منهم بمحمد صلّى الله عليه وسلم «لَوْ كانَ» ما جاء به محمد «خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ» هؤلاء المؤمنون به بادئ الرأي لفقرهم ومهانتهم عندنا يعنون عمارا وصهيبا وابن مسعود وأمثالهم من فقراء المسلمين، ويسكتون عن أبي بكر وأصحابه الذين آمنوا قبل هؤلاء «وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ» هؤلاء الكفرة «فَسَيَقُولُونَ» عنادا وجحودا «هذا» الذي جاء به محمد وآمن به هو وأولئك «إِفْكٌ قَدِيمٌ» ١١ كان يقوله مثله من قبله لقومه ليس بقرآن. قال
إذا المرء في الأربعين ولم يكن | له دون ما يهوى حياء ولا ستر |
فدعه ولا تنفس عليه الذي مضى | وإن جرّ أسباب الحياة له العمر |
وماذا يبتغي الشعراء مني | وقد جاوزت سنّ الأربعين |
أبعد شيي أبتغي الأدبا | وكنت قبلا فتى مهذبا |
أخرج ابن عساكر من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهم أنها نزلت في أبى بكر الصديق رضي الله عنه، وقال علي كرم الله وجهه إنها نزلت في أبي بكر حيث أسلم أبواه جميعا، ولم يجتمع لأحد من المهاجرين أنه أسلم أبواه غيره وأوصاه الله بهما، ولزمت هذه الوصية من بعده، وفي قوله كرم الله وجهه (مِنَ الْمُهاجِرِينَ) دليل على مدنية هذه الآية، إذ لم تطلق هذه الكلمة على أحد قبل الهجرة. قال ابن عباس وقد أجاب الله دعاءه فأعتق تسعة من المؤمنين كانوا يعذبون في الله منهم بلال، ولم يرد شيئا من الخير إلا أعانه الله عليه ووفقه لفعله. وقد أجاب دعاءه بإسلام أهله أيضا فاجتمع له أبواه أبو قحافة عثمان بن عمرو، وأمه أم الخير بنت صخر بن عمرو، وابنه عبد الرحمن، وحفيده أبو عتيق، وكلهم مسلمون. ولم يجتمع لأحد من الصحابة مثل هذا، وقد صحب رضي الله عنه محمدا صلّى الله عليه وسلم وهو ابن ثماني عشرة والنبي ابن عشرين سنة في تجارة إلى الشام، فنزلوا منزلا فيه سدرة، فقعد صلّى الله عليه وسلم في ظلها ومضى أبو بكر إلى راهب هناك يسأله عن الدين، فقال له الراهب من الرجل الذي في ظل السدرة؟ فقال محمد بن عبد الله ابن عبد المطلب نسبة لجده ليعلمه مقامه وقدره لأن عبد المطلب مشهور في مكة وغيرها، وكان يلقب بقاضي العرب وخطيب الحرم ليحترمه، فقال الراهب هذا والله نبي، وما استظل تحتها بعد عيسى أحد إلا هذا، وهو نبي آخر الزمان، فوقع في قلب أبي بكر اليقين والتصديق، فكان لا يفارقه في سفر ولا في حضر، وبعد أن شرفه الله بالنبوة آمن به، وهو ابن ثمان وثلاثين سنة ودعا ربه بما حكاه الله عنه في هذه الآية. وما قيل إنها نزلت في سعد بن أبي وقاص لم يثبت، وهو أهل لأن ينزل به قرآن لأنه من العشرة المبشرين بالجنة، ومن رءوس المهاجرين الأخيار وأحبهم إلى النبي المختار، والآية بلفظها عامة يدخل فيها كل من هذا شأنه ويدخل فيها أبو بكر وسعد وأمثالهما من الصحابة دخولا أوليا، وعلى القول بأنها خاصة بالصديق فيكون لفظ الإنسان بالآية من العام المخصوص، لأن لفظ الإنسان
كان مروان على الحجاز استعمله معاوية فخطب فجعل يذكر يزيد بن معاوية لكي يبايع له، فقال له عبد الرحمن بن ابي بكر رضي الله عنهما شيئا، فقال لشرطته خذوه، فدخل بيت عائشة، فلم يقدروا عليه، فقال مروان هذا الذي أنزل الله فيه (وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ) فقالت عائشة رضي الله عنها وعن أبيها من وراء الحجاب ما أنزل الله فينا شيئا من القرآن (تريد مما هو يفيد الذم) إلا ما أنزل الله في سورة النور من براءتي. ومما يؤيد قول عائشة وينفي قول مروان عليه ما يستحق من الملك الديان قوله تعالى «أُولئِكَ» العاقون الكافرون هم «الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ
بالعذاب المقدر أزلا «فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ» ١٨ الآخرة كما خسروا الدنيا، وعبد الرحمن رضي الله عنه وعن والديه من أفاضل المؤمنين فلا يتصور دخوله في هذه الآية البتة، وإسلام أبويه قبله لا يقتضي نزول هذه الآية فيه، لأن إسلامه جب ما قبله فضلا عن أنه من أبطال المؤمنين، وله مواقف مشهورة يوم اليمامة وغيره، لهذا فلا يعقل نزول هذه الآية فيه، بل هي عامة في كل مؤمنين دعيا أولادهما للإيمان، قال تعالى «وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا» بحسب برهم وكمال إيمانهم، وللكافرين الدركات بمقتضى عقوقهم وعصيانهم، وفيه تغليب الدرجات على الدركات «وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ» يوم القيامة «وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ» ١٩ فيها فلا يزاد على سيئات المسيء ولا ينقص من حسنات المحسن.
مطلب فى قوله (أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ) الدنيا وكيفية إهلاك قوم عاد:
«وَ» اذكر لقومك يا محمد «يَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ» فيقال لهم على رءوس الأشهاد «أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها» فلم يبق لكم في الآخرة ما تكافأون عليه لأنكم استوفيتم حظكم في الدنيا «فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ» الذي فيه الذل والصغار والخزي والهوان «بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ» بطرا، والكبرياء من خصائص الإله فلا يحق لكم أن تتصفوا به بسبب ما خولكم من نعمه من مال وولد ورئاسة بل عليكم أن تشكروا نعمه وتتواضعوا لجلاله ليزيدكم «وَ» يجازيكم أيضا «بِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ» ٢٠ تخرجون عن طاعته وتتجاوزون حدوده وتقعون في حماه، وقد وصف الله تعالى هذا الصنف بالاستكبار وهو من عمل القلب، والفسق وهو من عمل الجوارح، وجعل عذابهم بالذل والهوان بمقابلة ذلك.
روى البخاري ومسلم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: دخلت على رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فإذا هو متكىء على رمال حصير قد أثر في جنبه، فقلت أستأنس يا رسول الله؟ قال نعم، فجلست فرفعت رأسي في البيت فو الله ما رأيت شيئا يرد البصر إلا أهبّة ثلاث، فقلت أدع الله أن يوسع على أمتك فقد وسع على فارس
أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا، فقلت استغفر لي يا رسول الله.
طلب المغفرة رضي الله عنه إذ فهم من كلام صاحبه صلّى الله عليه وسلم أن طلبه ذلك مما لا ينبغي أن يقع من مثله وظن أنه أخطأ باقتراحه ذلك، غفر الله له ورضي عنه يخاف من مثل هذا وهو مبشر بالجنة، فكيف بنا أيها الناس؟ نسألك اللهم العفو والعافية والرضاء، ولنذكر نبذة مما كان عليه حضرة الرسول لعلنا نتعظ ونقنع بما عندنا رزقنا الله القناعة بالدنيا والشفاعة بالآخرة. روى البخاري ومسلم عن عائشة قالت:
ما شبع آل محمد من خبز شعير يومين متتابعين حتى قبض رسول الله صلّى الله عليه وسلم.
ورويا عنها قالت: كان يأتي علينا الشهر ما نوقد فيه نارا إنما هو (غذاؤنا) الأسودان التمر والماء إلا أن نؤتى باللحم، أي من قبل الغير. وروى البخاري عن أبي هريرة قال:
لقد رأيت سبعين من أصحاب الصفة ما منهم رجل عليه رداء إما إزار أو كساء قد ربطوا في أعناقهم، فمنها ما يبلغ نصف الساقين، ومنها ما يبلغ الكعبين، فيجمعه بيده كراهية أن ترى عورته. وروى البخاري عن ابراهيم بن عبد الرحمن أن عبد الرحمن بن عوف أتي بطعام وكان صائما فقال: قتل مصعب بن عمير وهو خير مني، فكفن في برده إن غطي رأسه بدت رجلاه، وإن غطي رجلاه بدا رأسه، قال وأراه قال قتل حمزة وهو خير مني فلم يوجد ما يكفن به إلا برده، ثم بسط لنا من الدنيا ما بسط، وقد خشيت أن تكون عجّلت لنا طيباتنا في حياتنا الدنيا، ثم جعل يبكي حتى ترك الطعام. وأخرج الترمذي عن ابن عباس قال:
كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يبيت الليالي المتتابعة طاويا وأهله لا يجدون عشاء، وكان أكثر خبزهم خبز الشعير. وقال جابر بن عبد الله: رأى عمر بن الخطاب لحما معلقا في يدي، فقال ما هذا يا جابر. فقلت اشتهيت لحما فاشتريته، فقال أو كلما اشتهيت يا جابر اشتريت أما تخاف هذه الآية (أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ) إلخ. وجاء رجل إلى عمر فرآه يأكل في قصعة وآخرين يأكلون في قصعة أخرى، فجلس معه بزعمه أن الذي أمامه أحسن فإذا هي عظام وعصب فقال ما هذا يا أمير المؤمنين؟ قال فما تظن، إنا إذا ذبحنا الجزور بعثنا بمطايبها إلى آل محمد صلّى الله عليه وسلم، والذي يليه إلى
ولهذا ذكرهم الله بقوله «وَاذْكُرْ» يا محمد لقومك الكافرين «أَخا عادٍ» هودا عليه السلام «إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ» جمع حقف رمل مستطيل فيه اعوجاج وانحناء يقال احقوقف الشيء أي أعوج أو كثيب الرمل المعوج، وقال ابن عباس هو واد بين عمان ومهرة، فيه ذلك الكثيب المنكسر وإلا فاللغة لا تسمي الوادي حقفا وإنما ذكرهم بهم لأنهم كانوا أكثر منهم أموالا وأولادا وقوة وجاها وقد سلط الله عليهم العذاب بكفرهم ليتعظوا بمن قبلهم لئلا يصيبهم ما أصابهم «وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ» جمع نذير بمعنى الرسل «مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ» أي قبل نبيهم وبعده قال لهم «أَلَّا تَعْبُدُوا» أحدا ولا شيئا «إِلَّا اللَّهَ» وحده المستحق للعبادة «إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ» إن عبدتم غيره «عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ» ٢١ في هوله عظيم في عذابه ترتعد له القلوب وتذل فيه الجبابرة وتقشعر له الجلود وتهان فيه الأكاسرة والقياصرة «قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا» تصرفنا بما تموه علينا من الكذب «عَنْ» عبادة «آلِهَتِنا» التي دأبنا عليها وآباؤنا من قبلنا، كلا لا نقبل منك «فَأْتِنا بِما تَعِدُنا» به من العذاب «إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ» ٢٢ في قولك «قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ» وحده بوقت مجيء العذاب الذي هددتكم به لم يخبرني به «وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ» من لدنه لتعلموا أني قمت بواجبي نحركم وأديت ما أمرت به «وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ» ٢٣ أهمية عذاب الله ولا تلقوا إليه بالا، فلم يلتفتوا إلى قوله، قال تعالى «فَلَمَّا رَأَوْهُ» أي العذاب الذي وعدهم به نبيهم وقد بينه الله بقوله جل قوله «عارِضاً» في ناحية السماء «مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ» قال ابن عباس
يا من يرى عارضا قد بت أرقبه | كأنما البرق في حافاته الشعل |
يا من رأى عارضا أرقت له | بين ذراعي وجبهة الأسد |
وتمام القصة مبينة في الآية ٥٨ من سورة هود المارة فراجعها وما ترشدك إليه، قال تعالى «وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ» أي قوم عاد «فِيما» في شيء عظيم «إِنْ» نافية بمعنىّ ما أي ما «مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ» يا أهل مكة من قوة الأبدان وطول الأعمار وكثرة الأموال «وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً» يستعملونها فيما خلقت لها من النظر في آلاء الله ليفقهوا أمر دينه فصرفوها لغير ما خلقت لها من أمور الدنيا الصرفة «فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ» يحول دون ذلك العذاب لأنهم استعملوها في معصية الله، فكان وجودها نقمة لا نعمة «إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ» التي أظهرها على أيدي أنبيائهم «وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ» ٢٦ أحاط بهم العذاب جزاء سخريتهم، وفي هذا تهديد لأهل مكة ووعيد كبير لما يجابهون به نبيهم، «وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى» بإهلاك أهلها كديار ثمود وقرى قوم لوط وحجر صالح وقرى عاد باليمن، وإنما خاطب أهل مكة بهذا لأنهم يرونها بأسفارهم وحلة الشتاء والصيف «وَصَرَّفْنَا» بينا وكررنا «الْآياتِ» الدالة على التوحيد والبعث والأوامر والنواهي «لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ» ٢٧ إلى الإيمان بذلك، فلم يفعلوا وأصروا على كفرهم «فَلَوْلا» هلا «نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْباناً آلِهَةً» يتقربون بها إلى الله ليشفعوا لهم عنده فعبدوها من دونه. ألا عبدوا الله وحده كي ينصرهم ويخلصهم مما حل بهم «بَلْ ضَلُّوا» عن الطريق السوي فلم يتقربوا إليه وتقربوا إلى أوثانهم التي غابت «عَنْهُمْ» عند حلول العذاب بهم فلم ينتفعوا بهم «وَذلِكَ» قولهم إنها تقربهم إلى الله وتشفع لهم عنده هو «إِفْكُهُمْ» اختلاقهم الكذب «وَما كانُوا يَفْتَرُونَ» ٢٨ من البهت على الملائكة وعيسى وعزير من إسناد عبادتهم إليهم، إذ تبرءوا منهم وأنكروا عبادتهم لهم وعلمهم بهم أيضا، ولهذا فقد غشيهم العذاب ولم يجدوا من ينقذهم منه، ولو أنهم تعرفوا إلى الله وتقربوا له لنجاهم منه، ثم شرع جل شرعه
مطلب تكليف الجن ودخولهم في رسالة محمد صلّى الله عليه وسلم وأولي العزم من الرسل:
قال تعالى «وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ» يا سيد الرسل «نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ» منك كما يستمعه الإنس لأنه صلّى الله عليه وسلم مرسل إليهم أيضا كما أوضحناه هناك «فَلَمَّا حَضَرُوهُ» أي مجلسك الذي كنت تتلوه فيه «قالُوا» بعضهم لبعض «أَنْصِتُوا» تأدبا واحتراما لسماعه وليعوا ما يأمر به وينهى عنه، فأصغوا وبقوا منصتين «فَلَمَّا قُضِيَ» فرغ من القراءة وتفاهموا مع حضرة الرسول وأجابهم لما سألوا عنه «وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ» ٢٩ لهم سوء عاقبة الطغيان ومخوفيهم من هول القيامة والوقوف لدى الملك الديان لأنهم بعد أن آمنوا به صلّى الله عليه وسلم أمرهم تبليغ قومهم ما سمعوا منه وأن يؤمنوا بالله، ولما ذهبوا إليهم «قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى» يفهم من هذا أنهم كانوا يتدينون بالتوراة ولم يذكروا عيسى لأنه عليه السلام كان يعمل بالتوراة عدا ما غيرت منها شريعته بما جاء في الإنجيل المنزل عليه وهي أجل الكتب السماوية وأجمعها بعد القرآن، ويدل على عملهم بالتوراة قوله تعالى «مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ» من الكتب السماوية الإنجيل فما قبله، لأن الذي فيها كله موجود بالقرآن، ثم وصفوه بوصف أعظم بقولهم «يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ» الذي يجب اتباعه من العقائد والأحكام «وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ» ٣٠ لا يضل متّبعه ولا يزيغ
«يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ» الذي أنزل عليه هذا الكتاب الجليل وهو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب الذي أرسله الله لإرشاد هذا العالم كله «وَآمِنُوا بِهِ» وصدقوه واعملوا بكتابه.
واعلم أن الإيمان داخل بالإجابة، وإنما خصوه بالذكر ثانيا لأنه الأصل وهو المقصود من الإجابة، فيكون من باب ذكر العام وعطف أشرف أنواعه عليه، فإذا فعلتم «يَغْفِرْ لَكُمْ» الله ربه وربنا وربكم ورب الكون أجمع «مِنْ ذُنُوبِكُمْ» التي اقترفتموها «وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ» ٣١ حق عليكم بسبب كفركم بالله وتعديكم على الغير. تفيد هذه الآية الكريمة أن الجن كالإنس منهم المؤمن
قال تعالى «أَوَلَمْ يَرَوْا» قومك يا محمد «أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ» يعجز ويتعب أو يتحيّر وحاشاه من هذا كله «بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى» مرة ثانية كما خلقهم أول مرة قل يا أكرم الرسل «بَلى» هو قادر على ذلك وهو أهون عليه، لأن الإبداع وهو اختراع ما لم يكن أعظم من الإعادة لأن لها مثالا وهو على غير مثال «إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» ٣٣ وإحياء الموتى شيء مقدور لله، فينتج إحياء الموتى مقدور لله، وذلك أن قوله (عَلى كُلِّ شَيْءٍ) تشير إلى كبرى لصغرى سهلة الحصول كما ذكرنا، ويلزم منها أنه تعالى قادر على إحياء الموتى كما أنشأهم أول مرة. واعلم أن ما قرأه بعضهم بدل قدير (يقدر) لا يلتفت إليه ولا تجوز هذه القراءة كما مر في الآية ٥٨ من سورة الأنعام، ولبحث القراءة صلة في الآية ١١ من سورة الحج في ج ٣.
قال تعالى «وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا» من منكري البعث وغيرهم «عَلَى النَّارِ» يوم القيامة يقال لهم «أَلَيْسَ هذا» الذي تشاهدونه من الإحياء بعد الموت والعذاب الذي أوعدكم به الرسل في الدنيا «بِالْحَقِّ» والصدق كما أخبروكم به «قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ» تعالى «فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ» ٣٤ بذلك وتجحدونه. وهذه الآية الثالثة المدنية كما قال صاحب البحر
أولو العزم نوح والخليل الممجد | وعيسى وموسى والحبيب محمد |