تفسير سورة الأحقاف

المحرر في أسباب نزول القرآن
تفسير سورة سورة الأحقاف من كتاب المحرر في أسباب نزول القرآن من خلال الكتب التسعة المعروف بـالمحرر في أسباب نزول القرآن .
لمؤلفه خالد بن سليمان المزيني .

سورة الأحقاف
١٥٦ - قال اللَّه تعالى: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠)
* سَبَبُ النُّزُولِ:
١ - أخرج أحمد عن عوف بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: انطلق النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوماً وأنا معه حتى دخلنا كنيسة اليهود بالمدينة يوم عيد لهم فكرهوا دخولنا عليهم فقال لهم رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (يا معشر اليهود أروني اثني عشر رجلاً يشهدون أنه لا إله إلا الله وأن محمداً رسول اللَّه يحبط الله عن كل يهودي تحت أديم السماء الغضب الذي غضب عليه)، قال: فأُسكتوا ما جاوبه منهم أحد ثم رد عليهم فلم يجبه أحد، ثم ثلث فلم يجبه أحد فقال: (أبيتم فوالله إني لأنا الحاشر وأنا العاقب وأنا النبي المصطفى آمنتم أو كذبتم) ثم انصرف وأنا معه حتى إذا كدنا أن نخرج نادى رجل من خلفنا: كما أنت يا محمد. قال: فأقبل فقال ذلك الرجل: أي رجل تعلمون فيكم يا معشر اليهود؟ قالوا: والله ما نعلم أنه كان فينا رجل أعلم بكتاب الله منك، ولا أفقه منك، ولا من أبيك قبلك، ولا من جدك قبل أبيك. قال: فإني أشهد له باللَّه أنه نبي الله الذي تجدونه في التوراة.
قالوا: كذبت ثم ردوا عليه قوله، وقالوا فيه شراً، قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
885
(كذبتم لن يقبل قولكم، أما آنفاً فتثنون عليه من الخير ما أثنيتم، ولما آمن كذبتموه وقلتم فيه ما قلتم فلن يقبل قولكم). قال: فخرجنا ونحن ثلاثة: رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأنا وعبد الله بن سلام، وأنزل الله - عزَّ وجلَّ - فيه: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠).
٢ - أخرج الترمذي عن ابن أخي عبد الله بن سلام قال: لما أُريد عثمان جاء عبد الله بن سلام، فقال له عثمان: ما جاء بك؟ قال: جئت في نصرتك، قال: اخرج إلى الناس فاطردهم عني فإنك خارج خير لي منك داخل، فخرج عبد الله إلى الناس فقال: أيها الناس، إنه كان اسمي في الجاهلية فلاناً، فسماني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عبد الله ونزلت فيَّ آيات من كتاب الله، نزلت فيَّ: (وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) ونزلت في: (قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ)، إن لِلَّهِ سيفاً مغموداً عنكم، وإن الملائكة قد جاورتكم في بلدكم هذا الذي نزل فيه نبيكم فاللَّه اللَّه في هذا الرجل أن تقتلوه، فواللَّه إن قتلتموه لتطردن جيرانكم الملائكة ولتسلن سيف الله المغمود عنكم فلا يغمد إلى
886
يوم القيامة قال: فقالوا: اقتلوا اليهودي واقتلوا عثمان.
٣ - أخرج البخاري عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال: ما سمعت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول لأحد يمشي على الأرض: إنه من أهل الجنة إلا لعبد اللَّه بن سلام. قال: وفيه نزلت هذه الآية: (وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ) قال: لا أدري، قال مالك: الآية أو في الحديث.
* دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
هكذا جاء في سبب نزول هذه الآية، وقد تباينت أقوال المفسرين واختياراتهم.
فأما حديث عوف بن مالك فقد ذكره الطبري.
وأما حديث ابن أخي ابن سلام فقد ذكره القرطبي وابن عاشور.
وأما حديث سعد بن أبى وقاص فقد ذكره الطبري والبغوي وابن كثير وابن عاشور.
وفي الجملة فإن كثيراً من المفسرين يذكرون أن الآية في عبد اللَّه بن سلام - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وسأذكر أقوال المفسرين وأدلتهم.
الأول: أن الشاهد عبد اللَّه بن سلام - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وعلى هذا فالآية مدنية في سورة مكية وحجتهم ما يلي:
أ - أن عوف بن مالك الذي روى الحديث صرح في القصة بنزول الآية فيه.
887
ب - أن الأخبار وردت عن جماعة من الصحابة أنه ابن سلام وعلى هذا جمهور أهل التأويل وهم أعلم بمعاني القرآن، والسبب الذي فيه نزل، وما أُرلد به.
الثاني: أن الشاهد غير معين بل هو اسم جنس يتناول أيَّ شاهد فقد يكون عبد اللَّه بن سلام، وقد يكون رجلاً من بني إسرائيل كان بمكة، وقد يكون الكتب المتقدمة المنزلة على الأنبياء قبله بشرت به، وأخبرت بمثل ما أخبر القرآن به.
والحجة في ذلك:
أ - أن الآية مكية، وإسلام ابن سلام كان بعد الهجرة إلى المدينة.
ب - أن سياق الآيات خطاباً وتوبيخاً موجه إلى مشركي قريش، ولم يجر لأهل الكتاب ولا لليهود ذكر قبل ذلك.
الثالث: يجوز أن يكون هذا إخباراً من الله لرسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بما سيقع من إيمان عبد الله بن سلام فيكون هو المراد بالشاهد وإن كانت الآية مكية فقد تضمنت غيباً أبرزه الوجود.
والظاهر - والله أعلم - أن الآية لم تنزل بسبب عبد الله بن سلام لما يلي:
١ - أن الآية مكية نزلت قبل أن يسلم ابن سلام بزمن فكيف تنزل فيه وهو لا يعرف النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد، كما أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يعرفه بعد بدليل أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما قدم المدينة وأقبل إليه ابن سلام التمس من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يسأل اليهود عنه، ولو كان يعرفه قبل ذلك لما سأله ذلك.
٢ - أنه قد تقدم في السبب رقم (١) قصة عبد الله بن سلام - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في نزول قوله: (قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ) والقصة هناك شبيهة بالقصة هنا ولم يذكر فيها نزول هذه الآية: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ).
٣ - أن سياق الآيات قبل الآية وبعدها في المشركين، ولم يرد ذكر اليهود أو أهل الكتاب في قليل أو كثير من هذه السورة باستثناء الآية التي معنا وفيها ذكر بني إسرائيل.
وأما حجة من ذهب إلى أنها في ابن سلام نزلت واستدلوا بالتصريح
888
بنزول الآية فيمكن أن يقال: إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استدل بالآية لما سمع مقالة اليهود؛ لأن ابن سلام من بني إسرائيل، والآية بعمومها تتناوله فظن عوف بن مالك أنها نزلت فيه.
أما أن هذا قول الصحابة والتابعين وعليه جمهور أهل التأويل أنه ابن سلام فيقال نعم. ابن سلام من بني إسرائيل وشهد على مثله، لكن هل هذا يعني أنها نزلت فيه؟
الجواب: لا وقولهم فيه من باب التفسير فقط وهو حق فإن العموم يشمله.
وأما من قال من العلماء: إن هذا إخبار من اللَّه بما سيقع من إيمان عبد اللَّه بن سلام فهذا غريب، إذ كيف يقول اللَّه: (وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ) وهو لم يشهد بعد؟
ثم كيف يحتج اللَّه على المشركين بأمر لم يقع؟ بل هل انقضت الحجج والدلائل فلم يبق إلا هذا؟
فإن قيل: قد قلت ما قلت فمن هو الشاهد إذن؟
فالجواب: أن الشاهد هنا العلماء المتقدمون من بني إسرائيل فإن عندهم من الدلائل والبراهين من الكتب المتقدمة ما يعرفون به صدقه وصدق ما جاء به قال اللَّه تعالى: (أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ (١٩٧).
قال السعدي: (أولم يكن لهم آيةً على صحته وأنه من اللَّه أن يعلمه علماء بني إسرائيل الذين قد انتهى إليهم العلم، وصاروا أعلم الناس، وهم أهل الصنف فإن كل شيء يحصل به اشتباه يرجع فيه إلى أهل الخبرة والدراية فيكون قولهم حجةً على غيرهم كما عرف السحرة الذين مهروا في علم السحر صدق معجزة موسى وأنه ليس بسحر فقول الجاهلين بعد هذا لا يؤبه به) اهـ.
وقال الله تعالى: (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ (٤٣).
قال ابن كثير: (والصحيح في هذا أن (وَمَنْ عِنْدَهُ) اسم جنس يشمل
889
علماء أهل الكتاب الذين يجدون صفة محمد - ﷺ - ونعته في كتبهم المتقدمة من بشارات الأنبياء به كما قال تعالى: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (١٥٦) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ) اهـ محل الشاهد.
فهل يقال هنا إن آيتي الرعد والشعراء قد نزلتا في المدينة أيضاً؟ وهل المراد فيهما ابن سلام؟
الجواب: لا إنما نزلتا في مكة لا في المدينة، وليس المراد منهما ابن سلام.
وحينئذٍ يقال: لماذا لا يكون المقصود بالشاهد هنا العلماء من أهل الكتاب المذكورين في الآيتين السابقتين وغيرهما إذ لا فرق لأنهم شهود من بني إسرائيل.
وصدق الله القائل: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ).
وبيان ذلك: أن الله قال بعد الآية التي معنا: (وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً).
وقال في سورة هود: (أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ).
وإن الناظر في الآيتين ليتحقق له حديثهما عن القرآن والشاهد وكتاب موسى الذي جعله إماماً ورحمةً.
قال - شيخ الإسلام - ابن تيمية عن الشاهد في آية هود هو القرآن.
* النتيجة:
أن الحديث المذكور ليس سبباً لنزول الآية الكريمة لأن الآية مكية والقصة مدنية، والآية تخاطب المشركين، وقصة ابن سلام مع اليهود من الكتابيين. واللَّه أعلم.
890
سورة الفتح
891
Icon