ﰡ
يخبر الله تعالى عباده في هذه الآيات انه قد مضى على الانسان وقتٌ من الزمن غير معلوم لديه لم يكن شيئا يُذكر، ولا يعرف.
ثم أتبعه بذِكر العناصر الداخلة في تكوين الانسان فقال:
﴿إِنَّا خَلَقْنَا الإنسان مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً﴾.
خلقنا هذا الانسانَ من نطفة فيها أعدادٌ لا تحصى من الحُويّنات التي لا تُرى بالعين المجردة، وهذه النطفة تختلط ببيضةِ المرأة، وباتحادِهما يتكون الجنين، وهاتان النطفتان مخلوقتان من عناصر مختلفة، وتلك العناصرُ آتيةٌ من النبات والحيوان الداخلَين في طعام الآباء والأمهات، ومن الماء الذي يشربونه.. فهي أخلاط، كُونت ومزجت وصارت دماً، فنطفةً، فعلقة الخ.....
وقد خلقنا هذا الانسان لِنبتليَه بالتكاليف فيما بعدُ، ثم أعطيناه السمع والبصر ليتمكن من استماع الآياتِ ومشاهدة الدلائل، ويعقِل ويفكر.
ثم ذكر أنه بعد ان ركّبه من هذه الأخلاط وأعطاه الحواسّ الظاهرة والباطنةَ - بين له سبيل الهدى وسبيل الضلال فقال:
﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السبيل إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً﴾
وبعد أن أعيناه السمعَ والبصر والعقل، نصبنا له الدلائل في الأنفس والآفاق، ليتميز شكرُه من كفره، وطاعته من معصيته.
ثم بين الله تعالى ان الناسَ انقسموا في ذلك فريقين: فريقاً جحدوا ولم يؤمنوا فأعدّ الله لهم عذاباً أليما منه قيود في أعناقهم وأيديهم، وناراً تشوي الوجوه والاجسام. وفريقَ الأبراب الصادقين في إيمانهم يشربون شراباً لذيذا ممزوجاَ بماءِ الكافور ومن ماءٍ عذْب زلالٍ من عينٍ صافية يجرونها حيث شاؤا ويتمتعون بهذا النعيم المقيم.
قراءات
قرأ نافع والكسائي وابو بكر: سلاسلاً بالتنوين. والباقون: سلاسل بفتح اللام بغير تنوين.
في هذه الآيات الكريمة عرضٌ وتفصيل لصور النعيم الذي أفاضه الله تعالى على عباده الأبرار في جنة الخلد، وهذا العرض من أطولِ ما وردَ في القرآن الكريم لصُورِ النعيم ومشاهده. وقد بدأ ببيان أعمالهم وما قدّموا من خير للناس فقال:
﴿يُوفُونَ بالنذر وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً﴾.
هؤلاء الابرارُ يوفون بما أوجبوه على انفسهم من نَذْرٍ في طاعة الله، ويخافون من هولِ يوم القيامة، ذلك اليوم المخيفِ الذي يعمّ شرُّه ويستطير بين الناس إلا من رحمَ الله. وهم يُطعِمون الطعام رغم حاجتهم إليه الى المسكين واليتيم والفقير.. والمرادُ من اطعام الطعام الاحسانُ الى المحتاجين ومواساتهم بأي وجه.
وبعد ان ذكر ان الأبرار يحسِنون الى المحتاجين بين ان لهم في ذلك غرضَين: طلبَ رضا الله عنهم، وخوفَ يوم القيامة:
﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ الله لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَآءً وَلاَ شُكُوراً﴾
لا نريد عن عملنا هذا عِوَضاً ولا نريد منكم ثناء.
﴿إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً﴾.
إنا نفعل ذلك ليرحمنا ربُّنا يوم القيامة، ويتلقّانا بلطفه في ذلك اليوم الشديد الهولِ والشر.
ثم بين الله تعالى انه أمَّنَ لهم مَطلبهم فقال:
﴿فَوَقَاهُمُ الله شَرَّ ذَلِكَ اليوم وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً﴾
فحماهم اللهُ من شر ذلك اليوم وشدائده، وأعطاهم نضرةً وحُسناً في وجوههم وسروراً في قلوبهم.
ثم زاد من كرمه وإحسانه فقال:
﴿وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُواْ جَنَّةً وَحَرِيراً﴾،
أعطاهم على صبرهم، واحسانهم للناس، وإيمانهم الصادق - هذا النعيمَ في الجنة والخلودَ فيها، ولباسَ الحرير الذي كان ممنوعا في الدنيا.
ثم وصف شرابَهم وأوانيه والسقاةَ الذين يطوفون عليهم به، وما هم فيه من سعادةٍ أبدية فقال:
﴿مُّتَّكِئِينَ فِيهَا على الأرائك لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلاَ زَمْهَرِيراً﴾.
يجلسون على أفخرِ الأسرّة والمقاعد متكئين عليها يتحدّثون ويتسامرون، لا يجِدون في الجنة حَرّاً ولا بردا.
﴿وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِّن فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَاْ قَوَارِيرَاْ مِن فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً﴾
ويطوف عليهم الولدانُ من خَدَمهم بأوعية شرابٍ م نفضة، وبأكواب من زجاجٍ شفاف عليها غشاءٌ من فضة، قدّرها لهم السقاةُ الذين يطوفون عليهم على قَدْرِ كفايتهم وحاجاتهم وحسب ما يشتهون.
ثم وصف مشروبهم بأنه شرابٌ لذيذ منعش ممزوج بالزنجبيل، ويُسْقَون من عين في الجنة اسمها السلسبيل، لسلاسَتها وسهولةِ مساغها.. وهذا كله ما هو الا أسماء لما هو شبيهٌ بما في الدنيا. وهناك ما لا عينٌ رأت ولا أذنٌ سمعت، وكل ما في الآخرة مغاير لما في حياتنا الدنيا.
ثم بين أوصافَ السقاةِ الذين يطوفون عليهم بذلك الشراب فقال:
﴿وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَّنثُوراً﴾.
ويطوف على هؤلاء الأبرار من أهل الجنة ولدان يظلّون على ما هم عليه/ من الشباب والنضارة والحُسن، منظرُهم مبهج مفرح، وإذا رأيتَ جماعةً منهم حسبتَهم لحُسنِ ألوانهم ونضارة وجوههم ورشاقتهم في الخدمة كأنهم لؤلؤ منثور.
وبعد ان ذكَر اللهُ تعالى نعيم أهل الجنة بما تقدَّم - بين أن هناك امورا أعلى وأعظم من كل ما ذُكر فقال:
﴿وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً﴾
واذا رأيتَ ما في الجنة من النعيم وما تفضّل الله به على عباده الابرار من مظاهر الأنس والسرور، رأيت نعيماً لا يكاد يوصف، ومُلكاً كبيرا واسعا لا غاية له، يختلف كل الاختلاف عما نراه في هذه الدنيا الفانية.
وفي الحديث القدسي: «أعددتُ لعبادي الصالحين، ما لا عين رأتْ، ولا أُذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر».
﴿عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وحلوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً﴾
في هذه الآية الكريمة يصف الله تعالى ملبسَهم أنه من حريرٍ ناعم رقيقِ هو السندس، وحريرٍ غليظ هو الديباج، ويلبسون الحليةَ من فضة وذهب كما جاء في آية اخرى في سورة فاطر: ﴿يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ﴾ [الكهف: ٣١].
ثم ذكر شرابا آخر يُسقَونه يفوق النوعَين السابقين اللذَين مر أنهما يمزجان بالكافور والزنجبيل. فقال هنا: ﴿وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً﴾ يطهُر شاربه، ويتلذّذ به فيصبح في منتهى السعادة والسرور.
ثم بين الله تعالى ان هذا كله جزاءٌ لهم على ما قدموا من صالح الأعمال، وما زكَّوا به أنفسَهم من صفات الكمال فقال:
﴿إِنَّ هذا كَانَ لَكُمْ جَزَآءً وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُوراً﴾.
ان هذا الذي أعطيناكم من الكرامة جاءَ ثواباً لكم على ما كنتم تعملون، وكان عملكم مشكورا، رضيَه ربُّكم وحَمِدَكم عليه، فأثابكم بما اثابكم به من الكرامة. ﴿كُلُواْ واشربوا هَنِيئَاً بِمَآ أَسْلَفْتُمْ فِي الأيام الخالية﴾
قراءات
قرأ حفص وابو عمرو وابن ذكوان ﴿قَوَارِيرَاْ، قَوَارِيرَاْ﴾ بالألف من غير تنوين وقرأ ابن كثير: قواريراً بتنوين الاول وقوارير الثانية من غير تنوين. وقرأ نافع والكسائي وابو بكر: ﴿قَوَارِيرَاْ، قَوَارِيرَاْ﴾ بالتنوين لهما. وقرأ حمزة: قوارير قوارير بعدم التنوين فيهما. وقرأ نافع وحمزة وابن محيصن: عليهم بإسكان الياء وكسر الهاء. وقرأ الباقون عاليهم بنصب الياء وضم الهاء. وقرأ ابن كثير وابو بكر وابن محيصن ثياب سندس خضر بجر خضرٍ نعتاً لسندس، ورفع استبرق عطفا على ثياب. وقرأ نافع وحفص برفع خضر واستبرق. وقرأ حمزة والكسائي بجر خضر واستبرق.
إنا نحن انزلنا عليك يا محمد القرآن من عندنا، وهو حقٌّ لا ريب فيه لِتذكِّرَ الناسَ بما فيه من الوعد والوعيد، وتعلّمهم وتهذّبهم، ﴿فاصبر لِحُكْمِ رَبِّكَ﴾ من مقاساة الشدائد في تبليغ الرسالة، فان العاقبة والنصر لك.
﴿وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً﴾
أي من المشركين، مهما أغْرَوْكَ به من متاع الدنيا، ودُم على ذكر ربك، فصلّ الصلواتِ في الصباح والمساء، وأكثِر السجودَ في الليل وتهجّد به وسبّحه ليلاً طويلا مستغرقا في صلواتك ومناجاة ربك.
ثم أنكر الله تعالى على الكفار حُبَّ الدنيا والإقبال عليها، وإهمالَهم الآخرةَ ونسيانها فقال:
﴿إِنَّ هؤلاء يُحِبُّونَ العاجلة وَيَذَرُونَ وَرَآءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً﴾.
إن هؤلاء المشركين يحبون الدنيا وتُعجِبُهم زينَتُها فهم يؤثرونها على الآخرة، وينسَون ان أمامهم يوماً شديدا فيه الحساب والجزاء.
ثم نعى عليهم شِركهم، وغفلتهم عن طاعة الله فقال:
﴿نَّحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَآ أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَآ أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلاً﴾.
نحن خلقناهم وأحكمنا خَلقهم في أحسنِ تقويم، واذا شئنا اهلكناهم وأتينا بخير منهم بدلاً منهم.
ثم ارشد الله تعالى الى ان هذا الذِكر تذكرةٌ وموعظة للناس، لمن أراد ان يتعظ ويُقبلَ على الله فقال:
﴿إِنَّ هذه تَذْكِرَةٌ فَمَن شَآءَ اتخذ إلى رَبِّهِ سَبِيلاً﴾.
ان هذه الآيات بما فيها من ترتيب بديع، ومعنى لطيف -لهي تذكرة للعقلاء المتبصرين، فمن شاء اتخذ بالإيمان والتقوى الى ربه طريقا يوصله الى مغفرته وجنّته، فبابُه مفتوح دائما، ومغفرته وسعت كل شيء.
﴿وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله﴾.
وما تشاؤون ان تتخذوا الى الله سبيلا الا ان يشاء الله، فالأمرُ اليه سبحانه، والخير والشر بيده، لا مانع لما أعطى ولا معطيَ لما منع.. ان الله عليم بأحوالكم، حكيم فيما يشاء ويختار، يُدخل من يشاء في جنته، فدخولُها بفضله ورحمته.
﴿والظالمين أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً﴾ في الآخرة هو عذاب دهنم وبئس المصير.
قراءات
قرأ ابن كثير وابو عمرو وابن عامر: وما تشاؤون بالياء، والباقون وما تشاؤون بالتاء.
انتهى سورة الانسان نسأل الله تعالى ان يجعلنا من الأبرار، والمقربين الأخيار ويجعل سعينا لديه مشكورا.