ﰡ
التين هو الثمرة المعروفة التي لا عجم لها ولا قشرة، والزيتون هو كذلك الثمرة التي منها الزيت، وطور سينين هو جبل الطور الذي ناجى موسى عنده ربه، والبلد الأمين هو مكة المكرمة، والواو للقسم.
وقد اختلف في المراد بالمقسم به في الأول، والثاني التين والزيتون، واتفقوا عليه في الثالث والرابع على ما سيأتي.
أما التين والزيتون، فعن ابن عباس رضي الله عنهما " أنهما الثمرتان المعروفتان " وهو قول عكرمة والحسن ومجاهد. كلهم يقول : التين : تينكم الذي تأكلون، والزيتون : زيتونكم الذي تعصرون.
وعن كعب : التين : مسجد دمشق، والزيتون بيت المقدس. وكذا عن قتادة. وأرادوا منابت التين والزيتون بقرينة الطور والبلد الأمين، على أن منبت التين والزيتون لعيسى، وطور سينين لموسى، والبلد الأمين لمحمد صلى الله عليه وسلم.
ولكن حمل التين والزيتون على منابتهما لا دليل عليه، فالأولى إبقاؤهما على أصلهما، ويشهد لذلك الآتي :
أولاً التين : قالوا : إنه أشبه ما يكون من الثمار بثمر الجنة، إذ لا عجم له ولا قشر، وجاء عنه في السنة " أنه صلى الله عليه وسلم أهدي له طبق فيه تين، فأكل منه ثم قال لأصحابه : فلو قلت : إن فاكهة نزلت من الجنة لقلت هذه، لأن فاكهة الجنة بلا عجم فكلوه، فإنه يقطع البواسير وينفع من النقرس "، ذكره النيسابوري ولم يذكر من خرجه. وذكره ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد، قائلاً : ويذكر عن أبي الدرداء " أهدي إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم طبق من تين " وساق النص المتقدم. ثم قال : وفي ثبوت هذا نظر.
وقد ذكر المفسرون وابن القيم وصاحب القاموس للتين خواص، وقالوا : إنها مما تجعله محلاً للقسم به، وجزم ابن القيم : أنه المراد في السورة.
ومما ذكروا من خواصه، قالوا : إنه يجلو رمل الكلى والمثانة، ويؤمن من السموم، وينفع خشونة الحلق والصدر وقصبة الرئة، ويغسل الكبد والطحال، وينقي الخلط البلغمي من المعدة، ويغذي البدن غذاء جيداً، ويابسه يغذي وينفع العصب.
وقال جالينوس : وإذا أكل مع الجوز والسذاب قبل أخذ السم القاتل نفع، وحفظ من الضر، وينفع السعال المزمن، ويدر البول، ويسكن العطش الكائن عن البلغم المالح، ولأكله على الريق منفعة عجيبة.
وقال ابن القيم : لما لم يكن بأرض الحجاز والمدينة، لم يأت له ذكر في السنة، ولكن قد أقسم الله به في كتابه، لكثرة منافعه وفوائده.
والصحيح : أن المقسم به هو التين المعروف. ا ه.
وكما قال ابن القيم رحمة اللَّه : لم يذكر في السنة لعدم وجوده بالحجاز والمدينة، فكذلك لم يأت ذكره في القرآن قط إلاَّ في هذا الموضع، ولم يكن من منابت الحجاز والمدينة لمنافاة جوه لجوها، وهو وإن وجد أخيراً إلاَّ أنه لا يجود فيها جودته في غيرها.
فترجح أن المراد بالتين هو هذا المأكول، كما جاء عمن سمينا : ابن عباس ومجاهد وعكرمة والحسن.
أما الزيتون، فقد تقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في المقدمة، أن من أنواع البيان إذا اختلف في المعنى المراد، وكان مجيء أحد المعنيين أو المعاني المحتملة أكثر في القرآن، فإنه يكون أولى بحمل اللفظ عليه.
وقد جاء ذكر الزيتون في القرآن عدة مرات مقصوداً به تلك الشجرة المباركة، فذكر في ضمن الأشجار خاصة في قوله تعالى من سورة الأنعام ﴿ وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ ﴾ - إلى قوله - ﴿ إِنَّ في ذالِكُمْ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾، وسماها بذاتها في قوله تعالى من سورة المؤمنين ﴿ وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَاءَ تَنبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِّلآكِلِيِنَ ٢٠ ﴾، وذكرها مع النحل والزرع في عبس في قوله تعالى :﴿ فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً ٢٧ وَعِنَباً وَقَضْباً ٢٨ وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً ﴾، وذكر من أخص خصائص الأشجار، في قوله في سورة النور في المثل العظيم المضروب ﴿ * اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ في زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرَّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ ﴾.
فوصفها بالبركة ووصف زيتها بأنه يكاد يضيء، ولو لم تمسسه نار، واختيارها لهذا المثل العظيم يجعلها أهلاً لهذا القسم العظيم هنا.
أما طور سينين : فأكثرهم على أنه جبل الطور، الذي ناجى الله موسى عنده، كما جاء في عدة مواطن، وذكر الطور فيها للتكريم وللقسم فمن ذكره للتكريم قوله تعالى :﴿ وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ ﴾، ومن ذكره للقسم به قوله تعالى :﴿ وَالطُّورِ ١ وَكِتَابٍ مُّسْطُورٍ ﴾.
وقد تقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في سورة الطور قوله : وقد أقسم الله بالطور في قوله تعالى :﴿ وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ ١ وَطُورِ سِينِينَ ﴾. ا ه.
أما البلد الأمين فهو مكة لقوله تعالى :﴿ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً ﴾، فالأمين بمعنى الأمن، أي من الأعداء، أن يحاربوا أهله أو يغزوهم، كما قال تعالى :﴿ أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ ﴾، والأمين بمعنى أمن جاء في قول الشاعر :
ألم تعلمي يا أسم ويحك أنني | حلفت يميناً لا أخون أميني |
وهذا هو المقسم عليه، والتقويم التعديل كما في قوله :﴿ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا ١ قَيِّماً ﴾، وأحسن تقويم شامل لخلق الإنسان حساً ومعنى، أي شكلاً وصورة وإنسانية، وكلها من آيات القدرة ودلالة البعث.
وروى عن علي رضي الله عنه :
دواؤك منك ولا تشعر *** وداؤك منك ولا تبصر
وتزعم أنك جرم صغير *** وفيك انطوى العالم الكبير
وقد بين تعالى خلقه ابتداء من نطفة فعلقة إلى آخره في أكثر من موضع، كما في قوله :﴿ أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَى ٣٧ ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى ٣٨ فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى ٣٩ أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَى ﴾.
وكذلك في هذه السورة التنبيه على البعث بقوله :﴿ فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ ﴾.
أما الجانب المعنوي فهو الجانب الإنساني، وهو المتقدم في قوله :﴿ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ﴾، على ما قدمنا هناك، من أن النفس البشرية هي مناط التكليف، وهو الجانب الذي به كان الإنسان إنساناً، وبهما كان خلقه في أحسن تقويم، ونال بذلك أعلى درجات التكريم :﴿ * وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ ﴾.
والإنسان وإن كان لفظاً مفرداً إلاَّ أنه للجنس بدلالة قوله :﴿ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ ٥ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ﴾، وهذا مثل ما في سورة ﴿ وَالْعَصْرِ ١ إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ ٢ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْاْ بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْاْ بِالصَّبْرِ ﴾، فباستثناء الجمع منه، علم أن المراد به الجنس.
والتأكيد بالقسم المتقدم على خلق الإنسان في أحسن تقويم، يشعر أن المخاطب منكر لذلك، مع أن هذا أمر ملموس محسوس، لا ينكره إنسان.
وقد أجاب الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في دفع إيهام الاضطراب على ذلك : بأن غير المنكر إذا ظهرت عليه علامات الإنكار، عومل معاملة المنكر، كقول الشاعر :
جاء شقيق عارضاً رمحه *** وإن بني عمك فيهم رماح
وأمارات الإنكار على المخاطبين، إنما هي عدم إيمانهم بالبعث، لأن العاقل لو تأمل خلق الإنسان، لعرف منه أن القادر على خلقه في هذه الصورة، قادر على بعثه.
وهذه المسألة أفردها الشيخ في سورة الجاثية بتنبيه على قوله تعالى :﴿ وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِن دَابَّةٍ آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ ﴾، وتكرر هذا البحث في عدة مواضع، وأصرح دلالة على هذا المعنى ما جاء في آخر يس، ﴿ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحيِ الْعِظَامَ وَهِىَ رَمِيمٌ ٧٨ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ﴾.
قيل : رد إلى الكبر والهرم وضعف الجسم والعقل :
إن الثمانين وبلغتها | قد أحوجت سمعي إلى ترجمان |
وذكر الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه هذا القول، وساق معه قوله :﴿ * اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً ﴾، وساق آية التين هذه ﴿ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ ﴾، وقال : على أحد التفسيرين، وقوله :﴿ وَمِنكُمْ مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً ﴾، وهذا المعنى مروي عن ابن عباس رواه ابن جرير.
وقيل : رد إلى النار بسبب كفره، وهذا مروي عن مجاهد والحسن.
وقد رجح ابن جرير المعنى الأول، وهو كما ترى، ما يشهد له القرآن في النصوص التي قدمنا، واستدل لهذا الوجه من نفس السورة. وذلك لأن الله تعالى قال في آخرها ﴿ فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ ﴾، أي بعد هذه الحجج الواضحة، وهي بدء خلق الإنسان وتطوره إلى أحسن أمره، ثم رده إلى أحط درجات العجز أسفل سافلين، وهذا هو المشاهد لهم، يحتج به عليهم.
أما رده إلى النار فأمر لم يشهده ولم يؤمنوا به، فلا يصلح أن يكون دليلاً يقيمه عليهم، لأن من شأن الدليل أن ينقل من المعلوم إلى المجهول والبعث هو موضع إنكارهم، فلا يحتج عليهم لإثبات ما ينكرونه بما ينكرونه، وهذا الذي ذهب إليه واضح.
ومما يشهد لهذا الوجه : أن حالة الإنسان هذه في نشأته من نطفة، فعلقة، فطفلاً، فغلاماً، فشيخاً، فهرم، وعجز. جاء مثلها في النبات وكلاهما من دلائل البعث، كما في قوله :﴿ اعْلَمُواْ أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ ﴾ إلى قوله ﴿ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ ﴾، وقوله :﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَاماً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لأُوْلِي الأَلْبَابِ ﴾.
فكذلك الإنسان، لأنه كالنبات سواء كما قال تعالى :﴿ وَاللَّهُ أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأَرْضِ نَبَاتاً ١٧ ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً ﴾.
وقد شاهدنا شيخ القراء بالمدينة المنورة الشيخ حسن الشاعر، لا زال على قيد الحياة عند كتابة هذه الأسطر تجاوز المائة بكثير، وهو لا يزال يقرئ تلاميذه القرآن، ويعلمهم القراءات العشر، وقد يسمع لأكثر من شخص يقرءون في أكثر من موضع وهو يضبط على الجميع.
وقد روى الشوكاني مثله، عن ابن عباس أنه قال، ذلك.
قوله تعالى :﴿ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ﴾.
أي غير مقطوع أو غير ممنون به عليهم.
وعلى الأول : فالأجر هو الثواب، إما بدوام أعمالهم لكمال عقولهم، وإما بأن الله يأمر الملائكة أن تكتب لهم من الأجر ما كانوا يعلمونه في حال قوتهم من صيام وقيام، وتصدق من كسبهم ونحو ذلك، للأحاديث في حق المريض والمسافر، فيظل ثواب أعمالهم مستمراً عليهم غير مقطوع.
وعلى الثاني : فيكون الأجر هو النعيم في الجنة يعطونه ولا يمنّ به عليهم، ولا يقطع عنهم كما قال تعالى :﴿ أُكُلُهَا دَائِمٌ وِظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَواْ ﴾.
تنبيه
وهنا وجهة نظر من وجهين : وجه خاص وآخر عام.
أما الخاص : فإن كلمة رددناه، فالرد يشعر إلى رد لأمر سابق، والأمر السابق هو خلق الإنسان في أحسن تقويم، وأحسن تقويم شامل لشكله ومعناه، أي جسمه وإنسانيته، فرده إلى أسفل سافلين، يكون بعدم الإيمان كالحيوان بل هو في تلك الحالة أسفل دركاً من الحيوان، وأشرس نفساً من الوحش، فلا إيمان يحكمه ولا إنسانية تهذبه، فيكون طاغية جباراً يعيث في الأرض فساداً، وعليه يكون الاستثناء( إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات )، فبإيمانهم وعملهم الصالحات يترفعون عن السفالة، ويرتفعون إلى الأعلى فلهم أجر غير ممنون.
والوجهة العامة وهي الشاملة لموضوع السورة من أولها ابتداء من التين والزيتون وما معه في القسم إلى ﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ في أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ٤ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ ٥ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُواْ ﴾.
فإنه إن صح ما جاء في قصة آدم في قوله :﴿ فَأَكَلاَ مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْءاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ ﴾ روى المفسرون أن آدم لما بدت له سوأته ذهب إلى أشجار الجنة ليأخذ من الورق ليستر نفسه، وكلما جاء شجرة زجرته ولم تعطه، حتى مرّ بشجرة التين فأعطته، فأخلفها الله الثمرة مرتين في السنة، وكافأها بجعل ثمرتها باطنها كظاهرها لا قشر لها ولا عجم.
وقد روى الشوكاني في أنها شجرة التين التي أخذ منها الورق. فقال : وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : " لما أسكن الله آدم الجنة كساه سربالاً من الظفر، فلما أصاب الخطيئة سلبه السربال فبقي في أطراف أصابعه ".
قال : وأخرج الفريابي وعبد ابن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي وابن عساكر عن ابن عباس قال : " كان لباس آدم وحواء كالظفر " وذكر الأثر، ( وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة ) قال : ينزعان ورق التين، فيجعلانه على سوأتهما.
وبهذا النقل يكون ذكر التين هنا مع خلق الإنسان في أحسن تقويم، ثم رده أسفل سافلين إلاَّ الذين آمنوا سر لطيف جداً، وهو إشعار الإنسان الآن أن جنس الإنسان كله بالإنسان الأول أبي البشر، وقد خلقه الله في أحسن حالة حساً ومعنى، حتى رفعه إلى منزلة إسجاد الملائكة له وسكناه الجنة، فهي أعلى منزلة التكريم، وله فيها أنه لا يجوع ولا يعرى، ولا يظمأ فيها ولا يضحى، وظل كذلك على ذلك إلى أن أغواه الشيطان ونسي عهد ربه إليه، ووقع فيما وقع فيه وكان له ما كان، فدلاهما بغرور وانتقلا من أعلى عليين إلى أسفل سافلين، فنزل إلى الأرض يحرث ويزرع ويحصد ويطحن ويعجن ويخبز، حتى يجد لقمة العيش، فهذا خلق الإنسان في أحسن تقويم ورده أسفل سافلين.
وهذا شأن أهل الأرض جميعاً، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات، فلهم أجر غير ممنون، برجوعهم إلى الجنة كما رجع إليها آدم بالتوبة، فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه، ثم اجتباه ربه، فتاب عليه وهدى.
وإن في ذكر البلد الأمين لترشيح لهذا المعنى، لأن الله جعل الحرم لأهل مكة أمناً كصورة الآمن في الجنة، فإن امتثلوا وأطاعوا نعموا بهذا الأمن، وإن تمردوا وعصوا، فيخرجون منها ويحرمون أمنها.
وهكذا تكون السورة ربطاً بين الماضي والحاضر، وانطلاقاً من الحاضر إلى المستقبل، فما يكذبك بعد بالدين أليس الله بأحكم الحاكمين. فيما فعل بآدم وفيما يفعل بأولئك، حيث أنعم عليهم بالأمن والعيش الرغد، وإرسالك إليهم وفيما يفعل لمن آمن أو بمن يكفر، اللَّهم بلى.
فالدين هو الجزاء كما في سورة الفاتحة ﴿ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ﴾ والخطاب قيل : للرسول صلى الله عليه وسلم. وأن ما في قوله ( فما ) هي بمعنى من أي، فمن الذي يكذبك بعد هذا البيان بمجيء الجزاء والحساب ليلقى كل جزاء عمله.
السؤال كما تقدم في ﴿ أَلَمْ نَشْرَحْ ﴾، أي للإثبات، وهو سبحانه وتعالى بلا شك أحكم الحاكمين، كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا قرأها قال : " اللهم بلى " كما سيأتي.
وأحكم الحاكمين، قيل : أفعل تفضيل من الحكم أي أعدل الحاكمين، كما في قوله تعالى :﴿ وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ٤٩ ﴾.
وقيل : من الحكمة، أي في الصنع والإتقان والخلق، فيكون اللفظ مشتركاً، ولا يبعد أن يكون من المعنيين معاً، وإن كان هو في الحكم أظهر، لأن الحكيم من الحكمة يجمع على الحكماء.
فعلى القول بالأمرين : يكون من استعمال المشترك في معنييه معاً، وهو هنا لا تعارض ؛ بل هما متلازمان، لأن الحكيم لا بد أن يعدل، والعادل لا بد أن يكون حكيماً يضع الأمور في مواضعها.
وقد بين تعالى هذا المعنى في عدة مواطن كقوله تعالى :﴿ أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ﴾، الجواب : لا، وكقوله :﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُواْ السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ﴾، وفي قوله ﴿ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ﴾ بيان لعدم عدالتهم في الحكم، وبعده عن الحكمة.
ومعلوم أن عدم التسوية بينهم في مماتهم أنه بالبعث والجزاء، فهو سبحانه أحكم الحاكمين في صنعه وخلقه. خلق الإنسان في أحسن تقويم، وأعدل الحكام في حكمه لم يسوّ بين المحسن والمسيء.
وقد اتفق المفسرون على رواية الترمذي لحديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً : " من قرأ والتين والزيتون، فقرأ أليس الله بأحكم الحاكمين، فليقل : بلى، وأنا على ذلك من الشاهدين ".
ومثله عن جابر مرفوعاً، وعن ابن عباس قوله : " سبحانك اللهم، فبلى ". والعلم عند الله تعالى.