ﰡ
واستثناء الذين آمنوا وعملوا الصالحات: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ [٦].
٣- إعلان مبدأ العدل المطلق في ثواب المؤمنين، وتعذيب الكافرين:
فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ، أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ [٧- ٨].
فضلها:
أخرج الجماعة في كتبهم ومالك في موطئه عن البراء بن عازب: كان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يقرأ في سفره في إحدى الركعتين بالتين والزيتون، فما سمعت أحدا أحسن صوتا أو قراءة منه.
حال النوع الإنساني خلقا وعملا
[سورة التين (٩٥) : الآيات ١ الى ٨]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (١) وَطُورِ سِينِينَ (٢) وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (٣) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (٤)ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ (٥) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (٦) فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (٧) أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ (٨)
الإعراب:
وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ الْأَمِينِ: إما من الأمن أي الآمن، كعليم بمعنى عالم، أو بمعنى المؤمّن لقوله تعالى: وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً [آل عمران ٣/ ٩٧] كحكيم بمعنى محكم، وسميع بمعنى مسمع.
فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ «ما» : استفهامية في موضع رفع مبتدأ، ويُكَذِّبُكَ:
خبره.
البلاغة:
وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ إن أريد موضعهما وهما الشام وبيت المقدس، فهو مجاز مرسل علاقته الحالية بإطلاق الحالّ وإرادة المحل، مثل: إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ [الانفطار ٨٢/ ١٣] فالنعيم مجاز، وهو شيء معنوي يحل في الجنة، والجنة محل له، وهو حالّ فيها، فأطلق على سبيل المجاز المرسل الذي علاقته الحالّية.
أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ وأَسْفَلَ سافِلِينَ بينهما طباق.
فَما يُكَذِّبُكَ؟ التفات من الغيبة إلى الخطاب لزيادة التوبيخ والعتاب.
أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ استفهام تقريري.
بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ بينهما جناس اشتقاق.
الْبَلَدِ الْأَمِينِ، أَسْفَلَ سافِلِينَ، بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ سجع مرصّع.
المفردات اللغوية:
وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ هما الشجرتان المعروفتان، أو الشام وبيت المقدس موضعا إنبات هاتين الشجرتين، أو جبلان بالشام ينبتان المأكولين، قال أبو حيان: والظاهر أن التين والزيتون هما المشهوران بهذا الاسم، وفي الحديث: مدح التين، وأنها تقطع البواسير، وتنفع من النقرس. وقال البيضاوي: خصّهما من بين الثمار بالقسم لأن التين فاكهة طيبة، لا فضل (بقايا) لها، وغذاء لطيف، سريع الهضم، ودواء كثير النفع، فإنه يلين الطبع، ويحلل البلغم، ويطهر الكليتين، ويزيل رمل المثانة، ويفتح سدّة الكبد والطحال. والزيتون فاكهة وإدام ودواء، وله دهن لطيف، كثير المنافع، مع أنه قد ينبت حيث لا دهنية فيه كالجبال.
وَطُورِ سِينِينَ الجبل الذي كلم اللَّه تعالى موسى عنده، وناجى عليه موسى ربّه، وسِينِينَ وسيناء: اسمان للموضع الذي فيه. ومعنى سِينِينَ: المبارك أو الحسن بالأشجار المثمرة. الْبَلَدِ الْأَمِينِ مكة المكرمة التي كرمها اللَّه بالكعبة، والْأَمِينِ: إما الآمن، أو المأمون فيه، يأمن فيه من دخله.
الْإِنْسانَ أراد به الجنس. فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ تعديل لصورته وشكله، بأن خصه
إِلَّا الَّذِينَ.. استثناء منقطعا بمعنى لكن. غَيْرُ مَمْنُونٍ غير مقطوع عنهم، جاء في الحديث الذي أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس: «إذا كبر العبد وضعف عن العمل، كتب له أجر ما كان يعمل في شبيبته».
فَما يُكَذِّبُكَ أيها الكافر. بَعْدُ بعد ما ذكر من خلق الإنسان في أحسن صورة، ثم رده إلى أرذل العمر، الدال على القدرة الإلهية على البعث. بِالدِّينِ الجزاء بعد البعث والحساب، أي ما يجعلك مكذبا بالبعث ولا جاعل ولا موجب لهذا التكذيب؟
سبب النزول: نزول الآية (٥) :
ثُمَّ رَدَدْناهُ..: أخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ قال: هم نفر، ردوا إلى أرذل العمر، على عهد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فسئل عنهم حتى سفهت عقولهم، فأنزل اللَّه عذرهم، أن لهم أجرهم الذي عملوا، قبل أن تذهب عقولهم.
التفسير والبيان:
وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ أي قسما بالتين الذي يأكله الناس، وبالزيتون الذي يعصرون منه الزيت، فالمراد من التين والزيتون هذان الشيئان المشهوران، قال ابن عباس: هو تينكم وزيتونكم هذا.
وهما كناية عن البلاد المقدسة التي اشتهرت بإنبات التين والزيتون. وإنما أقسم بالتين لأنه غذاء وفاكهة ودواء، فهو غذاء لأنه طعام لطيف، سريع الهضم، لا يمكث في المعدة، يلين الطبع، ويقلل البلغم، ويطهر الكليتين،
وكونه دواء لأنه يتداوى به في إخراج فضول البدن، وفي الحديث الحسن الذي رواه ابن السني وأبو نعيم عن أبي ذر، وضعفه السيوطي: «إنه يقطع البواسير، وينفع من النّقرس».
وكذلك الزيتون فاكهة وإدام ودواء، يعصر منه الزيت الذي هو إدام غالب لبعض أهل البلاد ودهنهم، ويدخل في كثير من الأدوية، قال تعالى:
يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ، لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ [النور ٢٤/ ٣٥].
وقال صلّى اللَّه عليه وسلّم فيما رواه أبو نعيم في الطب عن أبي هريرة وهو ضعيف: «كلوا الزيت وادّهنوا به، فإنه من شجرة مباركة».
وَطُورِ سِينِينَ هو الجبل الذي كلّم اللَّه عليه موسى بن عمران عليه السلام، وهو طور سيناء.
وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ أي مكة المكرمة التي كرمها اللَّه بالكعبة المشرفة، وبميلاد النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وإرساله فيه، سمي أمينا لأنه آمن ومأمون فيه، كما قال تعالى: وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً [آل عمران ٣/ ٩٧].
أقسم اللَّه سبحانه بهذه المواضع الثلاثة لأنها مهابط وحي اللَّه على أولي العزم من الرسل، ومنها أضاءت الهداية للبشر. وجاء في آخر التوراة ذكر هذه الأماكن الثلاثة: جاء اللَّه من طور سيناء- يعني الذي كلم اللَّه عليه موسى بن عمران- وأشرق من ساعير- يعني جبل بيت المقدس الذي بعث اللَّه منه عيسى- واستعلن من جبال فاران- يعني جبال مكة التي أرسل اللَّه منها محمدا صلّى اللَّه عليه وسلّم.
وذكرهم مخبرا عنهم على الترتيب الوجودي بحسب ترتيبهم في الزمان، ولهذا أقسم بالأشرف ثم الأشرف منه، ثم بالأشرف منهما.
ثم ذكر جواب القسم المحلوف عليه، فقال:
والخلاصة: خلقناه في أحسن تعديل شكلا وانتصابا، كما قال أكثر المفسرين.
ذكر القرطبي القصة التالية التي توضح حسن تقويم الإنسان، فقال:
كان عيسى بن موسى الهاشمي يحب زوجته حبّا شديدا، فقال لها يوما:
أنت طالق ثلاثا إن لم تكوني أحسن من القمر فنهضت واحتجبت عنه، وقالت: طلقتني! وبات بليلة عظيمة، فلما أصبح، غدا إلى دار المنصور، فأخبره الخبر، وأظهر للمنصور جزعا عظيما، فاستحضر الفقهاء واستفتاهم، فقال جميع من حضر: قد طلّقت إلا رجلا واحدا من أصحاب أبي حنيفة، فإنه كان ساكتا.
فقال له المنصور: مالك لا تتكلم؟ فقال له الرجل: بسم اللَّه الرحمن الرحيم: وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ. وَطُورِ سِينِينَ. وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ. لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ. يا أمير المؤمنين، فالإنسان أحسن الأشياء، ولا شيء أحسن منه.
فقال المنصور لعيسى بن موسى: الأمر كما قال الرجل، فأقبل على زوجتك. وأرسل أبو جعفر المنصور إلى زوجة الرجل: أن أطيعي زوجك ولا تعصيه، فما طلقك.
ثم عقب القرطبي على هذا قائلا: فهذا يدلك على أن الإنسان أحسن خلق اللَّه باطنا وظاهرا، جمال هيئة، وبديع تركيب: الرأس بما فيه، والصدر بما جمعه، والبطن بما حواه، والفرج وما طواه، واليدان وما بطشتاه،
لكنه غفل عن هذه المقومات، وأهمل هذه الميزات، وأخذ يعمل بهواه وشهواته، لذا قال تعالى:
ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ قيل: إلى النار التي هي أسفل الدرجات إن لم يطع اللَّه ويتبع الرسل، والأولى أن يقال: رددناه إلى أرذل العمر، وهو الهرم والضعف، والخرف ونقص العقل، بعد الشباب والقوة، وجمال النطق، وسلامة الفكر.
والقول الأول، أي إلى النار بسبب كفر بعض الناس هو قول الحسن ومجاهد وأبي العالية وابن زيد وقتادة، وعلى هذا يكون الاستثناء الآتي: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا.. استثناء متصلا.
والقول الثاني، أي إلى أرذل العمر هو قول ابن عباس وعكرمة والضحاك والنخعي، وعلى هذا يكون الاستثناء التالي منقطعا. وليس المعنى أن كل إنسان يعتريه هذا، بل في الجنس من يعتريه ذلك. واختار ذلك ابن جرير.
إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ، فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ أي إلا الذين آمنوا باللَّه ورسله واليوم الآخر، وعملوا صالح الأعمال من أداء الفرائض والطاعات، فلهم ثواب على طاعاتهم دائم غير منقطع.
والمعنى كما أشرنا على التفسير الأول وكون الاستثناء متصلا: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بأن جمعوا بين الإيمان والعمل في حال الاستطاعة، فلهم ثواب جزيل، ينجون به من النار أسفل السافلين، وهو الجنة دار المتقين.
قال الألوسي: المتبادر من السياق الإشارة إلى حال الكافر يوم القيامة، وأنه يكون على أقبح صورة وأبشعها، بعد أن كان على أحسن صورة وأبدعها لعدم شكره تلك النعمة وعمله بموجبها «١».
أخرج أحمد والبخاري وابن حبان عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «إذا مرض العبد أو سافر، كتب اللَّه تعالى له من الأجر مثلما كان يعمل صحيحا مقيما».
وفي رواية عنه: ثم قرأ صلّى اللَّه عليه وسلّم: فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ.
وأخرج الطبراني عن شدّاد بن أوس قال: سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: إن اللَّه تبارك وتعالى يقول: «إذا ابتليت عبدا من عبادي مؤمنا، فحمدني على ما ابتليته، فإنه يقوم من مضجعه كيوم ولدته أمه من الخطايا، ويقول الربّ عزّ وجلّ: إني أنا قيّدت عبدي هذا، وابتليته، فأجروا له ما كنتم تجرون له قبل ذلك»
وهو حديث صحيح.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه قال في الآية: إذا كبر العبد، وضعف عن العمل، كتب له أجر ما كان يعمل في شبيبته.
ورأى بعضهم أن الاستثناء متصل حتى على القول الثاني، فلا يردّ المؤمن المتقي إلى أرذل العمر، بدليل ما أخرج الحاكم وصححه والبيهقي في شعب الإيمان
ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا قال: إلا الذين قرءوا القرآن.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير نحوه، فقال: من جمع القرآن لم يرد إلى أرذل العمر.
ثم وبّخ الكفار على التكذيب بالجزاء بعد البعث، فقال:
فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ؟ المراد: فأي شيء يلجئك بعد هذه البيانات والأدلة على قدرة اللَّه إلى أن تكون كاذبا، بسبب تكذيب الجزاء لأن كل مكذّب بالحق فهو كاذب؟ فإذا عرفت أيها الإنسان أن اللَّه خلقك في أحسن تقويم، وأنه يردّك بسبب الكفر أسفل سافلين، فما يحملك على أن تكذب بالبعث والجزاء؟ لقد علمت البدأة، وعرفت أن من قدر على البدأة، فهو قادر على الرجعة بطريق أولى، فأي شيء يحملك على التكذيب بالمعاد، وقد عرفت هذا؟
ثم أكّد ما سبق بقوله:
أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ أي أما هو أحكم الحاكمين قضاء وعدلا، الذي لا يجور ولا يظلم، ومن عدله أن يقيم القيامة، فينتصف للمظلوم في الدنيا ممن ظلمه؟! أخرج الترمذي عن أبي هريرة مرفوعا: «فإذا قرأ أحدكم: وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ، فأتى على آخرها: أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ فليقل: بلى، وأنا على ذلك من الشاهدين».
يستنبط من الآيات ما يأتي:
١- أقسم اللَّه تعالى بمواضع ثلاثة مقدسة: هي أماكن نبات التين والزيتون، التي هي مقام الأنبياء ومهبط الوحي، وطور سيناء الذي كلم اللَّه عليه موسى، ومكة البلد الحرام الآمن على أنه خلق جنس الإنسان في أحسن تقويم وهو اعتداله واستواء شبابه. ثم يرد بعض النوع الإنساني أسفل سافلين، أي إلى أرذل العمر، وهو الهرم بعد الشباب، والضعف بعد القوة، حتى يصير كالصبي في طوره الأول من أطوار الحياة.
قال ابن العربي: ولامتنان الباري سبحانه، وتعظيم النعمة أو المنة في التين، وأنه مقتات مدخر، فلذلك قلنا بوجوب الزكاة فيه «١».
٢- استثنى اللَّه تعالى الذين جمعوا بين الإيمان والعمل الصالح، فإنه تكتب لهم حسناتهم، وتمحى عنهم سيئاتهم، وهم الذين أدركهم الكبر، لا يؤاخذون بما عملوه في كبرهم.
٣- وبّخ اللَّه الكافر وألزمه الحجة بكفره بالجزاء بعد البعث بقوله فيما معناه: إذا عرفت أيها الإنسان أن اللَّه خلقك في أحسن تقويم، وأنه يردّك إلى أرذل العمر، وينقلك من حال إلى حال، فما يحملك على أن تكذّب بالبعث والجزاء، وقد أخبرك محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم به؟
٤- أليس اللَّه أتقن الحاكمين صنعا في كل ما خلق، وأنه أحكم الحاكمين قضاء بالحق وعدلا بين الخلق؟! وفي هذا تقدير لمن اعترف من الكفار بالصانع القديم وهو اللَّه تعالى. وهو وعيد للكفار وأنه يحكم عليهم بما هم أهله.
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة العلقمكيّة، وهي تسع عشرة آية.
تسميتها:
سميت سورة العلق، وسورة اقرأ، أو بِالْقَلَمِ لأن اللَّه سبحانه افتتحها بقوله: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ. والعلق: الدم المتجمد على شكل الدودة الصغيرة.
مناسبتها لما قبلها:
ذكر اللَّه تعالى في سورة التين أنه خلق الإنسان في أحسن تقويم، وهذا بيان للصورة، وذكر هنا أنه: خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ وهذا بيان للمادة.
وذكر تعالى في هذه السورة من أحوال الآخرة بيانا توضيحيا لما ذكر في السورة السالفة.
ما اشتملت عليه السورة:
هذه السورة المكية أول شيء نزل من القرآن على قلب النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم لبيان الأمور الثلاثة التالية:
١- بيان حكمة اللَّه في خلق الإنسان من ضعف إلى قوة، والإشادة بما زوّده وأمره به من فضيلة القراءة اقرأ والكتابة عَلَّمَ بِالْقَلَمِ لتمييزه على غيره من المخلوقات: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ.. [الآيات: ١- ٥].
٣- افتضاح شأن فرعون هذه الأمة أبي جهل الذي كان ينهى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عن الصلاة، انتصارا للأوثان والأصنام، وتوعده بأشد العقاب إن استمر على ضلاله وكفره وطغيانه، وتنبيه الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى عدم الالتفات لما كان يوعده به ويتهدده: أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى... إلى كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ [الآيات: ٩- ١٩].
كيفية نزول هذه السورة- حديث بدء نزول الوحي:
نزل صدر هذه السورة أول ما نزل من القرآن الكريم، أما بقية السورة فهو متأخر النزول، بعد انتشار دعوته صلّى اللَّه عليه وسلّم بين قريش، وتحرشهم به وإيذائهم له.
أخرج الإمام أحمد والشيخان (البخاري ومسلم) عن عائشة رضي اللَّه عنها قالت: أول ما بدئ به رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: الرؤيا الصادقة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبّب إليه الخلاء، فكان يأتي حراء، فيتحنّث فيه- وهو التعبّد- الليالي ذوات العدد، ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة، فيتزود لمثلها، حتى فجأه الوحي، وهو في غار حراء، فجاءه الملك فيه فقال: اقْرَأْ.
قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «فقلت: ما أنا بقارئ» قال: فأخذني فغطّني- ضمّني- حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فغطّني الثانية، حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فغطّني الثالثة، حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني.
قال: فرجع بها ترجف بوادره حتى دخل على خديجة، فقال: زمّلوني زمّلوني، فزملوه حتى ذهب عنه الرّوع، فقال: يا خديجة، ما لي؟ وأخبرها الخبر، وقال: قد خشيت على نفسي، فقالت له:
كلا، أبشر، فو اللَّه لا يخزيك اللَّه أبدا، إنك لتصل الرّحم، وتصدّق الحديث، وتحمل الكلّ- الضعيف العاجز- وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق. ثم انطلقت به خديجة، حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزّى بن قصيّ، وهو ابن عم خديجة أخي أبيها، وكان امرأ قد تنصّر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العربي، وكتب بالعربية من الإنجيل ما شاء اللَّه أن يكتب، وكان شيخا كبيرا قد عمي، فقالت خديجة: أي ابن عم، اسمع من ابن أخيك، فقال ورقة.
ابن أخي ما ترى؟ فأخبره رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بما رأى، فقال ورقة: هذا الناموس الذي أنزل على موسى، ليتني فيها جذعا «١»، ليتني أكون حيّا حين يخرجك قومك، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: أو مخرجيّ هم؟ فقال ورقة: نعم، لم يأت رجل قط بما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزّرا. ثم لم ينشب «٢» ورقة أن توفي، وفتر الوحي، حتى حزن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فيما بلغنا حزنا، غدا منه مرارا كي يتردى من رؤوس شواهق الجبال، فكلما أوفى بذروة جبل لكي يلقي نفسه منه، تبدّى له جبريل، فقال: يا محمد، إنك رسول اللَّه حقا، فيسكن بذلك جأشه، وتقرّ نفسه، فيرجع، فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك. فإذا أوفى بذروة الجبل، تبدّى له جبريل، فقال له مثل ذلك.
(٢) لم ينشب: لم يلبث.