ﰡ
[تفسير سورة التين]
تفسير سورة" والتين" مَكِّيَّةٌ فِي قَوْلِ الْأَكْثَرِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ: هِيَ مَدَنِيَّةٌ وَهِيَ ثَمَانِي آيَاتٍ.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة التين (٩٥): آية ١]بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (١)فِيهِ ثلاث مسائل: الأول- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ وَعَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ وَمُقَاتِلٌ وَالْكَلْبِيُّ: هُوَ تِينُكُمُ الَّذِي تَأْكُلُونَ، وَزَيْتُونُكُمُ الَّذِي تَعْصِرُونَ مِنْهُ الزَّيْتَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ «١» [المؤمنون: ٢٠]. وَقَالَ أَبُو ذَرٍّ: أُهْدِيَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَلُّ تِينٍ، فَقَالَ: [كُلُوا [وَأَكَلَ مِنْهُ. ثُمَّ قَالَ: [لَوْ قُلْتُ إِنَّ فَاكِهَةً نَزَلَتْ مِنَ الْجَنَّةِ لَقُلْتُ هَذِهِ، لِأَنَّ فَاكِهَةَ الْجَنَّةِ بِلَا عَجَمٍ «٢»، فَكُلُوهَا فَإِنَّهَا تَقْطَعُ الْبَوَاسِيرَ، وَتَنْفَعُ مِنَ النِّقْرِسِ [. وَعَنْ مُعَاذٍ أَنَّهُ اسْتَاكَ بِقَضِيبِ زَيْتُونٍ، وَقَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: [السِّوَاكُ الزَّيْتُونُ! مِنَ الشَّجَرَةِ الْمُبَارَكَةِ، يُطَيِّبُ الْفَمَ، وَيَذْهَبُ بِالْحَفَرِ»
، وَهِيَ سِوَاكِي وَسِوَاكُ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِي [. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا: التِّينُ: مَسْجِدُ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ الَّذِي بُنِيَ عَلَى الْجُودِيِّ، وَالزَّيْتُونُ: مَسْجِدُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: التين: المسجد الحرام، والزيتون المسجد
(٢). العجم (بالتحريك): النوى.
(٣). الحفر (بفتح الحاء وسكون الفاء وفتحها): صفرة تعلو الأسنان.
... أتين التين عن عرض «١»
وَهَذَا اسْمُ مَوْضِعٍ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ وَمَنَابِتِ التِّينِ وَالزَّيْتُونِ. وَلَكِنْ لَا دَلِيلَ عَلَى ذَلِكَ مِنْ ظَاهِرِ التَّنْزِيلِ، وَلَا مِنْ قَوْلِ مَنْ لَا يُجَوِّزُ خلافه، قاله النحاس. الثانية- وَأَصَحُّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ الْأَوَّلُ، لِأَنَّهُ الْحَقِيقَةُ، وَلَا يُعْدَلُ عَنِ الْحَقِيقَةِ إِلَى الْمَجَازِ إِلَّا بِدَلِيلٍ. وَإِنَّمَا أَقْسَمَ اللَّهُ بِالتِّينِ، لِأَنَّهُ كَانَ سِتْرَ آدَمَ فِي الْجَنَّةِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ «٢» [الأعراف: ٢٢] وَكَانَ وَرَقَ التِّينِ. وَقِيلَ: أَقْسَمَ بِهِ لِيُبَيِّنَ وَجْهَ الْمِنَّةِ الْعُظْمَى فِيهِ، فَإِنَّهُ جَمِيلُ الْمَنْظَرِ، طَيِّبُ الْمَخْبَرِ، نَشِرُ «٣» الرَّائِحَةِ، سَهْلُ الْجَنْيِ، عَلَى قَدْرِ الْمُضْغَةِ. وَقَدْ أَحْسَنَ الْقَائِلُ فِيهِ:
انْظُرْ إِلَى التِّينِ فِي الْغُصُونِ ضُحًى | مُمَزَّقَ الْجِلْدِ مَائِلَ الْعُنُقِ |
كَأَنَّهُ رَبُّ نِعْمَةٍ سُلِبَتْ | فَعَادَ بَعْدَ الْجَدِيدِ فِي الْخَلَقِ |
أَصْغَرُ مَا فِي النُّهُودِ أَكْبَرُهُ | لَكِنْ يُنَادَى عَلَيْهِ فِي الطُّرُقِ |
صُهْبُ الظِّلَالِ أَتَيْنَ التِّينَ عَنْ عُرُضٍ | يُزْجِيَنَ غيما قليلا ماؤه شبما |
(٢). آية ٢٢ سورة الأعراف.
(٣). كذا في الأصول ولم نجده في معاجم اللغة. [..... ]
التِّينُ يَعْدِلُ عِنْدِي كُلَّ فَاكِهَةٍ | إِذَا انْثَنَى مَائِلًا فِي غُصْنِهِ الزَّاهِي |
مُخَمَّشُ الْوَجْهِ قَدْ سَالَتْ حَلَاوَتُهُ | كَأَنَّهُ رَاكِعٌ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ |
[سورة التين (٩٥): آية ٢]
وَطُورِ سِينِينَ (٢)
رَوَى ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ وَطُورِ قَالَ: جَبَلٌ. سِينِينَ قَالَ: مُبَارَكٌ بِالسُّرْيَانِيَّةِ. وَعَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: طُورِ جبل، وسِينِينَ، حَسَنٌ. وَقَالَ قَتَادَةُ: سِينِينَ هُوَ الْمُبَارَكُ الْحَسَنُ. وَعَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: الْجَبَلُ الَّذِي نَادَى اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ مِنْهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ وَالْكَلْبِيُّ: سِينِينَ كُلُّ جَبَلٍ فِيهِ شَجَرٌ مُثْمِرٌ، فَهُوَ سِينِينَ وَسَيْنَاءَ، بِلُغَةِ النَّبَطِ وَعَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ الْعِشَاءَ بِمَكَّةَ، فَقَرَأَ وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ.
(٢). أي يأتدمون به.
(٣). راجع ج ١٢ ص ١١٦.
(٤). زيادة عن ابن العربي.
(٥). في نسخ الأصل: (فيها).
[سورة التين (٩٥): آية ٣]
وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (٣)
يَعْنِي مَكَّةَ. سَمَّاهُ أَمِينًا لِأَنَّهُ آمِنٌ، كَمَا قَالَ: أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً «١» [العنكبوت: ٦٧] فَالْأَمِينُ: بِمَعْنَى الْآمِنُ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ وَغَيْرُهُ. قَالَ الشَّاعِرُ:
أَلَمْ تَعْلَمِي يَا أَسْمُ وَيْحَكِ أَنَّنِي | حَلَفْتُ يَمِينًا لَا أَخُونُ أَمِينِي |
[سورة التين (٩٥): الآيات ٤ الى ٥]
لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (٤) ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ (٥)
فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ هَذَا جَوَابُ الْقَسَمِ، وَأَرَادَ بِالْإِنْسَانِ: الْكَافِرَ. قِيلَ: هُوَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ. وَقِيلَ: كِلْدَةُ بْنُ أُسَيْدٍ. فَعَلَى هَذَا نزلت في منكري
[سورة التين (٩٥): آية ٦]
إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (٦)
قَوْلِهِ تَعَالَى: (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) فَإِنَّهُ تُكْتَبُ لَهُمْ حَسَنَاتُهُمْ، وَتُمْحَى عَنْهُمْ سَيِّئَاتُهُمْ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. قَالَ: وَهُمُ الَّذِينَ أَدْرَكَهُمُ الْكِبَرُ لَا يُؤَاخَذُونَ بِمَا عَمِلُوهُ في كبرهم.
(٢). آية ٣٣ سورة الزمر.
(٣). آية ٤٨ سورة الشورى.
[سورة التين (٩٥): آية ٧]
فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (٧)
قِيلَ: الْخِطَابُ لِلْكَافِرِ، تَوْبِيخًا وَإِلْزَامًا لِلْحُجَّةِ. أَيْ إِذَا عَرَفْتَ أَيُّهَا الْإِنْسَانُ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَكَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ، وَأَنَّهُ يَرُدُّكَ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ، وَيَنْقُلُكَ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، فَمَا يَحْمِلُكَ عَلَى أَنْ تُكَذِّبَ بِالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ، وَقَدْ أَخْبَرَكَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِ؟ وَقِيلَ: الْخِطَابُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيِ اسْتَيْقِنْ مَعَ مَا جَاءَكَ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، أَنَّهُ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ. رُوِيَ مَعْنَاهُ عَنْ قَتَادَةَ. وَقَالَ قَتَادَةُ أَيْضًا وَالْفَرَّاءُ: الْمَعْنَى فَمَنْ يُكَذِّبُكَ أَيُّهَا الرَّسُولُ بَعْدَ هَذَا الْبَيَانِ بِالدِّينِ. وَاخْتَارَهُ الطَّبَرِيُّ. كَأَنَّهُ قَالَ: فَمَنْ يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ، أَيْ عَلَى تَكْذِيبِكَ بِالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، بَعْدَ مَا ظَهَرَ مِنْ قُدْرَتِنَا عَلَى خَلْقِ الْإِنْسَانِ وَالدِّينِ وَالْجَزَاءِ. قَالَ الشَّاعِرُ:
دِنَّا تَمِيمًا كَمَا كَانَتْ أَوَائِلُنَا | دانت أوائلهم في «٣» سالف الزمن |
(٢). في بعض نسخ الأصل: (ملائكة) وفي بعضها: (ملكين).
(٣). في تفسير الشوكاني طبعه مصطفى البابي الحلبي (٤٥٣: ٥): من سالف.
أي أتقن الحاكمين صنعا في كل ما خلق. وقيل :" بأحكم الحاكمين " قضاء بالحق، وعدلا بين الخلق. وفيه تقدير لمن اعترف من الكفار بصانع قديم. وألف الاستفهام إذا دخلت عل النفي وفي الكلام معنى التوقيف صار إيجابا، كما قال :
ألستم خير من ركب المطايا١
وقيل :" فما يكذبك بعد بالدين. أليس اللّه بأحكم الحاكمين " : منسوخة بآية السيف. وقيل : هي ثابتة ؛ لأنه لا تنافي بينهما. وكان ابن عباس وعلي بن أبي طالب رضي اللّه عنهما إذا قرأ :" أليس اللّه بأحكم الحاكمين " قالا : بلى، وأنا على ذلك من الشاهدين "، فيختار ذلك. واللّه أعلم. ورواه الترمذي عن أبي هريرة قال : من قرأ سورة " والتين والزيتون " فقرأ " أليس اللّه بأحكم الحاكمين " فليقل : بلى، وأنا على ذلك من الشاهدين. واللّه أعلم.