تفسير سورة العلق

مراح لبيد
تفسير سورة سورة العلق من كتاب مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد المعروف بـمراح لبيد .
لمؤلفه نووي الجاوي . المتوفي سنة 1316 هـ

سورة العلق
وتسمى سورة القلم، وسورة اقرأ، مكية، تسع عشرة آية، اثنتان وسبعون كلمة، مائتان وسبعون حرفا
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ أي اقرأ القرآن مفتتحا باسم ربك أي قل باسم الله، ثم اقرأ القرآن الَّذِي خَلَقَ (١) كل شيء خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (٢) أي من دم جامد اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (٣) أي امض لما أمرت به، والحال أن ربك الذي أمرك بالقراءة هو الأكرم الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (٤) أي علم الإنسان الخط بالقلم، وعلم ينصب مفعولين وقال قتادة: القلم نعمة من الله تعالى ولولا ذلك لم يقم دين، ولم يصلح عيش.
روى عبد الله ابن عمرو قال: «قلت يا رسول الله أأكتب ما أسمع منك من الحديث قال: «نعم فاكتب فإن الله تعالى علم بالقلم»
وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تسكنوا نساءكم الغرف ولا تعلموهن الكتابة»
أي حذرا من تطلعهن إلى الرجال، وحذرا من الفتنة لأنهن قد يكتبن لمن يهوين عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ (٥) أي علمه بالقلم وبدونه من الأمور الجلية والخفية ما لم يخطر بباله كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (٦) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى (٧) أي حقا يا محمد إن الكافر يتكبر على ربه لأن رأى نفسه مستغنيا عن الله بالمال نزلت الآيات من هاهنا إلى آخر السورة في أبي جهل. روي أن أبا جهل قال لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أتزعم أن من استغنى طغى فاجعل لنا جبال مكة فضة وذهبا لعلنا نأخذ منها فنطغى فندع ديننا ونتبع دينك، فنزل عليه جبريل عليه السلام فقال: يا محمد إن شئت فعلنا ذلك، ثم إن لم يؤمنوا فعلنا بهم ما فعلنا بأصحاب المائدة فكف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الدعاء إبقاء عليهم. إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى
(٨) أي إن إلى مالك أمرك رجوع الكل بالموت والبعث، فسترى حينئذ عاقبة تمردك أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى (٩) عَبْداً إِذا صَلَّى (١٠) و «أرأيت» لحمل المخاطب وهو النبي على التعجب وهي تتعدى إلى مفعولين لأنها بمعنى أخبرني فالمفعول الأول «الذي» والمفعول الثاني محذوف وهو جملة استفهامية كالجملة الواقعة بعد «أرأيت» الثالثة أي أخبرني يا محمد الناهي من يصلي ألم يعلم أن الله يطلع على أحواله فيجازيه بها حتى اجترأ على ما فعل. روى مسلم عن أبي هريرة قال: قال أبو جهل في ملأ من طغاة قريش: هل يعفر محمد وجهه بين أظهركم، فقالوا: نعم قال: واللات والعزى لئن رأيته يفعل ذلك لأطأن
على رقبته ولأعفرن وجهه في التراب، قال: فأتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو يصلي ليطأ على رقبته فنكص على عقبيه وهو يتقي بيديه فقالوا له: ما لك يا أبا الحكم، فقال: إن بيني وبينه لخندقا من نار وهولا وأجنحة فأنزل الله هذه الآية:
أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى (١١) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى (١٢) ومفعولا «أرأيت» محذوفان حذف الأول لدلالة المفعول الأول من «أرأيت» الأولى عليه وحذف الثاني لدلالة مفعول «أرأيت» الثالثة عليه وأو بمعنى الواو، والمعنى: أخبرني يا محمد ذلك الناهي إن صار على الهدى وأمر بالتقوى أما كان ذلك خيرا له من الكفر بالله والنهي عن خدمته كأنه تعالى يقول: تلهف يا مخاطب عليه كيف فوت على نفسه المراتب العالية، وقنع بالمراتب الدنيئة، وهو رجل عاقل ذو ثروة لا يليق به ذلك أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (١٣) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى (١٤) والجملة الاستفهامية تكون في موضع المفعول الثاني ل «أرأيت» ومفعولها الأول محذوف وهو ضمير يعود إلى الموصول، أو اسم إشارة يشار به إليه أي أرأيته يا محمد إن كذب هذا الكافر بتلك الدلائل الواضحة وأعرض عن خدمة خالقه ألم يعلم يعقله أن الله يرى منه هذه الأعمال القبيحة أفلا ينزجر عنها كَلَّا أي لن يصل أبو جهل إلى ما يقول: إنه يقتل محمدا أو يطأ عنقه، بل تلميذ محمد هو الذي يقتله ويطأ صدره، وهو عبد الله بن مسعود لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ أي والله لئن لم ينته أبو جهل عن أذى النبي صلّى الله عليه وسلّم، لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ (١٥) أي لنأخذن الناصية ولنجرن بها إلى النار في الآخرة أو لنقبضن على الناصية في الدنيا روي أن أبا جهل لما قال: إن رأيته يصلي لأطأن عنقه، فأنزل الله تعالى هذه السورة، وأمره جبريل عليه السلام بأن يقرأها على أبي جهل ويخر لله ساجدا في آخرها ففعل فعدا إليه أبو جهل ليطأ عنقه فلما دنا منه نكص على عقبيه راجعا فقيل له: ما لك قال: إن بيني وبينه فحلا فاغرا فاه لو مشيت إليه لا لتقمني،
وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضوا عضوا»
«١»
وروي أنه لما نزلت سورة الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ قال صلّى الله عليه وسلّم لأصحابه: «من يقرؤها منكم على رؤساء قريش» فقام ابن مسعود وقال: أنا يا رسول الله، ثم إنه وصل إليهم فرآهم مجتمعين حول الكعبة فافتتح قراءة السورة، فقام أبو جهل فلطمه فشق أذنه وأدماه فانصرف وعينه تدمع فلما رآه النبي صلّى الله عليه وسلّم رق قلبه وأطرق رأسه مغموما، فإذا جبريل عليه السلام يجيء ضاحكا مستبشرا فقال صلّى الله عليه وسلّم: «يا جبريل تضحك وابن مسعود يبكي» فقال: ستعلم فلما ظفر المسلمون يوم بدر التمس ابن مسعود أن يكون له حظ في الجهاد، فقال صلّى الله عليه وسلّم له: «خذ رمحك والتمس في الجرحى من كان به رمق فاقتله فإنك تنال ثواب المجاهدين» فأخذ يطالع القتلى فإذا أبو جهل مصروع يخور فخاف أن يكون به قوة فيؤذيه فوضع الرمح على منخره من بعيد فطعنه فلما عرف عجزه ارتقى إلى صدره بحيلة، فلما رآه أبو جهل قال: يا رويعي الغنم لقد ارتقيت مرتقى صعبا،
(١) رواه الحاكم في المستدرك (١: ٥٦٧)، والسيوطي في الدر المنثور (٦: ٣٨٦).
648
فقال ابن مسعود: الإسلام يعلو ولا يعلى عليه، فقال له أبو جهل: بلغ صاحبك أنه لم يكن أحد أبغض إلي منه في حياتي، ولا أحد أبغض إلي منه في حال مماتي ثم قال لابن مسعود: اقطع رأسي بسيفي هذا لأنه أحدّ فلما قطع رأسه لم يقدر على حمله فلما لم يطقه شق أذنه وجعل الخيط فيه وجعل يجره إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وجبريل بين يديه يضحك، ويقول يا محمد: أذن بأذن، لكن الرأس هاهنا مع الأذن.
وقرئ «لنسفعن» بالنون المشددة فالفاعل لهذا الفعل هو الله والملائكة، وقرأ ابن مسعود لأسفعن أي يقول الله: يا محمد أنا الذي أتولى إهانة أبي جهل ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ في قولها خاطِئَةٍ (١٦) في فعلها لأن صاحبها متمرد على الله تعالى لأنه كان كاذبا على الله تعالى في قوله:
إنه تعالى لم يرسل محمدا وكاذبا على رسوله في قوله: إن محمدا ساحر، أو كذاب، أو ليس بنبي، و «ناصية» بدل من الناصية، وقرئ «ناصية» بالرفع والتقدير هي ناصية، وقرئ ناصية بالنصب وكلاهما على الشتم، فَلْيَدْعُ نادِيَهُ (١٧) أي أهل مجلسه الذين يجتمعون فيه للتشاور، أو لأنه مجلس العطاء والجود سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ (١٨) هم الملائكة الغلاظ الشداد كما قاله الزجاج.
قال ابن عباس: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يصلي فجاء أبو جهل فقال: ألم أنهك عن هذا فزبره النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقال أبو جهل: والله إنك لتعلم بأني أكثر أهل الوادي ناديا فأنزل الله تعالى فَلْيَدْعُ نادِيَهُ سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ قال ابن عباس: لو دعا ناديه لأخذته زبانية الله فكأنه تعالى لما عرفه أنه مخلوق من علق فلا يليق به التكبر، فهو عند ذلك ازداد تعززا بماله ورئاسته في مكة، ويروى أنه قال: ليس بمكة أكرم مني، وروي أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما قرأ هذه السورة وبلغ إلى قوله تعالى: لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ قال أبو جهل: أنا أدعو قومي حتى يمنعوا عني ربك. قال الله تعالى: فَلْيَدْعُ نادِيَهُ سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ فلما ذكر الزبانية رجع فزعا فقيل له: خشيت منه قال: لا، ولكن رأيت عنده فارسا وهددني بالزبانية فلا أدري الزبانية، ومال إلى الفارس فخشيت منه، وقيل: كان جبريل وميكائيل عليهما السلام على كتفيه صلّى الله عليه وسلّم في صورة الأسد قال ابن عباس رضي الله عنهما: والله لو دعا ناديه لأخذته ملائكة العذاب من ساعته معاينة، وقرئ «ستدعى الزبانية» على المجهول أي ليجروه إلى النار كَلَّا أي لن يصل أبو جهل إلى ما يتصلف به من أنه يدعو قومه لا تُطِعْهُ أي أبا جهل فيما يأمرك به من ترك الصلاة، بل دم على ما أنت عليه من مخالفته وَاسْجُدْ أي صل وتوفر على عبادة الله تعالى فعلا وإبلاغا، وقلل فكرك في هذا العدو، فإن الله مقويك وناصرك وَاقْتَرِبْ (١٩) أي ابتغ بسجودك قرب المنزلة من ربك.
649
Icon