ﰡ
عدد ١ (نزولا) - ٩٦ (في ترتيب المصحف) وهي تسع عشرة آية واثنتان وسبعون كلمة ومائتان وثمانون حرفا لا ناسخ ولا منسوخ فيها ولا يوجد في القرآن سورة بدئت أو ختمت بما بدئت أو ختمت به، وقد نزلت في غار حراء بمكة يوم الجمعة في ١٧ رمضان سنة ٤١ أو ٢٧ رمضان سنة ٤١ من ميلاده صلّى الله عليه وسلم ومثلها في عدد آياتها سورتا الأعلى والانفطار.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قال تعالى: «اقْرَأْ» يا محمد ما أوحيته إليك على لسان رسولي جبريل من القرآن الذي أردنا إنزاله عليك لتتلوه على أمتك، مبتدأ «بِاسْمِ رَبِّكَ» الذي رباك وأنعم عليك به واختارك لإرشاد عباده، وهذا أول أمر أمره به ربه بأن يذكر اسمه تيمّنا به ثم يقرأ ما يوحيه إليه تأدبا لحضرته الكريمة وتعريفا لعنوان الربوبية المنبئة عن حال التربية والتبليغ إلى الكمال اللائق به شيئا فشيئا، وبإضافة الضمير إليه تعالى اشعار بتبليغه عليه السلام الغاية القصوى من الكمالات البشرية بإنزال هذا القرآن عليه، ثم وصف ذاته جلت وعظمت بقوله «الَّذِي خَلَقَ ١» كل شيء وبدأ خلقه من لا شيء وصور جميع خلقه على غير مثال سابق باسمه البديع الذي «خَلَقَ الْإِنْسانَ» الذي هو أشرف المخلوقات وأبدع المصنوعات الذي منه تقتبس المكونات البشرية وبه تقوم المكونات الإلهية، قال علي كرّم الله وجهه:دواؤك فيك ولا تشعر... وداؤك منك ولا تبصر
وتزعم أنك جرم صغير... وفيك انطوى العالم الأكبر
هذا وان الله تعالى يعلّم خلقه بأن هذا المخلوق العظيم خلقه «مِنْ عَلَقٍ ٢» يريد بذلك بني آدم كلهم، أما آدم عليه السلام فقد خلقه من تراب لأن العلق هو الدم الذي تجمد عن ولوج الحيوان الذي يطلق عليه لفظ علق أيضا، وهذا بيان لكمال قدرته بإظهار ما بين حالتي الإنسان الأولى والأخرى من التباين. وقد ذكّر الله نبيه بأول نعمة فائضة عليه منه وهي الخلق لأنه أقدم الدلائل الدالة على وجوده، وجاء علق بلفظ الجمع لان (أل) فيه للاستغراق لتشمل جميع أفراد الإنسان. هذا ومن فسر الإنسان بآدم قال إن أل فيه للجنس الصادق بالواحد والقدر، وعليه يكون المعنى أصل الإنسان وجنسه آدم عليه السلام، وليس بشيء، لأن الله تعالى صرح في كتابه بآيات متعددة بأنه خلقه من الطين ومن التراب هذا. وفي قوله اقرأ إشارة إلى أنه تعالى خلق الإنسان للقراءة كما خلقه للعبادة لأنه ذكر الخلق بعد الأمر بالقراءة كما في قوله جل قوله (خَلَقَ الْإِنْسانَ) الآية ٤ من سورة الرحمن في ج ٣ بعد قوله (الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ) تنبيه لهذا، وانظر لقوله عز قوله (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) الآية ٥٦ من الذاريات في ج ٢ وذلك لأن القراءة أصل العبادة كيف لا وفيها البعد عن الجهل المفني للأمم، وما فازت أمة إلا بقدر علومها ومعارفها الدينية والدنيوية، ولهذا كرر تعالى الأمر لحبيبه بقوله «اقْرَأْ» لنفسك ولغيرك فتعلّم وعلّم، ثم مهد له جل شأنه ما بينه من العذر إلى جبريل عليه السلام حين ضمّه وقال له اقرأ فقال ما أنا بقارئ على النحو المار ذكره في المطلب الثاني عشر، وازاحه عنه بقوله «وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ ٣» الذي لا يوازيه كريم، الذي منّ عليك بالرسالة من غير طلب، يمنّ عليك بالقراءة من غير تعليم، كيف لا وهو «الَّذِي عَلَّمَ» بفضله وكرمه وعطفه ولطفه أنواع العلوم وفهّم القارئ الكتابة «بِالْقَلَمِ ٤» لمعرفة الأمور الغائبة وحفظ الحاضرة والمستقبلة وضبطها وتدوينها، واثبات علوم الأولين وسيرهم والاطلاع على منافعها
مطلب ما رثي نوما لا بعد قرآنا، وأصل الكتابة بفوائدها:
انتهت الآيات الخمس التي نزلت دفعة واحدة أول الوحي فينبغي لمن يريد حفظ القرآن أن يحفظه خمسا خمسا فهو أعون على حفظه كله لأن الرسول قد حفظها حال نزولها، وما قاله بعض المفسرين من أنه تلقى هذه الآيات الخمس من الملك في سنة من النوم ثم تلقاها يقظة لا طائل تحته ولا قيمة له بل ولا صحة له، والحديث في هذا رواه الطبراني عن ابن الزبير موقوفا وهو يقابل ما جاء في الصحيحين على فرض صحته لأن الصحيح ما جاء في الصحيحين بأنه تلقاها حال اليقظة نهارا كما أثبتناه آنفا في المطلب الثاني عشر، لأن ما يراه الرسول في النوم لا يسمى قرآنا، وسيأتي لهذا البحث صلة في تفسير سورة الكوثر الآتية فراجعها. قال قتاده: لولا القلم لم يقم دين ولم يصلح عبش لأن الكلام عبارة عن هواء فإذا لم يقيد ضاع، وفيه قيل:
العلم صيد والكتابة قيده | قيد صيودك بالحبال الموثقه |
قال من أهل الأنبار، قلت وممن أخذه أهل الأنبار؟ قال من طارئ طرأ عليهم من أهل اليمن، قلت وممن أخذه ذلك الطارئ؟ قال من الخلّجان بن القسم كاتب الوحي لنبي الله هود عليه السلام وهو الذي يقول:
أفي كل عام سنة تحدثونها | ورأي على غير الطريق يعيّر |
وللموت خير من حياة تسيئنا | بها جرهم فيمن يسبّ وحمير |
واعلم ان أصول كتابات الأمم اثنا عشر: ١- السريانية، ٢- العبرانية، ٣- الحميرية، ٤- الفارسية، ٥- اليونانية، ٦- الرومية، ٧- القبطية، ٨- البربرية، ٩- بالهندية، ١٠- الأندلسية، ١١- الصينية، ١٢- العربية، ولها فروع كثيرة، هذا، وبعد هذه الآيات الخمس بتسع سنين وعشرة أشهر نزل قوله تعالى ردّا لغلو أبي جهل وتمرده وبغيه «كلآ» حقا «إِنَّ الْإِنْسانَ» جنسه إذا تكاثرت. عليه النعم «ليطغى ٦» على غيره ويستكبر ويتجاوز الحد في المعاصي واتباع الهوى ولا يشكرها «أَنْ رَآهُ» أي ان راى نفسه «استغنى ٧» وكثر ماله وولده فيأنف ويترفّع على غيره في المأكل والمشرب والملبس والركب والمسكن والترف وكان نزولها وما بعدها لآخر السورة بعد فرض الصلاة، بدليل النهي فيها عنها، وقد ألحقت بالآيات الخمس الأول على الصورة التي ذكرناها في مطلب جمع القرآن فراجعها.
وهكذا فإنا نشير إلى الآيات التي لم تنزل مع سورها ونبين محالها، لأنا إذا أفردناها على حدة يتبعض نظام القرآن وهو منزه عن التبعيض ويتغير نسق السور وهو منهي عنه شرعا لأن ترتيبه توقيفي كما بيناه هناك، ولهذا السبب لم نفرد الآيات التي نزلت منفردة عن سورها بل نثبتها في سورها ونكتفي بإلماع إليها، هذا وان الصلاة فرضت ليلة الإسراء في ٢٧ رجب سنة ٥١ من ميلاده الشريف في السنة العاشرة من البعثة قبل الهجرة بثلاث سنين. وسبب نزولها في أبي جهل أنه كان قبل بعثة الرسول فقيرا ثم أصاب مالا كثيرا، فزاد في عناده وتجبره، وفي معتاده كله، فوبخه الله تعالى في هذه الآية، ونبهه بأن يشكر نعمته ويعمل لآخرته، لأن ما يعمله للدنيا فان والعاقل من يعمل لآخرته، لأن الله تعالى يقول: «إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى ٨»
في العقبى الباقية، وهناك ترى أنت وغيرك عاقبة الأمر.
وفيها تهديد وتحذير من القهور والبغي، وتنبيه بأن النعم يجب أن تقابل بالتواضع والشكر طلبا لدوامها وتأدية لحق المنعم بها، قال تعالى: تعجبا أي يعجب الله الناس من حال أبي جهل «أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى ٩ عَبْداً» نون للتنكير تعظيما له، لأن المراد به حضرة الرسول «إِذا صَلَّى ١٠» لربه، أخبرنا أيها العاقل هل يفعل ذلك أحد؟ لأن الرؤية إذا كانت للعلم أجرى الاستفهام عنها مجرى الاستخبار عن متعلقها سواء كانت بصرية أو قلبية، قال محمد بن أحمد الجزي في تفسيره التسهيل: إن فعل أراه للعلم، بدليل عمل الفعل بالفجر لأن فعل أراه للخير، لا يعمل بضمير المتكلم وهو كذلك، وتقدير الجواب، ألم يعلم بأن الله يطلع عليه فيعاقبه، لأن المنهي على رشد وهدى من ربه،
ولهذا قال جل قوله: «أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى ١١»، فهل له أن يمنعه من ذلك؟ أما يخشى عقاب الله «أو» يزعم هذا الخبيث أنه «أَمَرَ بِالتَّقْوى ١٢» التي أساسها التوحيد والإخلاص، وملاكها الخوف والرجاء، وهي الجامعة لكل خير، المانعة من كل شر. كلا. بل أمر فيما
واعلم أن حكم هذه الآيات عام، وأن ما فيها من الوعيد يتناول كل من ينهى عن شيء من العبادات والأعمال الصالحة. ولا يلزم منها منع المولى عبده، والرجل زوجته عن قيام الليل وصوم التطوع والاعتكاف وصلاة الجمعة، لأن ذلك استيفاء لمصلحة السيد والزوج. ولا يلزم ايضا جواز المنع من الصلاة في الأرض المغصوبة وعلى الثوب المغصوب لعموم اللفظ لا لخصوص السبب. روى البخاري عن ابن عباس قال: قال أبو جهل لئن رأيت محمدا يصلي عند البيت لأطان على عنقه، فبلغ ذلك رسول الله فقال: لو فعل لأخذته الملائكة، زاد الترمذي عيانا. وروى مسلم عن أبي هريرة قال: قال أبو جهل هل يعفر محمد وجهه بين أظهركم؟ فقيل نعم، قال:
واللات والعزى لئن رأيته يفعل ذلك لأطأن رقبته أو لأعفرن وجهه في التراب، قال: فأتى رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو يصلي ليطأ على رقبته، قال: فما فجأهم منه إلا وهو ينكص على عقبه ويتقي بيديه، فقيل له مالك؟ قال: ان بيني وبينه خندقا من نار وهولا وأجنحة! فقال صلّى الله عليه وسلم: لو دنا لا ختطفته الملائكة عضوا عضوا. وأنزل الله الآيات من كلّا إلى آخر السورة. هذا، وقول الحسن إن المنهي سلمان الفارسي والناهي أمية بن خلف، لا يصح، لأن سلمان أسلم في المدينة بعد الهجرة بلا خلاف، وهذة الآيات نزلت بمكة بلا خلاف أيضا، وما قيل إن الصلاة المنهي عنها كانت بجماعة، وكان أبو بكر وعلي يصليان مع النبي صلّى الله عليه وسلم، وإن أبا طالب قال لابنه جعفر: صل جناح ابن عمك بعيد عن الثبوت أيضا، لأن أبا طالب مات في السنة العاشرة من البعثة، وتلته خديجة بعد ثلاثة أيام قبل فرض الصلاة وقبل وقوع الإسراء، وقد فرضت الصلاة كما مر آنفا، ولو كان أبو طالب حيا لما تجرا أبو جهل
«كلّا» لا يعلم أبو جهل رؤية الله لعمله القبيح الذي يقوم به عنادا وعتوا وتكذيبا لحضرة الرسول، وعزتي وجلالي «لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ» عن إيذاء الرسول ولم يرجع عما هو عليه «لَنَسْفَعاً» لناخذنّه ونجذبه «بِالنَّاصِيَةِ ١٥» ونقذفنه بالنار والسفع أخذ الشيء وجذبه بشدّة وكتب نسفعا بالألف اعتبارا بحال الوقف، ويجوز في غير القرآن كتابته بالنون كسائر الأفعال المتصل بها نون التوكيد الخفيفة وعليه قوله:
يحسب الجاهل ما لم يعلما | شيخا على كرسيه معمّما |
مطلب معرفة بعض الألفاظ.
واعلم أن المجلس لا يسمى مجلسا إلا وفيه ناس وإلا فهو بيت، كما لا تسمى المائدة مائدة إلا وعليها الطعام وإلا فهي خوان، والكأس لا تسمى كأسا إلا وفيها الشراب وإلا فهي زجاجة، والقلم لا يسمى قلما إلا وهو مبري وإلا فهو قصبة، هذا، ويطلق الأخذ بالناصية على الأخذ بمقدم شعر الرأس، قال عمرو بن معديكرب:
قوم إذا كثر الصياح رأيتهم | ما بين ملجم مهره أو سافع |
مطاعم في القصوى مطاعين في الوغى | زبانية غلب عظام حلومها |
لهم مجلس مهب السبال ادلة | سواسية امراؤها وعبيدها |
وفيهم مقامات حسان وجوههم | وأندية ينتابها القول والفعل |
مطلب الحكم الشرعي في سجود التلاوة الحكم الشرعي: وجوب السجود عند تلاوة كل سجدة من سجدات القرآن الأربع عشرة فورا امتثالا لأمر الله، ويسن عند تلاوة آية السجدة آخر سورة الحج في ج ٣ خروجا من الخلاف، وتجب على السامع ولو من وراء جدار ولو بسماعها
وإذا كان عند التلاوة أو السماع غير متوضئ فليقل «سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ»، الآية ٢٨٥ من البقرة ج ٣، ثم يقضيها بعد، فإذا سمعها وهو في الصلاة نواها في ركوعه أو سجوده. روى مسلم عن أبي هريرة: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأكثروا من الدعاء، أي في السجود، وأخرج مسلم عن أبي هريرة قال: سجدنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم في (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) و (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ)، وجاء في صحيح مسلم من حديث لثوبان مرفوعا: عليك بكثرة السجود، فإنه لا تسجد لله سجدة إلا ورفعك بها درجة وحط عنك بها خطيئة. ولهذا البحث صلة في سجدة سورة مريم الآتية. واعلم انه إذا لم يرد بالصلاة هذه المبينة في الآية ١٧ المارة الصلاة المفروضة على فرض نزول هذه الآية قبل فرض الصلاة على النبي وأمته فيكون المراد بها في هذه الآية وما بعدها من السور الآتية إلى نزول سورة الإسراء صلاة الركعتين التي فرضها الله تعالى عليه خاصة وتابعه بعض من أسلم معه عليها تطوعا، إلا أن القول المعتمد ان المراد بها الصلاة المفروضة على القول بأنها نزلت بعد فرض الصلاة كما علمت مما ذكرناه آنفا وقول القائل يتجه في غير هذه الآية من الآيات الأخر الوارد فيها لفظ الصلاة النازلة قبل فرضها اتفاقا. هذا، والله أعلم. واستغفر الله ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.