وبعضهم فرقاً بينهما، فيقول: الحمد يكون بعد الإحسان وهو مأمور به دائما لحديث: «من يحمَدِ الناسَ لم يحمد الله».
أما المدح فيكون قبل الاحسان وبعده. وهو منهيٌّ عنه، لحديث «احثُوا في وجوه المدّاحين التراب».
والربّ في كلام العرب له معان ثلاثة: السيد المطاع، والرجل المصْلح للشيء، والمالك للشيء.
فربُّنا جل ثناؤه: السيد المطاع في خلقه، والمصلح أمْرَ خلقه بما أسبغ عليهم من نعمه، والمالك الذي له الخَلْق والأمر. ﴿العالمين﴾ : جميع الكائنات في هذا الوجود.
فمعنى ﴿الحمد لله رب العالمين﴾ الحمد لله الذي له الخلق كله، السماوات والأرض، ومن فيهن وما مبينهن، مما يُعلم وما لا يُعلم، فالثناء المطلق الذي لا يُحَدّ لله سبحانه إنما كان لأنه هو رب العالمين.
﴿الرحمن الرحيم﴾ : الرحن صفة ذاتية هي مبدأ الرحمة، وقد تقدم أنه لايوصف بها الا الله: ﴿الرحمن عَلَّمَ القرآن﴾ [الرحمن: ١٢]،
﴿الرحمن عَلَى العرش استوى﴾ [طه: ٥].
﴿قُلِ ادعوا الله أَوِ ادعوا الرحمن﴾ [الإسراء: ١١٠].
أما الرحيم، فقد كثر استعمالها في القرآن وصفاً فعليا وجاءت بأسلوب ايصال النعمة والرحمة: ﴿إِنَّ الله بالناس لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ [البقر: ١٤٣] ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ﴾ [الأعراف: ١٥٦] ﴿وَكَانَ بالمؤمنين رَحِيماً﴾ [الأحزاب: ٤٣]. ولا نطيل أكثر من ذلك، وإنما نريد أن نبين هنا نكتة إعادتها وتكرارهما. فنأيأ عن أن يُفهم من لفظه الرب صفة الجبروت والقهر اراد الله تعالى أن يذكِّر الخلق برحمته واحسانه، ليجمعوا بين اعتقاد الجلال والجمال. فذكَر «الرحمن» أي المفيض للنعم بسعة وتجدُّ لا منتهى لهما، و «الرحيم» الثابتَ له وصف الرحمة، لا تزايله أبدا. بذا عرّفهم أن ربوبيته رحمة واحسان، ليعملوا ان هذه الصفة هي الأصلية التي يرجع اليها معنى بقية الصفات فيتعلقوا به ويُقبلوا على اكتساب مرضاته.
هذا وإن تكرار وصف الله لنفسه بالرحمن الرحيم في فاتحة الكتاب لهو تأكيد لمعنى أن الدين الذي كتابه القرآن انما تقوم فضائله ونظُمه على الرحمة والحب والإحسان.
وإذا كان الحمد لله والثناء عليه مرجعهما وأساسهما التربية من الله للعالَم فما أجدر المؤمن ان يتخلق بخُلق الله، وان يلتمس الحمد والثناء من هذا السبيل الكريم. فمن حمّله الله مسئولية التربية من إمام أو معلّم أو أحد الزوجين فإن عليه أن يعتبر ما كُلف برعايته أمانةً عنده من المربي الاعظم سبحانه، فلْيمض فيها على سَنَن الرحمة والاحسان لا الجبروت والطغيان. ان ذلك أوفى الىأن يُصلح الله به، وأقربُ ان تناله رحمته.
﴿مالك يَوْمِ الدين﴾ : قرىء: «مَلك يَوم الدِّين» و «مالكِ يوم الدين» قراءتان يدل مجموعهما على ان المُلك والمِلك في يوم القيامة لله وحده.
وللفظ «الدين» معان كثيرة، منها المكافأة والعقوبة، وهذا المعنى يناسب المقام.
وفي هذا تربية أُخرى للعبد، فإنه إذا آمن بأن هناك يوماً يظهر فيه احسان المحسن، واساءة المسيء، وأن زمام الحكم في ذلك اليوم العظيم بيد الله تكوّن عنده خُلُق المراقبة، وتوقَّع المحاسبة، فكا ذلك أعظمَ سبيل لإصلاح كل ما يعمل.
﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ : نخصّك بالعبادة ونخصك بطلب المعونة. والعبادة أقصى غاية الخضوع والتذلُّل، لذلك لم يستعمل اللفظُ الا في الخضوعِ لله تعالى، لأنهُ مولي أعظم النعم، فكان حقيقاً بأقصى غاية الخضوع.
أمرنا الله تعالى أن لا نعبد غيره لأنه هو الإلَه الواحد لا شريك له. وترشدنا عبارة ﴿وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ الى أمرين عظيمين هما معراج السعادة في الدنيا والآخرة.
أحدهما: أن نعمل الاعمال النافعة ونجتهد في إتقانها ما استطعنا، لأن طلب المعونة لا يكون الا على عمل يود المرء أن يبذل فيه طاقته، فهو يطلب المعونة على اتمامه.
وثانيهما: قصْر الاستعانة بالله عليه وحده.
وليس في هذا ما ينافي بين الناس.
﴿وَتَعَاوَنُواْ عَلَى البر والتقوى﴾ [المائدة: ٢].
فان هذا التعاون في دائرة الحدود البشري لا يخرج عنها.
قال بعض السلف: الفاتحة سر القرآن. وسرُّها هذه الكلمة ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ فالقسم الأول من الآية تبرؤ من الشِرك، والثاني تبرؤ من الحول والقوة، وتفويضٌ إلى الله تعالى.
﴿اهدنا الصراط المستقيم﴾ : هداه الله هُدًى وهِدَايةً الى الإيمان أرشدهخ، وهداه الى الطريق وهداه الطريق وللطريق بيّنة له وعرّفه به. والهداية دلالة بلطف، كما يقول الراغب الاصفهاني، والصراط المستقيم: هو الطريق الواضح الذي لا عوج فيه ولا انحراف.
والصراط المستقيم هنا هو جملة ما يوصِل الناس الى سعادة الدناي والآخرة من عقائد وآداب وأحكام من جهتي العلم، وهو سبيل الاسلام الذي ختم الله به الرسالاتِ وجعل القرآن دستوره الشامل، ووكل الى الرسول الكريم تبليغه وبيانه. فالشريعة الاسلامية في جميع أمورها من عقيدة، واخلاق، وتشريع، وفي صلة الانسان بالحياة، وعلاقته بالمجتمع، وعلاقة المسلمين بالأمم تأخذ الطريق الصائب، لا إفراط ولا تفريط. هذا هو الصراط المستقيم.
وهداية الله تعالى لا تحصى، نذكر منها:
أولاً: الهداية التي تعم كل مكلَّف بحيث يهتدي الى مصالحه، كالعقل والفطنة والمعارف الضرورية كما قال تعالى ﴿الذي أعطى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هدى﴾ [طه: ٥٠].
ثانياً: نَصْبُ الدلائل الفارقة بين الحق والباطل، والصلاح والفساد: ﴿وَهَدَيْنَاهُ النجدين﴾ [البلد: ١٠]، وقوله: ﴿وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فاستحبوا العمى عَلَى الهدى﴾ [فصلت: ١٧].
ثالثاً: الهداية بإرسال الرسل وانزال الكتب: ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا﴾ [الآنبياء: ٧٣]، وقوله: ﴿إِنَّ هذا القرآن يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾
رابعاً: الكشف عن كثير من أسرار الأشياء كما هي، بالوحي والالهام والرؤيا الصادقة. وهذا القسم يختص بنيله الأولياء. والى ذلك اشار سبحانه وتعالى بقوله: ﴿أولئك الذين هَدَى الله فَبِهُدَاهُمُ اقتده﴾ [الأنعام: ٩٠].
وقال ابن تيمية: «كل عبد مضطرٌّ دائا الى مقصود هذا الدعاء، أي هداية الصراط المستقيم. فإنه لا نجاة من العذاب إلا بهذه الهداية، ولا وصول الى السعادة الا بها، فمن فاته هذا الهدى فهو إما من المغضوب عليهم، واما من الضالين». وهذا الاهتداء لا يحصل غلا بهدى الله ﴿مَن يَهْدِ الله فَهُوَ المهتد وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُّرْشِداً﴾ [الكهف: ١٧].
وقد بين الله تعالى هذا الصراط المستقيم بقوله: ﴿صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم وَلاَ الضآلين﴾.
اختلف المفسرون في بيان: الذين أنعم اللهُ عليهم، والمغضوبِ عليهم، والضآلِّين وكتبوا وطوّلوا في ذلك. وأحسن ما قيل في ذلك ان الآية دلّت على أن الناس ثلاث فرق:
الفرقة الأولى: أهل الطاعة ﴿الذين يُؤْمِنُونَ بالغيب وَيُقِيمُونَ الصلاة وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ والذين يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ وبالآخرة هُمْ يُوقِنُونَ أولئك على هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وأولئك هُمُ المفلحون﴾ [البقرة: ٣٥]، وهؤلاء هم الذين انعم الله عليهم.
الفرقة الثانية: الكافرون: ﴿سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ خَتَمَ الله على قُلُوبِهمْ وعلى سَمْعِهِمْ وعلى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ﴾ [البقرة: ٦٧]، وهؤلاء هم أهل النقمة المغضوب عليهم.
الفرقة الثالثة: هم المنافقون الحائرون، المترددون بين إيمانهم الظاهر وكفكرهم الباطني ﴿فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ الله مَرَضاً﴾ [البقرة: ١٠] فهم ﴿وَإِذَا لَقُواْ الذين آمَنُواْ قالوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إلى شَيَاطِينِهِمْ قالوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ﴾ [البقرة: ١٤]. وهؤلاء هم الضالّون المتحيرون.
وقد فصّل الله تعالى هذه افرق الثلاثة في أول سورة البقرة كما سيأتي ان شاء الله.
القراءات:
قرأ ابنُ كَثير برواية قنبل، والكسائي عن طريق رويس «السراط» بالسين في الموضعَين، وقرأ الباقون «الصراط» بالصاد، وهي لغة قريش.
هذه هي سورة الفاتحة، وقد تكفّل نصفُها الاول ببيان الحقيقة التي هي أساس هذا الوجود: تقرير ربوبية الله للعاملين ورحمته ورحمانيته، وتفرُّده بالسلطان يوم الدين؛ وتكفّل نصفها الثاني ببيان أساس الخطة العلمية في الحياة، سواء في العبادات أو المعاملات.
فالعبادة لله، الاستعانة به، والهداية منه بالتزام طريق الله، والبعد عن طريق الجادين والضالين المتحدّين.
هذا والمتتبع للقرآن جميعه، الواقف على مقاصده معارفه، يرى أنه جاء تفصيلاً لما أجملته هذه السورة الكريمة.
بهذا كانت «فاتحة الكتاب» و «أمَّ القرآن» و «السبع المثاني» والسورة الوحيدة التي طُلبت من المؤمنين في كل ركعة من كل صلاة.