تفسير سورة الفيل

تفسير السمرقندي
تفسير سورة سورة الفيل من كتاب بحر العلوم المعروف بـتفسير السمرقندي .
لمؤلفه أبو الليث السمرقندي . المتوفي سنة 373 هـ
سورة الفيل مكية، وهي خمس آيات.

سورة الفيل
وهي خمس آيات مكية
[سورة الفيل (١٠٥) : الآيات ١ الى ٥]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ (١) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (٢) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ (٣) تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (٤)
فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (٥)
قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ يعني: ألم تخبر بالقرآن. ويقال: ألم تر، يعني: ألم يبلغك الخبر. ويقال: اللفظ لفظ الاستفهام، والمراد به الإخبار، يعني: اعلم واعتبر بصنيع ربك كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ يعني: كيف عذب ربك بِأَصْحابِ الْفِيلِ وكان بدء أصحاب الفيل، ما ذكرناه في سورة البروج، أن زرعة قتل المسلمين بالنار، فهرب رجل منهم إلى ملك الحبشة، وأخبره بذلك. فبعق ملك الحبشة جيشاً إلى أرض اليمن، فأمَّر عليهم أرياطاً، ومعه في جنده أبرهة الأشرم، فركب البحر بمن معه، حتى أتوا ساحلاً، مما يلي أرض اليمن، فدخلوها ومع أرياط سبعون ألفاً من الحبشة، وهزم جنود زرعة، وألقى زرعة نفسه في الماء، فهلك وأقام أرياط باليمن سنين في سلطانه.
ذلك ثم نازعه في أمر الحبشة أبرهة، وكان من أصحابه، ممن وجّهه معه النجاشي إلى اليمن وخالفه أبرهة وتفرق الجند في أرض اليمن، وصار إلى كل واحد منهما طائفة منهم. ثم خرجوا للقتال، فلما تقارب الناس، ودنا بعضهم من بعض، أرسل أبرهة إلى أرياط، أن لا تصنع شيئاً، بأن تلقي الحبشة بعضها في بعض، حتى تفنيها. فأبرز لي وأبرز لك، فأينا أصاب صاحبه انصرف إلى جنده، فأرسل إليه أرياط أن قد أنصفت فاخرج، فخرج إليه أبرهة، وكان رجلاً قصيراً، وخرج إليه أرياط وكان رجلاً طويلاً عظيماً، في يده حربة، وخلف أبرهة عبداً يقال له عنودة وروي عن بعضهم عيودة بالياء، فلما دنا أحدهما من صاحبه، رفع أرياط الحربة، فضرب بها على رأس أبرهة يريد يافوخة، فوقعت الحربة على جبهة أبرهة، فخدشت حاجبيه وعينه وأنفه وشفتيه. فلذلك سمي أبرهة الأشرم، وحمل عيودة على أرياط من خلف أبرهة، فقتل أرياط، وانصرف جند أرياط إلى أبرهة فاجتمعت عليه الحبشة باليمن.
618
وكل ما صنع أبرهة من غير علم النجاشي ملك الحبشة، فلما بلغه ذلك، غضب غضباً شديداً. وقال: عدا على أميري، فقتله بغير أمري. ثم حلف أن لا يدع أبرهة، حتى يطأ بلاده، ويجز ناصيته. فلما بلغ ذلك أبرهة، حلق رأسه، وملأ جراباً من تراب أرض اليمن. ثم بعث إلى النجاشي، وكتب إليه، أيها الملك: إنما كان أرياط عبدُك، وأنا عبدك، واختلفنا في أمرك، وكل طاعة لك. إلا أني قد كنت أقوى على أمر الجيش منه، وأضبط له، وقد حلقت رأسي حين بلغني قسم الملك، وبعثت إليه بجراب من تراب أرضي، ليضعه تحت قدميه، فيبر قسمه. فلما وصل كتاب أبرهة إلى النجاشي- رضي عنه- وكتب إليه، أن أثبت بأرض اليمن، حتى يأتيك أمري.
وقال أبرهة لعتودة حين قتل أرياط. حكمك يعني: أحكم عليّ بما شئت، فقال: حكمي أن لا تدخل عروس من نساء أهل اليمن على زوجها، حتى أصيبها قبله. قال: ذلك لك. فأقام أبرهة باليمن، وغلامه عتودة يصنع باليمن ما كان أعطاه في حكمه. ثم عدل عليه رجل من حمير، أو من خَثْعم فقتله، فلما بلغ أبرهة قتله، وكان أبرهة رجلاً حليماً، ودعا في دينه من النصرانية. فقال: قد آن لكم يا أهل اليمن، أن يكون منكم رجل حازم، يأنف مما يأنف منه الرجال، إني والله لو علمت حين حكمته، أنه يسأل من الذي سأل ما حكمته، وأيم الله لا يؤخذ منكم فيه عقل، ولا قود.
ثم إن أبرهة بنى بصنعاء كنيسة، لم يُر مثلها في زمانه في أرض الروم، ولا في أرض الشام. ثم كتب إلى النجاشي الأكبر، ملك الحبشة، أني قد بنيت لك كنيسة، لم يكن مثلها لملك كان قبلك، ولست بمنته حتى أصرف إليها حج العرب، فلما علمت العرب بكتاب أبرهة إلى النجاشي، خرج رجل من بني كنانة من الحمس، حتى قدم اليمن، فدخل الكنيسة، فنظر فيها، ثم خرى فيها فدخلها أبرهة، فوجد تلك العذرة فيها فقال: من اجترأ عليّ بهذا، فقال له أصحابه: أيها الملك، رجل من أهل ذلك البيت الذي يحجه العرب. فقال: أعليّ اجْتَرأ بهذا.
ثم قال بالنصرانية: لأهْدِمَنَّ ذلك البيت ولأُخَرِّبنه، حتى لا يحجه حاج أبداً. فدعا بالفيل وأذن قومه بالخروج.
وروي في رواية أُخرى أن فئة من قريش، خرجوا إلى أرض النجاشي، فأوقدوا ناراً، فلما رجعوا، تركوا النار في يوم ريح عاصف، حتى وقعت النار في الكنيسة، فأحرقتها. فعزم أبرهة، وهو خليفة النجاشي. أن يخرج إلى مكة فيهدم الكعبة، وينقل أحجارها إلى اليمن، فيبني هناك بيتاً ليحج الناس إليه. وروي في رواية أُخرى، أن رجلاً من أهل مكة، خرج إلى اليمن، فأخذ جزعة من القصب ذات ليلة، وأضرم النار في الكنيسة فأحرقها ثم هرب. فبناها أبرهة مرة أخرى، فحلف بعيسى ابن مريم بأن يهدم الكعبة، لكي يتحول الحج إلى كنيسته،
619
فتجهز فخرج معه حتى إذا كان في بعض طريقه، بعث رجلاً من بني سليم، ليدعو الناس في حج بيته الذي بناه، فتلقاه رجل من اليمن بني كنانة، فقتله.
فازداد أبرهة بذلك غضباً، وحث على المسير والانطلاق، حتى إذا كان بأرض جعم فخرج إليه رجل من أشراف اليمن وملوكهم، يقال له ذو يفن. فدعا القوم، وأحبابه من سائر العرب، إلى حرب أبرهة، وصده عن بيت الله، فقاتله فهرب ذو يفن وأصحابه، وأخذوا ذا يفن، وأتى به أسيراً. فلما أراد قتله قال: أيها الملك، لا تقتلني، فإنه عسى أن أكون معك خير لك من قتلي، فتركه وحبسه عنده في وثاقه. ثم مضى على وجهه ذلك، حتى إذا كان بأرض خشعم، عرض له فقيل ابن حبيب الخشعي، فقاتله فهزمه، وأخذ أسيراً. فلما أتي به، وهم بقتله فقال: أيها الملك لا تقتلني، فإني دليلك بأرض العرب، فتركه وخلى سبيله، وخرج به معه يدله على أرض العرب.
حتى إذا مر بالطائف فخرج إليه مسعود بن مغيث، التقى في رجال من ثقيف فقالوا: أيها الملك إنما نحن عبيدك، ليس عندنا لك خلاف، وليس بيتنا هذا الذي تريد، يعنون اللات والعزى، وليست بالتي يحج إليه العرب، وإنما ذلك بيت قريش الذي بمكة، فنحن نبعث معك من يدلك عليه، فتجاوز عنهم فبعثوا معه أبا رغال، فخرج يهديهم الطريق، حتى أنزلهم بالمغمس وهي على ستة أميال من مكة، فمات أبو رغال هناك، فرجمت العرب قبره، فهو القبر الذي ترجمه الناس بالمغمس.
ثم إن قريشاً لما علموا، أن لا طاقة لهم بالقتال مع هؤلاء القوم، لم يبق بمكة أحد، إلا خرج إلى الشعاب والجبال، ولم يبق أحد إلا عبد المطلب على سقايته وشيبه، أقام على حجابة البيت، فجعل عبد المطلب يأخذ بعضادتي البيت ويقول: لا هم إن المرء يمنع رحله، فامنع رحالك لا يغلبوا بصليبهم، فأمر ما بدا لك. ثم إن أبرهة بعث رجلاً من الحبشة على جمل له، حتى انتهى إلى مكة، وساق إلى أبرهة أموال قريش وغيرها. فأصاب مائتي بعير لعبد المطلب، وهو يومئذٍ كبير قريش وسيدها. ثم بعثت أبرهة رجلاً من أهل حمير إلى مكة، وقال أرسل إلى سيد هذا البيت وشريفهم. ثم قال له: إن الملك يقول لك، إني لم آت لأخرجكم، وإنما جئت لأهدم هذا البيت، فإن لم تتعرضوا إلى دونه بحرب، فلا حاجة لي بدمائكم.
فلما دخل الرسول مكة، جاء إلى عبد المطلب، وأدى إليه الرسالة، فقال له عبد المطلب: ما نريد حربه، وما لنا بنيه، حتى أتى العسكر فسأل عن ذي يفن، وكان صديقاً له، فجاءه وهو في مجلسه فقال له: هل عندك من عناء بما نزل بنا، فقال له ذو يفن: ما عناء رجل أسير بيد ملك ينتظر بأن يقتله، عدواً أو مشياً ألا إن صاحب الفيل صديق لي، فأرسل إليه فأوصيه لك، وأعظم عليه حقك، وأسأله أن يستأذن لك على الملك، فتكلمه أنت بما بدا لك.
620
فقال حسبي ففعل ذلك، فلما دخل عبد المطلب على الملك وكلمه، فأعجبه كلامه.
ثم قال لترجمانه: قل له ما حاجتك، قال عبد المطلب: حاجتي إليك، أن ترد إلي مائتي بعير لي، فلما قال ذلك، قال له أبرهة: لقد كنت أعجبتني حين رأيتك، ثم إني رجوت.
يعني: كرهت فيك حيث كلمتني في مائتي بعير أصبتها لك، وتترك بيتاً هو دينك ودين آبائك، قد جئت لهدمه. لا تكلمني فيه. قال عبد المطلب: أنا رب الإبل، وإن للبيت رباً سيمنعه.
فقال: ما كان يمنع مني، قال: أنت وذلك فرد عليه الإبل، فانصرف عبد المطلب إلى قريش، وأخبرهم الخبر، وأمر بالخروج لمن بقي من أهل مكة إلى الجبال، وفي بطون الشعاب.
ثم إن عبد المطلب، أخذ بحلقتي باب الكعبة، وقال: اللهم إن المرء يمنع رحله، وذكر كلمات في ذلك. ثم أرسل حلقتي الباب، وانطلق ومن معه إلى الجبال، ينتظرون ما يصنع أبرهة بمكة. فلما أصبح أبرهة، تهيأ لدخول مكة، وهيأ فيله وجيشه، وكان اسم الفيل محموداً، وكنيته أبو العباس. وكتبه أبو البكشوم، فلما وجهوا الفيل إلى مكة، أقبل نفيل بن حبيب الخثعمي، حتى جاء إلى جنب الفيل. ثم أخذ بأذنه فقال أبرك محموداً، وارجع راشداً من حيث جئت، فإنك والله في بلد الله الحرام. ثم أرسل أذنه فاضطجع، فضربه ليقوم فأبى، فضربوه ليقوم فأبى وضربوا بالطبرزين فوجهوه راجعاً إلى اليمن، فقام يهرول ووجهوه إلى الشام، ففعل مثل ذلك، ووجهوه إلى مكة، فبرك وأرسل الله تعالى عليهم طيراً من البحر، أمثال الخطاطيف. مع كل طير منها ثلاثة أحجار، حجر في منقاره، وحجران في رجليه، أمثال الحمصة والعدسة، لا تصيب أحداً منهم إلا هلك.
فخرجوا هاربين يبتدرون الطريق الذي جاءوا منه، ويتساءلون عن نفل بن حبيب، ليدلهم على الطريق، فخرج نفيل يشتد، حتى صعد الجبل، فخرجوا معه يتساقطون بكل طريق، ويهلكون على كل منهل، فأصيب أبرهة في جسده، وخرجوا معه فيسقط من جسده أنملة أنملة، كلما سقطت منه أنملة، خرجت منه مدة قيح ودم، حتى قدموا به صنعاء، وهو مثل فرخ الطائر، فما مات حتى انصدع صدره عن قلبه ثم مات، فملك ابنه يكثوم بن أبرهة ملك اليمن.
وروي في الخبر، أنه أول ما وقعت الحصبة، والجدري بأرض العرب ذلك العام. وقال بعضهم: كان أمر أصحاب الفيل، قبل مولد النبيّ صلّى الله عليه وسلم، بثلاث وعشرين سنة. وقال بعضهم:
كان ذلك في عام مولده- عليه السلام-. وروي عن قبس بن مخرمة أنه قال: ولدت أنا ورسول الله صلّى الله عليه وسلم في عام الفيل. فنزل قوله أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ يعني:
كيف عاقب ربك أصحاب الفيل، بالحجارة، حين أرادوا هدم الكعبة.
قال تعالى: أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ يعني: في خسارة. ويقال: معناه ألم يجعل
621
صنيعهم في أباطيل وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ يعني: متتابعاً بعضها على أثر بعض، أرسل عليهم الله طيوراً بيضاً صغاراً. وقال عبيد بن عمير: أرسل عليهم طيراً بلقا من البحر، كأنها الخطاطيف. وروى عطاء عن ابن عباس قال: طيراً سوداً، جاءت من قبل البحر فوجاً فوجاً.
ثم قال تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ قال سعيد بن جبير، الحجارة أمثال الحمصة. وروي عن ابن عباس قال: رأيت عند أم هانئ من تلك الحجارة، مثل بعر الغنم، مخططة بحمرة.
وروى إسرائيل، عن جابر بن أسباط قال: طيراً كأنها رجال الهند، جاءت من قبل البحر، تحمل الحجارة في مناقيرها وأظافيرها، أكبرها كمبارك الإبل، وأصغرها كرؤوس الإنسان تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ يعني: من طين خلط بالحجارة، ويقال: طين مطبوخ كما يطبخ الآجُرْ. وذكر مقاتل، عن عكرمة قال: هي طير جاءت من قبل البحر، لها رؤوس كرؤوس السباع، لم تر قبل يومئذ ولا بعده، فجعلت ترميهم بالحجارة، فتجدر جلودهم.
وكان أول يوم رأى فيه الجدري. ويقال: مكتوب في كل حجر اسم الرجل، واسم أبيه، ولا يصيب الرجل شيء، إلا نفذه فيها وقع على رأس رجل، إلا خرج من دبره، وما وقعت على جانبه، إلا خرجت من الجانب الآخر.
وقال وهب بن منبه بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ قال بالفارسية سنك وكل يعني: حجارة وطين. وروى موسى بن بشار عن عكرمة بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ قال: سنك وكل. ثم قال عز وجل: فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ يعني: كزرع بالٍ، فأخبر الله تعالى أنه سلط على الجبابرة أضعف خلقه، كما سلط على النمرود بعوضة، فأكلت من دماغه أربعين يوماً، فمات من ذلك.
والله أعلم بالصواب.
622
Icon