ﰡ
وَقَوله: ﴿وَله الْحَمد فِي الْآخِرَة﴾ فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن مَعْنَاهُ لَهُ الْحَمد فِي الأولى وَالْآخِرَة على مَا قَالَ فِي مَوضِع آخر. وَفِي الأولى وَالْآخِرَة وَجْهَان: أَحدهمَا: أَنَّهُمَا الدُّنْيَا وَالْآخِرَة، وَالْآخر: أَنَّهُمَا السَّمَوَات وَالْأَرْض.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن قَوْله: ﴿وَله الْحَمد فِي الْآخِرَة﴾ وَهُوَ مَا جَاءَ من ذكر الْحَمد عَن أهل الْجنَّة، وَهُوَ فِي قَوْله تَعَالَى: ﴿وَآخر دَعوَاهُم أَن الْحَمد لله رب الْعَالمين﴾، وَفِي قَوْله: ﴿الْحَمد لله الَّذِي أذهب عَنَّا الْحزن﴾، وَفِي قَوْله: ﴿الْحَمد لله الَّذِي صدقنا وعده﴾.
وَقَوله: ﴿وَهُوَ الْحَكِيم الْخَبِير﴾ أَي: الْحَكِيم فِي ملكه، الْخَبِير بخلقه.
وَقَوله: ﴿وَمَا يخرج مِنْهَا﴾ أَي: من الزَّرْع، وَيُقَال: إِن المُرَاد مِنْهُ الْأَمْوَات يدْخلُونَ إِذا قبروا، وَيخرجُونَ إِذا حشروا.
وَقَوله: ﴿وَمَا ينزل من السَّمَاء﴾ أَي: من الْمَطَر وَالْمَلَائِكَة وَالْأَحْكَام والأقضية.
وَقَوله: ﴿وَمَا يعرج فِيهَا﴾ أَي: يصعد إِلَيْهَا من الْمَلَائِكَة والأعمال والأدعية
وَقَوله: ﴿وَهُوَ الرَّحِيم الغفور﴾ قد بَينا.
وَقَوله: ﴿قل بلَى وربي لتأتينكم عَالم الْغَيْب﴾ فِيهِ تَقْدِيم وَتَأْخِير، وَمَعْنَاهُ: قل بلَى وربي عَالم الْغَيْب لتأتينكم السَّاعَة، وَقَرَأَ حَمْزَة: " علام الْغَيْب ".
وَقَوله: ﴿لَا يعزب عَنهُ﴾ أَي: لَا يغيب عَنهُ، وَقَرَأَ يحيى بن وثاب: " لَا يغرب عَنهُ " بالغين الْمُعْجَمَة وَالرَّاء.
وَقَوله: ﴿مِثْقَال ذرة فِي السَّمَوَات وَلَا فِي وَالْأَرْض﴾ أَي: وزن ذرة ﴿وَلَا أَصْغَر من ذَلِك وَلَا أكبر﴾ أَي: أَصْغَر من الذّرة إِلَى أَن لَا يُحِيط بِهِ الْعقل، وأكبر إِلَى أَلا يُحِيط بِهِ الْعقل، وَالْمعْنَى أَن كل ذَلِك فِي علمه.
وَقَوله: ﴿إِلَّا فِي كتاب مُبين﴾ أَي: بَين.
وَقَوله: ﴿أُولَئِكَ لَهُم مغْفرَة ورزق كريم﴾ أَي: الْعَيْش الهنيء.
وَقَوله: ﴿معاجزين﴾ أَي: مشاقين، وَيُقَال: مسابقين، وَيُقَال: فائتين، وَقُرِئَ: " معجزين " أَي: مثبطين، وَقيل: ظانين أَنا نعجز عَنْهُم، فَيكون معنى معجزين أَنهم نسبوا الْعَجز إِلَيْنَا.
وَقَوله: ﴿أُولَئِكَ لَهُم عَذَاب من رجز أَلِيم﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
وَقَوله: ﴿الَّذِي أنزل إِلَيْك من رَبك هُوَ الْحق﴾ يَعْنِي: أَنه من الله تَعَالَى.
وَقَوله: ﴿وَيهْدِي إِلَى صِرَاط الْعَزِيز الحميد﴾ يَعْنِي: أَن الْقُرْآن الَّذِي أنزلهُ الله يهدي إِلَى صِرَاط الْعَزِيز الحميد، وَهُوَ الله تَعَالَى.
وَقَوله: ﴿إِذا مزقتم كل ممزق﴾ أَي: إِذا فرقتم كل تَفْرِيق، وقطعتم كل تقطيع، وَالْمعْنَى: إِذا أكلْتُم الأَرْض، وصرتم رفاقا وترابا ينبئكم مُحَمَّد إِنَّكُم لفي خلق جَدِيد، قَالُوا ذَلِك على طَرِيق الْجحْد والتكذيب.
وَقَوله: ﴿أم بِهِ جنَّة﴾ مَعْنَاهُ: أَو بِهِ جُنُون لَا يدْرِي مَا يَقُول.
وَأما من قَرَأَ بِالنّصب فَفِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا مَعْنَاهُ: أفترى على الله كذبا يَعْنِي: لم يفتر، وَيكون ابْتِدَاء كَلَام من الله تَعَالَى. قَالَ الشَّاعِر:
(استحدث الْقلب من أشياعهم خَبرا | أم رَاجع الْقلب من أطرابهم طرب) |
وَقَوله: ﴿بل الَّذين لَا يُؤمنُونَ بِالآخِرَة فِي الْعَذَاب والضلال الْبعيد﴾ فعلى الْقِرَاءَة الأولى وَهُوَ بِالْكَسْرِ هَذَا ابْتِدَاء كَلَام من الله تَعَالَى ردا عَلَيْهِم، وعَلى الْقِرَاءَة الثَّانِيَة هُوَ مسوق على مَا تقدم.
وَقَوله: ﴿فِي الْعَذَاب والضلال الْبعيد﴾ أَي: الشَّقَاء الطَّوِيل؛ ذكره السّديّ، وَقَالَ: فِي الْخَطَأ الْبعيد من الْحق.
وَقَوله: ﴿إِن نَشأ نخسف بهم الأَرْض﴾ أَي: يغيبهم فِي الأَرْض.
وَقَوله: ﴿أَو نسقط عَلَيْهِم كسفا من السَّمَاء﴾ أَي: جانبا من السَّمَاء. وَقيل: قِطْعَة من السَّمَاء.
وَقَوله: ﴿إِن فِي ذَلِك لآيَة لكل عبد منيب﴾ أَي: رَاجع إِلَى الله تَعَالَى بِقَلْبِه. وَقيل: منيب: أَي: مُجيب.
قَالَ الشَّاعِر:
وَقَوله: ﴿يَا جبال أوبي مَعَه﴾ أَكثر أهل التَّفْسِير على أَن مَعْنَاهُ: سبحي مَعَه؛ وَهُوَ عَن ابْن عَبَّاس وَغَيره، وَيُقَال: رَجْعِيّ مَعَه.
وَقَرَأَ الْحسن: " أوبي مَعَه " بِضَم الْألف وَسُكُون الْوَاو، وَهُوَ فِي معنى الأول.
وَفِي بعض التفاسير: أَن دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ إِذا لحقه فتور أسمعهُ الله تَعَالَى تَسْبِيح الْجبَال منشطا لَهُ.
وَقَوله: ﴿وَالطير﴾ أَي: وأمرنا الطير أَن تسبح مَعَه.
وَقَوله: ﴿وألنا لَهُ الْحَدِيد﴾ قَالَ قَتَادَة: كَأَن الْحَدِيد جعل لَهُ كالعجين، فَيعْمل الدرْع من غير نَار وَلَا مطرقة.
قَالَ الشَّاعِر:
(أناب إِلَى قولي فَأَصْبَحت مرْصدًا | لَهُ بالمكافأة المنيبة وَالشُّكْر) |
(وَأَكْثَرهم دروعا سابغات | وأمضاهم إِذا طعنوا سِنَانًا) |
(أَجَاد المسدي سردها وأذا لَهَا)
يَقُول: وسعهَا وأجاد حلقها يُقَال: درع مسرودة إِذا كَانَت مسمورة الْحلق، وَيُقَال: قدر فِي السرد أَي: اجْعَلْهُ على الْقَصْد وَقدر الْحَاجة.
وَقَوله: ﴿وَاعْمَلُوا صَالحا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
وَفِي الْقِصَّة: أَن دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ يعْمل كل يَوْم درعا، ويبيعه بِسِتَّة آلَاف دِرْهَم، فينفق أَلفَيْنِ مِنْهَا على نَفسه وَعِيَاله، وَيتَصَدَّق بأَرْبعَة آلَاف على فُقَرَاء بني إِسْرَائِيل. وَفِي بعض التفاسير: أَنه عمل ألف درع.
وَقَوله: ﴿غدوها شهر ورواحها شهر﴾ أَي: مسيرَة غدوها شهر، ومسيرة رواحها شهر، وَمَعْنَاهُ: أَنه كَانَ يسير مسيرَة شَهْرَيْن فِي يَوْم وَاحِد. وَفِي الْقِصَّة: أَنه كَانَ يسير من بَيت الْمُقَدّس إِلَى اصطخر مسيرَة شهر للراكب المسرع غدْوَة، ويقيل بهَا ثمَّ يروح مسيرَة شهر إِلَى بابل مسيرَة شهر للركب المسرع. وَقيل: كَانَ يتغدى بِالريِّ، ويتعشى بسمرقند. وَقيل: كَانَ يتغدى بِصَنْعَاء، ويتعشى بِبَابِل وَهُوَ الْعرَاق وَالله أعلم.
وَفِي التَّفْسِير: أَن الرّيح كَانَت تحمله وَجُنُوده وَلَا تثير تُرَابا وَلَا تقلب ورقة على الأَرْض، وَلَا تؤذي طائرا فِي السَّمَاء.
وَقَوله: ﴿وأسلنا لَهُ عين الْقطر﴾ أى: أسلنا لَهُ عين النّحاس.
وَفِي التَّفْسِير: أَن الله تَعَالَى أذاب لَهُ النّحاس، وَجعل يسيل ثَلَاثَة أَيَّام من كل شهر مثل المَاء.
وَقَوله: ﴿وَمن الْجِنّ من يعْمل بَين يَدَيْهِ بِإِذن ربه﴾ أَي: بِأَمْر ربه.
وَقَوله: ﴿وَمن يزغ مِنْهُم عَن أمرنَا﴾ أَي: يعدل مِنْهُم عَن أمرنَا فَلَا يعْمل لِسُلَيْمَان.
وَقَوله: ﴿نذقه من عَذَاب السعير﴾ أَي: فِي الْآخِرَة، هَذَا أحد الْقَوْلَيْنِ، وَالْقَوْل
وَقَوله: ﴿وتماثيل﴾ أَي: الصُّور. فَإِن قَالَ قَائِل: أَلَيْسَ أَن عمل الصُّور مَكْرُوه؟ قُلْنَا: هُوَ فِي هَذِه الشَّرِيعَة، وَيحْتَمل أَنَّهَا كَانَت مُبَاحَة فِي شَرِيعَته، وَقد كَانَ عِيسَى يصور من الطين وينفخ فِيهِ فَيَجْعَلهُ الله طيرا. وَاخْتلف القَوْل فِي الصُّور الَّتِي اتخذتها الشَّيَاطِين؛ فأحد الْقَوْلَيْنِ: أَنَّهَا صُورَة السبَاع والطيور من العقبان والنسور، وَمَا أشبه ذَلِك.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنه أَمرهم باتخاذ صُورَة الْأَنْبِيَاء والزهاد والعباد، حَتَّى إِذا نظرت بَنو إِسْرَائِيل إِلَيْهِم ازدادوا عبَادَة.
وَقَوله: ﴿وجفان كالجواب﴾ أَي: كالحياض، والجفان جمع جَفْنَة. وَفِي الْقِصَّة: أَن كل جَفْنَة كَانَ يقْعد عَلَيْهَا ألف إِنْسَان. وَأنْشد حسان فِي الْجَفْنَة شعرًا:
(لنا الجفنات الغر يلمعن بالضحى | وأسيافنا من نجدة تقطر الدما) |
(كجابية الشَّيْخ الْعِرَاقِيّ تفهق)
أَي: تمتلئ.
وَحكى عُثْمَان بن عَطاء عَن أَبِيه أَنه رأى مرّة من هَذِه القصاع الصغار فَقَالَ: وَالله لقد ذهبت الْبركَة من كل شَيْء، وَقَرَأَ قَوْله: ﴿وجفان كالجواب﴾.
وَفِي الْقِصَّة: أَنه كَانَ لِسُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام سماط يسع أَرْبَعمِائَة ألف إِنْسَان،
وَقَوله: ﴿وقدور راسيات﴾ أَي: ثابتات مرتفعات، وَمِنْه الْجبَال الرواسِي. وَفِي الْقِصَّة، أَنه كَانَ يصعد إِلَيْهَا بالسلاليم.
وَقَوله: ﴿اعْمَلُوا آل دَاوُد شكرا﴾ قَالَ: تقدر اشكروا الله شكرا، وَيُقَال: إِن الشُّكْر هُوَ تقوى الله وَالْعَمَل بِطَاعَتِهِ. وَقيل: إِن آل دَاوُد هُوَ دَاوُد نَفسه، وَيُقَال: دَاوُد وَسليمَان وَأهل بَيته. وَفِي الْقِصَّة: أَنه لما نزل هَذَا على دَاوُد قَالَ: وَالله لَا يزَال منا بِاللَّيْلِ وَالنَّهَار قَائِم وصائم، فَكَانَ لَا يَأْتِي يَوْم إِلَّا وَمن آل دَاوُد فِيهِ صَائِم، وَلَا تَأتي سَاعَة من اللَّيْل إِلَّا وَمن آل دَاوُد فِيهَا قَائِم. وروى أَنه ناوب سَاعَات اللَّيْل وَكَانَ يقوم مَا شَاءَ الله، فَإِذا أَرَادَ أَن يرقد أيقظ بعض أَهله.
وروى أَنه قَالَ لِسُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام يَا بني، اكْفِنِي أَمر النَّهَار يَعْنِي: فِي الْعِبَادَة أكفك أَمر اللَّيْل، فَقَالَ سُلَيْمَان: لَا أقدر، فَقَالَ: اكْفِنِي أول النَّهَار وأكفك الْبَاقِي. وروى أَنه قَالَ: يَا رب، كَيفَ أشكرك وشكري لَك نعْمَة مِنْك عَليّ؟ فَقَالَ: الْآن شكرتني.
وَقَوله: ﴿وَقَلِيل من عبَادي الشكُور﴾ ظَاهر الْمَعْنى. وَالْفرق بَين الشاكر والشكور: أَن الشكُور هُوَ الَّذِي يتَكَرَّر مِنْهُ الشُّكْر، والشاكر الَّذِي يشْكر مرّة. وَقيل: هما وَاحِد.
وَقَوله: ﴿مَا دلهم على مَوته إِلَّا دَابَّة الأَرْض﴾ قَالَ بعض الْمُفَسّرين: كَانَت الْجِنّ تعْمل لِسُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام فِي بِنَاء مَسْجِد بَيت الْمُقَدّس؛ فَقرب موت سُلَيْمَان وَقد بَقِي من الْعَمَل بَقِيَّة، فَقبض الله روح سُلَيْمَان وَهُوَ متكئ على عَصا، وَكَانُوا يظنون أَنه حَيّ، ويجتهدون فِي الْعَمَل، فَأكلت الأرضة الْعَصَا فَخر سُلَيْمَان عَلَيْهِ
وَقَوله: ﴿تَأْكُل منسأته﴾ أَي: عصاته، والمنسأة: الْعَصَا بلغَة الْحَبَشَة، وَقُرِئَ: " منسأته " بِسُكُون الْهمزَة، وَهِي مَا بَينا.
قَالَ الشَّاعِر:
(إِذا ادببت على المنساة من كبر | فقد تبَاعد عَنْك اللَّهْو والغزل) |
وَقَوله: ﴿فَلَمَّا خر تبينت الْجِنّ﴾ أَي: تبينت الْجِنّ للإنس أَن لَو كَانُوا يعلمُونَ
وَأشهر الْقَوْلَيْنِ هُوَ الأول، وَفِي الْقِصَّة: أَن سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام لما فرغ من بِنَاء الْمَسْجِد ذبح [اثْنَتَيْ عشرَة] ألف بقرة وَمِائَة وَعشْرين ألف شَاة تقربا إِلَى الله تَعَالَى وأطعمها النَّاس، وَكَانَ بناه بالصخر والقار، وزخرف الْحِيطَان، وزين الْمِحْرَاب بالجواهر واليواقيت، وَعمِلُوا شَيْئا عجيبا، ثمَّ إِنَّه قَامَ على الصَّخْرَة وَقَالَ: اللَّهُمَّ، أَنْت أَعْطَيْتنِي هَذَا السُّلْطَان الْعَظِيم، وسخرت لي مَا سخرت، فأوزعني أَن أشكر نِعْمَتك الَّتِي أَنْعَمت عَليّ، وَلَا تزغ قلبِي بعد إِذْ هديتني وتوفني مُسلما، وألحقني بالصالحين، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسأَلك لمن دخل هَذَا الْمَسْجِد ليُصَلِّي فِيهِ خمس خِصَال: إِن كَانَ مذنبا تغْفر لَهُ ذَنبه، وَإِن كَانَ فَقِيرا أغنيته، وَإِن كَانَ سقيما شفيته، وَإِن كَانَ خَائفًا أمنته، وَأَسْأَلك أَلا تصرف بَصرك عَمَّن دخله حَتَّى يخرج مِنْهُ، إِلَّا من دخله بإلحاد أَو ظلم.
وَقَوله: ﴿فِي مساكنهم آيَة﴾ وَقُرِئَ: " فِي مسكنهم " وَالْآيَة هِيَ الْعَلامَة، وَمَعْنَاهَا: أَنا جعلنَا لَهُم آيَة تدلهم على أَن النعم الَّتِي لَهُم من الله تَعَالَى.
وَقَوله: ﴿جنتان عَن يَمِين وشمال﴾ فِي الْقِصَّة: أَنه كَانَ لَهُم وَاد يسيل، وعَلى يَمِين الْوَادي جنَّات مصطفة أَي: الْبَسَاتِين وَكَذَلِكَ على يسَار الْوَادي.
وَقَوله: ﴿كلوا من رزق ربكُم﴾ أَي: قُلْنَا لَهُم كلوا من رزق ربكُم.
وَقَوله: ﴿واشكروا لَهُ﴾ أَي: واشكروا الله على نعمه.
وَقَوله: ﴿بَلْدَة طيبَة﴾ أَي: طيبَة الْهَوَاء، عذبة المَاء، كَثِيرَة الْفَوَاكِه، وَذكر ابْن زيد: أَنه لم يكن بهَا بعوض وَلَا بق وَلَا ذُبَاب وَلَا عقرب وَلَا حَيَّة وَلَا شَيْء من أَمْثَال هَذَا، وَكَانَ الرجل الْغَرِيب يدخلهَا وَفِي ثِيَابه الْقمل، فَيَمُوت الْقمل فِي ثِيَابه من صِحَة الْهَوَاء وطيبه.
وَقَوله: ﴿وَرب غَفُور﴾ أَي: وَرب غَفُور للذنوب إِن شكرتم نعمه.
فَإِن قيل: أَي فَائِدَة لتخصيصهم بِهَذَا، وَالله غَفُور لكل الْعباد؟ وَالْجَوَاب عَنهُ: أَن مغْفرَة الرب مَعَ طيب الْبَلدة على تِلْكَ الْغَايَة لم تكن إِلَّا لَهُم.
وَقَوله: ﴿فَأَرْسَلنَا عَلَيْهِم سيل العرم﴾ اخْتلفُوا فِي العرم على أَرْبَعَة أقاويل: أَولهَا:
وَذكر النقاش: أَنه كَانَ ذَلِك من عمل بلقيس، وَكَانَت جعلت على المسناة اثْنَي عشرَة مخرجا، يخرج مِنْهَا اثْنَا عشر نَهرا، وَكَانَت المسناة سدا بَين جبلين، والمياه وَرَاء السد تَجْتَمِع من السُّيُول. وَالْقَوْل الثَّالِث: أَن العرم هُوَ السَّيْل الشَّديد أَي: أرسلنَا عَلَيْهِم السَّيْل الشَّديد. وَالْقَوْل الرَّابِع: أَن العرم هُوَ اسْم الجرذ، وَهُوَ الْفَأْرَة، وَقيل: كَانَ اسْم الْخلد، وسلطه الله تَعَالَى على المسناة حَتَّى نقبها، وَدخل المَاء وغرق الْبَلَد والبساتين. قَالَ ابْن الْأَعرَابِي: العرم وَالْبر من أَسمَاء الْفَأْرَة، وَمِنْه قَوْلهم: فلَان لَا يعرف هرا من برا أَي: السنور من الْفَأْرَة، وَذكر أَبُو (الْحُسَيْن) بن فَارس فِي تَفْسِيره: أَن الْقَوْم كَانُوا قد سمعُوا أَن هَلَاك بلدهم بالفأر من كهانهم، فَجَاءُوا بالسنانير وربطوها عِنْد كل جرف (فِي المسناة)، فَجَاءَت فَأْرَة حَمْرَاء كَبِيرَة وساورت السنور وهزمته وَدخلت فِي الجرف، وتغلغلت المسناة حَتَّى نقبتها وخرقتها.
وَقَوله: ﴿وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي﴾ أَي: بَدَّلْنَاهُمْ بجنتيهم اللَّتَيْنِ كَانَتَا ذواتي فَاكِهَة بجنتين ذواتي ﴿أكل خمط﴾ بتنوين اللَّام، وَقُرِئَ: " أكل خمط " بِغَيْر التَّنْوِين على الْإِضَافَة، وَالْقِرَاءَة على الْإِضَافَة أظهر القرائتين فِي الْمَعْنى لِأَن الخمط اسْم لشجر لَهُ شوك. قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: كل شجر لَهُ شوك فَهُوَ خمط إِذا لم يكن لَهُ ثَمَر. وَعَن بَعضهم: أَن الخمط شجر لَهُ ثَمَر يُسمى فسوة الضبع، لَا ينْتَفع بِهِ ويتفرك إِذا أدْرك من غير أَن ينفع أحدا، وَالْمَعْرُوف فِي التَّفْسِير أَن ثَمَر الخمط هُوَ البربر، والبربر ثَمَر الْأَرَاك، فالخمط هُوَ الْأَرَاك، فَهُوَ معنى قَوْله: ﴿أكل خمط﴾. وَالْأكل هُوَ الثَّمر.
وَأما قِرَاءَة التَّنْوِين: قَالَ الْفراء والزجاج: كل نبت لَهُ مرَارَة وعصوفة فَهُوَ خمط، فعلى هَذَا قَوْله: ﴿خمط﴾ صفة الْأكل، وَمَعْنَاهُ: ذواتي ثَمَر على هَذَا الْوَصْف، وَهُوَ المرارة والعفوصة.
وَقَوله: ﴿ [وأثل] وَشَيْء من سدر قَلِيل﴾ السدر: شجر مَعْرُوف، وَهُوَ شجر النبق. وَقيل: إِن هَذَا السدر كَانَ بريا لَا ينْتَفع بِهِ، وَأما السدر الَّذِي ينْتَفع بِهِ لغسل الْيَد وَغَيره، فَهُوَ الَّذِي كُنَّا نَعْرِف فِي الْبَسَاتِين، وَلم يكن لَهُم ذَلِك.
وَقَوله: ﴿وَهل نجازي إِلَّا الكفور﴾ يُقَال فِي الْعقُوبَة: نجازي، وَفِي المثوبة: نجزي، يَعْنِي: وَهل نجازى مثل هَذِه المجازاة إِلَّا من كفر النعم؟ وَيُقَال: وَهل نجازى إِلَّا الكفور؟ أى: هَل نحاسب إِلَّا الكفور؟ وَقد ثَبت بِرِوَايَة عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا أَن النَّبِي قَالَ: " من نُوقِشَ الْحساب عذب ". قَالَت عَائِشَة: فَقلت يَا رَسُول الله: أَلَيْسَ قَالَ الله تَعَالَى: ﴿فَأَما من أُوتِيَ كِتَابه بِيَمِينِهِ فَسَوف يُحَاسب حسابا يَسِيرا﴾ فَقَالَ: ذَلِك الْعرض، وَمن نُوقِشَ [الْحساب] عذب ".
فَإِن قيل: قد قَالَ: ﴿بَدَّلْنَاهُمْ بجنتيهم جنتين﴾ وَالْأَرْض الَّتِي فِيهَا أَشجَار الأثل والخمط لَا تسمى جنَّة؟ وَالْجَوَاب عَنهُ: إِنَّمَا سمي ذَلِك على طَرِيق الْمُقَابلَة، وَهُوَ مثل قَوْله تَعَالَى: ﴿فَمن اعْتدى عَلَيْكُم فاعتدوا عَلَيْهِ بِمثل مَا اعْتدى عَلَيْكُم﴾ وَقَوله: ﴿وَجَزَاء سَيِّئَة سَيِّئَة مثلهَا﴾.
وَقَوله: ﴿وقدرنا فِيهَا السّير﴾ أَي: السّير أَي: قَدرنَا سيرهم بَين هَذِه الْقرى، وَالْمعْنَى: أَنهم كَانُوا إِذا غدوا يقيلون بقرية، وَإِذا رجعُوا يبيتُونَ بقرية. وَقيل: تَقْدِير السّير أَن سيرهم كَانَ فِي الرواح والغدو على قدر نصف يَوْم، فَكَانُوا إِذا (جازوا) نصف يَوْم وصلوا إِلَى قَرْيَة ذَات مياه وأشجار. قَالَ قَتَادَة: كَانُوا لَا يَحْتَاجُونَ أَن يحملوا زادا. وَقَالَ أَيْضا: كَانَت الْمَرْأَة تضع مكتلها على رَأسهَا، وتمر تَحت الْأَشْجَار فيمتلئ المكتل من الثِّمَار من غير اجتناء.
وَقَوله: ﴿سِيرُوا فِيهَا ليَالِي وأياما آمِنين﴾ أَي: قُلْنَا لَهُم سِيرُوا فِيهَا بالليالي وَالْأَيَّام آمِنين من الْخَوْف والجوع والظمأ، وَمعنى قَوْله: ﴿سِيرُوا﴾ أَي: مكناهم من السّير. وَيُقَال: إِن معنى قَوْله: ﴿سِيرُوا﴾ أَي: يَسِيرُونَ، أَمر بِمَعْنى الْخَبَر، وَمَعْنَاهُ: يَسِيرُونَ فِيهَا ليَالِي وأياما آمِنين، وعَلى مَا ذكرنَا.
وَقَوله: ﴿وظلموا أنفسهم﴾ أَي: بترك الشُّكْر.
وَقَوله: ﴿فجعلناهم أَحَادِيث ومزقناهم كل ممزق﴾ أَي: أَحَادِيث فِي الْقُرُون الَّتِي تَأتي، وفرقناهم وبددناهم كل مفرق ومبدد. قَالَ الشّعبِيّ: تفَرقُوا فِي الْبِلَاد لما غرقت قراهم وَهَلَكت جناتهم، فَمر الأزد إِلَى عمان، وخزاعة إِلَى تهَامَة، وغسان إِلَى الشَّام، وَآل (خُزَيْمَة) إِلَى الْعرَاق، والأوس والخزرج إِلَى يثرب. وَكَانَ الَّذِي قدم الْمَدِينَة مِنْهُم عَمْرو بن عَامر وَهُوَ جد الْأَوْس والخزرج.
وَفِي بعض التفاسير: أَن قراهم كَانَت [أَربع] آلَاف وَسَبْعمائة قَرْيَة، وَكَانَت مُتَّصِلَة من سبأ إِلَى الشَّام قَرْيَة قَرْيَة. وَعَن بَعضهم فِي معنى قَوْله: ﴿فجعلناهم أَحَادِيث﴾ أَن النَّاس يضْربُونَ بهم الْمثل فِي التمزق والتفرق، وَالْعرب تَقول: صَارَت بَنو فلَان أَيدي سبأ وأيادي سبأ إِذا تفَرقُوا وتبددوا. وَأنْشد الْأَزْهَرِي:
(غيبا نرى النَّاس إِلَيْهِ تنسبا | من صادر أَو وَارِد أَيدي سبا) |
وَفِي التَّفْسِير أَن إِبْلِيس قَالَ: لقد أخرجت آدم من الْجنَّة مَعَ كَثْرَة علمه وأغويته، فَأَنا على ذُريَّته أقدر.
وَأما قِرَاءَة التَّخْفِيف فَمَعْنَاه: صدق عَلَيْهِم فِي ظَنّه.
وَقَوله: ﴿فَاتَّبعُوهُ إِلَّا فريقا من الْمُؤمنِينَ﴾ يَعْنِي: إِلَّا كل الْمُؤمنِينَ، هَكَذَا قَالَه أَكثر أهل التَّفْسِير؛ لِأَن الْمُؤمنِينَ لم يتبعوه فِي أصل الدّين، وَقد قَالَ الله تَعَالَى: ﴿إِن عبَادي لَيْسَ لَك عَلَيْهِم سُلْطَان﴾ يَعْنِي: الْمُؤمنِينَ وَعَن بَعضهم: إِلَّا فريقا من الْمُؤمنِينَ: خَواص الْمُؤمنِينَ؛ وهم الَّذين يطيعون الله وَلَا يعصونه.
قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: وَالله إِنَّه لم يسل عَلَيْهِم سَيْفا وَلَا ضَربهمْ بِسَوْط، وَإِنَّمَا وعدهم ومناهم فاغتروا.
وَقَوله: ﴿إِلَّا لنعلم﴾ مَعْنَاهُ: لكَي نعلم ﴿من يُؤمن بِالآخِرَة مِمَّن هُوَ مِنْهَا فِي شكّ﴾ أَي: لنعلم الْمُؤمن من الْكَافِر علم وُقُوع، وَقد علم علم الْغَيْب، وَقد بَينا هَذَا من قبل. قَالَ ابْن فَارس: هَذَا على عَادَة كَلَام الْعَرَب مَعَ الجهلة، فَإنَّك لَو قلت: السكين تقطع اللَّحْم، أَو اللَّحْم يقطع السكين، وَقد علم قطعا أَن السكين هُوَ الَّذِي يقطع اللَّحْم، وَلَكِن يخرج الْكَلَام على خطاب الْجَاهِل، وَتَقْرِير الْأَمر لَهُ.
وَقَوله: ﴿وَرَبك على كل شَيْء حفيظ﴾ أَي: رَقِيب.
وَقَوله: ﴿فِي السَّمَوَات وَلَا فِي الأَرْض﴾ ظَاهر.
وَقَوله: ﴿وَمَا لَهُم فيهمَا من شرك﴾ أَي: مَا للآلهة الَّتِي تدعون من دون الله شركَة فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض.
وَقَوله: ﴿وَمَا لَهُ مِنْهُم من ظهير﴾ أَي: معِين.
وَقَوله: ﴿حَتَّى إِذا فزع عَن قُلُوبهم﴾ لَا بُد أَن يكون هَا هُنَا مَحْذُوف؛ لِأَن حَتَّى من ضَرُورَته أَن يتَّصل بِمَا تقدم، وَلم يُوجد شَيْء يتَّصل بِهِ، فَيجوز أَن يكون الْمَحْذُوف إِثْبَات فزع وَالْمَلَائِكَة وخوفهم إِذا قضى الله تَعَالَى بِأَمْر من السَّمَاء إِلَى الأَرْض.
وَقَوله: ﴿فزع عَن قُلُوبهم﴾ أَي: كشف الْفَزع عَن قُلُوبهم.
وَقُرِئَ فِي الشاذ: " فزع عَن قُلُوبهم " أَي: فرغت قُلُوبهم عَن الْخَوْف.
وَقد ثَبت عَن النَّبِي بِرِوَايَة أبي هُرَيْرَة: " أَن الْمَلَائِكَة تسمع صَوت الْوَحْي شبه السلسلة على الصفوان فيصعقون، ويضربون بأجنحتهم خضعانا لله تَعَالَى ".
وَفِي رِوَايَة: " يخرون على جباههم، فَإِذا كشف الْفَزع عَنْهُم ﴿قَالُوا مَاذَا قَالَ ربكُم﴾ " أَي: قَالَ بَعضهم لبَعض: مَاذَا قَالَ ربكُم؟
وَقَوله: ﴿قَالُوا الْحق﴾ أَي: قَالُوا: قَالَ الله تَعَالَى الْحق أَي: الْوَحْي وَذكر السّديّ وَغَيره: أَنه لما كَانَ زمَان الفترة بَين عِيسَى وَمُحَمّد عَلَيْهِمَا الصَّلَاة وَالسَّلَام وَكَانَت بِمِقْدَار سِتّمائَة سنة، فَلم تسمع الْمَلَائِكَة وَحيا فِي هَذِه الْمدَّة، فَلَمَّا بعث مُحَمَّد
وَقَوله: ﴿وَهُوَ الْعلي الْكَبِير﴾ أَي: المتعالي الْعَظِيم فِي صِفَاته.
وَقَوله: ﴿قل الله﴾ يَعْنِي: إِن لم يَقُولُوا: إِن رازقنا هُوَ الله تَعَالَى، فَقل أَنْت إِن رازقكم هُوَ الله تَعَالَى.
وَقَوله: ﴿وَإِنَّا أَو إيَّاكُمْ لعلى هدى أَو فِي ضلال مُبين﴾ فَإِن قيل: " أَو " فِي كَلَام الْعَرَب للشَّكّ، فَكيف تستقيم كلمة أَو فِي هَذَا الْموضع؟ وَلَا يجوز لأحد أَن يشك أَنه على الْهدى أَو على الضلال، وَالْجَوَاب عَنهُ من وُجُوه: أَحدهَا: مَا ذكره الْفراء وَهُوَ: أَو هَا هُنَا بِمَعْنى الْوَاو، وَالْألف صلَة، فَكَأَنَّهُ قَالَ: " وَإِنَّا وَإِيَّاكُم لعلى هدى أَو فِي ضلال مُبين " يَعْنِي: نَحن على الْهدى وَأَنْتُم فِي الضلال. قَالَ أَبُو الْأسود الدؤَلِي شعرًا:
(يَقُول الأرذلون بَنو قُشَيْر | طوال الدَّهْر لَا تنسى عليا؟) |
(أحب مُحَمَّدًا حبا شَدِيدا | وعباسا وَحَمْزَة والوصيا) |
(فَإِن يَك حبهم رشدا أصبه | وَفِيهِمْ أُسْوَة إِن كَانَ غيا) |
وَالْجَوَاب الثَّانِي: أَن قَوْله: ﴿وَإِنَّا أَو إيَّاكُمْ﴾ خرج على شدَّة الاستبصار، وعَلى طَرِيق المناصفة فِي الْكَلَام، كَالرّجلِ يَقُول لغيره: أَحَدنَا كَاذِب، فَهَل من سامع؟ وَهُوَ مُتَيَقن أَن الصَّادِق هُوَ، والكاذب صَاحبه. وَكَذَلِكَ يَقُول الْمولى لعَبْدِهِ عِنْد شدَّة الْغَضَب: تعال نَنْظُر أَيّنَا يضْرب صَاحبه، وَهُوَ يعلم أَنه هُوَ الَّذِي يضْرب غُلَامه.
وَالثَّالِث: مَا رُوِيَ عَن قَتَادَة أَنه فال معنى الْآيَة: مَا نَحن وَأَنْتُم على طَريقَة وَاحِدَة،
وَقَوله: ﴿وَلَا نسْأَل عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ أَي: عَن عَمَلكُمْ من الْكفْر والمعاصي.
وَقَوله: ﴿ثمَّ يفتح بَيْننَا﴾ أَي: يحكم بَيْننَا، وَالْعرب تسمي الْحَاكِم فتاحا، وَقد ذكرنَا.
وَقَوله: ﴿وَهُوَ الفتاح الْعَلِيم﴾ ظَاهر. وَيُقَال: هُوَ الْحَاكِم الْعَالم بِوُجُوه الْمصلحَة.
وَقَوله: ﴿أروني﴾ أَي: أعلموني مَاذَا خلقُوا؟ وماذا صَنَعُوا؟
وَقَوله: ﴿كلا﴾ يَعْنِي: فَإِن لم تجيبوا بِالْحَقِّ، فَقل: كلا أَي: لَيْسَ الْأَمر على مَا زعمتم.
وَقَوله: ﴿بل هُوَ الله الْعَزِيز الْحَكِيم﴾ أَي: الْغَالِب على أمره، الْحَكِيم فِي تَدْبيره.
وَعَن ابْن زيد: كَافَّة للنَّاس أَي: كافا للنَّاس عَن الْكفْر، وَالْهَاء للْمُبَالَغَة.
وَقَوله: ﴿بشيرا وَنَذِيرا﴾ أى: مبشرا ومنذرا.
وَقَوله: ﴿وَلَكِن أَكثر النَّاس لَا يعلمُونَ﴾ أَي: لَا يعلمُونَ أَنَّك نَبِي. وَفِي بعض التفاسير: أَن أجل فَائِدَة للعباد من الله هُوَ الْعلم وَالْقُدْرَة؛ لِأَن بهما يكْتَسب الْإِنْسَان
وَقَوله: ﴿وَلَا بِالَّذِي بَين يَدَيْهِ﴾ يَعْنِي: من التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل.
وَقَوله: ﴿وَلَو ترى إِذْ الظَّالِمُونَ موقوفون عِنْد رَبهم﴾ أَي: محبوسون عِنْد رَبهم.
وَقَوله: ﴿يرجع بَعضهم إِلَى بعض القَوْل﴾ أَي: يُجَادِل بَعضهم بَعْضًا.
وَقَوله: ﴿يَقُول الَّذين استضعفوا﴾ أَي: استحقروا، وهم الأتباع.
وَقَوله: ﴿للَّذين استكبروا﴾ أَي: تجبروا، وهم القادة والأشراف.
وَقَوله: ﴿لَوْلَا أَنْتُم لَكنا مُؤمنين﴾ أَي: لَوْلَا أَنكُمْ كُنْتُم قادتنا ورؤساءنا لآمَنَّا بِاللَّه وبرسوله.
وَقَوله: ﴿للَّذين استضعفوا﴾ أَي: الأتباع.
وَقَوله: ﴿أَنَحْنُ صددناكم عَن الْهدى بعد إِذْ جَاءَكُم﴾ أَي: منعناكم.
وَقَوله: ﴿بل كُنْتُم مجرمين﴾ أَي: الجرم كَانَ لكم فِي اتباعكم أهواءكم.
(لقد لمتنا يَا أم غيلَان فِي السرى | ونمت وَمَا ليل الْمطِي بنائم) |
وَقَوله: ﴿إِذْ تأمروننا أَن نكفر بِاللَّه ونجعل لَهُ أندادا﴾ أَي: أشباها.
وَقَوله: ﴿وأسروا الندامة﴾ قد بَينا أَن قَوْله: ﴿وأسروا﴾ قد يكون بِمَعْنى أخفوا، وَقد يكون بِمَعْنى أظهرُوا.
قَوْله: ﴿لما رَأَوْا العاب﴾ أَي: عاينوه.
وَقَوله: ﴿وَجَعَلنَا الأغلال فِي أَعْنَاق الَّذين كفرُوا﴾ هُوَ فرع من عَذَاب أهل النَّار.
وَقَوله: ﴿هَل يجزون إِلَّا مَا كَانُوا يعْملُونَ﴾ أَي: يعْملُونَ من الْكفْر والمعاصي.
وَقَوله: ﴿إِنَّا بِمَا أرسلتم بِهِ كافرون﴾ أَي: جاحدون.
وَقَوله: ﴿وَمَا نَحن بمعذبين﴾ الْعَذَاب الَّذِي يُعَذبُونَ بِهِ فِي الدُّنْيَا، وَهُوَ الْفقر. وَالْقَوْل الثَّانِي وَهُوَ أظهر الْقَوْلَيْنِ أَن الَّذِي خولنا وأعطانا الْأَمْوَال وَالْأَوْلَاد فِي الدُّنْيَا لَا يعذبنا فِي الْآخِرَة.
وَقَوله: ﴿وَلَكِن أَكثر النَّاس لَا يعلمُونَ﴾ ظَاهر.
وَفِي الْأَخْبَار أَن النَّبِي قَالَ: " اللَّهُمَّ من أَحبَّنِي فارزقه العفاف والكفاف، وَمن أبغضني فَأكْثر مَاله وَولده ".
وَقَوله: ﴿إِلَّا من آمن وَعمل صَالحا﴾ فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن هَذَا اسْتثِْنَاء مُنْقَطع، وَمَعْنَاهُ: لَكِن [من] آمن وَعمل صَالحا.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن معنى الْآيَة ﴿إِلَّا من آمن وَعمل صَالحا﴾ فَأُولَئِك تقربهم أَمْوَالهم وَأَوْلَادهمْ إِلَى طَاعَة الله، وَهَذَا أظهر الْقَوْلَيْنِ.
وَقَوله: ﴿فَأُولَئِك لَهُم جَزَاء الضعْف﴾ أَي: التَّضْعِيف، وَيُقَال: جَزَاء المضاعفة. والمضاعفة هُوَ أَنه يَجْزِي بِالْوَاحِدِ عشرا إِلَى سَبْعمِائة.
وَقَوله: ﴿وهم فِي الغرفات آمنون﴾ أَي: (فِي) غرفات الْجنَّة آمنون من الْعَذَاب، وَقيل: من الْمَوْت، وَقيل: من الأحزان.
وَقَوله: ﴿أُولَئِكَ فِي الْعَذَاب محضرون﴾ أَي: مدخلون.
وَقَوله: ﴿وَمَا أنفقتم من شَيْء فَهُوَ يخلفه﴾ أَي: يُعْطي خَلفه. وَاخْتلف القَوْل فِي مَوضِع إِعْطَاء الْخلف فالأكثرون أَن (ذَلِك) فِي الْآخِرَة أَو الدُّنْيَا.
روى أَبُو هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " مَا من صباح إِلَّا وينادي ملكان، يَقُول أَحدهمَا: اللَّهُمَّ أعْط منفقا خلفا، وَيَقُول الآخر: اللَّهُمَّ أعْط ممسكا تلفا ".
وَعَن الْحسن الْبَصْرِيّ قَالَ: هُوَ فِي الدُّنْيَا خَاصَّة، وَلَو لم يكن يخلف فِي الدُّنْيَا لبقي العَبْد بِلَا رزق. وَالْقَوْل الأول أحسن.
وَقَوله: ﴿وَهُوَ خير الرازقين﴾ أَي: خير من يرْزق وَيُعْطِي.
وَقَوله: ﴿أَنْت ولينا من دونهم﴾ أَي: نَحن نتولاك وَلَا نتولاهم.
وَقَوله: ﴿بل كَانُوا يعْبدُونَ الْجِنّ﴾ (فَإِن قيل: كَيفَ يَصح قَوْله: ﴿بل كَانُوا يعْبدُونَ الْجِنّ﴾ ) وهم عبدُوا الْمَلَائِكَة؟ وَالْجَوَاب من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَنه قَالَ: ﴿بل كَانُوا يعْبدُونَ الْجِنّ﴾ لِأَن الْجِنّ هم الَّذين زَينُوا لَهُم عبَادَة الْمَلَائِكَة، (وَالْمرَاد من الْجِنّ الشَّيَاطِين، وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنهم صوروا صور الْجِنّ، وَقَالُوا: هَؤُلَاءِ الْمَلَائِكَة) فاعبدوهم.
وَقَوله: ﴿أَكْثَرهم بهم مُؤمنُونَ﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
وَقَوله: ﴿ونقول للَّذين ظلمُوا ذوقوا عَذَاب النَّار الَّتِي كُنْتُم بهَا تكذبون﴾ أَي:
وَقَوله: ﴿قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رجل يُرِيد أَن يصدكم﴾ أَي: يمنعكم ﴿غما كَانَ يعبد آباؤكم﴾ أَي: من الْأَصْنَام.
وَقَوله: ﴿وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إفْك مفترى﴾ يَعْنِي: الْقُرْآن كذب مختلق.
وَقَوله: ﴿وَقَالَ الَّذين كفرُوا للحق لما جَاءَهُم إِن هَذَا إِلَّا سحر مُبين﴾ أَي: بَين.
وَقَوله: ﴿وَمَا أرسلنَا إِلَيْهِم قبلك من نَذِير﴾ أَي: لم يَأْتِ الْعَرَب قبلك نَبِي، وَلَا ينزل عَلَيْهِم كتاب، وَالْمرَاد مِنْهُ قُرَيْش.
وَقَوله: ﴿وَمَا بلغُوا معشار مَا آتَيْنَاهُم﴾ أَكثر أهل التَّفْسِير أَن المُرَاد من الْآيَة هُوَ أَن هَؤُلَاءِ الْكفَّار وهم قُرَيْش مَا بلغُوا معشار مَا آتَيْنَا الَّذين من قبلهم فِي الْقُوَّة وَالْمَال والآلة. وَالْقَوْل الثَّانِي أَن مَعْنَاهُ: وَمَا بلغ الَّذين من قبلهم معشار مَا آتَيْنَا هَؤُلَاءِ يَعْنِي: أَن كتاب هَؤُلَاءِ أبين كتاب، ورسولهم أفضل رَسُول، وَالْقَوْل الأول هُوَ الْمَعْرُوف. وَأما المعشار فَهُوَ الْعشْر، وَقيل: عشر الْعشْر، وَذَلِكَ جُزْء من مائَة (جُزْء)، وَقيل: هُوَ عشر عشر الْعشْر، وَهُوَ جُزْء من ألف جُزْء.
وَقَوله: ﴿فكذبوا رُسُلِي فَكيف كَانَ نَكِير﴾ أَي: إنكاري وتغييري.
وَقَوله: ﴿تقوموا لله﴾ قَالَ أهل التَّفْسِير: لَيْسَ المُرَاد مِنْهُ الْقيام الَّذِي هُوَ ضد الْجُلُوس، وَإِنَّمَا هُوَ مثل قَوْله تَعَالَى: ﴿وَأَن تقوموا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ﴾.
وَقَوله: ﴿ثمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بصاحبكم من جنَّة﴾ أَي: جُنُون.
وَقَوله: ﴿إِن هُوَ إِلَّا نَذِير لكم بَين يَدي عَذَاب شَدِيد﴾ أَي: عَظِيم.
وَقَوله: ﴿إِن أجري إِلَّا على الله﴾ أَي: مَا ثوابي إِلَّا على الله.
وَقَوله: ﴿وَهُوَ على كل شَيْء شَهِيد﴾ أَي: شَاهد.
وَقَوله: ﴿علام الغيوب﴾ مَنْصُوب بِأَن، وَقُرِئَ: " علام الغيوب " بِالرَّفْع أَي: هُوَ علام الغيوب.
وَقَوله: ﴿وَمَا يبدئ الْبَاطِل﴾ قَالَ قَتَادَة: الْبَاطِل هُوَ الشَّيْطَان هَا هُنَا أَي: مَا يبدئ الشَّيْطَان شَيْئا [ ﴿وَمَا يُعِيد﴾ ]. وَفِي الْآيَة قَول آخر: وَهُوَ أَن الله تَعَالَى يقذف بِالْحَقِّ على الْبَاطِل، فَيذْهب الْبَاطِل وَلَا يبْقى مِنْهُ بَقِيَّة تبدئ شَيْئا أَو تعيده. وَقيل: الْبَاطِل هُوَ الْأَصْنَام.
وَقَوله: ﴿فَإِنَّمَا أضلّ على نَفسِي﴾ أَي: إِثْم ضلالتي عَليّ.
وَقَوله: ﴿وَإِن اهتديت فبمَا يوحي إِلَيّ رَبِّي﴾ أَي: من الْقُرْآن والحجج.
وَقَوله: ﴿إِنَّه سميع قريب﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
وَقَوله: ﴿فَلَا فَوت﴾ أى: لَا يفوتون من الله، كَمَا قَالَ الله فِي مَوضِع آخر: ﴿ولات حِين مناص﴾.
وَقَوله: ﴿وَأخذُوا من مَكَان قريب﴾ فِي التَّفْسِير: أخذُوا من تَحت أَقْدَامهم. وَيُقَال: أخذُوا من بطن الأَرْض (إِلَى ظهرهَا).
وَقَوله: ﴿وأنى لَهُم التناوش﴾ قَالَ مُجَاهِد وَقَتَادَة وَكثير من الْمُفَسّرين: التناوش هُوَ التَّنَاوُل قَالَ الشَّاعِر:
(وَهِي تنوش الْحَوْض نوشا من علا
(نوشا بِهِ تقطع) أجواز الفلا)
وَمعنى الْآيَة على هَذَا أَنهم يُرِيدُونَ أَن يتناولوا الْإِيمَان، وَقد بعد عَنْهُم ذَلِك وفاتهم، فَأنى لَهُم ذَلِك. وَقُرِئَ " وأنى لَهُم التناوش " بِالْهَمْز، وَذكر أهل اللُّغَة أَن النئيش هُوَ الْحَرَكَة فِي إبطاء، فَالْمَعْنى على هَذَا أَنه من أَنى لَهُم حركتهم فِيمَا لَا حِيلَة لَهُم فِيهِ. وَعَن ابْن عَبَّاس قَالَ: معنى قَوْله: ﴿وأنى لَهُم التناوش﴾ أَنهم يسْأَلُون الرَّد إِلَى الدُّنْيَا، وأنى لَهُم الرَّد.
وَقَوله: ﴿من مَكَان بعيد﴾ أى: من الْآخِرَة إِلَى الدُّنْيَا.
وَقَوله: ﴿من قبل﴾ أَي: فِي الدُّنْيَا.
وَقَوله: ﴿ويقذفون بِالْغَيْبِ﴾ أَي: يظنون ظن الْغَيْب، وَمعنى ظن الْغَيْب: أَنهم يَقُولُونَ مَا لَا يعلمُونَ؛ وَقَوْلهمْ فِيمَا لَا يعلمُونَ هُوَ أَنهم قَالُوا: مُحَمَّد سَاحر، وكاذب، وكاهن، وشاعر، وَيُقَال: قَوْلهم فِيمَا لَا يعلمُونَ أَنهم يَقُولُونَ: (لَا بعث وَلَا جنَّة) وَلَا نَار.
وَقَوله: {من مَكَان بعيد﴾ أَنهم يَقُولُونَ: مَا أبعد هَذَا، (وَيُقَال) : من مَكَان بعيد أَي: بعيد من (علمهمْ). وَالْقَذْف هُوَ الرَّجْم وَالرَّمْي، وَجُمْلَة الْمَعْنى أَنهم يَخُوضُونَ فِيمَا لَا علم لَهُم بِهِ.
وَقَوله: ﴿كَمَا فعل بأشياعهم من قبل﴾ أَي: الْأُمَم الْمَاضِيَة. وَقيل: بأصحاب الْفِيل. والأشياع: جمع شيعَة، وهم الْفرق.
وَقَوله: ﴿إِنَّهُم كَانُوا فِي شكّ مريب﴾ أَي: فِي شكّ مرتابين، وَفِي الْآيَة دَلِيل على أَن الشاك كَافِر بِخِلَاف مَا قَالَه بعض النَّاس، وَهُوَ غلط عَظِيم فِي الدّين، وَقد دلّت هَذِه الْآيَة على أَن الشاك كَافِر وَهُوَ فِي النَّار، وَكَذَلِكَ دلّ على هَذَا قَوْله تَعَالَى: ﴿وَمَا خلقنَا السَّمَاء وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا بَاطِلا ذَلِك ظن الَّذين كفرُوا فويل للَّذين كفرُوا من النَّار﴾ فقد أوجب لَهُم الْكفْر وَالنَّار بِالظَّنِّ. وَقد رُوِيَ عَن سعيد بن جُبَير فِي قَوْله تَعَالَى: ﴿وَقَالُوا آمنا بِهِ وأنى لَهُم التناوش﴾ قَالَ: هَذِه الْآيَة نزلت فِي جَيش السفياني، وَهُوَ رجل [يخرج] فِي أَخْوَاله من كلب، فَخسفَ الله بهم بِالْبَيْدَاءِ إِلَّا رجلا وَاحِدًا يخبر النَّاس مَا صنع الله بهم، وَفِيه قصَّة.
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
﴿الْحَمد لله فاطر السَّمَوَات وَالْأَرْض جَاعل الْمَلَائِكَة رسلًا أولي أَجْنِحَة مثنى وَثَلَاث﴾تَفْسِير سُورَة فاطر
وَهِي مَكِّيَّة