ﰡ
وما يعرج فيها : ما يصعد إلى السماء.
إنه يعلم ما يدخل في جوف الأرض وما فيها من ماء وكنوز ومعادن وغير ذلك، وما يخرج منها كالحيوان والنبات ومياه الآبار والعيون، وما ينزل من السماء وما يصعد فيها ويرقى إليها، كالملائكة وأعمالِ العباد والأرواح والأبخرة والدخان وكل ما يطير ويحلّق في الأجواء.... لا تخفى عليه صغيرة ولا كبيرة مما يحصل في هذا الكون الواسع العجيب. وهو مع كثرة نِعمه وفضله، واسع الرحمة عظيم الغفران، بابُه مفتوح لكل تائب أواب.
مثقال ذرة : ثقْل أصغر نملة.
ومع كل هذا فقد أنكر الذين كفروا مجيء يوم القيامة، فقلْ لهم أيها الرسول : ستأتيكم الساعة وحقِّ ربي، عالمِ الغيب الذي لا يغيب عن علمه مقدارُ ذرَة في السموات والأرض ولا أصغرُ من ذلك ولا أكبر.... وكل ذلك مسطور في كتاب مبين.
قراءات :
قرأ حمزة والكسائي :﴿ علاّم الغيب ﴾، وقرأ أهل المدينة وابن عامر و رويس :﴿ عالِمُ الغيب ﴾ برفع الميم، والباقون :﴿ عالِمِ الغيب ﴾ بكسر الميم.
وقرأ الكسائي وحده :﴿ لا يعزِب ﴾ بكسر الزاي، والباقون :﴿ يعزب ﴾ بضم الزاي.
من رجز : الرِجزُ أشدّ العذاب، وله معان أخرى.
ويُثْبت للذين كفروا وسعَوا في الأرض فسادا أنهم كانوا خاطئين، وأنهم في العذاب الأليم مخلدون.
وهذا هو العدل من الله تعالى..... ينعُم السعداءُ المؤمنون ويعذَّب الأشقياء الكافرون.
قراءات :
قرأ ابن كثير ويعقوب وحفص :﴿ من رجز أليمٌ ﴾ برفع الميم صفة لعذاب، والباقون بكسرها.
إن الذين منّ الله عليهم بالعلم من أهل الكتاب وغيرهم يعلمون أن القرآن الذي أنزله عليك ربك يا محمد، هو الحق الذي لا مرية فيه، وأنه يهدي إلى صراط العزيز الحميد وهو الإسلام، الدين القويم.
لفي خلْق جديد : يوم البعث في القيامة.
قال بعض الذين كفروا تعجباً واستهزاءً : هل ندلكم على رجل يخبركم أنكم إذا متم وتمزقتْ أجسامكم وتفرقت في ذرات التراب ستبعثون من جديد !
أم به جِنة : جنون.
أكذبَ على الله أم به جنون جعله يتوهم ذلك ويتكلم بما لا يدري ! ؟ ليس الأمر كما زعموا بل الحقيقة أن الذين لا يؤمنون بالآخرة في ضلال كبير سيؤدي بهم إلى جهنم.
لعبد منيب : تائب راجع إلى ربه.
أفلَمْ ينظر هؤلاء المكذّبون بالمعاد إلى ما حولهم من السماء والأرض ليعلموا قدرتنا على فعل ما نشاء ؟ فنحن إن نشأ نخسفْ بهم الأرض، أو نسقطْ عليهم قطعاً من السماء تسحقهم وفي ذلك دليل كاف لكل عبد تواب راجع إلى ربه.
قراءات :
قرأ حمزة والكسائي :﴿ إن يشأ يخسف بهم ﴾ بالياء، والباقون :﴿ إن نشأ نخسف بهم ﴾ بالنون.
أوّبي معه : سبّحي معه.
أَلنّا له الحديد : سهّلنا له العمل به.
ولقد آتينا داود منّا فضلاً على سائر الناس في وقته، وهو النبوّة والزبورُ والملك والصوت الحسن، وقلنا للجبال رجِّعي معه التسبيح، كما مرنا الطيرَ بالتسبيح معه، وجعلنا الحديد ليِّناً بين يديه. وفي عصر داودَ اكتشف الحديد.
قدِّر في السرد : أحكم نسجها وصنعها.
وأوحينا إليه أن يعمل دروعا سابغات طويلة تامة، ثم أمرناه أن يعمل هو وآله وكل من يلوذ به أعمالا صالحة، ﴿ إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾.
ورواحها : رجوعها عشيا مدة شهر.
القطر : بكسر القاف، النحاس الذائب. عين القطر : معدن القطر.
يزغ : ينحرف.
وسخّرنا لسليمان الريح، ذهابُها صباحاً مدة شهر ورجوعُها شهر، يرسلها إلى حيث يشاء، وسهّلنا له إذابة معدن النحاس، وسخّرنا له الجنّ.
وتماثيل : مفردها تمثال، الصور المجسمة.
وجفان : جمع جفنة، وهي القصعة التي يوضع فيها الطعام.
كالجوابي : كالأحواض الكبيرة، مفردها جابية.
وقدور راسيات : قدور كبيرة ثابتة في مكانها لعِظمها.
اعملوا آل داود شكرا : اعملوا يا آل داود عملا تشكرون به الله.
والجن يعملون له ما يريد من شتى المصنوعات والقصورَ الشامخة، والمحاريب، والتماثيل، والجِفان الكبيرة التي تشبه الأحواض، والقدورَ الضخمة الثابتة لا تتحرك لعظمها.
﴿ اعملوا آلَ دَاوُودَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشكور ﴾ : روى الترمذي قال :« صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر فتلا هذه الآية ثم قال ثلاثٌ من أوتيهنّ فقد أوتيَ مثلَ ما أوتي آل داود : العدْل في الرضا والغضب، والقصد في الفقر والغنى، وخشية الله في السر والعلانية »
دابة الأرض : الأَرَضَة وهي حشرة تأكل الخشب.
منسأته : عصاه.
خرّ : سقط.
ما لبثوا في العذاب المهين : ما مكثوا في العذاب الشاق المذل.
فلما حكمنا على سليمان بالموت لم يدلَّ الجن على موته إلا دابةُ الأرض، إذا أكلت عصاه التي كان متكئاً عليها فسقط، فلما سقط علمت الجنُّ أنه مات، وإنهم لا يعلمون الغيب.
قراءات :
قرأ نافع :﴿ منساته ﴾ بغير همزة، والباقون :﴿ منسأته ﴾ بالهمزة.
آية : علامة.
جنتان : بستانان.
لقد كان لأهل سبأ في مسكنهم باليمن علامة دالة على قدرتنا.... كان لهم حديقتان واسعتان تحفّان ببلدهم عن اليمين والشمال، وقد أرسل الله إليهم الرسل تأمرهم أن يأكلوا من رزق ربهم ويشكروه على هذه النعم الجليلة، ففعلوا إلى حين.
الأكُل : الثمر، والرزق الواسع.
الخَمط : المُر من كل شيء، ونوع من شجر الأراك.
الأثل : الطفراء لا ثمر له.
السِدر : شجر بري يحمل ثمراً يقال له النبق، يؤكل.
ثم إنهم أعرضوا، فعاقبهم الله بإرسال سيل العرِم عليهم، فهدم السدَّ وخرّبه وذهب بالجنتين والبساتين، وأهلك الحرثَ والنسل، وبدلهم بجنتيهم المثمرتين بساتين فيها من الشجر البرّي الذي لا ثمر له، وشيئاً قليلاً من السدر يثمر النبق لا غناء فيه.
قراءات :
قرأ أبو عمر :﴿ ذواتَي أكلِ خمطٍ ﴾ بالإضافة، والباقون :﴿ ذواتي أكلٍ خمط ﴾ بالتنوين.
كان سد مأرب من أعظم السدود التي تجمع المياء في اليمن، وكان يسقي مساحة كبيرة قدرها المؤرخون والخبراء بنحو ثلاثمائة ميل مربع.
وكانت مدينة مأرب أغنى المدن القديمة في جنوب شبه الجزيرة العربية ومن أهم المراكز لحضارةٍ وثقافة قديمتين، يرجع تاريخهما إلى ما قبل ثلاثة آلاف عام مضت. وكانت محطةَ استراحة لرحلات طويلة لقوافل التصدير التي كانت تنقل المنتجاتِ الزراعيةَ والصناعية كالبخور واللبان والدارصيني والمُرَ والقرنفل والبلسم وسائر العطور، وكذا الصمغ والقرفة ثم الأحجار الكريمة، والمعادن.... وعلى مسافة كيلومترين إلى الجنوب من مدينة مأرب يقوم أحد روائع الفن اليمني القديم وهو معبد « المقه »، ومعناه في لغة سبأ « الإله القمر »، ويطلق عليه المؤرخون : عرش بلقيس. وهو بناء ضخم على شكل مثلث لا يزال محتفظا برونقه الزاهي ومظهره المصقول، ويبلغ قُطره نحو ألف قدم، ولا تزال بعض أعمدته قائمة حتى اليوم.
ولا تزال آثار السد باقيةً إلى الآن، ويرجع تاريخ بنائه إلى ما قبل ٢٧٠٠ عام، وقد بناه سبأ الأكبر حفيد جد العرب : يعرب بن قحطان. « ملخص عن اليمن عبر التاريخ ».
قراءات :
قرأ حمزة ويعقوب والكسائي وحفص :﴿ هل نجازي إلا الكفورَ ﴾ نجازي بالنون وبنصب الكفور، والباقون :﴿ هل يجازي الا الكفورُ ﴾ يجازى بالياء مبني للمجهول والكفور مرفوع.
وجعلنا بين مسكنهم باليمن والقرى التي باركنا فيها قرىً متقاربة متراصّة، وكانوا في نعمة وغبطة عيش هنيء في بلاد مرضيّة مع كثرة أشجارها وزروعها وخيراتها، حتى إن المسافر لا يحتاج إلى حملِ زادٍ ولا ماء، حيث نَزَلَ وجَدَ ماء وثمرا، وقلنا لهم :
﴿ سِيرُواْ فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ ﴾ متمتعين بهذه النعم.
فبطروا وملّوا تلك النعم، ﴿ فَقَالُواْ رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وظلموا أَنفُسَهُمْ ﴾ :
إذ عرّضوها للسخط والعذاب، بنكران النعمة وعدم الوفاء بشكرها، فجعلناهم أحاديث للناس، وفرقناهم مشتتين في البلاد حتى صار يضرب بهم المثل فيقال :« تفرّقوا أيدي سبأ » أي : متفرقين كأهل سبأ، وأيدي : تعني طُرقا، ومن معاني اليد : الطريق.
ونزلت قبيلة غسان في حوران وأنشأت دولة الغساسنة، وكانت عاصمتهم بُصرى، وعدد ملوكهم ٣٢ ملكا أولهم جفنة بن عمرو وآخرهم جَبَلَة بن الأيهم « أولاد جفنة بالزمان الأول ». ونزلت قبيلة لَخْم في الحِيرة من أرض العراق وأقامت دولة المناذرة. ونزلت قبيلة كِندة في نجد، وبعضهم ذهب إلى حضرموت، وأسسوا دويلات اليمن عبر التاريخ
﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ﴾ : إن فيما حلّ بهؤلاء من النعمة والعذاب عظاتٍ لكل صبّار على البلاء، شكور على النعم والعطاء.
قراءات :
قرأ أبو عمرو وابن كثير وهشام :﴿ ربنا بعّد بين أسفارنا ﴾، وقرأ يعقوب :﴿ باعدَ ﴾ فعل ماضي، والباقون :﴿ باعدْ بين أسفارنا ﴾.
قراءات :
قرأ أهل الكوفة :﴿ ولقد صدّق ﴾ إبليس : بتشديد الدال المفتوحة، والباقون صدَق بفتح الدال من غير تشديد.
ما كان لإبليسَ عليهم من سلطان وقوة يخضعهم بها، ولكن الله امتحنَهم ليَظْهَرَ من يصدّق بالآخرة ممن هو في شك منها، وربك أيها الرسول، حفيظٌ على كل شيء، لا يعزُب عن علمه صغير ولا كبير.
من شِرك : من شركة.
من ظهير : معين.
قل أيها الرسول لهؤلاء المشركين : ادعوا هؤلاء الأصنام فليجلبوا إليكم نفعاً أو يدفعوا عنكم ضرا، إنهم لا يملكون وزن ذرةٍ من الهباء في السموات ولا الأرض، وما لهم فيهما من شِركة، وليس لله من هؤلاء الآلهة المزعومة من يعينه على تدبير شؤون خلقه.
ولا تنفع الشفاعة عند الله إلا لمن يأذَن له أن يشفع عنده، فالشفاعة مرهونةٌ بإذن الله، والله لا يأذن في الشفاعة في غير المؤمنين، أما الذين جحدوا وأشركوا بالله فليسوا أهلاً لان يأذن بالشفاعة فيهم.
ثم بعد ذلك بيَّن المشهد الذي تقع فيه الشهادة، فقال :﴿ حتى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُواْ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُواْ الحق وَهُوَ العلي الكبير ﴾ : وهذا يوم القيامة، إذ يقف الناس وينتظر الشفعاء والمشفوع فيهم أن يأذن الله بالشفاعة لمن ينالون هذا المقام، حتى إذا ذهب الفزع عن قلوبهم قال بعضهم لبعض : ماذا قال ربكم في الشفاعة ؟ قالوا : قال الحق، وهو الإذن بالشفاعة لمن ارتضى، وهم المؤمنون.
﴿ وَهُوَ العلي الكبير ﴾ : صاحب العلو والكبرياء، يأذن ويمنع من يشاء كما يشاء.
قراءات :
قرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي :﴿ لمن أُذن له ﴾ بضم الهمزة، والباقون :﴿ أَذن ﴾ بفتح الهمزة. وقرأ ابن عامر ويعقوب :﴿ إذا فَزَع ﴾ بفتح الفاء والزاي، والباقون :﴿ إذا فُزع ﴾ بضم الفاء وكسر الزاي.
ثم قل لهم أيها الرسول : إنكم لا تُسألون عما ارتكبناه من ذنوب، ونحن لا نُسأل عما تعملون.
الفتّاح : الحاكم.
وقل لهم : الله يجمع بيننا وبينكم يوم القيامة ويقضي بيننا بالحق، وهو الحاكم في كل أمرٍ العليم بحقيقة ما كان منا ومنكم، وهو خير الحاكمين.
﴿ كَلاَّ بَلْ هُوَ الله العزيز الحكيم ﴾ : ليس الأمر كما وصفتم، فلا نظيرَ له تعالى والذين عبدتموهم لا يستحقون العبادة فهو ذو العزّة المنفرد بها، والحكيم في تدبيره للأمور وتصريفه.
﴿ ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ ﴾، وهذا الجهل يحملهم على الإصرار على ما هم فيه من الضلال.
أندادا : نظراء، جمع ند. يقال هو نده ونديده : مماثل له.
وقال المشركون : لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالكتب التي سبقته. ولو ترى أيها الرسول، موقفَ هؤلاء الظالمين يوم القيامة، ففيه يتحاور المشركون ويكذّب بعضهم بعضا، ويتلاومون على ما كان بينهم.
الأغلال : قيود الأعناق.
ثم يقول المستضعَفون : ما صدَّنا عن الإيمان الا مكركم أيها الرؤساء بالليل والنهار، إذ تأمروننا بالكفر بالله وأن نجعل له شركاء وأمثالا.
وعند ذلك يندمون على ما عملوا ولا ينفعهم الندم :﴿ وَجَعَلْنَا الأغلال في أَعْنَاقِ الذين كَفَرُواْ ﴾، وهذا جزاء الظالمين الجاحدين.
يسلّي الله تعالى رسوله الكريم على ما ابتلي به من مخالفة مترفي قومه له، وعداوتهم إياه بالتأسي بمن قبله من الرسل، فهو ليس بدعاً من بينهم، فما من نبيّ بُعث في مكان إلا كذّبه المتنعمون واتَّبعه ضعفاؤهم.
ويقدر : يضيق.
فيرد عليهم بأن بَسْطَ الرزق وتقتيره ليس دليلا على رضا الله أو غضبه، وأن ذلك مرتبط بسننٍ قدّرها الله في هذه الحياة، فمن أحسن استعمالها استفاد منها...
فأولئك لهم جزاء الضعفِ : الجزاء المضاعف.
الغرفات : جمع غرفة في أعالي الجنان.
وإن كثرة الأموال والأولاد لا تقربهم إلى الله إذا لم يؤمنوا، وإن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يضاعَفُ لهم الجزاء ويتمتّعون بغُرف الجنان، ﴿ وَهُمْ فِي الغرفات آمِنُونَ ﴾. قراءات :
قرأ حمزة وحده :﴿ في الغرفة ﴾ بالإفراد، والباقون :﴿ في الغرفات ﴾ بالجمع.
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :«ما من يومٍ يصبح العباد فيه إلا مَلَكان ينزلان، فيقول أحدهما : اللهمّ أعطِ منِفقاً خَلَفا، ويقول الآخر اللهم أعطِ ممسِكاً تلفا ».
بينات : واضحات.
يصدكم : يمنعكم. إفك : كذب، واختلاق.
بعد أن ذكر الله أن المشركين هم أهل النار يوم القيامة حيث قال لهم : ذوقوا عذابها الذي كنتم به تكذّبون، أعقب ذلك بذكرِ ما لأجله استحقوا العذاب، وهو صدّهم الناس عن دعوة الرسول الكريم، وأنهم إذا قرأ الرسول عليهم آياتنا واضحات، قالوا : هذا رجل يريد أن يمنعكم عبادة ما كان يعبد آباؤكم من الأصنام، فقولُه كذبٌ مفترى، وسحر مبين وخِداع ظاهر.
نكير : إنكار.
لقد كذّب الرسلَ قبلكم كثير من الأمم، وكانوا أكثر منكم قوة ومالا، ولم تبلُغوا أيها المشركون، معشار ما منحنا أولئك من القوة والمنعة، ومع ذلك أخذهم الله بظُلْمِهم وتمردهم، وأهلكهم أجمعين.
فرادى : واحدا واحدا.
ما بصاحبكم من جنة : ليس صاحبكم مجنونا.
بين يدي عذاب : أمام عذاب.
قل لهم أيها الرسول : إنما أعظُكم بخصلة واحدة هي : أن تقوموا مخلِصين لله بعيدين عن التقاليد والأهواء، وفكِّروا بجِدٍّ مجتمعين ومتفرقين بأن صاحبكم ليس مجنونا،
وما هو إلا نذير لكم أمام عذابٍ شديد قادم عليكم.
قل أيها الرسول : إن الله يلقي بالحق على من يصطفيه، وهو يرمي بهذا الحق في وجه الباطل فيمحقه. إنه هو علام الغيوب، لا يخفى عليه هدف، ولا تغيب عنه غاية.
وما يعيد : وما يكرره.
قل أيها الرسول : لقد جاء هذا الحق في الرسالة والقرآن وفي منهجهما المستقيم، وقد انتهى أمرُ الباطل، وهلك الشِرك وما عادت له حياة ولم تبقَ منه بقية تبدي شيئاً أو تعيده.
فلا فوت : فلا مهرب.
في ختام السورة يبين الله حالة الجاحدين وكيف يتولاهم الفزعُ والخوف الرهيب في ذلك اليوم العصيب. ولو ترى أيها الرسول، هؤلاء المكذّبين إذ تملّكهم الفزعُ يوم القيامة عندما يرون العذاب الشديد، لرأيتَ ما يعجز القول عن وصفه، فلا مهربَ لهم من العذاب، وأُخذوا إلى النار من مكان قريب.
وقالوا عندما شاهدوا العذاب : آمنا بالحق، لكنْ أنى لهم تناولُ الإيمان بسهولة من مكان بعيد هو الدنيا، وقد خرجوا منها وانقضى وقتها !
لقد كفروا بالله ورسوله وملائكته من قبل، ذلك حين أنكروا هذا اليومَ، وكذّبوا بالبعث والنشور والحساب والجزاء، واليوم يحاولون تناول الإيمان، وذلك بعيد عنهم.
فلا رجوعَ إلى الدنيا، ولا ينفع إيمانُهم، كما قال تعالى أيضا :﴿ فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا قالوا آمَنَّا بالله وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا ﴾ [ غافر : ٨٤، ٨٥ ].
لقد كان لهم آِباء ونظائر من الأمم السابقة، أعرضوا عن ربهم في الحياة الدنيا فتمنَّوا الرجوع إلى الدنيا حين رأوا بأس الله، لأنهم كانوا في حياتهم السابقة شاكّين فيما أخبرتْ به الرسلُ من البعث والجزاء.
وهكذا ختمت هذه السورة الكريمة بهذا العنف، وبتصويرٍ حيّ لمشهد من مشاهد القيامة، وعندها يظهر اليقينُ بعد الشك المريب.