تفسير سورة سبأ

بيان المعاني
تفسير سورة سورة سبأ من كتاب بيان المعاني المعروف بـبيان المعاني .
لمؤلفه ملا حويش . المتوفي سنة 1398 هـ

لذلك فإن نتيجة البحث فيها عقيمة، وعاقبتها وبال إذ قد تؤدي إلى اختلال العقل أو الانتحار لأن لكل علم أصولا تحده ولا حد لعلوم الله، وإذا تدبرت في قوله تعالى (عِنْدَهُ) وكلمتي (وَما تَدْرِي) (وَما تَدْرِي) علمت أنهما تشيران إلى أن هذه الثلاثة لا يحوم حول حماها البشر وإن الاثنين الآخرين وهما نزول الغيث وما في الأرحام قد يتطرق إليهما لأن العلم فيهما لا ينافي علم الله ولكن لا يقف على ما فيهما على الحقيقة فلا يبلغون مداهما مهما توغلوا فيهما كما هو في علم الله، وإذا تأملت قوله تعالى «إِنَّ اللَّهَ» الإله العظيم المبدع هو وحده لا غير «عَلِيمٌ» في هذه الأشياء
الخمسة وغيرها «خَبِيرٌ ٣٤» بتفصيلاتها وأزمان حدوثها وقد علمت أنها من خصائصه لا دخل لخلقه فيها فسلم تسلم واعتقد ترشد. واعلم أن كل ما خطر ببالك فالله فوق ذلك، وسبب نزول هذه الآية على ما قالوا هو أنه جاء الحارث بن عمرو بن حارثة ابن حفصة من أهل البادية فسأل رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن الساعة ووقتها وقال إن أرضنا أجدبت فقل لي متى ينزل الغيث وتركت امرأتي حبلى فما تلد ولقد علمت بأي أرض ولدت فأخبرني بأي أرض أموت، فأنزل الله تعالى هذه الآية. وروى البخاري ومسلم عن ابن عمر قال: مفاتح الغيب خمس وتلا هذه الآية. ويوجد في القرآن سورتان مختومتان بلفظ (خَبِيرٌ) هذه والعاديات فقط، هذا والله أعلم، وأستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا والحمد لله رب العالمين.
تفسير سورة سبأ عدد ٨- ٥٨- ٣٤
نزلت بمكة بعد لقمان إلا الآية ٦ فإنها نزلت بالمدينة وهي أربع وخمسون آية، وثمنمئة وثلاثون كلمة، وألف وخمسمائة واثنا عشر حرفا.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قال تعالى: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ» ملكا وعبيدا يتصرف فيهما وما فيهما كيف يشاء ويختار «وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ» كما لذاته المقدسة في الدنيا إلا أن الحمد في الدنيا يكون سنة دائما ويكون واجبا بمقابلة النعمة وليس هو في الآخرة كذلك
494
لأنها ليست بدار تكليف وإنما يكون الحمد فيها سرورا بالنعم وتلذذا بما يناله أهلها من الشهوات قال تعالى (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ) الآية ٧٥ من سورة الزمر الآتية (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ) الآية ٣٤ من سورة فاطر في ج ١، وفيه الآيتان من سورة النمل (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ) ١٥ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى) ٦٠ فهو الحقيق بالحمد الجدير بالشكر الخليق بالمدح دنيا وأخرى «وَهُوَ الْحَكِيمُ» بتدبيرهما وما فيهما كما أحكم أمرهما وأمر من فيهما «الْخَبِيرُ ١» بما كان وسيكون فيهما «يَعْلَمُ ما يَلِجُ» مقدار ما يدخل ويتغلغل ويكون «فِي الْأَرْضِ» من المطر والنبات والمعادن والكنوز والبذور والأموات وغيرها «وَما يَخْرُجُ مِنْها» من النبات والعيون وأنواع المعادن والكنوز وغيرها لأن منها ما هو داخل ومنها ما هو خارج «وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ» من أمطار وثلوج وصواعق وبركات وغيرها «وَما يَعْرُجُ فِيها» من أقوال وأعمال وملائكة وطيور ومن اختصه من خواص خلقه كإدريس والياس واليسع وعيسى ومحمد عليهم السلام وأرواح الأنبياء والشهداء والصالحين راجع الآية ٥٧ من سورة مريم وأول سورة الإسراء في ج ١ والآية ١٣٢ من الصافات المارة والآية ٥٦ من المائدة الآتية في ج ٣ «وَهُوَ الرَّحِيمُ» بإنزال ما يحتاجه خلقه وادخاره لمنافعهم «الْغَفُورُ ٢» لما يقع منهم من السوء والمعاصي لسعة حلمه وعظيم عفوه وكبير عطفه «وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا» مع هذا كله «لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ» فأقسم جل قسمه وأكده باللام والنون ثم خصه بما يدل على زيادة التأكيد بقوله لحبيبه «قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ» الساعة المقدر إتيانها في علمه وقد وصف حضرته المقدسة بقوله «عالِمِ الْغَيْبِ» الذي من جملته الساعة وذلك لأنهم أنكروا البعث واستبعدوا وعد الله فيه واستبطأوا تنفيذ تهديده ولذلك جاء الجواب بهذا القسم العظيم وأكد علمه للغيب كله بقوله جل قوله «لا يَعْزُبُ» يغيب ولا يبعد «عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ» المثقال «وَلا أَكْبَرُ» منه «إِلَّا» وهو مدون «فِي كِتابٍ مُبِينٍ» لكل شيء الذرة فما فوقها من نام وجامد وهذا الكتاب هو اللوح المحفوظ عنده
495
الجامع المانع وهو وما فيه في علم الله تعالى، كلا شيء راجع الآية ٦١ من سورة يونس المارة ثم بين سبب إتيان الساعة بقوله عز قوله «لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ» في الدنيا جزاء حسنا في الآخرة «أُولئِكَ» المؤمنون ذوو الأعمال الصالحة «لَهُمْ» فيها عند ربهم «مَغْفِرَةٌ» لذنوبهم وستر لعيوبهم «وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ٤» في جنات النعيم «وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا» قصد إبطالها وتكذيبها ويحسبون كونهم «معجزين» لنا، كلا، لا يظن هؤلاء المفسدون أنهم يفوتوننا ولا ينالهم عقابنا لأنهم في قبضتنا ولا ملجأ لهم غيرنا وقرىء مُعاجِزِينَ ويعزب بكسر الزاي والضم أفصح «أُولئِكَ» الساعون بذلك لا ينجون منا وإن مرجعهم إلينا «ولَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ» هو أشد كل عذاب وأسوأه ويطلق على الموت ولذلك وصفه بقوله «أَلِيمٌ ٥» لا تقواه قواهم وهذه الآية المدنية المستثناة من هذه السورة.
مطلب أصول الدين التي لا يتطرق إليها النسخ والآية المدنية وما وقع من هشام وزين العابدين:
قال تعالى «وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ» من مؤمني أهل الكتاب وأصحاب حضرة الرسول ويدخل في هذه الآية علماء هذه الأمة وخواصها الموجودون حين نزولها ومن بعدهم إلى يوم القيامة أي يعتقدون بأن «الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ» الذي لا مرية فيه كما يروا كتبهم حقا لأنها منزلة من لدنا «وَ» يرون أيضا أنه «يَهْدِي» يدل ويرشد «إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ» الغالب لكل شيء «الْحَمِيدِ ٦» لعمل عباده المحمود منهم كما أن كتبهم أيضا تدل على طريق الله وتحت الناس على سلوكه لأن الكل منه ولأن مبلّغيها أنبياؤه ورسله، فجميع الكتب السماوية لا تختلف قيد شعرة في أصول الدين الحق التي هي التوحيد والنبوة والمعاد، لأن من أنكر أحدها فليس من أهل الكتاب، وأما الفروع ففيها اختلاف لأنها معرضة للتبديل والتغيير بحسب المصلحة والزمن والمكان لأن النسخ الوارد لا يتطرق إلا للفروع ويحول حول تلك الأصول البتة، وكونه في العبادات من صفاتها، وفي المأكولات من أصنافها وأجناسها، وفي ضروب الملبوسات وأنواعها
496
والحلي والزينة وتعلقاتها، وأنواع المعاملات وتفرعاتها فقط، وإنما أدخلنا أصحاب الرسول وخواص هذه الأمة في هذه الآية مع أنها في أهل الكتاب نزلت لأن لفظ أوتوا العلم يشملهم وهم متصفون بما احتوت عليه، وفّق الله هذه الأمة للتمسك بها وإرشاد الزائغين عنها وأدام النفع بعلمائها وصلحائها إلى يوم القيامة وهم ملح الأرض لا خلا الكون منهم. انتهت الآية المدنية وهي كغيرها معترضة بالنسبة لما قبلها وبعدها وهذا من كمال بلاغة كتاب الله وفصاحته «وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا» بعضهم لبعض في تقرير إنكار البعث فيما بينهم عطف على الآية الثالثة فما بعدها «هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ» يعنون محمدا صلّى الله عليه وسلم عبروا عنه بلفظ النكرة تجاهلا وهو عندهم العلم المفرد قال الأبوصيري:
خفضت كل مقام بالإضافة إذ نوديت بالرفع مثل المفرد العلم
كيف لا وهو أعرف المعارف وأشهر من الشمس في رابعة النهار وهكذا آله المقتفون أثره ومن هذا ما وقع لهشام بن عبد الملك حين أراد أن يستلم الحجر الأسود ولم يتمكن لازدحام الناس عليه ممن يعرف كونه الملك ومن لا يعرفه ولما جاء حينذاك زين العابدين وأراد استلامه انشق له الناس صفّين احتراما له حتى مشى بينهم على هينة واستلم فقال هشام تجاهلا من هذا فأجابه الفرزدق فورا:
هذا ابن فاطمة إن كنت جاهله بجده أنبياء الله قد ختموا
وليس قولك من هذا بضائره العرب تعرف من أنكرت والعجم
إلى آخر قصيدته الرنانة التي سارت بها الركبان ولم يبال بسلطانه تجاه آل البيت الذين أوجب الله محبتهم علينا، قالوا وكانت امرأته معه فقالت له والله هذا هو الملك والشرف لا ملكك وسلطانك، وهكذا كانت الشعراء تصدع بالحق ولا تخشى الملوك فماذا تراهم لقاء غيرهم وأين شعراؤنا الآن منهم فقد تبدل كل شيء ولا حول ولا قوة إلا بالله الذي «يُنَبِّئُكُمْ» أيها الكفرة ويقول لكم ذلك الرجل إنكم «إِذا مُزِّقْتُمْ» قطعتم وفرقت أوصالكم وفتتت «كُلَّ مُمَزَّقٍ» بحيث صرتم ترابا ورفاتا وهباء «إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ٧» فتنشئون كما كنتم، وهذا بزعمهم أعجوبة غريبة لا يمكن أن تكون ولا تعرف من قبل. ثم تساءلوا بينهم
497
ما ترون «أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً» فيما يقوله هذا الرجل «أَمْ بِهِ جِنَّةٌ» وصار بحيث لا يعي ما يقول ولا يدرك مغزى كلامه مما يلقى على لسانه من الوهم والخيال فيظنه حقيقة، فرد الله عليهم بقوله «بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ» أمثالكم الذين يستعظمون على الخالق الأول إعادة ما خلقه بعد أن أماته، هم المختلة عقولهم الكذبة في هذه الدنيا الذين سيكونون غدا بالآخرة التي يجحدونها «فِي الْعَذابِ» الشديد «وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ ٨» عن الحق الذي كانوا ينكرونه في الدنيا ويكذبون رسل الله الذين جاؤهم به «أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ» المحيطة بهم وهما في قبضتي «إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ» كما خسفناها بقارون وصاحبيه «أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً» قطعا «مِنَ السَّماءِ» كما اسقطنا على أصحاب الأيكة «إِنَّ فِي ذلِكَ» الخسف والإسقاط وما في السماء والأرض من آيات وعبر «لَآيَةً» عظيمة وعظة مؤثرة «لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ ٩» خاشع خاضع لإلهيّتنا كافية بأن يستدل بها على قدرتنا الكاملة وعظمتنا الجليلة.
مطلب مميزات داود وسليمان ومعجزات القرآن وكيفية موت سليمان عليهم السلام:
قال تعالى «وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا» الملك والكتاب مع النبوة والرسالة ولم تجمع لنبي قبله، وزدناه على ذلك حسن الصوت حين يتلو الزبور الذي أنزلناه عليه، ولقد خصصناه بفضل آخر على إخوانه المرسلين بأن «قلنا يا جِبالُ أَوِّبِي» سبّحي الله واذكريه «مَعَهُ وَالطَّيْرَ» سخرناها له أيضا وأمرناها بأن تسبح معه فكان عليه السلام إذا سبح ربه سبحت معه الجبال والطيور والخلائق بدوي يبهر العقول والأسماع فيالها من نعمة عظيمة «وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ ١٠» خاصة له أيضا ليعمل منه لبوسا للحرب ولم يلنه لأحد قبله، ومع هذه النعم العظام كان عليه السلام يتنكر ويمشي في قومه ويسألهم عن نفسه ليعرف عيوبه ولا عيب فيه وإنما يفعل ذلك تعليما لأمته، فقيض الله له ملكا في صورة بشر فقال له عند ما سأله نعم العبد لولا خصلة واحدة قال وما هي قال إنه يأكل من بيت المال هو وعياله، فتنبه وسأل ربه أن يغنيه عنه، فعلمه صنعة الدروع التي تقي لا بسيها تأثير
498
ضرب السيف والرمح بمشيئة الله تعالى، وإلا فلا واقي من قدر الله، وهو أول من نسجها واتخذها آلة للحرب، وكانت قبل صفائح فصار يعمل منها وببيعها ويأكل هو وأهله من ثمنها ويتصدق بالفضلة وأوحى إليه تعالى
«أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ» ألهمه ربه كيفية عملها، وقيل إنّ (أَنِ) هنا مفسرة لألنا له الحديد ليعمل دروعا واسعة، من السبوغ بمعنى التمام والكمال فغلب على الدروع وقيل في المعنى:
لا سابغات ولا جاءوا بأسلتة تقي المنون لدى استيفاء آجال
وتجمع على سوابغ كما في قوله:
عليها أسود ضاربات لبوسهم سوابغ بيض لا تمزقها النّبل
والسرد خرز ما خشن وغلظ قال الشماخ:
فظلت سراعا خيلنا في بيوتكم كما تابعت سرد العنان الخوارز
واستعير لنظم الحديد والنظم اتباع الشيء بالشيء من جنسه فيقال للدرع مسرودة لأنه توبع فيها الحلق بالحلق قال:
وعليهما مسرودتان قضاهما داود أو صنع السوابغ تبّع
ثم علمه الله تعالى كيفية نسجها فقال «وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ» أمره ربه بالتقدير عند نسج الدروع لئلا تكون المسامير رقاقا رفيعة فتفلت ولا غلاظا كبارا فتكسر الزرد ثم خاطبه وآله بقوله «وَاعْمَلُوا» آل داود «صالِحاً» فيما يتعلق بأمور دينكم ودنياكم لا في عمل الدروع خاصة لعموم الخطاب، ولم يخلق الإنسان إلا لأن يعمل صالحا وأوله عبادة الله ثم صيانه النفس من مشاق الدنيا والآخرة ثم الأدنى فالأدنى حتى الحيوان، يؤيد هذا قوله «إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ١١» لا يخفى علي شيء فلو كان خاصا بالدروع لما احتاج إلى هذه المراقبة المؤكدة، هذا وقد ظهر أن الحكمة من إلانة الحديد هو تعلمه هذه الصنعة التي هي من لوازم الجهاد الذي هو أحد أركان الدين. قال تعالى «وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ» سخرها له كما سخر لأبيه داود ما ذكر «غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ» عند ما تسير به وبحاشيته على البساط، قالوا كانت تسير من دمشق إلى إصطخر صباحا فيتغدى فيها ويستريح ثم تسير من إصطخر إلى كابل مساء فيبيت فيها وهذه مسافة شهرين على
499
الأقدام والإبل وهو يقطعها في ساعتين أو ثلاث ساعات من أول النهار وآخره على أكثر تعديل إذا كان يسير سيرا وسطا بريح ليّنة، وعليه فإنه عليه السلام يقطع مسافة شهر بساعة واحدة أو ساعة ونصف على بساطه بقصد النزهة فإذا حزبه أمر فيمكنه أن يقطع تلك المسافة وأكثر بطرفة عين بالريح العاصف كما جيء له بعرش بلقيس من اليمن إلى الأرض المقدسة بلحظة واحدة وهذا مما يعجز عنه البشر لأن الطائرات الحديثة مهما عظمت لا تقطع هذه المسافة بطرفة عين، وكذلك القطارات مهما عظمت لا تقدر أن تفله وتنقله بمثل هذه المسافة بالنظر لوصفه المار ذكره في الآيتين ٢٣- ٤٢ من سورة النمل المارة في ج ١، ولهذا البحث صلة في الآية ٨١ من سورة الأنبياء الآتية، فانظر رعاك الله قبل اختراع الطائرات هل كان أحد يصدق إمكان اجتياز مسافة شهرين بغدو ورواح ومسافة كل منهما تقدر بساعة أو ساعة ونصف إذ تقدر مسافة كل منهما من ثلاثة أميال إلى خمسة على أكثر تعديل لأن الغدو، والرواح يطلق كل منهما على ساعة واحدة أو ساعة ونصف راجع كتب اللغة تجد أن الغدو من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس والرواح آخر ساعة من النهار بما يقابل الغدو، على أنا لا نعلم ماذا يحدث بعد لأن الله علم الإنسان ما لم يعلم وسيخلق لنا ما لم نعلمه لأن عمل البشر من خلقه ولولا أن يقدرهم عليه لما استطاعوا عمله تدبر معجزات القرآن وإخباره بالمغيبات المشيرة إلى هذه الحوادث والوقائع الكائنة والتي ستكون راجع الآية ٣٨ من سورة الأنعام المارة. قال تعالى «وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ» هو النحاس قال تعالى (آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً) الآية ٩٢ من سورة الكهف الآتية، أي انه تعالى أذاب له النحاس كما ألان الحديد لأبيه «وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ» كل شيء يأمرهم به فيذعنون له قسرا لأن الله تعالى هددهم بقوله «وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا» الذي أمرناهم به وهو لزوم طاعته فيما يأمر به سليمان وينهى وأن ينقادوا له وأن الذي يمتنع أو يحاول «نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ ١٢» قالوا وكل الله بهم ملكا فمن أمره سليمان منهم فامتنع ضربه بسوطه فيحترق والله قادر على أكثر من ذلك فصاروا «يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ
500
كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ»
فالمحاريب اسم للقصر العظيم يحارب صاحبه غيره بحمايته وهو اسم مبالغة لمن يكثر الحرب ويطلق على المكان الذي يقف فيه الإمام قال ابن حيوس:
جمع الشجاعة والخشوع لربه... ما أحسن المحراب في محرابه
والقدور معلومة والجفان الأواني التي يوضع فيها الطعام وانظر إلى قول الأعشى في ذلك:
نفى الذمّ عن آل المحلق جفتة... كجابية السيح العراقي تفهق
وقول الأفوه الأودي:
وقدور كالربى راسية... وجفان كالجوابي مترعة
أي ملأى بالطعام ووصف القدور بأنها راسيات لعظمها لأنها لا تنقل من محلها بل تبقى على الأثافي لكثرة الطبخ فيها وثقلها وشبه الجفان أي القصاع بالجوابي التي تسقى بها الأنعام لكبرها أيضا ولأن الطعام فيها دائما للضيفان كما أن الحياض يبقى فيها الماء وإنما ذكر الجفان قبل القدور مع أن القدور مقدمة عليها إذ يطبخ فيها أولا ثم يصب في الجفان بمناسبة ذكر المحاريب التي تطلق على ما ذكر وعلى الدور والمساجد التي فيها المحاريب من إطلاق الجزء وإرادة الكل وعلى الخلوات المتخذة للعبادة، وأما التماثيل فهي عبارة عن صور من رخام ونحاس وزجاج وذهب وفضة، قالوا انهم جعلوا منها ما هو على صور الملائكة وصالحي البشر وما هو على صور الطيور والحيوانات وغيرها إذ كان مباحا في شريعته وهذا مما يخالف شريعتنا ومنسوخ بها، فيا هل ترى ماذا يقول الذين ينكرون الجن في هذه الآيات القاطعات التي لا تقبل التأويل إذ صرحت بأنهم يعملون للبشر ما ذكره الله تعالى في هذه الآية ويسخّرون لأمرهم، وقد مر أول سورة الجن وفي الآيتين ١٧ و ٣٨ من سورة النمل في ج ١ ما يؤيد هذا وله صلة في الآية ٢٩ من الأحقاف الآتية والآيات المبينة في هذه السورة، لهذا فلا قول لهم إلا الجدال بآيات الله التي لا يجادل بها إلا الذين كفروا راجع الآية ٤ من سورة غافر الآتية. قالوا ومن جملة ما صوروا له أسدين تحت كرسيه ونسرين فوقه وطواويس وعقبان ونسورا على درجه إلى عرشه، وقالوا إذا صعد إليه بسط الأسدان ذراعيهما وإذا جلس عليه ظلله النسران وقامت تلك
501
الطيور الأخر على الدرج فيها به من أراد الدنو منه مهما كان غير الهيبة التي تحصل له من الجنود المصطفين شمال يمين والشياطين القائمين حول قصره ليل نهار وغير الهيبة التي كساها الله تعالى إياه فضلا عن وقار النبوة ودهشة الرسالة وبهاء الجمال وعظمة الملك والسلطان، فسبحان من بيده ملكوت كل شيء، قالوا ومن جملة ما شيدوا له من الأبنية العظام مدينة القدس وجعل لها اثنى عشر بابا على عدد الأسباط، وكان بناؤها بالرخام والصفائح والبلور ثم بنوا له ما ذكرناه في الآية ١٥ من سورة النمل في ج ١ والبيت المقدس الواقع تحت الجامع القائم الآن وكان أبوه داود عليه السلام شرع فيه ولم يكمله كما أن الجامع الأموي بدمشق شرع فيه الوليد بن عبد الملك وبعد وفاته أكمله أخره سليمان لهذا قالوا إن سليمان بن عبد الملك بدأ ملكه بخير وهي إكمال البيت المقدس وختمها بخير وهو استخلافه عمر بن عبد العزيز وهذه صدفة لأن داود عليه السلام توفي قبل إكمال القدس أي جامعه وأكمله ابنه سليمان على النحو الموجود الآن تحت الجامع القائم ومواقفه غريبة وكان قديما مبنيا مرصوفا بالجواهر والذهب والفضة ولكن لما هدمه بختنصر أخذ جميع ما فيه راجع الآية ٦ من سورة الإسراء ج ١، قال تعالى «اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً» لنعمنا هذه عليكم «وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ ١٣» لنعمتي قالوا كان عليه السلام قسم ساعات الليل والنهار عليه وعلى أهل بيته للعبادة فلا تمضي ساعة إلا ويقع فيها عمل صالح لله تعالى منه أو من أفراد عائلته، قال تعالى «فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ» بانتهاء أجله المقدر أمتناه وترك ما خولناه إياه وراء ظهره من الملك والسلطان الذي لم يكن لأحد قبله ولا بعده، ألا فلا يغتر أحد بهذه الدنيا فمهما أوتي منها لم يؤت مثل داود وسليمان، ومهما عاش فيها لم يعش مثل نوح والخضر عليهم السلام، فليستعمل العاقل عقله ويتق ربه فما بعد التقوى زاد نافع إلى المعاد.
قالوا كان عليه السلام يتجرد للعبادة السنة والسنتين والشهر والشهرين في بيت المقدس ويدخل معه شرابه وطعامه وكان كل يوم ينبت في محرابه شجرة فيسألها عن اسمها ومنافعها فيقلعها ويأمر بغرسها إن كانت للأكل أو الدّواء أو لغيره حتى نبتت الخرنوبة، فسألها فقالت نبت لخراب مسجدك، قال عليه السلام ما كان الله ليخربه
502
وأنا فيه فنزعها وغرسها في حائطه، وقال اللهم عم على الجن موتي حتى تعلم الإنس أنهم لا يعلمون الغيب، لأنهم يزعمون أنهم يعلمون شيئا منه ويفخرون به على الإنس، وقام يصلي في محرابه على عادته، فمات عليه السلام وهو متكىء على عصاه، فبقي قائما عليها وهو ميت بإرادة الله تعالى وتثبيته وهو الفعال لما يشاء القادر على كل شيء. وكان لمحرابه كوى تنظر الجن إليه منه فيرونه قائما فيدأبون على أعمالهم الشاقة التي أمرهم بها ووكل عليهم ملائكة يراقبونهم غير الذين وكلهم من قومه ويحسبونه حيا ولا ينكرون عدم خروجه لأنهم يعلمون أنه ينقطع للعبادة المدد المبينة أعلاه ولذلك بقوا بعد موته زمنا يعملون ما يأمرهم به الموكلون عليهم من الإنس ولا يقدرون أن يخالفوهم خوفا من الملك الموكل عليهم المار ذكره في الآية ١١ وبقي وبقوا هكذا حتى أكلت عصاه الأرضة فسقط على الأرض فعلموا بموته لأن سقوطه لم يكن على هيئة العبادة التي كان يتعبد بها، وهذا معنى قوله تعالى «ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ» عصاه تقرأ بالهمز وعليه قوله:
ضربت بمنسأة وجهه... فصار بذاك مهينا ذليلا
وبدون همز وعليه قوله:
إذا دببت على المنساة من هرم... فقد تباعد عنك اللهو والغزل
قال تعالى «فَلَمَّا خَرَّ» سقط على الأرض «تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ» ظهر لهم الأمر بأنهم لا يعلمون شيئا مما كانوا يزعمونه من أمر الغيب وتبين لقوم سليمان جهلهم به أيضا ولهذا رد الله عليهم بقوله «أَنْ لَوْ كانُوا» أي الجن «يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ» لعلموا بموته وتركوا العمل الشاق ولما استقروا على الذل والمشقة و «ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ ١٥» لنفوسهم من الموكلين عليهم من الإنس والملائكة، وظهر لدى العام والخاص كذبهم في ادعائهم علم الغيب، والمراد بالجن هنا الكفرة منهم لأن المؤمن لا يكون مهانا في ملك نبيه راجع الآية ١٤ من سورة النمل والآية ٢٤ من سورة ص في ج ١ فيما يتعلق بعظمة ملك داود وسليمان عليهما السلام، قال تعالى «لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ» بن يشجب بن يعرب بن قحطان «فِي مَسْكَنِهِمْ» مأرب من أرض اليمن «آيَةٌ» دالة على وحدانية الله تعالى كافية لمن اعتبر وهي
503
«جَنَّتانِ» على شفير الوادي، يشعر بهذا قوله عز قوله «عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ» من الوادي وكان لكل منهم في جهة اليمين بستان وفي جهة اليسار بستان ولهذا يمنّ الله عليهم بقوله «كُلُوا» يا آل سبأ «مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ» هذه النعمة العظيمة واعملوا بطاعته فإن مأرب «بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ» كثيرة النبات لطيب أرضها ليست برطبة ولا يابسة ولا سبخة ولا محجرة ولا يوجد فيها بعوض ولا ذباب ولا برغوث ولا شىء من الهوام الضارة حتى أن الرجل إذا دخلها وكان في ثيابه قمل أو برغوث يموت من طيب هوائها والخاصيّة التي أودعها الله فيها «وَرَبٌّ غَفُورٌ ١٦» ربكم يا آل سبأ يعفو عما يقع منكم إن شكرتم وآمنتم «فَأَعْرَضُوا» عن دعوة أنبيائهم ولم يقبلوا نصحهم ولم يراعوا حق هذه النعم المسبلة عليهم بل كذبوهم، قال وهب كانوا ثلاثة عشر وذكره ابن عباس ولم أقف على أسمائهم، وقد ذكّروهم نعم الله وحذّروهم عقابه وأنذروهم عذابه فلم ينجع بهم وقالوا ما نعرف لله علينا نعمة فقولوا لربكم يحبس عنا المطر وسائر نعمه قال تعالى فحق عليهم القول «فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ» قال ابن عباس كان لهم سد بنته السيدة بلقيس على وادي المياه وجعلت له أبوابا وبنت دونه بركة فجعلت لها اثنى عشر مخرجا يفتحونها عند الحاجة لسقي جنبيتهم وكانت وجهت إليها مياه السيول فإذا جاء المطر احتبس من وراء السد فيمتلأ ذلك الوادي العظيم بما يزيد على حاجتهم سنريا، وكانت قسّمته بينهم بنسبة حاجة كل منهم وبقوا ينتفعون به في حياتها وبعد موتها مدة كثيرة على حسب وضعها، فلما طغوا وجابهوا أنبياءهم بما ذكر آنفا وقالوا لهم إن كان ما تقولونه حقا فافعلوا وإنا لسنا بحاجة إلى إرشادكم ولا نخاف من تهديدكم ووعيدكم، وكان قولهم هذا موافقا لأجل الانتقام منهم في قدر الله الذي قدره عليهم وكفروا هذه النعم بغيا وعتوا سلط الله تعالى الخلد على السد فثقبه فطغى الماء على جنتيهم فأغرقهما وأخرب أراضيهم وأغرقها وفاض الماء على دورهم فأخربها فمزّقوا كل ممزّق وندّ منهم من ند وصار يضرب بهم المثل عند العرب يقولون ذهبوا أيدي سبا وتفرقوا أيادي سبا «وَبَدَّلْناهُمْ» بسبب كفرهم بجنتيهم ذاتي الفواكه الطيبة والخيرات الكثيرة «جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ
504
خَمْطٍ»
حريف حامض ومرّ وكل شجرة ذات شوك سمي ثمرها خمط «وَأَثْلٍ» شجر الطرفاء وشجر آخر يشبهه أعظم منه «وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ ١٧» وثمره يسمى النبق ويغسل بورقه بدلا من الصابون كورق الخطمي والأسنان وقد أمر النبي صلّى الله عليه وسلم بأن يغسل الذي وقصته ناقته بماء وسدر زيادة في التنظيف «ذلِكَ» الفعل الذي فعلناه بهم والتبديل الذي بدلناه جزاء «جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ ١٨» بلى ولا نجازي الشكور بل ننعم عليه، وهذا استفهام تقريري لا يجاب إلا ببلى وحقا إنه تعالى لا يجازي بأسوأ المجازات إلا الأكثر كفرا لأن كفور والكلمات التي على وزنه كشكور وغفور وغرور وعقور من أسماء المبالغة، قال تعالى «وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها» بالأشجار والأنهار والقرى أي قرى الشام وبيت المقدس «قُرىً ظاهِرَةً» متواصلة لا تنقطع الواحدة تلو الأخرى، قالوا كان بين سبأ والشام أربعة آلاف قرية عامرة لا
تقطع الواحدة حتى ترى الأخرى «وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ» بحيث جعلنا بين كل قرية وقرية مرحلة صغيرة تقدر باعتبار مشي الأقدام والإبل بأربعة فراسخ أي بريد واحد، وقد اختلف في تقديره فمنهم من قال ساعة ونصف، ومنهم من قال ساعة واحدة، وعلى كل فالفرسخ ثلاثة أميال والميل ألف باع والباع أربعة أذرع بذراع العامة وهذه على أكثر تعديل تكون ستة ساعات بسير الأقدام والإبل وأربعة بسير البغال والخيل وتقطع بساعتين أيضا، وقلنا لهم «سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ ١٩» من الجوع والعطش والعدوان فبطروا وجحدوا هذه النعم وسئموا الراحة التي عزّ طلبها على غيرهم ولم يصبروا على السعة والعافية التي يتوق إليها كل مخلوق «فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا» فهو أجدر أن نشتهيها ونتزود للسفر إليها من الزاد والراحلة، فعجل الله لهم الإجابة «وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ» بهذا الدعاء وطلب المشقة بطرا ففعلنا بهم ما فعلنا «فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ» لمن بعدهم يتحدثون بشأنهم وعبرة يعتبرون بهم وعظة لغيرهم «وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ» بأن فرقناهم وبدّدناهم في البوادي والقفار وشتتنا شملهم فذهب الأزد إلى عمان وخزاعة إلى تهامة والأوس والخزرج إلى يثرب
505
وآل خزيمة للعراق ولحقت فرقة منهم إلى الشام فنزلوا على ماء يدعى غسّان فسموا الغساسنة، وهم فرقة من الأزد ومنهم بنو جفنه رهط الملوك «إِنَّ فِي ذلِكَ» المذكور في قصتهم «لَآياتٍ» عظيمات وعبر جسيمات ودلائل باهرات «لِكُلِّ صَبَّارٍ» عن لذات المعاصي وعشاق الطاعات «شَكُورٍ ٢٠» نعم الله عليه قلّت أو كثرت وسجية المؤمن الصادق الصبر على البلاء والشكر على النعماء فإذا ابتلي صبر ورضي وإذا أعطي شكر وتصدق.
مطلب تصديق ظن إبليس وبحث نفسي في قوله تعالى ماذا قال ربكم:
«وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ» على أهل سبأ ومن حذا حذوهم وحقق ما كان يتوفاه منهم وظفر بما يأمله من طاعتهم له وعصيانهم لله تعالى يا ويلهم «فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» بالله إيمانا كاملا مخلصين العمل لحضرته، وفريقا انهمكوا في لذاتهم وركنوا إلى شهواتهم وانقادوا لوساوس الشيطان فعصوا الله وفسقوا واختاروا العمى على الهدى لأن الخبيث عليه اللعنة لما طلب إنظاره من الله تعالى ما كان متيقنا إتمام ما وعد به من إضلال العباد بل قال لأغوينهم ولأظنهم على سبيل الظن فلما اتبعه وأطاعه فريق منهم فقد صدق ظنه في هؤلاء خاصة وفي أمثالهم عامة بطوعهم ورضاهم واختيارهم بدليل قوله تعالى حكاية عنه وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم الآية ٢٢ من سورة ابراهيم الآتية أي أنه لم يقهرهم ويلجئهم لطاعته قسرا لأنه لم يشهر عليهم سلاحا سيفا ولا سوطا وإنما وعدهم ومنّاهم وموّه عليهم الحق وزخرف لهم الباطل ورغبهم بالشهوات وحسن لهم القبيح وأغراهم بالتسويف وغرهم بطول الأمل فانكبوا عليه وصفقوا لديه واقتفوا أثره ومالوا بكليتهم إليه ولو شاء الله لمنعه من ذلك وحال بينه وبينهم ومنعهم من الانقياد إليه
«وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ» ليجبرهم على طاعته «إِلَّا» إنه لم يفعل ذلك ويحجزهم عنه «لِنَعْلَمَ» وهو عالم من قبل ويظهر ما هو في علمه لخلقه «مِنْ» منهم «يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ» على رضى منه فيصدق بوجودها بطوعه واختياره «مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ» برضاه ورغبته فينكر وجودها ووقوعها ومما يؤيد أن المراد بالعلم في هذه الآية علم الوقوع
506
والظهور بين الناس وأنه تعالى شأنه عالم بذلك أزلا قوله جل قوله «وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ ٢١» فمن كان رقيبا على كل شيء لا يغرب عن علمه شيء وما قدره على خلقه من بعض معلوماته قال تعالى قد يعلم ما أنتم عليه الآية الأخيرة من سورة النور في ج ٣ (وقد) هنا تفيد التقليل أي أن الذي أنتم عليه أيها الناس جزء من بعض معلوماته قال تعالى «قُلِ» يا محمد لكفار قومك الذين حبس عنهم الغيث «ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ» أنهم آلهة «مِنْ دُونِ اللَّهِ» ليكشفوا عنكم ما نزل بكم من القحط والجدب ليظهر لهم عجزهم وتيقنوا أنهم «لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ» لأنهما وما فيهما وبينهما ملك لله وحده ولا يقع فيهما شيء إلا بأمره «وَما لَهُمْ» لتلك الأوثان التي يزعمونها شريكة لله «مِنْ شِرْكٍ» في أمر من أموره لا فيهما ولا في غيرهما البتة «وَما لَهُ» وما لله «مِنْهُمْ» من آلهتهم «مِنْ ظَهِيرٍ ٢٢» يعاونه على تدبير ما يقع بينهما من خير أو شر «وَ» اعلموا أيها الناس أن الله تعالى يقول «لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ» لأحد ما من الأوثان والملائكة وكافة الخلق «إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ» فيها فقط وهذا تكذيب لقول الكفرة بأن الأوثان تشفع لهم عند الله مع أنه في ذلك اليوم يتجلى الجبار على خلقه فيأخذهم الخوف والوجل برّهم وفاجرهم «حَتَّى إِذا فُزِّعَ» كشف الفزع «عَنْ قُلُوبِهِمْ» وذهب الحزن عنهم من هيبة كلام العرب جل جلاله في ذلك اليوم المهول أي عن المشفوع لهم والشافعين لأن المستشفعين يتثبّتون بأذيال الرجاء من الشافعين النائمين على قدم الالتجاء إلى باب ذي القدرة والعظمة مستأذنين من حضرته الشفاعة لعصاة المؤمنين، أما الكافرون فهم بمعزل عن هذا ويبقون منتظرين خائفين لا يدرون بماذا يجابون في ذلك الوقت العصيب وقد غشيهم الفزع ومما يدل على هذا قوله تعالى (رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً) وقوله جل قوله (لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً) الآيتين من آخر سورة عمّ الآتية فالكل إذا ينتظرون كلمة من رب العزة ليتباشروا في إطلاق الناس بالشفاعة حتى أزيل وحتى هنا للغاية ولا غاية بلا مغيا وتكييف المغيا هنا كأن قيل كيف
507
يمكن استحصال الإذن في ذلك الموقف، العظيم للشافعين، وكيف يكون حال المستشفعين؟ فقيل يقفون منتظرين وجلين خلف سرادق العظمة والهيبة والجلالة لا يدرون ماذا يوقّع لهم الملك الأعظم على رقعة سؤالهم منه، حتى إذا ذهب الخوف عن قلوبهم فتكون هذه الجملة هي الغاية. وما ذكرناه من حصول الإذن هي المغيا.
والفزع عبارة عن انقباض النفس ونفار يعتري الإنسان من الشيء المخيف مثل الجزع إلا أنه لا يقال فزعت من الله بل خفت وهو من الاضداد تقول فزعت بمعنى خفت وفزعت بمعنى أزيل عني الفزع وفعله يتعدى بعن كما في هذه الآية وبمن إذا كان بمعنى الخوف. «قالُوا» المشفوع لهم للشافعين «ماذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا» الشفعاء قال الله «الْحَقَّ» أي أذن بالشفاعة وكل قوله حق ويؤذن بهذا قوله جل قوله «وَهُوَ الْعَلِيُّ» على عباده لا يرد سؤالهم «الْكَبِيرُ ٢٣» عن أن يخيب أملهم وهذا من نتيجة كلام الشافعين اعترافا بعلو عظمته عن أن يرد أيديهم صفرا وجليل كبريائه عن أن ييأسهم من فيض رحمته، وما جرينا عليه من هذا التفسير لهذه الآية العظيمة هو المناسب لسياق التنزيل وسباق اللفظ الجليل مما تقدمها.
أما من فسرها على نزول الوحي واستشهد بما رواه البخاري ومسلم فقد قال إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة أجنحتها خضعانا لقوله كأنه صلصلة على صفوان، وبما أخرج أبو داود عن ابن مسعود إذا تكلم الله تعالى بالوحي سمع أهل السموات صلصلة كجرس السلسلة على الصفا فيصعقون فلا يزالون كذلك حتى يأتيهم جبريل فإذا جاء فزع عن قلوبهم يقولون يا جبريل ماذا قال ربك فيقول الحق فيقولون الحق. فهذه الأحاديث وشبهها لم تثبت أن الرسول قالها في معرض هذه الآية والقائلون بهذا لم يبنوا وجه اتصال هذه الآية بما قبلها ولم يبحثوا عن الغاية بشيء، ولم يتعرفوا للمغيا ليركن إلى بعض ما قالوه، ولذلك فإن ما جرينا عليه هو الأولى والأوفق وإن ما مشى عليه أكثر المفسرين هو بالنظر إلى ظاهر اللفظ ومطابقته لهذه الأحاديث فنزلوا تفسير الآية عليه كما ساقوا مثل هذه الأحاديث في مسألة استراق السمع، راجع بحثه في الآية ١٨ من سورة الحجر المارة وعلى هذا مشى السيد محمود الألوسي في تفسيره روح المعاني إذ نظر إلى مطابقة المقام الموافق
508
لظاهر الكلام وظهر له ما قاله غيره في هذا المقام بأنه نظر إلى ظاهر اللفظ فعدل عن أقوالهم، والحق يقال إنه بمراحل كثيرة في الحسن والمطابقة للواقع وموافقة التنزيل ومناسبة الآي. عما قاله غيره، ولهذا اخترنا قوله أيضا بما زدنا عليه من التصرف ومن أراد زيادة التفصيل في هذا البحث فليراجع تفسير هذه الآية في ص ١٣٩ فما بعدها من ج ٧ من تفسيره المذكور وقد مشى عليه صاحب روح البيان السيد إسماعيل حقي والإمام النسفي وجار الله الزمخشري من قبله والله أعلم وهو الموفق والهادي إلى سواء السبيل. قال تعالى «قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» فإن لم يجيبوك يا محمد بأن الذي يرزقنا هو الله فبادرهم أنت و «قُلِ اللَّهُ» الذي يرزق أهل السموات والأرض من إنسان وحيوان وطير وحوت وغيرها وقل لهم أيضا إذا لم يقلعوا عن محاججتك على طريق الإرشاد في المناظرة «وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً» لفظ هدى يعود للضمير الأول على حضرة الرسول «أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ» ٢٤ ولفظ الضلال يعود إلى الضمير الآخر العائد للكفرة على سبيل اللف والنشر المرتب، وهذا الكلام على جهة الإلزام والإنصات في المحاجة كما تقول لمجادلك أحدنا كاذب لا على طريق الشك، لأن حضرة الرسول يعلم حقا بأنه ومن اتبعه على هدى من الله وأن من خالفه وجحد ما جاء به في ضلال وهو من قبيل التعريض ليكون أوصل للغرض وأوفى بالمقصود من غير تصريح بتعنيف الخصم وهذا شأن المنصف المهذب وعليه قول حسان:
أتهجوه ولست له بكفء فشرّ كما لخيركما الفداء
وإن ما جرينا عليه من قول من قال إن أو هنا بمعنى الواو أي إني لعلى هدى وإنكم على ضلال لأن اختلاف حرف الجر قد أدى بالمطلوب لأن المهتدي مستعل فأدخل عليه على المفيدة للاستعلاء والمضل منغمس في الظلمة فأدخل عليه في المؤدية لذلك، وإنما قلنا إن هذا شأن المنصف في المجادلة لأنه لو قال لهم رأسا أنتم ضلال مبطلون لأنماظهم وصيرهم إلى العناد وجرأهم للمقابلة فيردون عليه بأغلظ رد لما هم عليه من السفاهة، ولفات الغرض المقصود من استجلابهم لما يريده منهم من سلوك سبيله، والعقل يحكم بأن تكون المناظرة على الوجه الأحسن للانقياد وطريقة اللف والنشر
509
المرتب من بديع الكلام وفصيحه وكثيرا ما تستعمله العرب في أقوالها وتستعذبه قال امرؤ القيس:
كأن قلوب الطير رطبا ويابسا لدى وكرها العناب والحشف البالي
ومنه قوله:
ما أحسن الدين والدنيا إذا اجتمعا وأقبح الكفر والإفلاس في الرجل
فيظهر لك من هذا أن اعتبار «أو» بمعنى الواو في هذا الموضع، فيه بعد ومخالفة للظاهر، ولا يجوز بالمفسر والمؤول أن يركن إلى وضع حرف مكان آخر أو كلمة مكان غيرها إذا لم يكن جريها على ما هي عليه. هذا ثم أتى بما هو أدخل في الانصاف وأبلغ في القبول فقال جلّ قوله «قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا» أي لا تؤاخذون به على فرض صدوره منا، وهذا مجاراة لمثل كلامهم إذ لا إجرام في الحقيقة «وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ ٢٥» بل كل يسأل عما عمل وفي إسناد الإجرام إلى المخاطبين وهو مزجور عنه ومحظور والعمل للمخاطبين وهو مأمور به مشكور غاية في حسن المخاطبة ونهاية في الإنصاف في طيب المكالمة ودلالة بالغة على كمال الأخلاق وعلو الآداب، ولا يخفى ما في هذا التعبير من الحسن من حيث ذكر الأجرام المنسوبة إلى النفس بصيغة الماضي الدالة على التحقيق وذكر العمل المنسوب إلى الخصم بصيغة المضارع التي لا تدل على ذلك، وزعم بعضهم أن هذا من باب المشاركة وأن هذه الآية منسوخة بآية السيف وليس بشيء لأنها من باب التعريض الغير مضر وهي خبر من الأخبار لا يدخلها النسخ كما أشرنا إليه غير مرة، ثم ختم المكالمة بالتبري عن عمل شيء من نفسه وتفويض الأمر فيما يتعلق بينه وبينهم إلى ربه فقال ما قال له ربه «قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا» نحن محمدا وأصحابه وبينكم أيها المشركون «رَبُّنا» نحن وأنتم يوم القيامة فيحاسبنا على أعمالنا «ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا» يقضي ويفصل ويحكم حكما «بِالْحَقِّ» لا ميل ولا حيف ولا جور فيه «وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ ٢٦» بما يفتح لأنه يحكم بين خلقه بما هو الواقع الموافق لنفس الأمر أما حكام الدنيا فغاية العدل في أحكامهم الاعتماد على البينات وهي لا تخلو من زور وكذب وكتم للحقيقة خاصة في زمننا هذا، وفي تسمية القضاء بالفتح إشارة
510
إلى وجه فصل الخصومات فتحا تشبيها لما حكم فيه بأمر مغلق كما يشبه بأمر متعقد في قولهم حلال المشكلات، قال تعالى «قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ» بربي الواحد الأحد «شُرَكاءَ» من أوثانكم هل تقدر أن تخلق أو ترزق أو تنفع أو تضر؟ قل لهم يا حبيبي «كَلَّا» لا تفعل شيئا من ذلك لأنها مفتقرة إلى من يصلحها ويحفظها من التعدي، وإذا كانت كذلك فكيف تصلح أن تكون آلهة، وكيف يليق بكم أن تعبدوها «بَلْ» القادر على فعل ذلك كله والمستحق للعبادة «هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ» الغالب على كل شيء «الْحَكِيمُ ٢٧» فيما يفعله ويدبره «وَما أَرْسَلْناكَ» يا سيد الرسول لهؤلاء الكفرة خاصة «إِلَّا كَافَّةً» أي رسالة عامة «لِلنَّاسِ» أجمعين على اختلاف مللهم ونحلهم وألوانهم ولغتهم فكن لمن أطاعك منهم «بَشِيراً وَنَذِيراً» لمن عصاك «وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ٢٨» عموم رسالتك لمن على وجه الأرض عربهم وعجمهم فيحملهم جهلهم بذلك على مخالفتك فعرفهم هذا وعظهم ودارهم وتلطف بهم ليؤمن مؤمنهم ويصر كافرهم. وهذا من قبيل تقديم المعذرة لأن من هو في علمه كافر لا ينفعه النصح ومن هو في أزله مؤمن لا تستهويه الضلال.
مطلب عموم رسالته صلّى الله عليه وسلم ومجادلة الكفرة فيما بينهم:
وهذه الآية تدل صراحة على عموم رسالة محمد صلّى الله عليه وسلم لعامة الخلق راجع الآية ١٥٨ من سورة الأعراف في ج ١ فيما يتعلق في هذا البحث. روى البخاري ومسلم عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا فأيما رجل أدركته الصلاة فليصل (وأهل الكتاب لا تصح صلاتهم إلا في كنائسهم)، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة (أي العامة وإلا فكل نبي يشفع بأمته وأهل الخير يشفعون بمن يأذن الله لهم من خلقه خاصة)، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة، أي بداية ونهاية بخلاف رسالة سيدنا نوح راجع الآية ٧٤ من سورة يونس المارة تجد أولها خاصة وآخرها عامة، وكان من الأنبياء من يرسل إلى أهل بلده خاصة ومنهم من يرسل إلى أهله فقط
511
وخص محمدا صلّى الله عليه وسلم بعموم الرسالة إلى الناس كافة. قال تعالى «وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ» الذي تعدنا به يا محمد من نزول العذاب «إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ٢٩» فيما تقولون وتهددونا به، وهذه الآية في ترتيب القرآن لم توجد في أوله حتى سورة يونس ومنها إلى الأنبياء وفيما بعد مكررة كثيرا. قال تعالى ردا عليهم يا أكرم الرسل «قُلْ» لهؤلاء المستبطئين سخطنا عليهم المطالبين بنزول ما توعد به من العذاب «لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ ٣٠» فميعاده في الدنيا الموت إذا لم يباغتكم غيره قبله وفي الآخرة البعث، وهاتان الساعتان المقدرتان لموتكم وبعثكم لا يمكن بوجه من الوجوه تقديمهما لحظة ولا تأخيرهما عما هو مقدر في علمنا الأزلي وإنكم بعد البعث سترون ساعة الحساب وساعة الحكم وساعة الدخول في النار لا محالة وسيشدد حزنكم عند ما تشاهدون المصدقين الطائعين يدخلون الجنة ومغبّة ما حكاه الله عنكم في قوله
«وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا» قولا غير ما ذكر من الاستبطاء واشنع منه وهو قولهم جرأة على ربهم «لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ» المنزل عليك يا محمد «وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ» من الكتب الأخرى كالتوراة والإنجيل والزبور والصحف أيضا، قال تعالى تفظيعا لشأنهم في الآخرة وما تؤول إليه حالتهم الخاسرة «وَلَوْ تَرى» يا حبيبي «إِذِ الظَّالِمُونَ» أنفسهم بهذه الجرأة على الله في ذلك الموقف العظيم وأمثالهم وقد تخلى عنهم أربابهم المزيفون العاجزون «مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ» الحقيقي وقد تجلى عليهم باسمه المنتقم لرأيت أمرا فظيعا هالك مرآه، ولو تراهم يا أكمل الرسل حين يتلاومون على سوء صنيعهم في الدنيا إذ «يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ» فيوقع كل منهم الملامة على الآخر «يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا» في الدنيا وهم الأتباع الوارد ذكرهم في الآية ١٦٤ من سورة البقرة في ج ٣ للذين استكبروا وهم الرؤساء الآتي ذكرهم في الآية ١١ من سورة إبراهيم الآتية «لَوْلا أَنْتُمْ» منعتمونا في الدنيا عن الأيمان بالرسل «لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ ٣١» بهم ولنجونا من هذا البلاء ولم يمسسنا سوء في هذا الموقف «قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ» كلا لا صحة لهذا لأنا لم نصدكم
512
ولم نمنعكم عن الإيمان بالرسل «بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ ٣٢» باختياركم ورغبتكم وقد رضيتم بالإشراك وآثرتم الكفر على الإيمان بطوعكم «وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ» اعلم أن كلمة مكر هذه مضافة لمضاف محذوف وهو الضمير الذي يعود إلى الرؤساء وبحذفه أضيف لما بعده إضافة المصدر لمفعوله وعليه يكون المعنى صدنا مكركم بنا أيها الرؤساء واحتيالكم علينا وتزيين آلهتكم المزعومة لنا وتظاهركم مظهر الصادق حتى ظننا بكم أنكم على خير «إِذْ تَأْمُرُونَنا» ليل نهار صباح مساء «أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ» الواحد ونكذب الرسول الذي يأمرنا بعبادته ورفض ما سواه وأنتم تأمروننا بتكذيبهم أيضا «وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً» أمثالا على ما كان عليه آباؤنا وآباؤكم الأقدمون، فلما سمعوا هذا منهم وقد صارحوهم به على رءوس الأشهاد سقط في أيديهم جميعا «وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ» بينهما إذ ظهر، خطأوهما، وقيل إن فعل أمر من الأضداد فيأتي بمعنى أضمر كما مر وبمعنى أظهر ولهذا قال بعضهم إنهم أظهروا الندامة لبعضهم وعدلوا بهذا الفعل عن حقيقته إلى المجاز بحسب الظاهر وبعضهم أجراه على ظاهره كما جرينا عليه دون حاجة للعدول وهو أولى إذ لا وجود لصارف يصرفه عن حقيقته وإنما أسروا الندامة أسفا على ما فات لعدم الفائدة من إظهارها وقد بهتوا «لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ» أحاق بهم لقوله تعالى «وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا» التابعين والمتبوعين وزجرا في جهنم جزاء كفرهم فانظروا «هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ ٣٣» في الدنيا من كفر وعصيان وسخرية، قال تعالى «وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها» من الرؤساء والقادة إلى الرسل «إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ ٣٤» هذه الآية كتسلية لحضرة الرسول مما مني به من قومه من التكذيب بما جاءهم به والاستهزاء بحضرته العالية وإن ما قاله فيه أهل مكة قاله الأمم السالفة لأنبيائهم وزيادة، راجع الآية ١١٨ من سورة البقرة في ج ٣ إذ لم ينفرد هو وحده بذلك كما أن قومه لم يبتدعوا تلك الأقوال والأفعال الشائنة بل إنهم قلدوا من قبلهم ليهون عليهم ما يلاقيه منهم «وَقالُوا» أيضا أولئك المترفون الذين غرّهم المال والجاه والولد متبجحين على المؤمنين وغيرهم
513
«نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَأَوْلاداً» من أتباع الرسل المساكين ولو لم يكن ما نحن عليه من الدين مرضيا لما منحنا الله هذه النعم المترادفة ولهذا نقول لكم «وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ٣٥» في الآخرة أيضا إذا كانت هناك آخرة كما تزعمون لأنا لسنا مذلولين في الدنيا، قال تعالى ردا عليهم «قُلْ» يا محمد لهؤلاء المغبونين بما لديهم من حطام الدنيا «إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ» يضيق على من يشاء وليس سعة الرزق دليل على الرضى كما زعمتم كما أنه ليس في ضيقه امارة على الغضب «وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ٣٦» ذلك ومنهم من تجبّر واعترض على الله تعالى في البسط على أناس والضيق على آخرين كابن الراوندي إذ قال:
كم عالم عالم أعيت مذاهبه وجاهل جاهل تلقاه مرزوقا
هذا الذي ترك الأوهام حائرة وصيّر العالم النحرير زنديقا
أي كافرا نافيا للصانع العدل الحكيم قائلا لو كان له الوجود لما كان الأمر كذلك فلا حول ولا قوة إلا بالله وهو في هذا القول البذيء يعني نفسه والقائل بقوله لا كل عالم فالعالم العاقل هو من يقول:
ومن الدليل على القضاء وحكمه بؤس اللبيب وطيب عيش الأحمق
والأكثر الذي عليه الناس الآن فيما قبل وبعد والله أعلم عدم الاجتماع بين العلم والمال غالبا قال الشافعي رحمه الله:
فمن أعطى الحجى حرم الغنى ضدان يفترقان أي تفرق
وذلك لحكم أرادها الله تعالى ولتتفرق الفضائل بين خلقه فمن فاته العز بالمال خلفه العز بالعلم وبالعكس:
رضينا قسمة الجبار فينا لنا علم وللأعداء مال
فإن المال يفنى عن قريب وإن العلم يبقى لا يزال
اللهم اجعلنا مع هؤلاء مع الكفاية ولا تجعلنا من أولئك ولا من الذي يقول:
أعطيتني ورقا لم تعطني ورقا قل لي بلا ورق هل تنفع الحكم
قال ردا عليهم أيضا «وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ» أيها الناس «بِالَّتِي
514
تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى»
أي تقريبا مرضيا واسم الموصول واقع على الأموال والأولاد جميعا لأن جمع التكسير يستوي فيه عقلاؤه وغير عقلائه في حكم التأنيث ولأن المجموع منها بمعنى جماعة فلذلك صح الإفراد فيه والتأنيث «إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ» هم المقربون عند الله الحائزون على رضانا لا المتولون الجاهدون أنفسهم بجمع الحطام فمثل هؤلاء المؤمنين الذين دعموا إيمانهم بالأعمال الصالحة «لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا» فيضاعف لهم الواحد بعشرة إلى سبعمئة وإلى ما شاء الله «وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ» الطبقات العالية من الجنان يسكنون منعّمون «آمِنُونَ ٣٧» من كل هائل وشاغل في مقعد صدق عند مليك مقتدر «وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي» إبطال «آياتِنا» ويفسدون في الأرض معاندين لنا يحسبون أنفسهم «مُعاجِزِينَ» لا نقدر عليهم فائتين من عذابنا سابقين قدرتنا «أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ ٣٨» من قبل ملائكتنا لا يجديهم ما عولوا عليه ولا ينفعهم ما أمّلوه «قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ» في وجوه البر والخير وصلة الرحم «فَهُوَ يُخْلِفُهُ» من فضله الواسع «وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ٣٩» لأن رزق السلطان جنده والسيد مملوكه والرجل عياله من رزق الله تعالى أجراه على يدهم، وقد يكون في رزقهم منّ ولا منّ في رزق الله. وهذه الآية بخلاف الآية الأولى لأنها كانت ردا على الكفرة وهي عامة وخالية من الضمير بعد كلمة (يَقْدِرُ) ومن كلمة (لِمَنْ يَشاءُ) وهذه خاصة ومقيدة بلفظ من عباده وبالضمير ولشخص واحد باعتبارين والضمير فيها وإن كان بموقع المبهم إلا أن الآية الأولى خالية منه وذكره بعد مشتملا عليه كالقرينة على إرادة التخصيص فلا تكرار لأنها مساقة للوعظ والتزهيد في الدنيا والحض على التقرب إليه تعالى بالإنفاق والأولى مساقة للرد على الكفرة. روى مسلم عن أبي هريرة قال: قال الله تبارك وتعالى يا ابن آدم أنفق أنفق عليك. وعنه: ما من يوم يصبح العباد فيه إلا وملكان ينزلان يقول أحدهما اللهم أعط منفقا خلفا ويقول الآخر اللهم أعط ممسكا تلفا. وعنه: ما نقصت صدقة من مال وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزّا وما تواضع أحد لله إلا رفعه. قال تعالى
515
«ويوم نحشرهم جميعا» المستضعفين والمستكبرين وأوثانهم «ثمّ نقول للملائكة» لأنهم من جملة المعبودين على غير علم منهم ولا رضى «أَهؤُلاءِ» الكفرة «إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ ٤٠» في الدنيا استفهام تقريع وتبكيت
«قالُوا سُبْحانَكَ» لم يوالونا ولم نوالهم وإنا وإياهم من جملة عبادك «أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ» فنتبرأ إليك يا ربنا مما يفترونه علينا ويلصقون بنا ما ليس لنا به علم ولا حق والحق يا سيدنا إنهم لم يعبدوننا «بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ» الشياطين الذين زينوا لهم عبادتنا فعبدونا طاعة لهم وخيّلوا لهم صورنا فصورونا على ما شاءوا من حيث لم يروننا وصاروا يعبدون تلك الصور بزعمهم أنها صورنا، ولهذا صار «أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ» بأولئك الشياطين «مُؤْمِنُونَ ٤١» مصدقون أنها صور الملائكة.
مطلب ليس المراد بالجن هنا الملائكة ران إسماعيل لم يترك كتابا، ومخاطبة حضرة الرسول الناس كيف كانت:
هذا وما قيل إن المراد بالجن هنا الملائكة قول غير سديد لمخالفته ظاهر القرآن وعدم مناسبته للواقع ولأن الله تعالى عبّر عن الملائكة في مواقع كثيرة بلفظ الملائكة وعن الجن بلفظ الجن فالعدول عن المعنى الموضوع للفظ عدول عن الحقيقة المرادة منه، هذا وقد ألمعنا لهذا البحث في الآية ١٥٨ من الصافات المارة فراجعه، ومنه ومن هنا تعلم أن ليس المراد بالجن هنا والجنة هناك الملائكة، بل الشياطين كما ذكرناه «فَالْيَوْمَ» أيها العابدون والمعبودون «لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا» ويدخل في هذه الآية الملائكة دخولا أوليا لأن السياق ينوه عنهم ليعلم عابدوهم على رءوس الأشهاد ظهور عجزهم وقصورهم وخيبة رجائهم بشفاعتهم بالكلية فغيرهم من المعبودين من باب أولى. «وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا» عطف على قوله تعالى (ثم نقول للملائكة) إلخ، ويراد بالظالمين هنا الكفرة منهم بدليل قوله تعالى «ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ٤٢» لأن الظالمين المؤمنين لا يكذبون بالبعث ولا عذاب الآخرة ويؤيده قوله تعالى «وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا» الذي يتلوها يعنون محمدا صلّى الله عليه وسلم
516
«إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ» من الآلهة «وَقالُوا ما هذا» الذي يزعم أنه كلام الله «إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرىً» مختلق من قبله «وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ» القرآن المجيد المنزل بالحق «لَمَّا جاءَهُمْ» على لسان الرسول الحق «إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ ٤٣» لأنه يفرق بين المرء وزوجه والوالدة وولدها والأخ وأخيه، وهذا على زعمهم لما يرون أن المؤمن يترك زوجته وأمه الكافرتين والأب يهجر ابنه وأخاه الكافرين والابن أباه والأخ يعرض عن أخته وأخيه بسائق إيمانهم وقوة يقينهم مع مراعاة حقوقهم والانفاق عليهم وطاعتهم فيما عدا الشرك، راجع الآية ١٥ من سورة لقمان المارة لا بما يزعمونه، قال تعالى «وَما آتَيْناهُمْ» هؤلاء الكفرة «مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها» قبل كتابك هذا يا سيد الرسل «وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ ٤٤» ينذرهم بأس الله ويخوفهم عذابه ويحذرهم مما هم عليه لأن إسماعيل عليه السلام لم يتجرد للنذارة ويقاتل عليها قومه ولم يترك لهم كتابا يتدارسونه بينهم بعده كأهل الكتابين ويتبعون ما فيه ولم يرسل إليهم رسول بعده يأمرهم وينهاهم ويبلغهم أحكام دينهم إلا محمد عليه الصلاة والسلام «وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ» الرسل أيضا مثلهم كثمود كذبت صالحا وعاد كذبت هودا وأصحاب الأيكة شعيبا «وَما بَلَغُوا» قومك هؤلاء «مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ» أي المكذبين الأقدمين لرسلهم السابقين من القوة وطول العمر والنعم والأموال والأولاد «فَكَذَّبُوا رُسُلِي» وجحدوا آياتي على كثرة انعامي عليهم مادة ومعنى «فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ ٤٥» للمكذبين السالفين وكيف كان عقابي لهم على تكذيبهم كان شيئا عظيما فلو رأيتموه يا أهل مكة لرأيتم أمرا فظيعا وقد قصصناه عليكم أفلا تتعظون بهم وتخافون سوء عاقبتكم وأن يحل بكم ما حل بهم من العذاب، فيا أكرم الرسل «قُلْ» لهم «إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ» أي لا أرشدكم بخصلة واحدة هي ملاك الأمر وقوامه وهي «أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى» اثنين اثنين «وَفُرادى» واحدا واحدا «ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا» فيما بينكم وبين أنفسكم فتتناظروا وتتحاوروا ثم يعرض كل منكم نتيجة فكره على صاحبه حتى إذا ظهر لكم يقينا من النور الذي يحصل من
517
مصادمة أفكاركم أنه «ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ» كما تزعمون بادىء الرأي وتعلمون حقا أنه من أكملكم وأعقلكم وأرحمكم و «إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ ٤٦» تعجز عنه قواكم ليس إلا وعرفتم أنه لا يريد إلا نجاتكم منه آمنتم به وصدقتموه إن كان لكم عقول تنتفعون بها، لأنكم ما جرّبتم عليه كذبا طيلة هذه المدة، ومن كان لا يكذب على الناس فهو أجدر أن لا يكذب على الله، لا سيما وقد علمتم أنه من أحسن قريش أصلا، وأزكاهم قولا وأعلاهم حسبا، وأصدقهم لهجة، وأوزنهم حلما، وأحدهم ذهنا وأرضاهم رأيا، وأذكاهم نفسا، وأشرفهم نسبا، وأجمعهم لما يحمد عليه ويمدح به، وأبعدهم عما يلام عليه، وهو أرجحهم عقلا، وأوضحهم خطابا، وأقواهم حجة، وأوفاهم برهانا، وأكملهم كتابا، وأنصحهم بيانا، وأعدلهم دليلا، يظهر لكم من هذه الخصال التي لا تنكرون شيئا منها إذ أجمعت كلمتكم على تسميته بالأمين. إنكم مخطئون بما تصمونه به من الجنون
والسحر والكهانة واعلموا أن إلحاحه عليكم بالإيمان ما هو إلا حبا بكم وحرصا عليكم من أن ينالكم غضب الله وخشية من إيقاع عذابه بكم ليس إلا، فيا حبيبي يا محمد «قُلْ» لهم «ما سَأَلْتُكُمْ» على هذا النصح والإرشاد «مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ» هذا جواب شرط محذوف تقديره أي شيء سألتكم من جعل عليه فهو لكم، والمراد منه في السؤال رأسا، كقولك لصاحبك إن أعطيتني شيئا فخذه وأنت تعلم أنه لم يعطك شيئا فما هنا شرطية واقعة مفعولا لسألتكم «إِنْ أَجْرِيَ» على التبليغ في الإنذار ما هو «إِلَّا عَلَى اللَّهِ» وحده لا عليكم «وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ٤٧» ومن جملة الأشياء التي هو شهيد عليها عدم طلبي جعلا منكم على نصحكم وإنما أرجو عليه ثوابا من الله الذي أرسلني إليكم «قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ» فيرسل الوحي من السماء إلى رسوله على لسان أمينه جبريل عليه السلام، ومعنى القذف الرمي بشدة والدفع بالقوّة، ويراد منه هنا الإلقاء والتنزيل، وهو موافق للمعنى المراد لأنه من العلي الأعلى إلى عبده «وهو عَلَّامُ الْغُيُوبِ ٤٨» خفيات الأمور وبواطنها «قُلْ جاءَ الْحَقُّ» الذي لا أحق منه وهو القرآن الذي جاء بالتوحيد والإسلام «وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ» بعد
518
ظهور الحق ووضوحه بشيء يقبل بل يذهب ويضمحل ولم يبق له إبداء أمر ما ابتداء «وَما يُعِيدُ ٤٩» فلم يبق له إعادة أي فعل ثانيا وهذا المعنى مأخوذ من الهلاك وهو الموت فإن الحيّ إذا مات لم يبق له إبداء شيء ولا إعادته كما تقول لا يأكل ولا يشرب وتريد أنه ميت، قال عبيد بن الأبرص:
أقفر من أهله عبيد... فاليوم لا يبدي ولا يعيد
وقال بعضهم إن المراد بالباطل هنا إبليس أي انه لا يبدي لجماعته خيرا ولا يعيده لهم وانه لا يخلق أحدا ابتداء ولا يعيده إذا مات لأن الباطل هو الصنم الذي لا ينفع ابتداء ولا يضرّ انتهاء وما جرينا عليه أليق بالمقام وأنسب بالمقال والله أعلم.
ولما قال الكفرة إلى محمد ﷺ قد ضللت بتركك دين آبائك أنزل الله ردا عليهم بما فيه تقرير الرسالة أيضا بقوله «قُلْ» يا سيد الرسل لهؤلاء الزائغين الطائشين «إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي» ويكون وباله عليها لأن النفس الكاسبة للشر الأمارة بالسوء تنال جزاءها، وهذا من باب التقابل لمثل كلامهم وإلا فالضلال عليه محال ولذلك جاء بأن التي هي للشك ونسب الضلال للنفس لأنها مجبولة على السوء «وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي» من الحق الذي شرفني به والتوفيق الذي منحني إياه «إِنَّهُ سَمِيعٌ» لأقوالي مجيب لدعائي «قَرِيبٌ ٥٠» مني ومن خلقه أجمع لا يخفى عليه شيء من أحوالنا فيجازي الضال منا ويثيب المهتدي إذا شاء،
ثم التفت إلى حبيبه وخاطبه بقوله عزّ قوله «وَلَوْ تَرى» يا حبيبي «إِذْ فَزِعُوا» هؤلاء الضّلال عند بعثهم من قبورهم وقد غشيهم الخوف والوجل وأخذتهم الدهشة وصاروا بحالة لا يعلمون ما يفعلون ولا يعون ما يتكلمون ولا يعرفون ما يشاهدون ولا يدرون أين يذهبون، وإذ ذاك «فَلا فَوْتَ» لأحد منهم من الله ولا نجاة من عذابه ولا مهرب من عقابه ولا خلاص من حسابه «وَأُخِذُوا» من قبل ملائكة العذاب «مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ ٥١» من الأرض من تحت أقدامهم أو من الموقف الذين هم عليه وسيقوا إلى جهنم وزجّوا فيها جماعات ووحدانا لرأيت أمرا مزعجا أهابك مرآه وشيئا فظيعا وددت أن لا تراه «وَقالُوا» وهم في العذاب وقد عرفوا أن عقابهم هذا بسبب عدم الإيمان بك
519
وبكتابك وبربك «آمَنَّا» الآن «بِهِ» بذلك كله وطلبوا العودة إلى الدنيا ليقروا بإيمانهم لديك، ولكن فاتهم هذا إذ تركوه وراءهم «وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ» لهذا الإيمان في الآخرة وقد فات وقته في الدنيا ولا يمكن العودة إليها ليتمكنوا من تناول ما يريدونه «مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ ٥٢» عنها إذ لا بعدا أبعد مما بين الدنيا والآخرة وكان تناول الإيمان في الدنيا قريبا منهم فأهملوه، والتناوش هو التناول عن قرب بسهولة قال الراجز:
فهي تنوش الحوض نوشا من علا نوشا به تقطع أجواز الفلا
وقال بعضهم إن التناوش أرادوا به الرجوع إلى الدنيا واستدل بقول الأنباري:
تمنى أن تؤوب إلي مي وليس إلى تناوشها سبيل
أي رجوعها، وعليه فلا مانع من تأويل التناوش هنا بالتئاول أيضا ويصح المعنيان أي كيف يتمكنون من تناوش الإيمان «وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ» في الدنيا لمّا كان ذلك ممكنا وقد جحدوه بطوعهم ورضاهم في الدنيا «وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ» أي يقولون رجما بالغيب بأن محمدا كاذب وأن الله لم ينزل كتابا عليه وأن لله شركاء وأن الأوثان التي يعبدونها تنشفع لهم وأن لا بعث ولا حساب ولا عقاب وأن الملائكة بنات الله وأن محمدا ساحر كاهن وأنه لا جنة ولا نار وقولهم هذا «مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ» ٥٣ عن الصدق وهو ناشىء من جهلهم بالله ومن مجرد ظنهم الفاسد ووهمهم الخائر، والمراد بهذه الآية تعظيم ما كانوا عليه من الكفر والتكذيب لمحمد صلّى الله عليه وسلم على ما هو عليه من الصدق والأمانة ولأن كفرهم بشيء لا يعلمونه كالبعث بعد الموت وما بعده من أمور الآخرة وقد غرتهم الدنيا بشهواتها «وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ» الآن من الرجوع إليها ليؤمنوا ويصدقوا بما جاءهم به نبيهم ويوحدوا الله ويتوبوا مما كانوا عليه ويعملوا صالحا ليتمتعوا بالجنة ذات النعيم الدائم كغيرهم من المؤمنين، وقد أنهكهم الندم على ما فاتهم في الدنيا من الإيمان الذي سبب حرمانهم من النعيم وأوصلهم إلى عذاب الجحيم، والله تعالى يعلم أنه لو أجاب طلبهم لما فعلوا، قال تعالى (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ) الآية ٢٨ من الأنعام المارة، لهذا لم يجب طلبهم وفعل بهم فعلا فظيعا «كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ»
520
Icon