تفسير سورة التين

أحكام القرآن
تفسير سورة سورة التين من كتاب أحكام القرآن .
لمؤلفه ابن العربي . المتوفي سنة 543 هـ
سورة التين
فيها خمس آيات.

الْآيَةُ الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ ﴾ :
قِيلَ : هُوَ حَقِيقَةٌ. وَقِيلَ : عَبَّرَ بِهِ عَنْ دِمَشْقَ أَوْ جَبَلِهَا، أَوْ مَسْجِدِهَا، وَلَا يُعْدَلُ عَن الْحَقِيقَةِ إلَى الْمَجَازِ إلَّا بِدَلِيلٍ.
وَإِنَّمَا أَقْسَمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِالتِّينِ لِيُبَيِّنَ فِيهِ [ وَجْهَ ] الْمِنَّةِ الْعُظْمَى، فَإِنَّهُ جَمِيلُ الْمَنْظَرِ، طَيِّبُ الْمَخْبَرِ، نَشِرُ الرَّائِحَةِ، سَهْل الْجَنْيِ، عَلَى قَدْرِ الْمُضْغَةِ، وَقَدْ أَحْسَنَ الْقَائِلُ فِيهِ :
اُنْظُرْ إلَى التِّينِ فِي الْغُصُونِ ضُحًى مُمَزَّقَ الْجِلْدِ مَائِلَ الْعُنُقِ
كَأَنَّهُ رَبُّ نِعْمَةٍ سُلِبَتْ فَعَادَ بَعْدَ الْجَدِيدِ فِي الْخَلَقِ
أَصْغَرُ مَا فِي النُّهُودِ أَكْبَرُهُ لَكِنْ يُنَادَى عَلَيْهِ فِي الطُّرُقِ
وَلِامْتِنَانِ الْبَارِي سُبْحَانَهُ، وَتَعْظِيمِ النِّعْمَةِ فِيهِ، فَإِنَّهُ مُقْتَاتٌ مُدَّخَرٌ، فَلِذَلِكَ قُلْنَا بِوُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهِ. وَإِنَّمَا فَرَّ كَثِيرٌ من الْعُلَمَاءِ من التَّصْرِيحِ بِوُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهِ تَقِيَّةَ جَوْرِ الْوُلَاةِ فَإِنَّهُمْ يَتَحَامَلُونَ فِي الْأَمْوَالِ الزَّكَائِيَّةِ، فَيَأْخُذُونَهَا مَغْرَمًا، حَسْبَمَا أَنْذَرَ بِهِ الصَّادِقُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكَرِهَ الْعُلَمَاءُ أَنْ يَجْعَلُوا لَهُمْ سَبِيلًا إلَى مَالٍ آخَرَ يَتَشَطَّطُونَ فِيهِ.
وَلَكِنْ يَنْبَغِي لِلْمَرْءِ أَنْ يُخْرِجَ عَنْ نِعْمَةِ رَبِّهِ بِأَدَاءِ حَقِّهِ. وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ لِهَذِهِ الْعِلَّةِ أَوْ غَيْرِهَا : لَا زَكَاةَ فِي الزَّيْتُونِ. وَالصَّحِيحُ وُجُوبُ الزَّكَاةِ فِيهِمَا.
الْآيَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ ﴾ :
[ يَعْنِي مَكَّةَ لِمَا خَلَقَ اللَّهُ فِيهِ من الْأَمْنِ حَسْبَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي آلِ عِمْرَانَ وَالْعَنْكَبُوتِ وَغَيْرِهِمَا ]، وَبِهَذَا احْتَجَّ مَنْ قَالَ : إنَّهُ أَرَادَ بِالتِّينِ دِمَشْقَ، وَبِالزَّيْتُونِ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، فَأَقْسَمَ اللَّهُ بِجَبَلِ دِمَشْقَ ؛ لِأَنَّهُ مَأْوَى عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَبِجَبَلِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ ؛ لِأَنَّهُ مَقَامُ الْأَنْبِيَاءِ كُلِّهِمْ، وَبِمَكَّةَ ؛ لِأَنَّهُ أَثَرُ إبْرَاهِيمَ وَدَارُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا وَسَلَّمَ.
الْآيَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ﴾ :
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : لَيْسَ لِلَّهِ تَعَالَى خَلْقٌ هُوَ أَحْسَنُ من الْإِنْسَانِ، فَإِنَّ اللَّهَ خَلَقَهُ حَيًّا عَالِمًا، قَادِرًا، مُرِيدًا، مُتَكَلِّمًا، سَمِيعًا، بَصِيرًا، مُدَبِّرًا، حَكِيمًا، وَهَذِهِ صِفَاتُ الرَّبِّ، وَعَنْهَا عَبَّرَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ، وَوَقَعَ الْبَيَانُ بِقَوْلِهِ :﴿ إنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ ﴾، يَعْنِي عَلَى صِفَاتِهِ الَّتِي قَدَّمْنَا ذِكْرَهَا.
وَفِي رِوَايَةٍ عَلَى صُورَةِ الرَّحْمَنِ. وَمِنْ أَيْنَ تَكُونُ لِلرَّجُلِ صِفَةٌ مُشَخَّصَةٌ ! فَلَمْ يَبْقَ إلَّا أَنْ تَكُونَ مَعَانِيَ، وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى الْحَدِيثِ فِي مَوْضِعِهِ بِمَا فِيهِ بَيَانُهُ.
وَقَدْ أَخْبَرَنَا الْمُبَارَكُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ الْأَزْدِيُّ، أَخْبَرَنَا الْقَاضِي أَبُو الْقَاسِمِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي عَلِيٍّ الْقَاضِي الْمُحْسِنُ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : كَانَ عِيسَى بْنُ مُوسَى الْهَاشِمِيُّ يُحِبُّ زَوْجَهُ حُبًّا شَدِيدًا قَالَ لَهَا يَوْمًا : أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إنْ لَمْ تَكُونِي أَحْسَنَ من الْقَمَرِ، فَنَهَضَتْ وَاحْتَجَبَتْ عَنْهُ، وَقَالَتْ : طَلَّقَنِي. وَبَاتَ بِلَيْلَةٍ عَظِيمَةٍ. وَلَمَّا أَصْبَحَ غَدًا إلَى دَارِ الْمَنْصُورِ، فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ [ وَقَالَ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إنْ تَمَّ عَلَيَّ طَلَاقُهَا تَصَلَّفَتْ نَفْسِي غَمًّا، وَكَانَ الْمَوْتُ أَحَبَّ إلَيَّ من الْحَيَاةِ ] ؛ وَأَظْهَرَ لِلْمَنْصُورِ جَزَعًا عَظِيمًا، فَاسْتَحْضَرَ الْفُقَهَاءَ، وَاسْتَفْتَاهُمْ، فَقَالَ جَمِيعُ مَنْ حَضَرَ : قَدْ طَلُقَتْ، إلَّا رَجُلًا وَاحِدًا من أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ، فَإِنَّهُ كَانَ سَاكِتًا، فَقَالَ لَهُ الْمَنْصُورُ : مَالَك لَا تَتَكَلَّمُ ؟ فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ : بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. ﴿ وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ﴾ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، الْإِنْسَانُ أَحْسَنُ الْأَشْيَاءِ، وَلَا شَيْءَ أَحْسَنُ مِنْهُ [ فَقَالَ الْمَنْصُورُ لِعِيسَى بْنِ مُوسَى : الْأَمْرُ كَمَا قَالَ ؛ فَأَقْبِلْ عَلَى زَوْجِك ]، فَأَرْسَلَ أَبُو جَعْفَرٍ الْمَنْصُورُ إلَى زَوْجِهِ أَنْ أَطِيعِي زَوْجَك، وَلَا تَعْصِيهِ، فَمَا طَلَّقَك.
فَهَذَا يَدُلُّك عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ أَحْسَنُ خَلْقِ اللَّهِ بَاطِنًا وَ[ هُوَ أَحْسَنُ خَلْقِ اللَّهِ ] ظَاهِرًا جَمَالَ هَيْئَةٍ، وَبَدِيعَ تَرْكِيبٍ : الرَّأْسُ بِمَا فِيهِ، وَالصَّدْرُ بِمَا جَمَعَهُ، وَالْبَطْنُ بِمَا حَوَاهُ، وَالْفَرْجُ وَمَا طَوَاهُ، وَالْيَدَانِ وَمَا بَطَشَتَاهُ، وَالرِّجْلَانِ وَمَا احْتَمَلَتَاهُ ؛ وَلِذَلِكَ قَالَتْ الْفَلَاسِفَةُ : إنَّهُ الْعَالَمُ الْأَصْغَرُ ؛ إذْ كُلُّ مَا فِي الْمَخْلُوقَاتِ أُجْمِعَ فِيهِ هَذَا عَلَى الْجُمْلَةِ وَكَيْفَ عَلَى التَّفْصِيلِ، بِتَنَاسُبِ الْمَحَاسِنِ، فَهُوَ أَحْسَنُ من الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ بِالْعَيْنَيْنِ جَمِيعًا. وَقَدْ بَيَّنَّا الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْمُشْكِلَيْنِ، وَبِهَذِهِ الصِّفَاتِ الْجَلِيلَةِ الَّتِي رُكِّبَ عَلَيْهَا الْإِنْسَانُ اسْتَوْلَى عَلَى جَمَاعَةٍ الْكُفْرَانُ، وَغَلَبَ عَلَى طَائِفَةٍ الطُّغْيَانُ، حَتَّى قَالَ : أَنَا رَبُّكُمْ الْأَعْلَى، وَحِينَ عَلِمَ اللَّهُ هَذَا من عَبْدِهِ، وَقَضَاؤُهُ صَادِرٌ من عِنْدِهِ، رَدَّهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ وَهِيَ :
الْآيَةُ الرَّابِعَةُ بِأَنْ جَعَلَهُ مَمْلُوءًا قَذِرًا، مَشْحُونًا نَجَاسَةً، وَأَخْرَجَهَا عَلَى ظَاهِرِهِ إخْرَاجًا مُنْكَرًا عَلَى وَجْهِ الِاخْتِيَارِ تَارَةً، وَعَلَى وَجْهِ الْغَلَبَةِ أُخْرَى، حَتَّى إذَا شَاهَدَ ذَلِكَ من أَمْرِهِ رَجَعَ إلَى قَدْرِهِ.
الْآيَةُ الْخَامِسَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ ﴾ :
قَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ :«إذَا قَرَأَ أَحَدُكُمْ :﴿ أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ ﴾ فَلْيَقُلْ : بَلَى، وَأَنَا عَلَى ذَلِكَ من الشَّاهِدِينَ ».
وَمِنْ رِوَايَةِ غَيْرِهِ :«إذَا قَرَأَ أَحَدُكُمْ أَوْ سَمِعَ ﴿ أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ ﴾، ﴿ أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى ﴾ فَلْيَقُلْ : بَلَى ».
َوهَذِهِ أَخْبَارٌ ضَعِيفَةٌ، أَمَا إنَّ ذَلِكَ يَتَعَيَّنُ فِي الِاعْتِقَادِ لِأَجْلِ مَا يَلْزَمُ فِي فَهْمِ الْقُرْآنِ من الِانْتِقَادِ.
وَقَدْ رَوَى مَالِكٌ عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ :«صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْعَتَمَةَ، فَصَلَّى فِيهَا بِالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ »، وَهُوَ صَحِيحٌ.
وَفِي الْبُخَارِيِّ : سَمِعْت الْبَرَاءَ يَقُولُ :«إنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ فِي سَفَرٍ، فَقَرَأَ فِي إحْدَى الرَّكْعَتَيْنِ بِالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ »، فَفَسَّرَ الْمَعْنَى الَّذِي أَوْجَبَ قِرَاءَتَهَا مَعَ قَصْرِهَا فِي صَلَاةِ الْعِشَاءِ وَهُوَ السَّفَرُ.
Icon