تفسير سورة العلق

التفسير الحديث
تفسير سورة سورة العلق من كتاب التفسير الحديث .
لمؤلفه دروزة . المتوفي سنة 1404 هـ
تضع جميع تراتيب السور المروية هذه السورة أولى السور ترتيباً. والمتبادر أن ذلك بسبب كون الآيات الخمس الأولى منها هي أولى آيات القرآن نزولاً على ما عليه الجمهور ؛ لأن مضمون باقي الآيات وأسلوبها يدلان على أنه نزل بعد مدة ما من نزول آياتها الخمس الأولى، على أن هذه المدة ليست طويلة على ما تلهم آيات السورة.
وفي الآيات الخمس الأولى أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بالقراءة وتنويه لما ألهم الله الإنسان من العلم. وفي بقية الآيات حملة على باغ مغتر بماله وجاهه تصدى للنبي صلى الله عليه وسلم وتثبيت للنبي في دعوته وموقفه وعدم المبالاة به.

بسم الله الرحمن الرحيم

العلق : الدم المتجمد
﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ( ١ ) خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ١ ( ٢ )اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ( ٣ ) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ( ٤ ) عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ( ٥ ) ﴾ ( ١- ٥ ).
هذه الآيات هي على ما جاء في حديث رواه البخاري عن عائشة رضي الله عنها، سنورده بعد قليل، أولى الآيات القرآنية نزولاً. ومع أن هناك روايات تذكر أن الآيات الأولى من سور أخرى مثل سور القلم والمدثر والمزمل وأن سوراً أخرى مثل سورتي الفاتحة والضحى هي أول القرآن نزولاً فإن أحاديث أولية هذه الآيات أقوى سنداً كما أن مضمونها يلهم ترجيح هذه الأولية١.
وليس في هذه الآيات الواضحة العبارة أمر بالدعوة، وإنما هي تنبيه وإعداد. ولما كانت الآيات التالية لها تتضمن مشهدا من مشاهد تصدي بعض الطغاة للنبي عليه السلام حينما بدأ بدعوته وصلاته، فإن المعقول أن تكون هذه الآيات قد نزلت وحدها ثم نزلت آيات أو سور قرآنية أخرى فيها أمر بالدعوة ومبادئها، وأن تكون أولية السورة في ترتيب النزول هي بسبب أولية نزول هذه الآيات.
﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ( ١ ) خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ١ ( ٢ )اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ( ٣ ) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ( ٤ ) عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ( ٥ ) ﴾ ( ١- ٥ ).
هذه الآيات هي على ما جاء في حديث رواه البخاري عن عائشة رضي الله عنها، سنورده بعد قليل، أولى الآيات القرآنية نزولاً. ومع أن هناك روايات تذكر أن الآيات الأولى من سور أخرى مثل سور القلم والمدثر والمزمل وأن سوراً أخرى مثل سورتي الفاتحة والضحى هي أول القرآن نزولاً فإن أحاديث أولية هذه الآيات أقوى سنداً كما أن مضمونها يلهم ترجيح هذه الأولية١.
وليس في هذه الآيات الواضحة العبارة أمر بالدعوة، وإنما هي تنبيه وإعداد. ولما كانت الآيات التالية لها تتضمن مشهدا من مشاهد تصدي بعض الطغاة للنبي عليه السلام حينما بدأ بدعوته وصلاته، فإن المعقول أن تكون هذه الآيات قد نزلت وحدها ثم نزلت آيات أو سور قرآنية أخرى فيها أمر بالدعوة ومبادئها، وأن تكون أولية السورة في ترتيب النزول هي بسبب أولية نزول هذه الآيات.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:أول قرآن نزل على النبي صلى الله عليه وسلم
وقد نزلت هذه الآيات على النبي صلى الله عليه وسلم ليلاً في غار حراء أحد جبال مكة أثناء اعتكافه في هذا الغار في رمضان، على ما ورد في حديث رواه البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها جاء فيه :" أولُ ما بُدئَ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح. ثم حبب إليه الخلاء وكان يخلو بغار حراء فيتحنَّث - أي يتعبد- فيه الليالي ذوات العدد قبل أن يَنزِعَ إلى أهلهِ، ويتزود لذلك، ثم يرجعُ إلى خديجة فيتزّودُ لمثلها حتى جاءه الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك فقال :" اقرأ " فقال :" ما أنا بقارئ " قال :" فأخذني فغطَّنِي حتى بلغ منّي الجهد ثم أرسلني ". فقال :" اقرأ " فقلت :" ما أنا بقارئ " قال :" فأخذني فغطّني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني " فقال :" اقرأْ " فقلت :" ما أنا بقارئ " فأخذني فغطّني الثالثة حتى بلغَ مني الجهدُ، ثم أرسلني " فقال :﴿ اقرأ باسم ربك الذي خلق ﴾ حتى بلغ :﴿ ما لم يعلم ﴾ " ١. ونزول هذه الآيات ليلا ًوفي رمضان مؤيد بآيات قرآنية منها آية سورة البقرة هذه :﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ﴾ ( ١٨٥ )، وآية سورة الدخان هذه :﴿ إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين( ٣ ) ﴾، وآية سورة القدر هذه :﴿ إنا أنزلناه في ليلة القدر ﴾.
والأمر بالقراءة قصد به تلاوة ما يلقى إليه كما قصد به تنبيهه صلى الله عليه وسلم إلى المهمة العظمى التي انتُدب إليها، وتعلميه أن يجعل الله هو الفكرة الرئيسية التي تشغل ذهنه، وأن يذكره في كل أمر من أموره دون سواه كما هو المتبادر.
وفي هذا تلقين جليل مستمر المدى وشامل للناس جميعاً بالانصراف عما سوى الله، وبالارتفاع بالنفس الإنسانية إلى أفق لا تتأثر فيه بقوى الدنيا ومخاوفها، ولا ترتبط في حياتها ومعايشها ومطالبها ومآلها بغير الله الربّ الأكرم.
مغزى التنويه بالقراءة والكتابة والعلم
في أول ما نزل من القرآن
والآيات إلى هذا تنطوي على تنويه بالقراءة والكتابة والعلم، وبالإنسان الذي اختص وحده بالقابلية لهذه النعم، وبدء القرآن بذلك يزيد في قوة هذا التنويه، فكأنما أريد جعل هذه النعم في مقدمة نعم الله التي أنعمها على الإنسان، وفي مقدمة ما يجب على الإنسان أن يشكر الله عليه ويسعى في اكتسابه.
والقرآن على هذا الاعتبار أعظم وأقوى، وأول داع ديني إلى العلم والقراءة والكتابة. وتعبير الإنسان شامل للذكر والأنثى على السواء، وهكذا تكون الدعوة القرآنية شاملة جنسي الإنسان.
وفي هذا الجلال والروعة ما يعلو فوق كل مستوى، ما يدل على عظمة براعة استهلال القرآن الكريم والدعوة الإسلامية وبعد مداها، وقوة عناصر خلودها.
ولقد احتوت سور القرآن المكية والمدنية بعد هذه السورة آيات كثيرة جداً في التنويه بالكتاب والقرآن والعلم والعلماء والحث على العلم والتعلّم وبيان مسؤولية أهل العلم والذكر. وهو ما يزيد من جلال هذه البراعة وعظم مداها.
والمتبادر أنه لا يُقصد بالإشارة إلى خلق الإنسان من علق تقرير حقيقة تشريحية، ولا تخصيص الإنسان وحده بالخلق من علق دون غيره من الحيوان، وإنما قصد التنبيه على مظهر من مظاهر قدرة الله في نواميسه على إخراج إنسان كامل في صورته وأعضائه وحواسه من شيء تافه في مظهره المادي، وقد اختص الإنسان بالذكر ؛ لأنه موضوع الخطاب في الآيات، وهذا أسلوب قرآني عام. وهو الأسلوب التنبيهي الموجه على مختلف الطبقات في المناسبات الملائمة بما تتناوله عقولهم وحواسهم، وبقصد الموعظة والهداية.
وبناء على هذا فلا نرى محلاً ولا ضرورة إلى الاستطراد إلى حقائق تشريحية عن خلق الإنسان وتكوينه لأن ذلك ليس من أهداف الجملة القرآنية، ونرى وجوب الوقوف عند ما ذكرناه من هدفها على ما نبهنا عليه في المقدمة.
هذا، ولقد تعددت السور التي تبدأ بأمر النبي صلى الله عليه وسلم ببعض الأفعال والأقوال مما يمكن أن يعد أسلوباً من أساليب النظم القرآني في مطالع السور.

﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ( ١ ) خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ١ ( ٢ )اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ( ٣ ) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ( ٤ ) عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ( ٥ ) ﴾ ( ١- ٥ ).
هذه الآيات هي على ما جاء في حديث رواه البخاري عن عائشة رضي الله عنها، سنورده بعد قليل، أولى الآيات القرآنية نزولاً. ومع أن هناك روايات تذكر أن الآيات الأولى من سور أخرى مثل سور القلم والمدثر والمزمل وأن سوراً أخرى مثل سورتي الفاتحة والضحى هي أول القرآن نزولاً فإن أحاديث أولية هذه الآيات أقوى سنداً كما أن مضمونها يلهم ترجيح هذه الأولية١.
وليس في هذه الآيات الواضحة العبارة أمر بالدعوة، وإنما هي تنبيه وإعداد. ولما كانت الآيات التالية لها تتضمن مشهدا من مشاهد تصدي بعض الطغاة للنبي عليه السلام حينما بدأ بدعوته وصلاته، فإن المعقول أن تكون هذه الآيات قد نزلت وحدها ثم نزلت آيات أو سور قرآنية أخرى فيها أمر بالدعوة ومبادئها، وأن تكون أولية السورة في ترتيب النزول هي بسبب أولية نزول هذه الآيات.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:أول قرآن نزل على النبي صلى الله عليه وسلم
وقد نزلت هذه الآيات على النبي صلى الله عليه وسلم ليلاً في غار حراء أحد جبال مكة أثناء اعتكافه في هذا الغار في رمضان، على ما ورد في حديث رواه البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها جاء فيه :" أولُ ما بُدئَ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح. ثم حبب إليه الخلاء وكان يخلو بغار حراء فيتحنَّث - أي يتعبد- فيه الليالي ذوات العدد قبل أن يَنزِعَ إلى أهلهِ، ويتزود لذلك، ثم يرجعُ إلى خديجة فيتزّودُ لمثلها حتى جاءه الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك فقال :" اقرأ " فقال :" ما أنا بقارئ " قال :" فأخذني فغطَّنِي حتى بلغ منّي الجهد ثم أرسلني ". فقال :" اقرأ " فقلت :" ما أنا بقارئ " قال :" فأخذني فغطّني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني " فقال :" اقرأْ " فقلت :" ما أنا بقارئ " فأخذني فغطّني الثالثة حتى بلغَ مني الجهدُ، ثم أرسلني " فقال :﴿ اقرأ باسم ربك الذي خلق ﴾ حتى بلغ :﴿ ما لم يعلم ﴾ " ١. ونزول هذه الآيات ليلا ًوفي رمضان مؤيد بآيات قرآنية منها آية سورة البقرة هذه :﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ﴾ ( ١٨٥ )، وآية سورة الدخان هذه :﴿ إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين( ٣ ) ﴾، وآية سورة القدر هذه :﴿ إنا أنزلناه في ليلة القدر ﴾.
والأمر بالقراءة قصد به تلاوة ما يلقى إليه كما قصد به تنبيهه صلى الله عليه وسلم إلى المهمة العظمى التي انتُدب إليها، وتعلميه أن يجعل الله هو الفكرة الرئيسية التي تشغل ذهنه، وأن يذكره في كل أمر من أموره دون سواه كما هو المتبادر.
وفي هذا تلقين جليل مستمر المدى وشامل للناس جميعاً بالانصراف عما سوى الله، وبالارتفاع بالنفس الإنسانية إلى أفق لا تتأثر فيه بقوى الدنيا ومخاوفها، ولا ترتبط في حياتها ومعايشها ومطالبها ومآلها بغير الله الربّ الأكرم.
مغزى التنويه بالقراءة والكتابة والعلم
في أول ما نزل من القرآن
والآيات إلى هذا تنطوي على تنويه بالقراءة والكتابة والعلم، وبالإنسان الذي اختص وحده بالقابلية لهذه النعم، وبدء القرآن بذلك يزيد في قوة هذا التنويه، فكأنما أريد جعل هذه النعم في مقدمة نعم الله التي أنعمها على الإنسان، وفي مقدمة ما يجب على الإنسان أن يشكر الله عليه ويسعى في اكتسابه.
والقرآن على هذا الاعتبار أعظم وأقوى، وأول داع ديني إلى العلم والقراءة والكتابة. وتعبير الإنسان شامل للذكر والأنثى على السواء، وهكذا تكون الدعوة القرآنية شاملة جنسي الإنسان.
وفي هذا الجلال والروعة ما يعلو فوق كل مستوى، ما يدل على عظمة براعة استهلال القرآن الكريم والدعوة الإسلامية وبعد مداها، وقوة عناصر خلودها.
ولقد احتوت سور القرآن المكية والمدنية بعد هذه السورة آيات كثيرة جداً في التنويه بالكتاب والقرآن والعلم والعلماء والحث على العلم والتعلّم وبيان مسؤولية أهل العلم والذكر. وهو ما يزيد من جلال هذه البراعة وعظم مداها.
والمتبادر أنه لا يُقصد بالإشارة إلى خلق الإنسان من علق تقرير حقيقة تشريحية، ولا تخصيص الإنسان وحده بالخلق من علق دون غيره من الحيوان، وإنما قصد التنبيه على مظهر من مظاهر قدرة الله في نواميسه على إخراج إنسان كامل في صورته وأعضائه وحواسه من شيء تافه في مظهره المادي، وقد اختص الإنسان بالذكر ؛ لأنه موضوع الخطاب في الآيات، وهذا أسلوب قرآني عام. وهو الأسلوب التنبيهي الموجه على مختلف الطبقات في المناسبات الملائمة بما تتناوله عقولهم وحواسهم، وبقصد الموعظة والهداية.
وبناء على هذا فلا نرى محلاً ولا ضرورة إلى الاستطراد إلى حقائق تشريحية عن خلق الإنسان وتكوينه لأن ذلك ليس من أهداف الجملة القرآنية، ونرى وجوب الوقوف عند ما ذكرناه من هدفها على ما نبهنا عليه في المقدمة.
هذا، ولقد تعددت السور التي تبدأ بأمر النبي صلى الله عليه وسلم ببعض الأفعال والأقوال مما يمكن أن يعد أسلوباً من أساليب النظم القرآني في مطالع السور.

﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ( ١ ) خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ١ ( ٢ )اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ( ٣ ) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ( ٤ ) عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ( ٥ ) ﴾ ( ١- ٥ ).
هذه الآيات هي على ما جاء في حديث رواه البخاري عن عائشة رضي الله عنها، سنورده بعد قليل، أولى الآيات القرآنية نزولاً. ومع أن هناك روايات تذكر أن الآيات الأولى من سور أخرى مثل سور القلم والمدثر والمزمل وأن سوراً أخرى مثل سورتي الفاتحة والضحى هي أول القرآن نزولاً فإن أحاديث أولية هذه الآيات أقوى سنداً كما أن مضمونها يلهم ترجيح هذه الأولية١.
وليس في هذه الآيات الواضحة العبارة أمر بالدعوة، وإنما هي تنبيه وإعداد. ولما كانت الآيات التالية لها تتضمن مشهدا من مشاهد تصدي بعض الطغاة للنبي عليه السلام حينما بدأ بدعوته وصلاته، فإن المعقول أن تكون هذه الآيات قد نزلت وحدها ثم نزلت آيات أو سور قرآنية أخرى فيها أمر بالدعوة ومبادئها، وأن تكون أولية السورة في ترتيب النزول هي بسبب أولية نزول هذه الآيات.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:أول قرآن نزل على النبي صلى الله عليه وسلم
وقد نزلت هذه الآيات على النبي صلى الله عليه وسلم ليلاً في غار حراء أحد جبال مكة أثناء اعتكافه في هذا الغار في رمضان، على ما ورد في حديث رواه البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها جاء فيه :" أولُ ما بُدئَ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح. ثم حبب إليه الخلاء وكان يخلو بغار حراء فيتحنَّث - أي يتعبد- فيه الليالي ذوات العدد قبل أن يَنزِعَ إلى أهلهِ، ويتزود لذلك، ثم يرجعُ إلى خديجة فيتزّودُ لمثلها حتى جاءه الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك فقال :" اقرأ " فقال :" ما أنا بقارئ " قال :" فأخذني فغطَّنِي حتى بلغ منّي الجهد ثم أرسلني ". فقال :" اقرأ " فقلت :" ما أنا بقارئ " قال :" فأخذني فغطّني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني " فقال :" اقرأْ " فقلت :" ما أنا بقارئ " فأخذني فغطّني الثالثة حتى بلغَ مني الجهدُ، ثم أرسلني " فقال :﴿ اقرأ باسم ربك الذي خلق ﴾ حتى بلغ :﴿ ما لم يعلم ﴾ " ١. ونزول هذه الآيات ليلا ًوفي رمضان مؤيد بآيات قرآنية منها آية سورة البقرة هذه :﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ﴾ ( ١٨٥ )، وآية سورة الدخان هذه :﴿ إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين( ٣ ) ﴾، وآية سورة القدر هذه :﴿ إنا أنزلناه في ليلة القدر ﴾.
والأمر بالقراءة قصد به تلاوة ما يلقى إليه كما قصد به تنبيهه صلى الله عليه وسلم إلى المهمة العظمى التي انتُدب إليها، وتعلميه أن يجعل الله هو الفكرة الرئيسية التي تشغل ذهنه، وأن يذكره في كل أمر من أموره دون سواه كما هو المتبادر.
وفي هذا تلقين جليل مستمر المدى وشامل للناس جميعاً بالانصراف عما سوى الله، وبالارتفاع بالنفس الإنسانية إلى أفق لا تتأثر فيه بقوى الدنيا ومخاوفها، ولا ترتبط في حياتها ومعايشها ومطالبها ومآلها بغير الله الربّ الأكرم.
مغزى التنويه بالقراءة والكتابة والعلم
في أول ما نزل من القرآن
والآيات إلى هذا تنطوي على تنويه بالقراءة والكتابة والعلم، وبالإنسان الذي اختص وحده بالقابلية لهذه النعم، وبدء القرآن بذلك يزيد في قوة هذا التنويه، فكأنما أريد جعل هذه النعم في مقدمة نعم الله التي أنعمها على الإنسان، وفي مقدمة ما يجب على الإنسان أن يشكر الله عليه ويسعى في اكتسابه.
والقرآن على هذا الاعتبار أعظم وأقوى، وأول داع ديني إلى العلم والقراءة والكتابة. وتعبير الإنسان شامل للذكر والأنثى على السواء، وهكذا تكون الدعوة القرآنية شاملة جنسي الإنسان.
وفي هذا الجلال والروعة ما يعلو فوق كل مستوى، ما يدل على عظمة براعة استهلال القرآن الكريم والدعوة الإسلامية وبعد مداها، وقوة عناصر خلودها.
ولقد احتوت سور القرآن المكية والمدنية بعد هذه السورة آيات كثيرة جداً في التنويه بالكتاب والقرآن والعلم والعلماء والحث على العلم والتعلّم وبيان مسؤولية أهل العلم والذكر. وهو ما يزيد من جلال هذه البراعة وعظم مداها.
والمتبادر أنه لا يُقصد بالإشارة إلى خلق الإنسان من علق تقرير حقيقة تشريحية، ولا تخصيص الإنسان وحده بالخلق من علق دون غيره من الحيوان، وإنما قصد التنبيه على مظهر من مظاهر قدرة الله في نواميسه على إخراج إنسان كامل في صورته وأعضائه وحواسه من شيء تافه في مظهره المادي، وقد اختص الإنسان بالذكر ؛ لأنه موضوع الخطاب في الآيات، وهذا أسلوب قرآني عام. وهو الأسلوب التنبيهي الموجه على مختلف الطبقات في المناسبات الملائمة بما تتناوله عقولهم وحواسهم، وبقصد الموعظة والهداية.
وبناء على هذا فلا نرى محلاً ولا ضرورة إلى الاستطراد إلى حقائق تشريحية عن خلق الإنسان وتكوينه لأن ذلك ليس من أهداف الجملة القرآنية، ونرى وجوب الوقوف عند ما ذكرناه من هدفها على ما نبهنا عليه في المقدمة.
هذا، ولقد تعددت السور التي تبدأ بأمر النبي صلى الله عليه وسلم ببعض الأفعال والأقوال مما يمكن أن يعد أسلوباً من أساليب النظم القرآني في مطالع السور.

﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ( ١ ) خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ١ ( ٢ )اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ( ٣ ) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ( ٤ ) عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ( ٥ ) ﴾ ( ١- ٥ ).
هذه الآيات هي على ما جاء في حديث رواه البخاري عن عائشة رضي الله عنها، سنورده بعد قليل، أولى الآيات القرآنية نزولاً. ومع أن هناك روايات تذكر أن الآيات الأولى من سور أخرى مثل سور القلم والمدثر والمزمل وأن سوراً أخرى مثل سورتي الفاتحة والضحى هي أول القرآن نزولاً فإن أحاديث أولية هذه الآيات أقوى سنداً كما أن مضمونها يلهم ترجيح هذه الأولية١.
وليس في هذه الآيات الواضحة العبارة أمر بالدعوة، وإنما هي تنبيه وإعداد. ولما كانت الآيات التالية لها تتضمن مشهدا من مشاهد تصدي بعض الطغاة للنبي عليه السلام حينما بدأ بدعوته وصلاته، فإن المعقول أن تكون هذه الآيات قد نزلت وحدها ثم نزلت آيات أو سور قرآنية أخرى فيها أمر بالدعوة ومبادئها، وأن تكون أولية السورة في ترتيب النزول هي بسبب أولية نزول هذه الآيات.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:أول قرآن نزل على النبي صلى الله عليه وسلم
وقد نزلت هذه الآيات على النبي صلى الله عليه وسلم ليلاً في غار حراء أحد جبال مكة أثناء اعتكافه في هذا الغار في رمضان، على ما ورد في حديث رواه البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها جاء فيه :" أولُ ما بُدئَ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح. ثم حبب إليه الخلاء وكان يخلو بغار حراء فيتحنَّث - أي يتعبد- فيه الليالي ذوات العدد قبل أن يَنزِعَ إلى أهلهِ، ويتزود لذلك، ثم يرجعُ إلى خديجة فيتزّودُ لمثلها حتى جاءه الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك فقال :" اقرأ " فقال :" ما أنا بقارئ " قال :" فأخذني فغطَّنِي حتى بلغ منّي الجهد ثم أرسلني ". فقال :" اقرأ " فقلت :" ما أنا بقارئ " قال :" فأخذني فغطّني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني " فقال :" اقرأْ " فقلت :" ما أنا بقارئ " فأخذني فغطّني الثالثة حتى بلغَ مني الجهدُ، ثم أرسلني " فقال :﴿ اقرأ باسم ربك الذي خلق ﴾ حتى بلغ :﴿ ما لم يعلم ﴾ " ١. ونزول هذه الآيات ليلا ًوفي رمضان مؤيد بآيات قرآنية منها آية سورة البقرة هذه :﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ﴾ ( ١٨٥ )، وآية سورة الدخان هذه :﴿ إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين( ٣ ) ﴾، وآية سورة القدر هذه :﴿ إنا أنزلناه في ليلة القدر ﴾.
والأمر بالقراءة قصد به تلاوة ما يلقى إليه كما قصد به تنبيهه صلى الله عليه وسلم إلى المهمة العظمى التي انتُدب إليها، وتعلميه أن يجعل الله هو الفكرة الرئيسية التي تشغل ذهنه، وأن يذكره في كل أمر من أموره دون سواه كما هو المتبادر.
وفي هذا تلقين جليل مستمر المدى وشامل للناس جميعاً بالانصراف عما سوى الله، وبالارتفاع بالنفس الإنسانية إلى أفق لا تتأثر فيه بقوى الدنيا ومخاوفها، ولا ترتبط في حياتها ومعايشها ومطالبها ومآلها بغير الله الربّ الأكرم.
مغزى التنويه بالقراءة والكتابة والعلم
في أول ما نزل من القرآن
والآيات إلى هذا تنطوي على تنويه بالقراءة والكتابة والعلم، وبالإنسان الذي اختص وحده بالقابلية لهذه النعم، وبدء القرآن بذلك يزيد في قوة هذا التنويه، فكأنما أريد جعل هذه النعم في مقدمة نعم الله التي أنعمها على الإنسان، وفي مقدمة ما يجب على الإنسان أن يشكر الله عليه ويسعى في اكتسابه.
والقرآن على هذا الاعتبار أعظم وأقوى، وأول داع ديني إلى العلم والقراءة والكتابة. وتعبير الإنسان شامل للذكر والأنثى على السواء، وهكذا تكون الدعوة القرآنية شاملة جنسي الإنسان.
وفي هذا الجلال والروعة ما يعلو فوق كل مستوى، ما يدل على عظمة براعة استهلال القرآن الكريم والدعوة الإسلامية وبعد مداها، وقوة عناصر خلودها.
ولقد احتوت سور القرآن المكية والمدنية بعد هذه السورة آيات كثيرة جداً في التنويه بالكتاب والقرآن والعلم والعلماء والحث على العلم والتعلّم وبيان مسؤولية أهل العلم والذكر. وهو ما يزيد من جلال هذه البراعة وعظم مداها.
والمتبادر أنه لا يُقصد بالإشارة إلى خلق الإنسان من علق تقرير حقيقة تشريحية، ولا تخصيص الإنسان وحده بالخلق من علق دون غيره من الحيوان، وإنما قصد التنبيه على مظهر من مظاهر قدرة الله في نواميسه على إخراج إنسان كامل في صورته وأعضائه وحواسه من شيء تافه في مظهره المادي، وقد اختص الإنسان بالذكر ؛ لأنه موضوع الخطاب في الآيات، وهذا أسلوب قرآني عام. وهو الأسلوب التنبيهي الموجه على مختلف الطبقات في المناسبات الملائمة بما تتناوله عقولهم وحواسهم، وبقصد الموعظة والهداية.
وبناء على هذا فلا نرى محلاً ولا ضرورة إلى الاستطراد إلى حقائق تشريحية عن خلق الإنسان وتكوينه لأن ذلك ليس من أهداف الجملة القرآنية، ونرى وجوب الوقوف عند ما ذكرناه من هدفها على ما نبهنا عليه في المقدمة.
هذا، ولقد تعددت السور التي تبدأ بأمر النبي صلى الله عليه وسلم ببعض الأفعال والأقوال مما يمكن أن يعد أسلوباً من أساليب النظم القرآني في مطالع السور.

١- كلاّ : حرف ردع وزجر. وقال المفسرون : إنها في المقام الذي تأتي فيه بمعنى أيها الناس ارتدعوا وازدجروا فالأمر أعظم مما ظننتم. وقد وردت كثيراً ولاسيما في السور المبكرة في النزول الذي يشتد فيها الإنذار والتنبيه والتنديد، ووردت كذلك في معرض التنديد والاستدراك والتثبيت، وكثرة ورودها في القرآن تدل على أنها مما كان مستفيضاً في أساليب الخطاب العربي.
٢- يطغى : يتجاوز الحد في العدوان والبغي
﴿ كَلَّا ١إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى٢ ( ٦ ) أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى٣( ٧ ) إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى( ٨ ) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى ( ٩ ) عَبْدًا إِذَا صَلَّى ( ١٠ ) أَرَأَيْتَ إِن كَانَ عَلَى الْهُدَ( ١١ ) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى ٤( ١٢ ) أَرَأَيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى ٥ ( ١٣ ) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى ( ١٤ ) كَلَّا لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعًا ٦ بِالنَّاصِيَةِ ٧ ( ١٥ ) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ( ١٦ ) فَلْيَدْعُ نَادِيَه ٨ ( ١٧ ) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ ٩ ( ١٨ ) كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ ١٠ وَاقْتَرِبْ١١ ( ١٩ ) ﴾ ( ٦-١٩ ).
تعليق على ما في الآيات
﴿ كلا إن الإنسان ليطغى( ٦ ) أن رآه استغنى( ٧ ) ﴾
من تلقين ثم من مدى ومغزى
في صدد أهداف الرسالة الإسلامية
وهذه الآيات بخاصة محل لتعليق آخر، من حيث إنها تجعل الطغيان نتيجة لكثرة المال والغنى. ولقد احتوت سور كثيرة مبكرة في النزول حملة على شدة حب المال، والحرص عليه، والتباهي به، واعتباره عنواناً للكرامة، وتنديداً بذلك، مثل سور القلم والمزمل والمدثر والمسد والفجر والعاديات والتكاثر والهمزة والبلد ممّا لم نر إيراده لأنه سوف يأتي بعد قليل.
ولقد احتوت هذه السور وسور أخرى مبكرة في النزول أيضا مثل الليل والأعلى والنجم فضلاً عن سور كثيرة أخرى نزلت في مختلف أدوار التنزيل حضاً على إطعام المساكين، والتصدّق على الفقراء، وتزكية المال، والإنفاق في سبيل الله. واحتوت في الوقت نفسه صوراً عديدة من مواقف الأغنياء المناوئة لنبوة النبي، ودعوته إلى جانب الزعماء ؛ حيث يبدو أن الأغنياء بدورهم رأوا في هذه النبوة والدعوة تهديداً لثرواتهم، فتضامنوا مع الزعماء في المناوأة منذ عهد مبكر جداً، واستحقوا وصف الطغيان الذي احتوته الآيات.
وبالإضافة إلى ما في هذا من تلقين جليل سلبي وإيجابي للمسلم فإنه ينطوي على مدى ومغزى عظيمين في صدد الرسالة الإسلامية التي يمثلها القرآن في الدرجة الأولى، وهما كون هذه الرسالة قد جاءت في جملة ما جاءت به للحدّ من جشع الإنسان للمال وتكالبه عليه، والدعوة إلى مساعدة المحتاجين إليه. وورود هذا في السور المبكرة في النزول يسبغ على ذلك المدى والمغزى خطورة خاصة، وقد استمر ذلك بأساليب متنوعة في سور كثيرة أخرى مما يزيد في قوة هذه الخطورة.
وهناك أحاديث كثيرة مأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم مع كل ذلك أيضاً شأنها مع كل المبادئ والتلقينات القرآنية سنوردها في مناسبات آتية أكثر ملاءمة.

في هذه الآيات :


١-
تقرير حقيقة في أخلاق البشر بوجه عام. وهي أن كثيراً منهم يتجاوزون الحد كبراً وبغياً حينما يشعرون في أنفسهم بالقوة، ويخيل إليهم أنهم في غنى عن غيرهم بكثرة مالهم، وقوة أنصارهم، وعصبيتهم وشخصيتهم، وأسلوب الآية التي ودرت فيها أسلوب تنديدي بهذا الخلق.

٢-
تذكير وإنذار بأن الناس راجعون إلى الله ومعروضون عليه.

٣-
تنديد بالذي يتعرض لعبد من عباد الله فينهاه عن الصلاة له مع أنه يسير على طريق الحق والهدى. ويدعو إلى تقوى الله ويذكّر به. وتنديد كذلك بالذي يكذب دعوة الله ويعرض عنها، وتذكير له في معرض الإنذار، وبأسلوب الاستفهام الإنكاري عما إذا لم يكن يعلم أن الله يراقبه ويحصى عليه آثامه ومواقفه.

٤-
تهديد وتحدّ وإنذار لهذا المكذب المتعرض المعرض بأسلوب قارع قاصم. فإذا لم ينتهِ عن موقفه الباغي فلسوف يسفعه الله بناصيته الكاذبة الخاطئة. وإذا دعا ناديه لنصرته، فسوف يدعو الله الزبانية الموكلين بالعذاب ليتولوا أمرهم.

٥-
تثبيت للنبي عليه السلام في دعوته، فلا محل للخوف من هذا المتعرض والاستجابة لما يقول والاهتمام به. وعليه أن يسجد لله ويتقرب إليه.
والآيات الثلاث الأولى تمهيد لما بعدها على ما هو المتبادر مما هو مستفيض في الأسلوب القرآني. والآيات التالية لها تتضمن مشهداً من مشاهد الدعوة النبوية في الخطوات الأولى حيث تفيد أن زعيماً طاغية تعرّض للنبي عليه السلام حينما رآه يصلي صلاة جديدة، ويدعو إلى الله وتقواه، فضلاً عن تكذيبه للدعوة وإعراضه عنها.
ولقد رويت بعض الأحاديث الصحيحة في مناسبة نزول هذه الآيات. منها حديث رواه الشيخان والترمذي عن ابن عباس قال :" قال أبو جهل : لئن رأيت محمدا يصلي عند الكعبة لأطأن على عنقه، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال : لو فعل لاتخذته الملائكة عياناً " ١. ومنها حديث رواه مسلم عن ابن عباس أيضا قال :" وقال أبو جهل : هل يعفر محمد وجهه بين أظهركم - يريد على ما يظهر هل يصلي ويسجد - قيل : نعم، فقال : واللات والعزى لئن رأيته يفعل ذلك لأطأن على رقبته. فأتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي فما فجئهم منه إلا وهو ينكُص على عقبيه، ويتقي بيديه، فقيل له : ما لك ؟ فقال : إن بيني وبينه لخندقا من نار وهوْلاً وأجنحة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضوا عضوا، فأنزل الله :﴿ كلا إن الإنسان ليطغى( ٦ ) ﴾ إلى آخر السورة " ٢.
ومنها حديث رواه الترمذي عن ابن عباس قال :" كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي فجاء أبو جهل فقال : ألم أنهك عن هذا ؟ ألم أنهك عن هذا ؟ فزبره النبي صلى الله عليه وسلم، فقال أبو جهل : إنك لتعلم ما بها ناد أكثر مني، فأنزل الله :﴿ فليدع ناديه ( ١٧ ) سندع الزبانية( ١٨ ) ﴾. قال ابن عباس :( فوالله لو دعا ناديه لأخذته زبانية الله )٣.
والحديث الأخير قد يفيد أن الآيات نزلت على دفعات. غير أن الذي نرجحه على ضوء الحديث الثاني أنها نزلت دفعة واحدة. ولا يمنع هذا أن يكون ما روي عن لسان أبي جهل مما ذكره الحديث الأخير صحيحاً من جملة ما قاله وفعله، وحاول أن يفعله فكان كل هذا مناسبة لنزول الآيات جميعها.
وتسمية ( أبي جهل ) تسمية إسلامية، واسم هذا الرجل هو عمرو بن هشام المخزومي وكنيته أبو الحكم. ولقد روى ابن هشام أن أبا سفيان وأبا جهل والأخنس بن شريق خرجوا ليلة ليسمعوا لرسول الله وهو يصلي في بيته فأخذ كل رجل منهم مجلساً يستمع فيه، وكل لا يعلم بمكان صاحبه، فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر تفرقوا فجمعهم الطريق فتلاوموا وقالوا لبعضهم : لا تعودوا فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئا، ثم انصرفوا غير أنهم عادوا ليلة ثانية، ثم ليلة ثالثة. وذهب الأخنس إلى أبي سفيان فقال له : ما رأيك يا أبا حنظلة فيما سمعت من محمد ؟ قال : والله لقد سمعت أشياء أعرفها، وأعرف ما يراد بها، وسمعت أشياء ما عرفت معناها وما يراد بها، فقال له : وأنا الذي حلفت به كذلك. ثم خرج حتى أتى أبا جهل فقال : ما رأيك فيما سمعت من محمد ؟ فقال : ما سمعت : تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف. أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تحاذينا على الركب، وكنا كفرسي رهان قالوا : منا نبي يأتيه الوحي من السماء، فمتى ندرك مثل هذه ؟ و الله لا نؤمن به أبداً ولا نصدقه٤ ؛ حيث يفيد هذا أن موقف أبي جهل كان متأثرا بالاعتبارات الشخصية والأسرية.
استغنى : ظن نفسه مستغنياً، أو رأى نفسه غنياً. والكلمة هنا بمعنى ( رأى نفسه غنياً بماله ) على ما عليه الجمهور. واستعملت الكلمة بمعنى ( رأى نفسه غنياً عن مساعدة الغير فتمنع وتكبر ) كما في آيات سورة عبس هذه :﴿ أما من استغنى ( ٥ ) فأنت له تصدى( ٦ ) وما عليك ألا يزكى( ٧ ) ﴾. وأصل معنى كلمة ( غني ) غير المحتاج، سواء أكانت الحاجة مالاً أو غيره. وقد وصف الله جلّ جلاله نفسه بها في آيات كثيرة.
﴿ كَلَّا ١إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى٢ ( ٦ ) أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى٣( ٧ ) إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى( ٨ ) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى ( ٩ ) عَبْدًا إِذَا صَلَّى ( ١٠ ) أَرَأَيْتَ إِن كَانَ عَلَى الْهُدَ( ١١ ) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى ٤( ١٢ ) أَرَأَيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى ٥ ( ١٣ ) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى ( ١٤ ) كَلَّا لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعًا ٦ بِالنَّاصِيَةِ ٧ ( ١٥ ) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ( ١٦ ) فَلْيَدْعُ نَادِيَه ٨ ( ١٧ ) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ ٩ ( ١٨ ) كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ ١٠ وَاقْتَرِبْ١١ ( ١٩ ) ﴾ ( ٦-١٩ ).
تعليق على ما في الآيات
﴿ كلا إن الإنسان ليطغى( ٦ ) أن رآه استغنى( ٧ ) ﴾
من تلقين ثم من مدى ومغزى
في صدد أهداف الرسالة الإسلامية
وهذه الآيات بخاصة محل لتعليق آخر، من حيث إنها تجعل الطغيان نتيجة لكثرة المال والغنى. ولقد احتوت سور كثيرة مبكرة في النزول حملة على شدة حب المال، والحرص عليه، والتباهي به، واعتباره عنواناً للكرامة، وتنديداً بذلك، مثل سور القلم والمزمل والمدثر والمسد والفجر والعاديات والتكاثر والهمزة والبلد ممّا لم نر إيراده لأنه سوف يأتي بعد قليل.
ولقد احتوت هذه السور وسور أخرى مبكرة في النزول أيضا مثل الليل والأعلى والنجم فضلاً عن سور كثيرة أخرى نزلت في مختلف أدوار التنزيل حضاً على إطعام المساكين، والتصدّق على الفقراء، وتزكية المال، والإنفاق في سبيل الله. واحتوت في الوقت نفسه صوراً عديدة من مواقف الأغنياء المناوئة لنبوة النبي، ودعوته إلى جانب الزعماء ؛ حيث يبدو أن الأغنياء بدورهم رأوا في هذه النبوة والدعوة تهديداً لثرواتهم، فتضامنوا مع الزعماء في المناوأة منذ عهد مبكر جداً، واستحقوا وصف الطغيان الذي احتوته الآيات.
وبالإضافة إلى ما في هذا من تلقين جليل سلبي وإيجابي للمسلم فإنه ينطوي على مدى ومغزى عظيمين في صدد الرسالة الإسلامية التي يمثلها القرآن في الدرجة الأولى، وهما كون هذه الرسالة قد جاءت في جملة ما جاءت به للحدّ من جشع الإنسان للمال وتكالبه عليه، والدعوة إلى مساعدة المحتاجين إليه. وورود هذا في السور المبكرة في النزول يسبغ على ذلك المدى والمغزى خطورة خاصة، وقد استمر ذلك بأساليب متنوعة في سور كثيرة أخرى مما يزيد في قوة هذه الخطورة.
وهناك أحاديث كثيرة مأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم مع كل ذلك أيضاً شأنها مع كل المبادئ والتلقينات القرآنية سنوردها في مناسبات آتية أكثر ملاءمة.

في هذه الآيات :


١-
تقرير حقيقة في أخلاق البشر بوجه عام. وهي أن كثيراً منهم يتجاوزون الحد كبراً وبغياً حينما يشعرون في أنفسهم بالقوة، ويخيل إليهم أنهم في غنى عن غيرهم بكثرة مالهم، وقوة أنصارهم، وعصبيتهم وشخصيتهم، وأسلوب الآية التي ودرت فيها أسلوب تنديدي بهذا الخلق.

٢-
تذكير وإنذار بأن الناس راجعون إلى الله ومعروضون عليه.

٣-
تنديد بالذي يتعرض لعبد من عباد الله فينهاه عن الصلاة له مع أنه يسير على طريق الحق والهدى. ويدعو إلى تقوى الله ويذكّر به. وتنديد كذلك بالذي يكذب دعوة الله ويعرض عنها، وتذكير له في معرض الإنذار، وبأسلوب الاستفهام الإنكاري عما إذا لم يكن يعلم أن الله يراقبه ويحصى عليه آثامه ومواقفه.

٤-
تهديد وتحدّ وإنذار لهذا المكذب المتعرض المعرض بأسلوب قارع قاصم. فإذا لم ينتهِ عن موقفه الباغي فلسوف يسفعه الله بناصيته الكاذبة الخاطئة. وإذا دعا ناديه لنصرته، فسوف يدعو الله الزبانية الموكلين بالعذاب ليتولوا أمرهم.

٥-
تثبيت للنبي عليه السلام في دعوته، فلا محل للخوف من هذا المتعرض والاستجابة لما يقول والاهتمام به. وعليه أن يسجد لله ويتقرب إليه.
والآيات الثلاث الأولى تمهيد لما بعدها على ما هو المتبادر مما هو مستفيض في الأسلوب القرآني. والآيات التالية لها تتضمن مشهداً من مشاهد الدعوة النبوية في الخطوات الأولى حيث تفيد أن زعيماً طاغية تعرّض للنبي عليه السلام حينما رآه يصلي صلاة جديدة، ويدعو إلى الله وتقواه، فضلاً عن تكذيبه للدعوة وإعراضه عنها.
ولقد رويت بعض الأحاديث الصحيحة في مناسبة نزول هذه الآيات. منها حديث رواه الشيخان والترمذي عن ابن عباس قال :" قال أبو جهل : لئن رأيت محمدا يصلي عند الكعبة لأطأن على عنقه، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال : لو فعل لاتخذته الملائكة عياناً " ١. ومنها حديث رواه مسلم عن ابن عباس أيضا قال :" وقال أبو جهل : هل يعفر محمد وجهه بين أظهركم - يريد على ما يظهر هل يصلي ويسجد - قيل : نعم، فقال : واللات والعزى لئن رأيته يفعل ذلك لأطأن على رقبته. فأتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي فما فجئهم منه إلا وهو ينكُص على عقبيه، ويتقي بيديه، فقيل له : ما لك ؟ فقال : إن بيني وبينه لخندقا من نار وهوْلاً وأجنحة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضوا عضوا، فأنزل الله :﴿ كلا إن الإنسان ليطغى( ٦ ) ﴾ إلى آخر السورة " ٢.
ومنها حديث رواه الترمذي عن ابن عباس قال :" كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي فجاء أبو جهل فقال : ألم أنهك عن هذا ؟ ألم أنهك عن هذا ؟ فزبره النبي صلى الله عليه وسلم، فقال أبو جهل : إنك لتعلم ما بها ناد أكثر مني، فأنزل الله :﴿ فليدع ناديه ( ١٧ ) سندع الزبانية( ١٨ ) ﴾. قال ابن عباس :( فوالله لو دعا ناديه لأخذته زبانية الله )٣.
والحديث الأخير قد يفيد أن الآيات نزلت على دفعات. غير أن الذي نرجحه على ضوء الحديث الثاني أنها نزلت دفعة واحدة. ولا يمنع هذا أن يكون ما روي عن لسان أبي جهل مما ذكره الحديث الأخير صحيحاً من جملة ما قاله وفعله، وحاول أن يفعله فكان كل هذا مناسبة لنزول الآيات جميعها.
وتسمية ( أبي جهل ) تسمية إسلامية، واسم هذا الرجل هو عمرو بن هشام المخزومي وكنيته أبو الحكم. ولقد روى ابن هشام أن أبا سفيان وأبا جهل والأخنس بن شريق خرجوا ليلة ليسمعوا لرسول الله وهو يصلي في بيته فأخذ كل رجل منهم مجلساً يستمع فيه، وكل لا يعلم بمكان صاحبه، فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر تفرقوا فجمعهم الطريق فتلاوموا وقالوا لبعضهم : لا تعودوا فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئا، ثم انصرفوا غير أنهم عادوا ليلة ثانية، ثم ليلة ثالثة. وذهب الأخنس إلى أبي سفيان فقال له : ما رأيك يا أبا حنظلة فيما سمعت من محمد ؟ قال : والله لقد سمعت أشياء أعرفها، وأعرف ما يراد بها، وسمعت أشياء ما عرفت معناها وما يراد بها، فقال له : وأنا الذي حلفت به كذلك. ثم خرج حتى أتى أبا جهل فقال : ما رأيك فيما سمعت من محمد ؟ فقال : ما سمعت : تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف. أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تحاذينا على الركب، وكنا كفرسي رهان قالوا : منا نبي يأتيه الوحي من السماء، فمتى ندرك مثل هذه ؟ و الله لا نؤمن به أبداً ولا نصدقه٤ ؛ حيث يفيد هذا أن موقف أبي جهل كان متأثرا بالاعتبارات الشخصية والأسرية.
﴿ كَلَّا ١إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى٢ ( ٦ ) أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى٣( ٧ ) إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى( ٨ ) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى ( ٩ ) عَبْدًا إِذَا صَلَّى ( ١٠ ) أَرَأَيْتَ إِن كَانَ عَلَى الْهُدَ( ١١ ) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى ٤( ١٢ ) أَرَأَيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى ٥ ( ١٣ ) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى ( ١٤ ) كَلَّا لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعًا ٦ بِالنَّاصِيَةِ ٧ ( ١٥ ) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ( ١٦ ) فَلْيَدْعُ نَادِيَه ٨ ( ١٧ ) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ ٩ ( ١٨ ) كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ ١٠ وَاقْتَرِبْ١١ ( ١٩ ) ﴾ ( ٦-١٩ ).
تعليق على ما في الآيات
﴿ كلا إن الإنسان ليطغى( ٦ ) أن رآه استغنى( ٧ ) ﴾
من تلقين ثم من مدى ومغزى
في صدد أهداف الرسالة الإسلامية
وهذه الآيات بخاصة محل لتعليق آخر، من حيث إنها تجعل الطغيان نتيجة لكثرة المال والغنى. ولقد احتوت سور كثيرة مبكرة في النزول حملة على شدة حب المال، والحرص عليه، والتباهي به، واعتباره عنواناً للكرامة، وتنديداً بذلك، مثل سور القلم والمزمل والمدثر والمسد والفجر والعاديات والتكاثر والهمزة والبلد ممّا لم نر إيراده لأنه سوف يأتي بعد قليل.
ولقد احتوت هذه السور وسور أخرى مبكرة في النزول أيضا مثل الليل والأعلى والنجم فضلاً عن سور كثيرة أخرى نزلت في مختلف أدوار التنزيل حضاً على إطعام المساكين، والتصدّق على الفقراء، وتزكية المال، والإنفاق في سبيل الله. واحتوت في الوقت نفسه صوراً عديدة من مواقف الأغنياء المناوئة لنبوة النبي، ودعوته إلى جانب الزعماء ؛ حيث يبدو أن الأغنياء بدورهم رأوا في هذه النبوة والدعوة تهديداً لثرواتهم، فتضامنوا مع الزعماء في المناوأة منذ عهد مبكر جداً، واستحقوا وصف الطغيان الذي احتوته الآيات.
وبالإضافة إلى ما في هذا من تلقين جليل سلبي وإيجابي للمسلم فإنه ينطوي على مدى ومغزى عظيمين في صدد الرسالة الإسلامية التي يمثلها القرآن في الدرجة الأولى، وهما كون هذه الرسالة قد جاءت في جملة ما جاءت به للحدّ من جشع الإنسان للمال وتكالبه عليه، والدعوة إلى مساعدة المحتاجين إليه. وورود هذا في السور المبكرة في النزول يسبغ على ذلك المدى والمغزى خطورة خاصة، وقد استمر ذلك بأساليب متنوعة في سور كثيرة أخرى مما يزيد في قوة هذه الخطورة.
وهناك أحاديث كثيرة مأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم مع كل ذلك أيضاً شأنها مع كل المبادئ والتلقينات القرآنية سنوردها في مناسبات آتية أكثر ملاءمة.

في هذه الآيات :


١-
تقرير حقيقة في أخلاق البشر بوجه عام. وهي أن كثيراً منهم يتجاوزون الحد كبراً وبغياً حينما يشعرون في أنفسهم بالقوة، ويخيل إليهم أنهم في غنى عن غيرهم بكثرة مالهم، وقوة أنصارهم، وعصبيتهم وشخصيتهم، وأسلوب الآية التي ودرت فيها أسلوب تنديدي بهذا الخلق.

٢-
تذكير وإنذار بأن الناس راجعون إلى الله ومعروضون عليه.

٣-
تنديد بالذي يتعرض لعبد من عباد الله فينهاه عن الصلاة له مع أنه يسير على طريق الحق والهدى. ويدعو إلى تقوى الله ويذكّر به. وتنديد كذلك بالذي يكذب دعوة الله ويعرض عنها، وتذكير له في معرض الإنذار، وبأسلوب الاستفهام الإنكاري عما إذا لم يكن يعلم أن الله يراقبه ويحصى عليه آثامه ومواقفه.

٤-
تهديد وتحدّ وإنذار لهذا المكذب المتعرض المعرض بأسلوب قارع قاصم. فإذا لم ينتهِ عن موقفه الباغي فلسوف يسفعه الله بناصيته الكاذبة الخاطئة. وإذا دعا ناديه لنصرته، فسوف يدعو الله الزبانية الموكلين بالعذاب ليتولوا أمرهم.

٥-
تثبيت للنبي عليه السلام في دعوته، فلا محل للخوف من هذا المتعرض والاستجابة لما يقول والاهتمام به. وعليه أن يسجد لله ويتقرب إليه.
والآيات الثلاث الأولى تمهيد لما بعدها على ما هو المتبادر مما هو مستفيض في الأسلوب القرآني. والآيات التالية لها تتضمن مشهداً من مشاهد الدعوة النبوية في الخطوات الأولى حيث تفيد أن زعيماً طاغية تعرّض للنبي عليه السلام حينما رآه يصلي صلاة جديدة، ويدعو إلى الله وتقواه، فضلاً عن تكذيبه للدعوة وإعراضه عنها.
ولقد رويت بعض الأحاديث الصحيحة في مناسبة نزول هذه الآيات. منها حديث رواه الشيخان والترمذي عن ابن عباس قال :" قال أبو جهل : لئن رأيت محمدا يصلي عند الكعبة لأطأن على عنقه، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال : لو فعل لاتخذته الملائكة عياناً " ١. ومنها حديث رواه مسلم عن ابن عباس أيضا قال :" وقال أبو جهل : هل يعفر محمد وجهه بين أظهركم - يريد على ما يظهر هل يصلي ويسجد - قيل : نعم، فقال : واللات والعزى لئن رأيته يفعل ذلك لأطأن على رقبته. فأتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي فما فجئهم منه إلا وهو ينكُص على عقبيه، ويتقي بيديه، فقيل له : ما لك ؟ فقال : إن بيني وبينه لخندقا من نار وهوْلاً وأجنحة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضوا عضوا، فأنزل الله :﴿ كلا إن الإنسان ليطغى( ٦ ) ﴾ إلى آخر السورة " ٢.
ومنها حديث رواه الترمذي عن ابن عباس قال :" كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي فجاء أبو جهل فقال : ألم أنهك عن هذا ؟ ألم أنهك عن هذا ؟ فزبره النبي صلى الله عليه وسلم، فقال أبو جهل : إنك لتعلم ما بها ناد أكثر مني، فأنزل الله :﴿ فليدع ناديه ( ١٧ ) سندع الزبانية( ١٨ ) ﴾. قال ابن عباس :( فوالله لو دعا ناديه لأخذته زبانية الله )٣.
والحديث الأخير قد يفيد أن الآيات نزلت على دفعات. غير أن الذي نرجحه على ضوء الحديث الثاني أنها نزلت دفعة واحدة. ولا يمنع هذا أن يكون ما روي عن لسان أبي جهل مما ذكره الحديث الأخير صحيحاً من جملة ما قاله وفعله، وحاول أن يفعله فكان كل هذا مناسبة لنزول الآيات جميعها.
وتسمية ( أبي جهل ) تسمية إسلامية، واسم هذا الرجل هو عمرو بن هشام المخزومي وكنيته أبو الحكم. ولقد روى ابن هشام أن أبا سفيان وأبا جهل والأخنس بن شريق خرجوا ليلة ليسمعوا لرسول الله وهو يصلي في بيته فأخذ كل رجل منهم مجلساً يستمع فيه، وكل لا يعلم بمكان صاحبه، فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر تفرقوا فجمعهم الطريق فتلاوموا وقالوا لبعضهم : لا تعودوا فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئا، ثم انصرفوا غير أنهم عادوا ليلة ثانية، ثم ليلة ثالثة. وذهب الأخنس إلى أبي سفيان فقال له : ما رأيك يا أبا حنظلة فيما سمعت من محمد ؟ قال : والله لقد سمعت أشياء أعرفها، وأعرف ما يراد بها، وسمعت أشياء ما عرفت معناها وما يراد بها، فقال له : وأنا الذي حلفت به كذلك. ثم خرج حتى أتى أبا جهل فقال : ما رأيك فيما سمعت من محمد ؟ فقال : ما سمعت : تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف. أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تحاذينا على الركب، وكنا كفرسي رهان قالوا : منا نبي يأتيه الوحي من السماء، فمتى ندرك مثل هذه ؟ و الله لا نؤمن به أبداً ولا نصدقه٤ ؛ حيث يفيد هذا أن موقف أبي جهل كان متأثرا بالاعتبارات الشخصية والأسرية.
تعليق على كلمة الصلاة
وبمناسبة ورود كلمة " صلى " لأول مرة نقول : إن الصلاة تعني في اللغة الدعاء والبركة، وقد جاءت بهذين المعنيين في القرآن كما يفهم من آيات سورة الأحزاب :﴿ هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ﴾، و﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا( ٥٦ ) ﴾، ومن آية سورة التوبة هذه :﴿ وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِندَ اللّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ ﴾، وتعني كذلك الشكل الخاص الذي يتعبد المتعبد به لمعبود، كما هي هذه السورة وغيرها، والمعنيان متقاربان، ولعلّ الأصل هو الأول، ولاسيما والعبادة هي الاتجاه للمعبود ودعاؤه.
وإطلاق كلمة الصلاة على الشكل الخاص من العبادة مطلقاً ليس إسلامياً، بل كان كذلك قبل البعثة كما تدل عليه آية الأنفال هذه :﴿ وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية ﴾١( ٣٥ )، حيث عبرت عما كان يؤديه المشركون من الطقوس الدينية عند الكعبة بكلمة الصلاة.
ومع أن الروايات تذكر٢ أن شكل الصلاة الإسلامية المعروف هو الشكل الذي أدّى به النبي صلى الله عليه وسلم صلاته الأولى بتعليم المَلََك، فإن ورود تعابير الركوع والسجود والقيام في القرآن وتكليف المشركين بالسجود تارة، والركوع أخرى، كما جاء في آية سورة البقرة هذه :﴿ وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ( ١٢٥ ﴾، وفي آية سورة الحج هذه :﴿ وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ( ٢٦ ) ﴾، وفي آية سورة الفرقان هذه :﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا( ٦٠ ) ﴾، وفي آية سورة المرسلات هذه، ﴿ وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون( ٤٨ ) ﴾، يلهم أن هذه الأشكال كانت معروفة قبل البعثة وممارسة، كأشكال عبادة وصلاة، وكمظهر خضوع لله أو للمعبودات.
ولقد روى ابن هشام خبر أول صلاة صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عزواً إلى ابن إسحاق : " حدثني بعض أهل العلم أن الصلاة حين افترضت على رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل وهو بأعلى مكة، فهمز له بعقبه في ناحية الوادي، فانفجرت منه عين فتوضأ جبريل عليه السلام ورسول الله ينظر إليه ليريه كيف الطهور إلى الصلاة، ثم توضأ رسول الله كما رأى جبريل توضأ. ثم قام به جبريل فصلى به، فصلى رسول الله بصلاته ثم انصرف جبريل، فجاء رسول الله خديجة فتوضأ لها ليريها كيف الطهور للصلاة كما أراه جبريل، فتوضأت كما توضأ لها رسول الله، ثم صلى بها كما صلى به جبريل ". وقال كذلك عزواً إلى ابن اسحق : " وحدثني عتبة بن مسلم عن نافع بن جبير وكان كثير الرواية عن ابن عباس قال : لما افترضت الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل عليه السلام، فصلى به الظهر حين مالت الشمس، ثم صلى به العصر حين كان ظله مثله، ثم صلى به المغرب حين غابت الشمس، ثم صلى به العشاء الأخيرة حين ذهب الشفق. ثم صلى به الصبح حين طلع الفجر. ثم جاءه فصلى به الظهر من غد حين كان ظله مثله، ثم صلى به العصر حين كان ظله مثله، ثم صلى به المغرب حين غابت الشمس لوقتها بالأمس، ثم صلى به العشاء الأخيرة حين ذهب ثلث الليل الأول، ثم صلى به الصبح مسفراً غير مشرق، ثم قال : يا محمد، الصلاة فيما بين صلاتك اليوم وصلاتك بالأمس " ٣.
ولقد روى الترمذي وصاحباه حديثاً عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه معظم ما في هذا الحديث، وهذا نصه : " أمّني جبريل عليه السلام عند البيت مرتين، فصلّى الظهر في الأولى منهما حينما كان الفيء مثل الشِّراك، ثم صلى العصر حين كان ظل كل شيء مثله، ثم صلى المغرب حين وجبت الشمس وأفطرَ الصائمُ، ثم صلّى العشاءَ حينَ غابَ الشفقُ، ثم صلى الفجر حين برقَ الفجرُ وحَرُمَ الطعامُ على الصائم. وصلّى المرة الثانية الظهرَ حين كان ظلُّ كل شيء مثله لوقت العصر بالأمس، ثم صلّى العصر حين كان ظل كل شيء مثليه، ثم صلى المغرب لوقته الأول، ثم صلّى العشاء الآخرة حين ذهب ثلث الليل، ثم صلى الصبح حين أسفرت الأرض، ثم التفت إلي جبريل فقال : يا محمد هذا وقت الأنبياء من قبلك، والوقتُ فيما بين هذين الوقتين " ٤.
ولقد روى الخمسة إلاّ الترمذي عن أبي مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " نزل جبريل فأمَّني فصلّيت معه، ثم صليت معه، ثم صليت معه، ثم صليت معه، يحسُبُ بأصابعه خمسَ صلوات. زادَ في رواية : ثم قال : بهذا أمرتُ " ٥.
وليس في هذه الأحاديث تعيين لوقت هذا التعليم والإمامة، ولكن ورود الإشارة إلى صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في هذه السورة التي هي من أبكر ما نزل من القرآن قد يدل على أن ذلك كان عقب نزول أول وحي على النبي صلى الله عليه وسلم. وقد يؤيد هذا ما جاء في حديث ابن إسحاق الأول من مجيء النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك إلى بيته، وتعليمه ما علمه إياه الملك لخديجة رضي الله عنها التي كانت أول من آمن به، والتي لم يكن بعد على ما هو محتمل مؤمناً به غيرها. وقد يؤيد ذلك أيضا أن الإشارة إلى الصلاة والدعوة إليها وخبر ممارستها قد ذكرت في سور أخرى مبكرة جداً في النزول مثل سور المزمل والمدثر والأعلى والشرح والكوثر. هذا في حين أن البخاري ومسلم والنسائي والترمذي يروون حديثاً عن أنس جاء فيه : " فُرضَت على النبيّ صلى الله عليه وسلم ليلة أُسريَ به الصلاة خمسين، ثم نُقصَتْ حتى جُعلَتْ خمساً، ثم نودي : يا محمد إنه لا يبدّل القولُ لديَّ، وإنّ لك بهذه الخمس خَمسينَ " ٦.
والإسراء ذكر في سورة الإسراء بأسلوب قد يلهم أنه ذكر عقب وقوعه، وسورة الإسراء ليست من السور المبكرة في النزول، بل يخمن أنها نزلت في أواخر الثلث الأول من العهد المكي، وهناك روايات تذكر أن الإسراء وقع في مثل هذا الظرف.
ولقد روى الترمذي ومسلم حديثاً عن عبد الله في سياق تفسير بعض الآيات الأولى من سورة النجم التي تروي بعض الأحاديث أنها في صدد مشاهد الإسراء والمعراج، جاء فيه : " إنه لما بلغ رسول الله سدرةَ المنتهى قال : انتهى إليها ما يعرج من الأرض وما ينزل من فوق، فأعطاه الله عندها ثلاثا لم يعطهن نبيا قبله : فرضت عليه الصلاة خمساً، وأعطي خواتيمَ سورة البقرة، وغُفرَ لأمته المُقْحَمات ما لم يشركوا بالله شيئا " ٧.
وسورة النجم نزلت كذلك بعد عدة سور ذكرت فيها الصلاة، مثل المزمل والمدثر والأعلى والشرح والكوثر والماعون.
وعلى هذا فإن الصلاة إما أن تكون غير مفروضة فرضاً مستقراً، وكانت تؤدى كمظهر من مظاهر العبادة لله تعالى وحسب قبل نزول سورتي النجم والإسراء، أو قبل سورة النجم –لأن هناك احتمالاً أن يكون الإسراء وقع قبل نزول سورة الإسراء بمدة ما، وأن يكون ذكره في سورة الإسراء من قبيل التذكير به- إذا صح حديثا أنس وعبد الله رضي الله عنهما. وإما أن يتوقف في هذين الحديثين استئناسا بالآيات وبحديث ابن اسحق الأول. ويقال : إنها كانت تمارس كفرض محدود الأوقات في عهد مبكر من البعثة النبوية وقبل الإسراء النبوي، والله تعالى أعلم.
وليس في القرآن مما يتصل بشؤون الصلاة لها إلا إشارات في صدد الوضوء والاغتسال من الجنابة والتيمم بدلاً منهما، واستقبال القبلة، والأذان، وتطهير الثياب والبدن، وقصر الصلاة، وصلاة الخوف، وصلاة الجمعة، شاءت حكمة التنزيل أن تشير إليها مناسبات حادثة في بعض السور. أما كيفيات الصلاة وأوقاتها وأركانها وركعاتها والدخول فيها والخروج منها، وما يقرأ ويدعى ويسبح فيها، والنوافل المؤكدة، وما يفعل في السهو فيها، والعجز عن بعض كيفياتها وأركانها، وما يكره فيها... إلخ. فقد تكفلت ببيانها السنة النبوية القولية والفعلية - على اختلاف في أسانيدها ورتبها - حفلت بها وبشرحها كتب الحديث والفقه، وتعددت المذاهب بسبب ما بها من اختلاف في النصوص مما لا يدخل تفصيله في منهاج التفسير، وما صار متمماً لتشريعها القرآني وجزءاً منه، وصار العمل بالثابت منه واجباً كما هو الشأن في كل ما سكت عنه القرآن، أو جاء فيه غامضا، أو مطلقاً، أو غير مستوف لكل جانب في مسألة من المسائل، عملاً بالمبدأ القرآني المنطوي في آية سورة النساء هذه :﴿ من يطع الرسول فقد أطاع الله ﴾، وآية سورة الحشر هذه :﴿ وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ﴾. وقد أوردنا من قبل بعض هذه الأحاديث، ونورد فيما يلي طائفة منها وردت في الكتب الخمسة تحتوي صوراً وسنناً رئيسية مع التنبيه على أنها ليست كل ما ورد في هذه الكتب، فضلا ًعن أن هناك أحاديث كثيرة من بابها وردت في كتب الأحاديث الأخرى : من ذلك ما رواه الخمسة عن أبي هريرة : " أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل المسجد فدخل رجل فصلى، ثم جاء فسلم على النبي فردّ النبي عليه السلام، فقال : ارجع فصلّ، فإنك لم تصلّ، فصلّى، ثم جاء فسلّم على النبي، فقال : ارجع فصلّ فإنك لم تصلّ، ثلاثاً. فقال : والذي بعثك بالحق ما أحسن غيره فعلّمني، فقال : إذا قمت إلى الصلاة فكبر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعاً، ثم ارفعْ حتى تعتدلَ قائماً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم ارفع حتى تطمئن جالساً، ثم اسجد حتى تطمئنَّ ساجداً، ثم افعلْ ذلك في صلاتك كلّها ". وزاد أبو داود : " فإذا فعلت هذا فقد تمتْ صلاتُك، وما انتقصت من هذا شيئا فإنما انتقصته من صلاتك " ٨.
وروى الخمسة أيضا عن عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب " ٩.
وروى الخمسة إلاّ البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من صلى صلا ة لم يقرأ فيها بأم الكتاب فهي خداج - ثلاثاً - غيرُ تمام. فقيل لأبي هريرة : إنما نكون وراء الإمام، فقال : اقرأ بها في نفسك ".
وروى الخمسة عن عبد الله قال : " كنا نقول في الصلاة خلف رسول الله : السلام على الله، السلام على فلان، فقال لنا رسول الله ذات يوم : إن الله هو السلام، فإذا قعد أحدكم في الصلاة فليقل : التحيات لله والصلوات والطيبات. السلام عليك أيها النبيُّ ورحمة الله وبركاته، السلامُ علينا وعلى عباد الله الصالحين، فإذا قالها أصابَتْ كلًّ عبد لله صالح في السماء والأرض. أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، ثم يَتخيَّرُ من المسألة ما يشاء ".
وروى الخمسة عن كعب بن عجرة قال : " كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في الصلاة : اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم، وبارك على محمد وآل محمد، كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم، إنك حميد مجيد ".
وروى الخمسة عن أن
١ - المكاء هو: التصفير، والتصدية هي: التصفيق على ما جاء في تفسير الزمخشري "الكشاف"..
٢ - ا بن هشام ج ١ ص ٢٢٩ وما بعدها، و"السيرة الحلبية" ج ١ ص ٢٦٣ وما بعدها..
٣ - ابن هشام جـ ١ ص ٢٤٤-٢٤٥..
٤ - "التاج الجامع"، جـ ١ ص ١٢٥ و١٢٦..
٥ - المصدر نفسه..
٦ - "التاج" جـ ١ ص ١١٧..
٧ - "التاج"، جـ ٤ ص ٢٢١، المقحمات: الذنوب العظيمة..
٨ - هذا الحديث وما نورده بعده من أحاديث منقولة من الجزء الأول من كتاب "التاج الجامع" انظر الصفحة ١١٧ وما بعدها..
٩ - هناك أحاديث' صحيحة عديدة تذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ بعد الفاتحة في الركعتين الأوليين من صلوات الظهر والعصر والمغرب والعشاء قرآنا غير الفاتحة..
التقوى : الاتقاء من عذاب الله بصالح العمل.
﴿ كَلَّا ١إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى٢ ( ٦ ) أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى٣( ٧ ) إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى( ٨ ) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى ( ٩ ) عَبْدًا إِذَا صَلَّى ( ١٠ ) أَرَأَيْتَ إِن كَانَ عَلَى الْهُدَ( ١١ ) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى ٤( ١٢ ) أَرَأَيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى ٥ ( ١٣ ) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى ( ١٤ ) كَلَّا لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعًا ٦ بِالنَّاصِيَةِ ٧ ( ١٥ ) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ( ١٦ ) فَلْيَدْعُ نَادِيَه ٨ ( ١٧ ) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ ٩ ( ١٨ ) كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ ١٠ وَاقْتَرِبْ١١ ( ١٩ ) ﴾ ( ٦-١٩ ).
تعليق على ما في الآيات
﴿ كلا إن الإنسان ليطغى( ٦ ) أن رآه استغنى( ٧ ) ﴾
من تلقين ثم من مدى ومغزى
في صدد أهداف الرسالة الإسلامية
وهذه الآيات بخاصة محل لتعليق آخر، من حيث إنها تجعل الطغيان نتيجة لكثرة المال والغنى. ولقد احتوت سور كثيرة مبكرة في النزول حملة على شدة حب المال، والحرص عليه، والتباهي به، واعتباره عنواناً للكرامة، وتنديداً بذلك، مثل سور القلم والمزمل والمدثر والمسد والفجر والعاديات والتكاثر والهمزة والبلد ممّا لم نر إيراده لأنه سوف يأتي بعد قليل.
ولقد احتوت هذه السور وسور أخرى مبكرة في النزول أيضا مثل الليل والأعلى والنجم فضلاً عن سور كثيرة أخرى نزلت في مختلف أدوار التنزيل حضاً على إطعام المساكين، والتصدّق على الفقراء، وتزكية المال، والإنفاق في سبيل الله. واحتوت في الوقت نفسه صوراً عديدة من مواقف الأغنياء المناوئة لنبوة النبي، ودعوته إلى جانب الزعماء ؛ حيث يبدو أن الأغنياء بدورهم رأوا في هذه النبوة والدعوة تهديداً لثرواتهم، فتضامنوا مع الزعماء في المناوأة منذ عهد مبكر جداً، واستحقوا وصف الطغيان الذي احتوته الآيات.
وبالإضافة إلى ما في هذا من تلقين جليل سلبي وإيجابي للمسلم فإنه ينطوي على مدى ومغزى عظيمين في صدد الرسالة الإسلامية التي يمثلها القرآن في الدرجة الأولى، وهما كون هذه الرسالة قد جاءت في جملة ما جاءت به للحدّ من جشع الإنسان للمال وتكالبه عليه، والدعوة إلى مساعدة المحتاجين إليه. وورود هذا في السور المبكرة في النزول يسبغ على ذلك المدى والمغزى خطورة خاصة، وقد استمر ذلك بأساليب متنوعة في سور كثيرة أخرى مما يزيد في قوة هذه الخطورة.
وهناك أحاديث كثيرة مأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم مع كل ذلك أيضاً شأنها مع كل المبادئ والتلقينات القرآنية سنوردها في مناسبات آتية أكثر ملاءمة.

في هذه الآيات :


١-
تقرير حقيقة في أخلاق البشر بوجه عام. وهي أن كثيراً منهم يتجاوزون الحد كبراً وبغياً حينما يشعرون في أنفسهم بالقوة، ويخيل إليهم أنهم في غنى عن غيرهم بكثرة مالهم، وقوة أنصارهم، وعصبيتهم وشخصيتهم، وأسلوب الآية التي ودرت فيها أسلوب تنديدي بهذا الخلق.

٢-
تذكير وإنذار بأن الناس راجعون إلى الله ومعروضون عليه.

٣-
تنديد بالذي يتعرض لعبد من عباد الله فينهاه عن الصلاة له مع أنه يسير على طريق الحق والهدى. ويدعو إلى تقوى الله ويذكّر به. وتنديد كذلك بالذي يكذب دعوة الله ويعرض عنها، وتذكير له في معرض الإنذار، وبأسلوب الاستفهام الإنكاري عما إذا لم يكن يعلم أن الله يراقبه ويحصى عليه آثامه ومواقفه.

٤-
تهديد وتحدّ وإنذار لهذا المكذب المتعرض المعرض بأسلوب قارع قاصم. فإذا لم ينتهِ عن موقفه الباغي فلسوف يسفعه الله بناصيته الكاذبة الخاطئة. وإذا دعا ناديه لنصرته، فسوف يدعو الله الزبانية الموكلين بالعذاب ليتولوا أمرهم.

٥-
تثبيت للنبي عليه السلام في دعوته، فلا محل للخوف من هذا المتعرض والاستجابة لما يقول والاهتمام به. وعليه أن يسجد لله ويتقرب إليه.
والآيات الثلاث الأولى تمهيد لما بعدها على ما هو المتبادر مما هو مستفيض في الأسلوب القرآني. والآيات التالية لها تتضمن مشهداً من مشاهد الدعوة النبوية في الخطوات الأولى حيث تفيد أن زعيماً طاغية تعرّض للنبي عليه السلام حينما رآه يصلي صلاة جديدة، ويدعو إلى الله وتقواه، فضلاً عن تكذيبه للدعوة وإعراضه عنها.
ولقد رويت بعض الأحاديث الصحيحة في مناسبة نزول هذه الآيات. منها حديث رواه الشيخان والترمذي عن ابن عباس قال :" قال أبو جهل : لئن رأيت محمدا يصلي عند الكعبة لأطأن على عنقه، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال : لو فعل لاتخذته الملائكة عياناً " ١. ومنها حديث رواه مسلم عن ابن عباس أيضا قال :" وقال أبو جهل : هل يعفر محمد وجهه بين أظهركم - يريد على ما يظهر هل يصلي ويسجد - قيل : نعم، فقال : واللات والعزى لئن رأيته يفعل ذلك لأطأن على رقبته. فأتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي فما فجئهم منه إلا وهو ينكُص على عقبيه، ويتقي بيديه، فقيل له : ما لك ؟ فقال : إن بيني وبينه لخندقا من نار وهوْلاً وأجنحة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضوا عضوا، فأنزل الله :﴿ كلا إن الإنسان ليطغى( ٦ ) ﴾ إلى آخر السورة " ٢.
ومنها حديث رواه الترمذي عن ابن عباس قال :" كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي فجاء أبو جهل فقال : ألم أنهك عن هذا ؟ ألم أنهك عن هذا ؟ فزبره النبي صلى الله عليه وسلم، فقال أبو جهل : إنك لتعلم ما بها ناد أكثر مني، فأنزل الله :﴿ فليدع ناديه ( ١٧ ) سندع الزبانية( ١٨ ) ﴾. قال ابن عباس :( فوالله لو دعا ناديه لأخذته زبانية الله )٣.
والحديث الأخير قد يفيد أن الآيات نزلت على دفعات. غير أن الذي نرجحه على ضوء الحديث الثاني أنها نزلت دفعة واحدة. ولا يمنع هذا أن يكون ما روي عن لسان أبي جهل مما ذكره الحديث الأخير صحيحاً من جملة ما قاله وفعله، وحاول أن يفعله فكان كل هذا مناسبة لنزول الآيات جميعها.
وتسمية ( أبي جهل ) تسمية إسلامية، واسم هذا الرجل هو عمرو بن هشام المخزومي وكنيته أبو الحكم. ولقد روى ابن هشام أن أبا سفيان وأبا جهل والأخنس بن شريق خرجوا ليلة ليسمعوا لرسول الله وهو يصلي في بيته فأخذ كل رجل منهم مجلساً يستمع فيه، وكل لا يعلم بمكان صاحبه، فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر تفرقوا فجمعهم الطريق فتلاوموا وقالوا لبعضهم : لا تعودوا فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئا، ثم انصرفوا غير أنهم عادوا ليلة ثانية، ثم ليلة ثالثة. وذهب الأخنس إلى أبي سفيان فقال له : ما رأيك يا أبا حنظلة فيما سمعت من محمد ؟ قال : والله لقد سمعت أشياء أعرفها، وأعرف ما يراد بها، وسمعت أشياء ما عرفت معناها وما يراد بها، فقال له : وأنا الذي حلفت به كذلك. ثم خرج حتى أتى أبا جهل فقال : ما رأيك فيما سمعت من محمد ؟ فقال : ما سمعت : تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف. أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تحاذينا على الركب، وكنا كفرسي رهان قالوا : منا نبي يأتيه الوحي من السماء، فمتى ندرك مثل هذه ؟ و الله لا نؤمن به أبداً ولا نصدقه٤ ؛ حيث يفيد هذا أن موقف أبي جهل كان متأثرا بالاعتبارات الشخصية والأسرية.
تعليق على كلمة ( التقوى )
وما ينطوي فيها من تلقين وأهداف جليلة
وبمناسبة ورود كلمة ( التقوى ) لأول مرة في السورة نقول : إن الأمر بالتقوى، والحثّ عليها، والتنويه بالمتقين، ووعد الله لهم بالغفران وتوسيع الرزق والهداية إلخ، قد تكرر في القرآن كثيرا حتى لقد بلغ عدد الآيات التي وردت فيها الكلمة ومشتقاتها نحو مائتين وخمسين مرة، مما يدل على مبلغ العناية القرآنية بذلك.
والكلمة في أصل معناها وقصدها التوقّي من غضب الله وسخطه باجتناب نواهيه واتباع أوامره. وهو لا يأمر إلا بما فيه خير للإنسان والإنسانية. ولا ينهى إلا عما فيه ضرر لهما. وبعبارة أخرى : إن المقصد أو الهدف المتوخى من الأمر بالتقوى والحثّ عليها هو إصلاح الإنسان، وتوجيه المسلم إلى كل ما فيه الخير، وإشعاره بالخوف من الله عز وجل، وجعله يتجنب كل ما فيه شر وضرر.
وفي القرآن آيات عديدة تضمنت تقرير الفوائد وجوب تلازم التقوى مع الإيمان مثل آيات سورة يونس هذه :﴿ أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ( ٦٢ ) الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ( ٦٣ ) ﴾ ( ٦٢-٦٣ )، وآية سورة الأعراف هذه :﴿ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ( ١٠٣ ) ﴾، وآية سورة المائدة هذه :﴿ لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ إِذَا مَا اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ( ٩٣ ) ﴾.
حيث يتضمن هذا تقرير كون الإيمان وحده لا يكفي لنجاة الإنسان إذا لم يرافقه عزم على اتباع أوامر الله، واجتناب نواهيه، وممارسته لذلك، أو بعبارة أخرى : تقرير كون الإيمان هو أمر في سريرة الإنسان لا دليل عليه إلاّ التقوى التي تحمل المؤمن على اتباع أوامر الله واجتناب نواهيه.
وفي القرآن آيات عديدة تضمنت تقرير الفوائد المتنوعة التي ييسرها الله للمتقين مثل آيات سورة الطلاق هذه :﴿ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا( ٢ ) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا( ٣ ) ﴾، وهذه :﴿ ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا( ٤ ) ﴾، وهذه :﴿ ومن يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجرا( ٥ ) ﴾، وآية سورة هود هذه :﴿ إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ( ٤٩ ) ﴾، وآية سورة الأنفال هذه :﴿ يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ( ٢٧ ) ﴾، وآية سورة الزمر هذه :﴿ قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ( ١٠ ) ﴾، وآية سورة الحديد هذه :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ( ٢٨ ) ﴾.
ويبدو هذا ظاهر الحكمة ؛ لأن المتقي يكون قد تجنب العثرات والمواقف الضارة المؤذية فأمن شرها وحظي بما يكون فيه الأمن والسلامة والنفع والخير والسداد والتوفيق والنجاح والنجاة في دنياه وأخراه ؛ ولهذا كله حثّ القرآن على التقوى، واعتبرها خير زاد يتزود بها المؤمن - والزاد لا بد منه لدوام الحياة مما يفهم ضرورته ذوو العقول النيرة - كما جاء في آية سورة البقرة هذه :﴿ وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب ﴾، ونبه على أن أولياء الله هم المتقون كما جاء في آيات سورة يونس ( ٦٢-٦٣ ) التي أوردناها قبل قليل. وقرر أن الله هو ولي المتقين كما جاء في آية سورة الجاثية هذه :﴿ وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض والله ولي المتقين( ١٩ ) ﴾، و﴿ إن أكرم الناس عند الله أتقاهم ﴾ كما جاء في آية سورة الحجرات : ١٣ وجعل قبول دعاء الداعين وعبادة العابدين منوطاً بالتقوى كما جاء في آية سورة المائدة هذه :﴿ قال إنما يتقبل الله من المتقين( ٢٧ ) ﴾، وكرر تقرير محبة الله للمتقين في آيات عديدة منها آية آل عمران هذه :﴿ بلى من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المتقين( ٧٦ ) ﴾ ١، وأنه مع الذين اتقوا كما جاء في سورة النحل :﴿ إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون( ١٢٨ ) ﴾، وأنه ينجي الذين اتقوا كما جاء في سورة الزمر هذه :﴿ وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم لا يسمهم السوء ولا هم يحزنون( ٦١ ) ﴾٢، وفي سورة البقرة آية فيها جماع الفضائل الإيمانية والأخلاقية والاجتماعية والإنسانية وصف المتصفون بها بالمتقين وهي :﴿ ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتي المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون( ١٧٧ ) ﴾.
حيث يبدو من كل ذلك كما قلنا عناية الله الجليلة وحكمة التنزيل السامية بإصلاح المسلم، وتوجيهه إلى أحسن الوجهات التي فيها خيره وخير الإنسانية، وسعادته في الدنيا والآخرة.
١ - لهذه الآيات أمثال أخرى فاكتفينا بمثل واحد..
٢ - المصدر نفسه..
تولّى : ذهب دون أن يصغي للدعوة ويهتم لها.
﴿ كَلَّا ١إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى٢ ( ٦ ) أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى٣( ٧ ) إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى( ٨ ) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى ( ٩ ) عَبْدًا إِذَا صَلَّى ( ١٠ ) أَرَأَيْتَ إِن كَانَ عَلَى الْهُدَ( ١١ ) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى ٤( ١٢ ) أَرَأَيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى ٥ ( ١٣ ) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى ( ١٤ ) كَلَّا لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعًا ٦ بِالنَّاصِيَةِ ٧ ( ١٥ ) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ( ١٦ ) فَلْيَدْعُ نَادِيَه ٨ ( ١٧ ) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ ٩ ( ١٨ ) كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ ١٠ وَاقْتَرِبْ١١ ( ١٩ ) ﴾ ( ٦-١٩ ).
تعليق على ما في الآيات
﴿ كلا إن الإنسان ليطغى( ٦ ) أن رآه استغنى( ٧ ) ﴾
من تلقين ثم من مدى ومغزى
في صدد أهداف الرسالة الإسلامية
وهذه الآيات بخاصة محل لتعليق آخر، من حيث إنها تجعل الطغيان نتيجة لكثرة المال والغنى. ولقد احتوت سور كثيرة مبكرة في النزول حملة على شدة حب المال، والحرص عليه، والتباهي به، واعتباره عنواناً للكرامة، وتنديداً بذلك، مثل سور القلم والمزمل والمدثر والمسد والفجر والعاديات والتكاثر والهمزة والبلد ممّا لم نر إيراده لأنه سوف يأتي بعد قليل.
ولقد احتوت هذه السور وسور أخرى مبكرة في النزول أيضا مثل الليل والأعلى والنجم فضلاً عن سور كثيرة أخرى نزلت في مختلف أدوار التنزيل حضاً على إطعام المساكين، والتصدّق على الفقراء، وتزكية المال، والإنفاق في سبيل الله. واحتوت في الوقت نفسه صوراً عديدة من مواقف الأغنياء المناوئة لنبوة النبي، ودعوته إلى جانب الزعماء ؛ حيث يبدو أن الأغنياء بدورهم رأوا في هذه النبوة والدعوة تهديداً لثرواتهم، فتضامنوا مع الزعماء في المناوأة منذ عهد مبكر جداً، واستحقوا وصف الطغيان الذي احتوته الآيات.
وبالإضافة إلى ما في هذا من تلقين جليل سلبي وإيجابي للمسلم فإنه ينطوي على مدى ومغزى عظيمين في صدد الرسالة الإسلامية التي يمثلها القرآن في الدرجة الأولى، وهما كون هذه الرسالة قد جاءت في جملة ما جاءت به للحدّ من جشع الإنسان للمال وتكالبه عليه، والدعوة إلى مساعدة المحتاجين إليه. وورود هذا في السور المبكرة في النزول يسبغ على ذلك المدى والمغزى خطورة خاصة، وقد استمر ذلك بأساليب متنوعة في سور كثيرة أخرى مما يزيد في قوة هذه الخطورة.
وهناك أحاديث كثيرة مأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم مع كل ذلك أيضاً شأنها مع كل المبادئ والتلقينات القرآنية سنوردها في مناسبات آتية أكثر ملاءمة.

في هذه الآيات :


١-
تقرير حقيقة في أخلاق البشر بوجه عام. وهي أن كثيراً منهم يتجاوزون الحد كبراً وبغياً حينما يشعرون في أنفسهم بالقوة، ويخيل إليهم أنهم في غنى عن غيرهم بكثرة مالهم، وقوة أنصارهم، وعصبيتهم وشخصيتهم، وأسلوب الآية التي ودرت فيها أسلوب تنديدي بهذا الخلق.

٢-
تذكير وإنذار بأن الناس راجعون إلى الله ومعروضون عليه.

٣-
تنديد بالذي يتعرض لعبد من عباد الله فينهاه عن الصلاة له مع أنه يسير على طريق الحق والهدى. ويدعو إلى تقوى الله ويذكّر به. وتنديد كذلك بالذي يكذب دعوة الله ويعرض عنها، وتذكير له في معرض الإنذار، وبأسلوب الاستفهام الإنكاري عما إذا لم يكن يعلم أن الله يراقبه ويحصى عليه آثامه ومواقفه.

٤-
تهديد وتحدّ وإنذار لهذا المكذب المتعرض المعرض بأسلوب قارع قاصم. فإذا لم ينتهِ عن موقفه الباغي فلسوف يسفعه الله بناصيته الكاذبة الخاطئة. وإذا دعا ناديه لنصرته، فسوف يدعو الله الزبانية الموكلين بالعذاب ليتولوا أمرهم.

٥-
تثبيت للنبي عليه السلام في دعوته، فلا محل للخوف من هذا المتعرض والاستجابة لما يقول والاهتمام به. وعليه أن يسجد لله ويتقرب إليه.
والآيات الثلاث الأولى تمهيد لما بعدها على ما هو المتبادر مما هو مستفيض في الأسلوب القرآني. والآيات التالية لها تتضمن مشهداً من مشاهد الدعوة النبوية في الخطوات الأولى حيث تفيد أن زعيماً طاغية تعرّض للنبي عليه السلام حينما رآه يصلي صلاة جديدة، ويدعو إلى الله وتقواه، فضلاً عن تكذيبه للدعوة وإعراضه عنها.
ولقد رويت بعض الأحاديث الصحيحة في مناسبة نزول هذه الآيات. منها حديث رواه الشيخان والترمذي عن ابن عباس قال :" قال أبو جهل : لئن رأيت محمدا يصلي عند الكعبة لأطأن على عنقه، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال : لو فعل لاتخذته الملائكة عياناً " ١. ومنها حديث رواه مسلم عن ابن عباس أيضا قال :" وقال أبو جهل : هل يعفر محمد وجهه بين أظهركم - يريد على ما يظهر هل يصلي ويسجد - قيل : نعم، فقال : واللات والعزى لئن رأيته يفعل ذلك لأطأن على رقبته. فأتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي فما فجئهم منه إلا وهو ينكُص على عقبيه، ويتقي بيديه، فقيل له : ما لك ؟ فقال : إن بيني وبينه لخندقا من نار وهوْلاً وأجنحة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضوا عضوا، فأنزل الله :﴿ كلا إن الإنسان ليطغى( ٦ ) ﴾ إلى آخر السورة " ٢.
ومنها حديث رواه الترمذي عن ابن عباس قال :" كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي فجاء أبو جهل فقال : ألم أنهك عن هذا ؟ ألم أنهك عن هذا ؟ فزبره النبي صلى الله عليه وسلم، فقال أبو جهل : إنك لتعلم ما بها ناد أكثر مني، فأنزل الله :﴿ فليدع ناديه ( ١٧ ) سندع الزبانية( ١٨ ) ﴾. قال ابن عباس :( فوالله لو دعا ناديه لأخذته زبانية الله )٣.
والحديث الأخير قد يفيد أن الآيات نزلت على دفعات. غير أن الذي نرجحه على ضوء الحديث الثاني أنها نزلت دفعة واحدة. ولا يمنع هذا أن يكون ما روي عن لسان أبي جهل مما ذكره الحديث الأخير صحيحاً من جملة ما قاله وفعله، وحاول أن يفعله فكان كل هذا مناسبة لنزول الآيات جميعها.
وتسمية ( أبي جهل ) تسمية إسلامية، واسم هذا الرجل هو عمرو بن هشام المخزومي وكنيته أبو الحكم. ولقد روى ابن هشام أن أبا سفيان وأبا جهل والأخنس بن شريق خرجوا ليلة ليسمعوا لرسول الله وهو يصلي في بيته فأخذ كل رجل منهم مجلساً يستمع فيه، وكل لا يعلم بمكان صاحبه، فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر تفرقوا فجمعهم الطريق فتلاوموا وقالوا لبعضهم : لا تعودوا فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئا، ثم انصرفوا غير أنهم عادوا ليلة ثانية، ثم ليلة ثالثة. وذهب الأخنس إلى أبي سفيان فقال له : ما رأيك يا أبا حنظلة فيما سمعت من محمد ؟ قال : والله لقد سمعت أشياء أعرفها، وأعرف ما يراد بها، وسمعت أشياء ما عرفت معناها وما يراد بها، فقال له : وأنا الذي حلفت به كذلك. ثم خرج حتى أتى أبا جهل فقال : ما رأيك فيما سمعت من محمد ؟ فقال : ما سمعت : تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف. أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تحاذينا على الركب، وكنا كفرسي رهان قالوا : منا نبي يأتيه الوحي من السماء، فمتى ندرك مثل هذه ؟ و الله لا نؤمن به أبداً ولا نصدقه٤ ؛ حيث يفيد هذا أن موقف أبي جهل كان متأثرا بالاعتبارات الشخصية والأسرية.
﴿ كَلَّا ١إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى٢ ( ٦ ) أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى٣( ٧ ) إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى( ٨ ) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى ( ٩ ) عَبْدًا إِذَا صَلَّى ( ١٠ ) أَرَأَيْتَ إِن كَانَ عَلَى الْهُدَ( ١١ ) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى ٤( ١٢ ) أَرَأَيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى ٥ ( ١٣ ) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى ( ١٤ ) كَلَّا لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعًا ٦ بِالنَّاصِيَةِ ٧ ( ١٥ ) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ( ١٦ ) فَلْيَدْعُ نَادِيَه ٨ ( ١٧ ) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ ٩ ( ١٨ ) كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ ١٠ وَاقْتَرِبْ١١ ( ١٩ ) ﴾ ( ٦-١٩ ).
تعليق على ما في الآيات
﴿ كلا إن الإنسان ليطغى( ٦ ) أن رآه استغنى( ٧ ) ﴾
من تلقين ثم من مدى ومغزى
في صدد أهداف الرسالة الإسلامية
وهذه الآيات بخاصة محل لتعليق آخر، من حيث إنها تجعل الطغيان نتيجة لكثرة المال والغنى. ولقد احتوت سور كثيرة مبكرة في النزول حملة على شدة حب المال، والحرص عليه، والتباهي به، واعتباره عنواناً للكرامة، وتنديداً بذلك، مثل سور القلم والمزمل والمدثر والمسد والفجر والعاديات والتكاثر والهمزة والبلد ممّا لم نر إيراده لأنه سوف يأتي بعد قليل.
ولقد احتوت هذه السور وسور أخرى مبكرة في النزول أيضا مثل الليل والأعلى والنجم فضلاً عن سور كثيرة أخرى نزلت في مختلف أدوار التنزيل حضاً على إطعام المساكين، والتصدّق على الفقراء، وتزكية المال، والإنفاق في سبيل الله. واحتوت في الوقت نفسه صوراً عديدة من مواقف الأغنياء المناوئة لنبوة النبي، ودعوته إلى جانب الزعماء ؛ حيث يبدو أن الأغنياء بدورهم رأوا في هذه النبوة والدعوة تهديداً لثرواتهم، فتضامنوا مع الزعماء في المناوأة منذ عهد مبكر جداً، واستحقوا وصف الطغيان الذي احتوته الآيات.
وبالإضافة إلى ما في هذا من تلقين جليل سلبي وإيجابي للمسلم فإنه ينطوي على مدى ومغزى عظيمين في صدد الرسالة الإسلامية التي يمثلها القرآن في الدرجة الأولى، وهما كون هذه الرسالة قد جاءت في جملة ما جاءت به للحدّ من جشع الإنسان للمال وتكالبه عليه، والدعوة إلى مساعدة المحتاجين إليه. وورود هذا في السور المبكرة في النزول يسبغ على ذلك المدى والمغزى خطورة خاصة، وقد استمر ذلك بأساليب متنوعة في سور كثيرة أخرى مما يزيد في قوة هذه الخطورة.
وهناك أحاديث كثيرة مأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم مع كل ذلك أيضاً شأنها مع كل المبادئ والتلقينات القرآنية سنوردها في مناسبات آتية أكثر ملاءمة.

في هذه الآيات :


١-
تقرير حقيقة في أخلاق البشر بوجه عام. وهي أن كثيراً منهم يتجاوزون الحد كبراً وبغياً حينما يشعرون في أنفسهم بالقوة، ويخيل إليهم أنهم في غنى عن غيرهم بكثرة مالهم، وقوة أنصارهم، وعصبيتهم وشخصيتهم، وأسلوب الآية التي ودرت فيها أسلوب تنديدي بهذا الخلق.

٢-
تذكير وإنذار بأن الناس راجعون إلى الله ومعروضون عليه.

٣-
تنديد بالذي يتعرض لعبد من عباد الله فينهاه عن الصلاة له مع أنه يسير على طريق الحق والهدى. ويدعو إلى تقوى الله ويذكّر به. وتنديد كذلك بالذي يكذب دعوة الله ويعرض عنها، وتذكير له في معرض الإنذار، وبأسلوب الاستفهام الإنكاري عما إذا لم يكن يعلم أن الله يراقبه ويحصى عليه آثامه ومواقفه.

٤-
تهديد وتحدّ وإنذار لهذا المكذب المتعرض المعرض بأسلوب قارع قاصم. فإذا لم ينتهِ عن موقفه الباغي فلسوف يسفعه الله بناصيته الكاذبة الخاطئة. وإذا دعا ناديه لنصرته، فسوف يدعو الله الزبانية الموكلين بالعذاب ليتولوا أمرهم.

٥-
تثبيت للنبي عليه السلام في دعوته، فلا محل للخوف من هذا المتعرض والاستجابة لما يقول والاهتمام به. وعليه أن يسجد لله ويتقرب إليه.
والآيات الثلاث الأولى تمهيد لما بعدها على ما هو المتبادر مما هو مستفيض في الأسلوب القرآني. والآيات التالية لها تتضمن مشهداً من مشاهد الدعوة النبوية في الخطوات الأولى حيث تفيد أن زعيماً طاغية تعرّض للنبي عليه السلام حينما رآه يصلي صلاة جديدة، ويدعو إلى الله وتقواه، فضلاً عن تكذيبه للدعوة وإعراضه عنها.
ولقد رويت بعض الأحاديث الصحيحة في مناسبة نزول هذه الآيات. منها حديث رواه الشيخان والترمذي عن ابن عباس قال :" قال أبو جهل : لئن رأيت محمدا يصلي عند الكعبة لأطأن على عنقه، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال : لو فعل لاتخذته الملائكة عياناً " ١. ومنها حديث رواه مسلم عن ابن عباس أيضا قال :" وقال أبو جهل : هل يعفر محمد وجهه بين أظهركم - يريد على ما يظهر هل يصلي ويسجد - قيل : نعم، فقال : واللات والعزى لئن رأيته يفعل ذلك لأطأن على رقبته. فأتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي فما فجئهم منه إلا وهو ينكُص على عقبيه، ويتقي بيديه، فقيل له : ما لك ؟ فقال : إن بيني وبينه لخندقا من نار وهوْلاً وأجنحة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضوا عضوا، فأنزل الله :﴿ كلا إن الإنسان ليطغى( ٦ ) ﴾ إلى آخر السورة " ٢.
ومنها حديث رواه الترمذي عن ابن عباس قال :" كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي فجاء أبو جهل فقال : ألم أنهك عن هذا ؟ ألم أنهك عن هذا ؟ فزبره النبي صلى الله عليه وسلم، فقال أبو جهل : إنك لتعلم ما بها ناد أكثر مني، فأنزل الله :﴿ فليدع ناديه ( ١٧ ) سندع الزبانية( ١٨ ) ﴾. قال ابن عباس :( فوالله لو دعا ناديه لأخذته زبانية الله )٣.
والحديث الأخير قد يفيد أن الآيات نزلت على دفعات. غير أن الذي نرجحه على ضوء الحديث الثاني أنها نزلت دفعة واحدة. ولا يمنع هذا أن يكون ما روي عن لسان أبي جهل مما ذكره الحديث الأخير صحيحاً من جملة ما قاله وفعله، وحاول أن يفعله فكان كل هذا مناسبة لنزول الآيات جميعها.
وتسمية ( أبي جهل ) تسمية إسلامية، واسم هذا الرجل هو عمرو بن هشام المخزومي وكنيته أبو الحكم. ولقد روى ابن هشام أن أبا سفيان وأبا جهل والأخنس بن شريق خرجوا ليلة ليسمعوا لرسول الله وهو يصلي في بيته فأخذ كل رجل منهم مجلساً يستمع فيه، وكل لا يعلم بمكان صاحبه، فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر تفرقوا فجمعهم الطريق فتلاوموا وقالوا لبعضهم : لا تعودوا فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئا، ثم انصرفوا غير أنهم عادوا ليلة ثانية، ثم ليلة ثالثة. وذهب الأخنس إلى أبي سفيان فقال له : ما رأيك يا أبا حنظلة فيما سمعت من محمد ؟ قال : والله لقد سمعت أشياء أعرفها، وأعرف ما يراد بها، وسمعت أشياء ما عرفت معناها وما يراد بها، فقال له : وأنا الذي حلفت به كذلك. ثم خرج حتى أتى أبا جهل فقال : ما رأيك فيما سمعت من محمد ؟ فقال : ما سمعت : تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف. أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تحاذينا على الركب، وكنا كفرسي رهان قالوا : منا نبي يأتيه الوحي من السماء، فمتى ندرك مثل هذه ؟ و الله لا نؤمن به أبداً ولا نصدقه٤ ؛ حيث يفيد هذا أن موقف أبي جهل كان متأثرا بالاعتبارات الشخصية والأسرية.
تعليق على آية
﴿ ألم يعلم بأن الله يرى ﴾
وبمناسبة ورود هذه الآية لأول مرة نقول : إن القرآن احتوى آيات كثيرة، نسبت فيها الرؤية والسمع إلى الله تعالى، وإنه دار جدل وتشاد بين علماء الكلام حول ذلك من حيث إنه إنما يحدث من أعضاء السمع والبصر، وما إذا كان لله سبحانه مثل هذه الأعضاء أم لا. وخير المذاهب في هذا الموضوع وأمثاله هو مذهب الصدر الإسلامي الأول، وهو عدم الخوض في الكيفيات، وعدم التشاد والجدل حولها، مع تنزيه الله سبحانه عن كل مماثلة لخلقه، وملاحظة الضابط القرآني المحكم المنطوي في آية سورة الشورى، وهو :﴿ ليس كمثله شيء ﴾ ( ١١ )، واعتبار أن المقصود بذلك وصف الله عز وجل بشمول العلم، والإحاطة بكل شيء، والقدرة على كل شيء، والهيمنة الكاملة على الكون وما فيه من كائنات، والتصرف المطلق فيه، واتصافه بكل صفات الكمال. والمتدبر في نصف آية الشورى المذكورة والآية التالية لها يرى تأييد هذا قويا، وهذا نص الآيتين :﴿ فاطر السموات والأرض جعل لكم من أنفسكم أزواجاً ومن الأنعام أزواجاً يذرؤكم فيه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ( ١١ ) له مقاليد السموات والأرض يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إنه بكل شيء عليم( ١٢ ) ﴾.
السفع : الأخذ أو الجذب بقوة، واللطم بشدة.
الناصية : مقدم الوجه أو شعر الجبهة.
﴿ كَلَّا ١إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى٢ ( ٦ ) أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى٣( ٧ ) إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى( ٨ ) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى ( ٩ ) عَبْدًا إِذَا صَلَّى ( ١٠ ) أَرَأَيْتَ إِن كَانَ عَلَى الْهُدَ( ١١ ) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى ٤( ١٢ ) أَرَأَيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى ٥ ( ١٣ ) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى ( ١٤ ) كَلَّا لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعًا ٦ بِالنَّاصِيَةِ ٧ ( ١٥ ) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ( ١٦ ) فَلْيَدْعُ نَادِيَه ٨ ( ١٧ ) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ ٩ ( ١٨ ) كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ ١٠ وَاقْتَرِبْ١١ ( ١٩ ) ﴾ ( ٦-١٩ ).
تعليق على ما في الآيات
﴿ كلا إن الإنسان ليطغى( ٦ ) أن رآه استغنى( ٧ ) ﴾
من تلقين ثم من مدى ومغزى
في صدد أهداف الرسالة الإسلامية
وهذه الآيات بخاصة محل لتعليق آخر، من حيث إنها تجعل الطغيان نتيجة لكثرة المال والغنى. ولقد احتوت سور كثيرة مبكرة في النزول حملة على شدة حب المال، والحرص عليه، والتباهي به، واعتباره عنواناً للكرامة، وتنديداً بذلك، مثل سور القلم والمزمل والمدثر والمسد والفجر والعاديات والتكاثر والهمزة والبلد ممّا لم نر إيراده لأنه سوف يأتي بعد قليل.
ولقد احتوت هذه السور وسور أخرى مبكرة في النزول أيضا مثل الليل والأعلى والنجم فضلاً عن سور كثيرة أخرى نزلت في مختلف أدوار التنزيل حضاً على إطعام المساكين، والتصدّق على الفقراء، وتزكية المال، والإنفاق في سبيل الله. واحتوت في الوقت نفسه صوراً عديدة من مواقف الأغنياء المناوئة لنبوة النبي، ودعوته إلى جانب الزعماء ؛ حيث يبدو أن الأغنياء بدورهم رأوا في هذه النبوة والدعوة تهديداً لثرواتهم، فتضامنوا مع الزعماء في المناوأة منذ عهد مبكر جداً، واستحقوا وصف الطغيان الذي احتوته الآيات.
وبالإضافة إلى ما في هذا من تلقين جليل سلبي وإيجابي للمسلم فإنه ينطوي على مدى ومغزى عظيمين في صدد الرسالة الإسلامية التي يمثلها القرآن في الدرجة الأولى، وهما كون هذه الرسالة قد جاءت في جملة ما جاءت به للحدّ من جشع الإنسان للمال وتكالبه عليه، والدعوة إلى مساعدة المحتاجين إليه. وورود هذا في السور المبكرة في النزول يسبغ على ذلك المدى والمغزى خطورة خاصة، وقد استمر ذلك بأساليب متنوعة في سور كثيرة أخرى مما يزيد في قوة هذه الخطورة.
وهناك أحاديث كثيرة مأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم مع كل ذلك أيضاً شأنها مع كل المبادئ والتلقينات القرآنية سنوردها في مناسبات آتية أكثر ملاءمة.

في هذه الآيات :


١-
تقرير حقيقة في أخلاق البشر بوجه عام. وهي أن كثيراً منهم يتجاوزون الحد كبراً وبغياً حينما يشعرون في أنفسهم بالقوة، ويخيل إليهم أنهم في غنى عن غيرهم بكثرة مالهم، وقوة أنصارهم، وعصبيتهم وشخصيتهم، وأسلوب الآية التي ودرت فيها أسلوب تنديدي بهذا الخلق.

٢-
تذكير وإنذار بأن الناس راجعون إلى الله ومعروضون عليه.

٣-
تنديد بالذي يتعرض لعبد من عباد الله فينهاه عن الصلاة له مع أنه يسير على طريق الحق والهدى. ويدعو إلى تقوى الله ويذكّر به. وتنديد كذلك بالذي يكذب دعوة الله ويعرض عنها، وتذكير له في معرض الإنذار، وبأسلوب الاستفهام الإنكاري عما إذا لم يكن يعلم أن الله يراقبه ويحصى عليه آثامه ومواقفه.

٤-
تهديد وتحدّ وإنذار لهذا المكذب المتعرض المعرض بأسلوب قارع قاصم. فإذا لم ينتهِ عن موقفه الباغي فلسوف يسفعه الله بناصيته الكاذبة الخاطئة. وإذا دعا ناديه لنصرته، فسوف يدعو الله الزبانية الموكلين بالعذاب ليتولوا أمرهم.

٥-
تثبيت للنبي عليه السلام في دعوته، فلا محل للخوف من هذا المتعرض والاستجابة لما يقول والاهتمام به. وعليه أن يسجد لله ويتقرب إليه.
والآيات الثلاث الأولى تمهيد لما بعدها على ما هو المتبادر مما هو مستفيض في الأسلوب القرآني. والآيات التالية لها تتضمن مشهداً من مشاهد الدعوة النبوية في الخطوات الأولى حيث تفيد أن زعيماً طاغية تعرّض للنبي عليه السلام حينما رآه يصلي صلاة جديدة، ويدعو إلى الله وتقواه، فضلاً عن تكذيبه للدعوة وإعراضه عنها.
ولقد رويت بعض الأحاديث الصحيحة في مناسبة نزول هذه الآيات. منها حديث رواه الشيخان والترمذي عن ابن عباس قال :" قال أبو جهل : لئن رأيت محمدا يصلي عند الكعبة لأطأن على عنقه، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال : لو فعل لاتخذته الملائكة عياناً " ١. ومنها حديث رواه مسلم عن ابن عباس أيضا قال :" وقال أبو جهل : هل يعفر محمد وجهه بين أظهركم - يريد على ما يظهر هل يصلي ويسجد - قيل : نعم، فقال : واللات والعزى لئن رأيته يفعل ذلك لأطأن على رقبته. فأتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي فما فجئهم منه إلا وهو ينكُص على عقبيه، ويتقي بيديه، فقيل له : ما لك ؟ فقال : إن بيني وبينه لخندقا من نار وهوْلاً وأجنحة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضوا عضوا، فأنزل الله :﴿ كلا إن الإنسان ليطغى( ٦ ) ﴾ إلى آخر السورة " ٢.
ومنها حديث رواه الترمذي عن ابن عباس قال :" كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي فجاء أبو جهل فقال : ألم أنهك عن هذا ؟ ألم أنهك عن هذا ؟ فزبره النبي صلى الله عليه وسلم، فقال أبو جهل : إنك لتعلم ما بها ناد أكثر مني، فأنزل الله :﴿ فليدع ناديه ( ١٧ ) سندع الزبانية( ١٨ ) ﴾. قال ابن عباس :( فوالله لو دعا ناديه لأخذته زبانية الله )٣.
والحديث الأخير قد يفيد أن الآيات نزلت على دفعات. غير أن الذي نرجحه على ضوء الحديث الثاني أنها نزلت دفعة واحدة. ولا يمنع هذا أن يكون ما روي عن لسان أبي جهل مما ذكره الحديث الأخير صحيحاً من جملة ما قاله وفعله، وحاول أن يفعله فكان كل هذا مناسبة لنزول الآيات جميعها.
وتسمية ( أبي جهل ) تسمية إسلامية، واسم هذا الرجل هو عمرو بن هشام المخزومي وكنيته أبو الحكم. ولقد روى ابن هشام أن أبا سفيان وأبا جهل والأخنس بن شريق خرجوا ليلة ليسمعوا لرسول الله وهو يصلي في بيته فأخذ كل رجل منهم مجلساً يستمع فيه، وكل لا يعلم بمكان صاحبه، فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر تفرقوا فجمعهم الطريق فتلاوموا وقالوا لبعضهم : لا تعودوا فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئا، ثم انصرفوا غير أنهم عادوا ليلة ثانية، ثم ليلة ثالثة. وذهب الأخنس إلى أبي سفيان فقال له : ما رأيك يا أبا حنظلة فيما سمعت من محمد ؟ قال : والله لقد سمعت أشياء أعرفها، وأعرف ما يراد بها، وسمعت أشياء ما عرفت معناها وما يراد بها، فقال له : وأنا الذي حلفت به كذلك. ثم خرج حتى أتى أبا جهل فقال : ما رأيك فيما سمعت من محمد ؟ فقال : ما سمعت : تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف. أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تحاذينا على الركب، وكنا كفرسي رهان قالوا : منا نبي يأتيه الوحي من السماء، فمتى ندرك مثل هذه ؟ و الله لا نؤمن به أبداً ولا نصدقه٤ ؛ حيث يفيد هذا أن موقف أبي جهل كان متأثرا بالاعتبارات الشخصية والأسرية.
تعليق على مدى جملة :
﴿ كلا لئن لم ينته لنسفعا بالناصية ﴾
وما بعدها
وجملة :﴿ كلا لئن لم ينته لنسفعا بالناصية ﴾ وما بعدها، تفتح الباب للكافر والمجرم والمنحرف للتراجع والأمل بعفو الله ومغفرته على سابق أفعاله. وتجعل العقوبة المنذر بها مستحقة عليه إذا أصرّ على كفره وإجرامه وانحرافه ولم يتراجع عنه.
ولقد انطوى هذا المعنى في آيات كثيرة جداً مكية ومدنية كثرة تغني عن التمثيل. بحيث يقال : إن الإنذارات القرآنية إنما استهدفت في الدرجة الأولى تنبيه الكفار والمنحرفين والمجرمين وردعهم، وصلاحهم، وحملهم على التراجع، والانتهاء من كفرهم وانحرافهم وإجرامهم. وفي هذا ما فيه من روعة وحكمة سامية، وتلقين مستمر المدى.
﴿ كَلَّا ١إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى٢ ( ٦ ) أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى٣( ٧ ) إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى( ٨ ) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى ( ٩ ) عَبْدًا إِذَا صَلَّى ( ١٠ ) أَرَأَيْتَ إِن كَانَ عَلَى الْهُدَ( ١١ ) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى ٤( ١٢ ) أَرَأَيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى ٥ ( ١٣ ) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى ( ١٤ ) كَلَّا لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعًا ٦ بِالنَّاصِيَةِ ٧ ( ١٥ ) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ( ١٦ ) فَلْيَدْعُ نَادِيَه ٨ ( ١٧ ) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ ٩ ( ١٨ ) كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ ١٠ وَاقْتَرِبْ١١ ( ١٩ ) ﴾ ( ٦-١٩ ).
تعليق على ما في الآيات
﴿ كلا إن الإنسان ليطغى( ٦ ) أن رآه استغنى( ٧ ) ﴾
من تلقين ثم من مدى ومغزى
في صدد أهداف الرسالة الإسلامية
وهذه الآيات بخاصة محل لتعليق آخر، من حيث إنها تجعل الطغيان نتيجة لكثرة المال والغنى. ولقد احتوت سور كثيرة مبكرة في النزول حملة على شدة حب المال، والحرص عليه، والتباهي به، واعتباره عنواناً للكرامة، وتنديداً بذلك، مثل سور القلم والمزمل والمدثر والمسد والفجر والعاديات والتكاثر والهمزة والبلد ممّا لم نر إيراده لأنه سوف يأتي بعد قليل.
ولقد احتوت هذه السور وسور أخرى مبكرة في النزول أيضا مثل الليل والأعلى والنجم فضلاً عن سور كثيرة أخرى نزلت في مختلف أدوار التنزيل حضاً على إطعام المساكين، والتصدّق على الفقراء، وتزكية المال، والإنفاق في سبيل الله. واحتوت في الوقت نفسه صوراً عديدة من مواقف الأغنياء المناوئة لنبوة النبي، ودعوته إلى جانب الزعماء ؛ حيث يبدو أن الأغنياء بدورهم رأوا في هذه النبوة والدعوة تهديداً لثرواتهم، فتضامنوا مع الزعماء في المناوأة منذ عهد مبكر جداً، واستحقوا وصف الطغيان الذي احتوته الآيات.
وبالإضافة إلى ما في هذا من تلقين جليل سلبي وإيجابي للمسلم فإنه ينطوي على مدى ومغزى عظيمين في صدد الرسالة الإسلامية التي يمثلها القرآن في الدرجة الأولى، وهما كون هذه الرسالة قد جاءت في جملة ما جاءت به للحدّ من جشع الإنسان للمال وتكالبه عليه، والدعوة إلى مساعدة المحتاجين إليه. وورود هذا في السور المبكرة في النزول يسبغ على ذلك المدى والمغزى خطورة خاصة، وقد استمر ذلك بأساليب متنوعة في سور كثيرة أخرى مما يزيد في قوة هذه الخطورة.
وهناك أحاديث كثيرة مأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم مع كل ذلك أيضاً شأنها مع كل المبادئ والتلقينات القرآنية سنوردها في مناسبات آتية أكثر ملاءمة.

في هذه الآيات :


١-
تقرير حقيقة في أخلاق البشر بوجه عام. وهي أن كثيراً منهم يتجاوزون الحد كبراً وبغياً حينما يشعرون في أنفسهم بالقوة، ويخيل إليهم أنهم في غنى عن غيرهم بكثرة مالهم، وقوة أنصارهم، وعصبيتهم وشخصيتهم، وأسلوب الآية التي ودرت فيها أسلوب تنديدي بهذا الخلق.

٢-
تذكير وإنذار بأن الناس راجعون إلى الله ومعروضون عليه.

٣-
تنديد بالذي يتعرض لعبد من عباد الله فينهاه عن الصلاة له مع أنه يسير على طريق الحق والهدى. ويدعو إلى تقوى الله ويذكّر به. وتنديد كذلك بالذي يكذب دعوة الله ويعرض عنها، وتذكير له في معرض الإنذار، وبأسلوب الاستفهام الإنكاري عما إذا لم يكن يعلم أن الله يراقبه ويحصى عليه آثامه ومواقفه.

٤-
تهديد وتحدّ وإنذار لهذا المكذب المتعرض المعرض بأسلوب قارع قاصم. فإذا لم ينتهِ عن موقفه الباغي فلسوف يسفعه الله بناصيته الكاذبة الخاطئة. وإذا دعا ناديه لنصرته، فسوف يدعو الله الزبانية الموكلين بالعذاب ليتولوا أمرهم.

٥-
تثبيت للنبي عليه السلام في دعوته، فلا محل للخوف من هذا المتعرض والاستجابة لما يقول والاهتمام به. وعليه أن يسجد لله ويتقرب إليه.
والآيات الثلاث الأولى تمهيد لما بعدها على ما هو المتبادر مما هو مستفيض في الأسلوب القرآني. والآيات التالية لها تتضمن مشهداً من مشاهد الدعوة النبوية في الخطوات الأولى حيث تفيد أن زعيماً طاغية تعرّض للنبي عليه السلام حينما رآه يصلي صلاة جديدة، ويدعو إلى الله وتقواه، فضلاً عن تكذيبه للدعوة وإعراضه عنها.
ولقد رويت بعض الأحاديث الصحيحة في مناسبة نزول هذه الآيات. منها حديث رواه الشيخان والترمذي عن ابن عباس قال :" قال أبو جهل : لئن رأيت محمدا يصلي عند الكعبة لأطأن على عنقه، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال : لو فعل لاتخذته الملائكة عياناً " ١. ومنها حديث رواه مسلم عن ابن عباس أيضا قال :" وقال أبو جهل : هل يعفر محمد وجهه بين أظهركم - يريد على ما يظهر هل يصلي ويسجد - قيل : نعم، فقال : واللات والعزى لئن رأيته يفعل ذلك لأطأن على رقبته. فأتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي فما فجئهم منه إلا وهو ينكُص على عقبيه، ويتقي بيديه، فقيل له : ما لك ؟ فقال : إن بيني وبينه لخندقا من نار وهوْلاً وأجنحة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضوا عضوا، فأنزل الله :﴿ كلا إن الإنسان ليطغى( ٦ ) ﴾ إلى آخر السورة " ٢.
ومنها حديث رواه الترمذي عن ابن عباس قال :" كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي فجاء أبو جهل فقال : ألم أنهك عن هذا ؟ ألم أنهك عن هذا ؟ فزبره النبي صلى الله عليه وسلم، فقال أبو جهل : إنك لتعلم ما بها ناد أكثر مني، فأنزل الله :﴿ فليدع ناديه ( ١٧ ) سندع الزبانية( ١٨ ) ﴾. قال ابن عباس :( فوالله لو دعا ناديه لأخذته زبانية الله )٣.
والحديث الأخير قد يفيد أن الآيات نزلت على دفعات. غير أن الذي نرجحه على ضوء الحديث الثاني أنها نزلت دفعة واحدة. ولا يمنع هذا أن يكون ما روي عن لسان أبي جهل مما ذكره الحديث الأخير صحيحاً من جملة ما قاله وفعله، وحاول أن يفعله فكان كل هذا مناسبة لنزول الآيات جميعها.
وتسمية ( أبي جهل ) تسمية إسلامية، واسم هذا الرجل هو عمرو بن هشام المخزومي وكنيته أبو الحكم. ولقد روى ابن هشام أن أبا سفيان وأبا جهل والأخنس بن شريق خرجوا ليلة ليسمعوا لرسول الله وهو يصلي في بيته فأخذ كل رجل منهم مجلساً يستمع فيه، وكل لا يعلم بمكان صاحبه، فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر تفرقوا فجمعهم الطريق فتلاوموا وقالوا لبعضهم : لا تعودوا فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئا، ثم انصرفوا غير أنهم عادوا ليلة ثانية، ثم ليلة ثالثة. وذهب الأخنس إلى أبي سفيان فقال له : ما رأيك يا أبا حنظلة فيما سمعت من محمد ؟ قال : والله لقد سمعت أشياء أعرفها، وأعرف ما يراد بها، وسمعت أشياء ما عرفت معناها وما يراد بها، فقال له : وأنا الذي حلفت به كذلك. ثم خرج حتى أتى أبا جهل فقال : ما رأيك فيما سمعت من محمد ؟ فقال : ما سمعت : تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف. أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تحاذينا على الركب، وكنا كفرسي رهان قالوا : منا نبي يأتيه الوحي من السماء، فمتى ندرك مثل هذه ؟ و الله لا نؤمن به أبداً ولا نصدقه٤ ؛ حيث يفيد هذا أن موقف أبي جهل كان متأثرا بالاعتبارات الشخصية والأسرية.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:موقف الزعامة من النبي
وموقف النبي منها منذ البدء
وفي الآيات وبخاصة في الآيات ( ١٥-١٩ ) تطمين وتثبيت للنبي صلى الله عليه وسلم إزاء تعرض الزعيم الطاغية كما هو واضح، وقد ثبت فيه بدون ريب الطمأنينة والقوة والعزم على متابعة مهمته العظمى. ومما لا ريب فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قد تلا الآيات حتى وصلت إلى مسامع الطاغية، بل من المحتمل القوي أن يكون قذف بها في وجهه مباشرة.
وإذ يتصور المرء النبي صلى الله عليه وسلم يصرخ في وجه هذا الطاغية المعتدّ بماله وقوته وناديه صرخته المدوية ترداداً لوحي الله : كلا كلا، ثم يقذف بكلمات التنديد والتهديد والتحدي والإنذار القرآنية غير مبال بالزعامة وقوتها وهو من دون نصير من الناس، ولم يكن قد آمن به من يستطيع له نصراً ويقف في جانبه، يدرك من دون ريب تلك الشجاعة التي كان يتحلى بها، والتي استمدها من إيمان عميق مستول على مشاعره جعله لا يرى عظمة إلا لله، ولا قوة إلا لله، ولا سلطانا إلا لله، وجعله يرى كل ما عداه أضعف من أن يخشى، وأعجز من أن يستطيع له نفعاً أو ضراً، أو يقف أمام دين الله ويحول دون الدعوة إليه. ويدرك بهذا ما تحلى به من عظمة الخلق، وقوة الجنان، وعمق اليقين، مما كان موضوع ثناء الله في آية القلم :﴿ وإنك لعلى خلق عظيم ( ٤ ) ﴾.
وفي كل هذا أسوة يجب على المسلمين أن يتأسوا بها وبخاصة الدعاة إلى الإصلاح والمتعرضين للظلم والطغيان ؛ لأن الله سبحانه أمرهم بأن يكون لهم في رسوله الأسوة الحسنة كما جاء في آية سورة الأحزاب هذه :﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا( ٢١ ) ﴾.
ويتبادر من عنف الآيات وقوتها القارعة أن الحكمة الربانية اقتضت أن يكون الرد على أول متصدّ للنبي صلى الله عليه وسلم من الزعماء الأقوياء بهذا الأسلوب لتثبيت النبي وأصحابه القلائل الذين آمنوا به، ومواجهة الزعيم القوي بقوة وعنف يصدمانه على غير توقع. ولا شك في أن النبي صلى الله عليه وسلم قد تلا الآيات على أصحابه، فقوّت من روحهم، وزادتهم إيماناً، ووصلت إلى صاحبها وناديه فصعقتهم بعنفها، وجعلتهم يشعرون بالقوة الروحية التي يستمد منها النبي، وازداد النبي بهذا وذاك قوة وعزماً على الاستمرار في مهمته، غير مبال بالزعيم القوي وناديه.
على أن جملة :﴿ فليدع ناديه ﴾ تسوغ القول أن أبا جهل لم يكن وحيداً في موقفه من النبي صلى الله عليه وسلم، وهو ما تدل عليه الآيات التي نزلت بعد هذه الآيات في مناسبات عديدة مبكرة.
وليس بعيداً أن يكون تعبير " ناديه " قد عنى دار الندوة التي كان يجتمع فيها أهل الحلّ والعقد في مكة الذين هم رؤساء الأسر القرشية البارزة، وقد كانت هذه الدار قرب الكعبة، فإذا صح ّهذا فإن من السائغ أن يقال : إن السلطات الرسمية قد رأت في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم علناً بصلاة جديدة لا عهد للناس بها، وفي دعوته الناس جهاراً إلى دين يخالف ما عليه الناس بدعة، ورأت وجوب الوقوف في وجهها، وأنها عمدت إلى أحد أعضائها بتنفيذ ذلك، أو أن هذا العضو كان أشدّ حماساً ضدها من غيره فكان هو المتصدي.
وهكذا ينطوي في الآيات المبكرة جدا في النزول أولى صورة من صور مواقف زعماء مكة الشديدة المناوأة التي تكررت واستمرت إلى أن تم الفتح المكي. وأولى صورة من صور الردّ القرآني المبلغ للرسول والمعلن للناس من قبله على هذه المواقف التي تكررت وحكاها القرآن المكي في مختلف أدوار التنزيل. وفي الرد القرآني المنطوي في آيات السورة تعليل لهذا الموقف وقد انطوى في الردود القرآنية مثل هذا التعليل أو ما يقاربه. وهو على الأكثر الاستكبار ومكر السيء والاستهتار والاعتداد بالمال والولد والحرص على التقاليد التي كانوا يستمدون منها قوة وجاهاً والحسد والاعتبارات الشخصية والأسرية. ومن ذلك آيات سورة فاطر هذه :﴿ وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءهُمْ نَذِيرٌ لَّيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا( ٤٢ ) اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ ﴾، وآيات سورة الزخرف هذه :﴿ وَلَمَّا جَاءهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ( ٣٠ ) وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ( ٣١ ) ﴾، وآيات سورة ص هذه :﴿ وَعَجِبُوا أَن جَاءهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَابٌ( ٤ ) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ( ٥ )وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ( ٦ ) مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ( ٧ ) أَأُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِن بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّن ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ( ٨ ) ﴾ ( ٤-٨ ).
وقد يعني هذا أن الزعماء الذين كان أكثرهم أغنياء وأولو عصبية في الوقت نفسه قد رأوا في الدعوة النبوية تحديا لهم وتهديداً لمركزهم وثرواتهم، فانبروا إلى مناوأتها من أول أيامها، وأدى ذلك إلى نضال طويل مرير مختلف الصور والأشكال بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم مما شغلت حكايته وصوره حيزاً كبيراً من القرآن، وبخاصة المكي منه على ما سوف يأتي متوالياً.

﴿ كَلَّا ١إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى٢ ( ٦ ) أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى٣( ٧ ) إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى( ٨ ) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى ( ٩ ) عَبْدًا إِذَا صَلَّى ( ١٠ ) أَرَأَيْتَ إِن كَانَ عَلَى الْهُدَ( ١١ ) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى ٤( ١٢ ) أَرَأَيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى ٥ ( ١٣ ) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى ( ١٤ ) كَلَّا لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعًا ٦ بِالنَّاصِيَةِ ٧ ( ١٥ ) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ( ١٦ ) فَلْيَدْعُ نَادِيَه ٨ ( ١٧ ) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ ٩ ( ١٨ ) كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ ١٠ وَاقْتَرِبْ١١ ( ١٩ ) ﴾ ( ٦-١٩ ).
تعليق على ما في الآيات
﴿ كلا إن الإنسان ليطغى( ٦ ) أن رآه استغنى( ٧ ) ﴾
من تلقين ثم من مدى ومغزى
في صدد أهداف الرسالة الإسلامية
وهذه الآيات بخاصة محل لتعليق آخر، من حيث إنها تجعل الطغيان نتيجة لكثرة المال والغنى. ولقد احتوت سور كثيرة مبكرة في النزول حملة على شدة حب المال، والحرص عليه، والتباهي به، واعتباره عنواناً للكرامة، وتنديداً بذلك، مثل سور القلم والمزمل والمدثر والمسد والفجر والعاديات والتكاثر والهمزة والبلد ممّا لم نر إيراده لأنه سوف يأتي بعد قليل.
ولقد احتوت هذه السور وسور أخرى مبكرة في النزول أيضا مثل الليل والأعلى والنجم فضلاً عن سور كثيرة أخرى نزلت في مختلف أدوار التنزيل حضاً على إطعام المساكين، والتصدّق على الفقراء، وتزكية المال، والإنفاق في سبيل الله. واحتوت في الوقت نفسه صوراً عديدة من مواقف الأغنياء المناوئة لنبوة النبي، ودعوته إلى جانب الزعماء ؛ حيث يبدو أن الأغنياء بدورهم رأوا في هذه النبوة والدعوة تهديداً لثرواتهم، فتضامنوا مع الزعماء في المناوأة منذ عهد مبكر جداً، واستحقوا وصف الطغيان الذي احتوته الآيات.
وبالإضافة إلى ما في هذا من تلقين جليل سلبي وإيجابي للمسلم فإنه ينطوي على مدى ومغزى عظيمين في صدد الرسالة الإسلامية التي يمثلها القرآن في الدرجة الأولى، وهما كون هذه الرسالة قد جاءت في جملة ما جاءت به للحدّ من جشع الإنسان للمال وتكالبه عليه، والدعوة إلى مساعدة المحتاجين إليه. وورود هذا في السور المبكرة في النزول يسبغ على ذلك المدى والمغزى خطورة خاصة، وقد استمر ذلك بأساليب متنوعة في سور كثيرة أخرى مما يزيد في قوة هذه الخطورة.
وهناك أحاديث كثيرة مأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم مع كل ذلك أيضاً شأنها مع كل المبادئ والتلقينات القرآنية سنوردها في مناسبات آتية أكثر ملاءمة.

في هذه الآيات :


١-
تقرير حقيقة في أخلاق البشر بوجه عام. وهي أن كثيراً منهم يتجاوزون الحد كبراً وبغياً حينما يشعرون في أنفسهم بالقوة، ويخيل إليهم أنهم في غنى عن غيرهم بكثرة مالهم، وقوة أنصارهم، وعصبيتهم وشخصيتهم، وأسلوب الآية التي ودرت فيها أسلوب تنديدي بهذا الخلق.

٢-
تذكير وإنذار بأن الناس راجعون إلى الله ومعروضون عليه.

٣-
تنديد بالذي يتعرض لعبد من عباد الله فينهاه عن الصلاة له مع أنه يسير على طريق الحق والهدى. ويدعو إلى تقوى الله ويذكّر به. وتنديد كذلك بالذي يكذب دعوة الله ويعرض عنها، وتذكير له في معرض الإنذار، وبأسلوب الاستفهام الإنكاري عما إذا لم يكن يعلم أن الله يراقبه ويحصى عليه آثامه ومواقفه.

٤-
تهديد وتحدّ وإنذار لهذا المكذب المتعرض المعرض بأسلوب قارع قاصم. فإذا لم ينتهِ عن موقفه الباغي فلسوف يسفعه الله بناصيته الكاذبة الخاطئة. وإذا دعا ناديه لنصرته، فسوف يدعو الله الزبانية الموكلين بالعذاب ليتولوا أمرهم.

٥-
تثبيت للنبي عليه السلام في دعوته، فلا محل للخوف من هذا المتعرض والاستجابة لما يقول والاهتمام به. وعليه أن يسجد لله ويتقرب إليه.
والآيات الثلاث الأولى تمهيد لما بعدها على ما هو المتبادر مما هو مستفيض في الأسلوب القرآني. والآيات التالية لها تتضمن مشهداً من مشاهد الدعوة النبوية في الخطوات الأولى حيث تفيد أن زعيماً طاغية تعرّض للنبي عليه السلام حينما رآه يصلي صلاة جديدة، ويدعو إلى الله وتقواه، فضلاً عن تكذيبه للدعوة وإعراضه عنها.
ولقد رويت بعض الأحاديث الصحيحة في مناسبة نزول هذه الآيات. منها حديث رواه الشيخان والترمذي عن ابن عباس قال :" قال أبو جهل : لئن رأيت محمدا يصلي عند الكعبة لأطأن على عنقه، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال : لو فعل لاتخذته الملائكة عياناً " ١. ومنها حديث رواه مسلم عن ابن عباس أيضا قال :" وقال أبو جهل : هل يعفر محمد وجهه بين أظهركم - يريد على ما يظهر هل يصلي ويسجد - قيل : نعم، فقال : واللات والعزى لئن رأيته يفعل ذلك لأطأن على رقبته. فأتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي فما فجئهم منه إلا وهو ينكُص على عقبيه، ويتقي بيديه، فقيل له : ما لك ؟ فقال : إن بيني وبينه لخندقا من نار وهوْلاً وأجنحة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضوا عضوا، فأنزل الله :﴿ كلا إن الإنسان ليطغى( ٦ ) ﴾ إلى آخر السورة " ٢.
ومنها حديث رواه الترمذي عن ابن عباس قال :" كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي فجاء أبو جهل فقال : ألم أنهك عن هذا ؟ ألم أنهك عن هذا ؟ فزبره النبي صلى الله عليه وسلم، فقال أبو جهل : إنك لتعلم ما بها ناد أكثر مني، فأنزل الله :﴿ فليدع ناديه ( ١٧ ) سندع الزبانية( ١٨ ) ﴾. قال ابن عباس :( فوالله لو دعا ناديه لأخذته زبانية الله )٣.
والحديث الأخير قد يفيد أن الآيات نزلت على دفعات. غير أن الذي نرجحه على ضوء الحديث الثاني أنها نزلت دفعة واحدة. ولا يمنع هذا أن يكون ما روي عن لسان أبي جهل مما ذكره الحديث الأخير صحيحاً من جملة ما قاله وفعله، وحاول أن يفعله فكان كل هذا مناسبة لنزول الآيات جميعها.
وتسمية ( أبي جهل ) تسمية إسلامية، واسم هذا الرجل هو عمرو بن هشام المخزومي وكنيته أبو الحكم. ولقد روى ابن هشام أن أبا سفيان وأبا جهل والأخنس بن شريق خرجوا ليلة ليسمعوا لرسول الله وهو يصلي في بيته فأخذ كل رجل منهم مجلساً يستمع فيه، وكل لا يعلم بمكان صاحبه، فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر تفرقوا فجمعهم الطريق فتلاوموا وقالوا لبعضهم : لا تعودوا فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئا، ثم انصرفوا غير أنهم عادوا ليلة ثانية، ثم ليلة ثالثة. وذهب الأخنس إلى أبي سفيان فقال له : ما رأيك يا أبا حنظلة فيما سمعت من محمد ؟ قال : والله لقد سمعت أشياء أعرفها، وأعرف ما يراد بها، وسمعت أشياء ما عرفت معناها وما يراد بها، فقال له : وأنا الذي حلفت به كذلك. ثم خرج حتى أتى أبا جهل فقال : ما رأيك فيما سمعت من محمد ؟ فقال : ما سمعت : تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف. أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تحاذينا على الركب، وكنا كفرسي رهان قالوا : منا نبي يأتيه الوحي من السماء، فمتى ندرك مثل هذه ؟ و الله لا نؤمن به أبداً ولا نصدقه٤ ؛ حيث يفيد هذا أن موقف أبي جهل كان متأثرا بالاعتبارات الشخصية والأسرية.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:موقف الزعامة من النبي
وموقف النبي منها منذ البدء
وفي الآيات وبخاصة في الآيات ( ١٥-١٩ ) تطمين وتثبيت للنبي صلى الله عليه وسلم إزاء تعرض الزعيم الطاغية كما هو واضح، وقد ثبت فيه بدون ريب الطمأنينة والقوة والعزم على متابعة مهمته العظمى. ومما لا ريب فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قد تلا الآيات حتى وصلت إلى مسامع الطاغية، بل من المحتمل القوي أن يكون قذف بها في وجهه مباشرة.
وإذ يتصور المرء النبي صلى الله عليه وسلم يصرخ في وجه هذا الطاغية المعتدّ بماله وقوته وناديه صرخته المدوية ترداداً لوحي الله : كلا كلا، ثم يقذف بكلمات التنديد والتهديد والتحدي والإنذار القرآنية غير مبال بالزعامة وقوتها وهو من دون نصير من الناس، ولم يكن قد آمن به من يستطيع له نصراً ويقف في جانبه، يدرك من دون ريب تلك الشجاعة التي كان يتحلى بها، والتي استمدها من إيمان عميق مستول على مشاعره جعله لا يرى عظمة إلا لله، ولا قوة إلا لله، ولا سلطانا إلا لله، وجعله يرى كل ما عداه أضعف من أن يخشى، وأعجز من أن يستطيع له نفعاً أو ضراً، أو يقف أمام دين الله ويحول دون الدعوة إليه. ويدرك بهذا ما تحلى به من عظمة الخلق، وقوة الجنان، وعمق اليقين، مما كان موضوع ثناء الله في آية القلم :﴿ وإنك لعلى خلق عظيم ( ٤ ) ﴾.
وفي كل هذا أسوة يجب على المسلمين أن يتأسوا بها وبخاصة الدعاة إلى الإصلاح والمتعرضين للظلم والطغيان ؛ لأن الله سبحانه أمرهم بأن يكون لهم في رسوله الأسوة الحسنة كما جاء في آية سورة الأحزاب هذه :﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا( ٢١ ) ﴾.
ويتبادر من عنف الآيات وقوتها القارعة أن الحكمة الربانية اقتضت أن يكون الرد على أول متصدّ للنبي صلى الله عليه وسلم من الزعماء الأقوياء بهذا الأسلوب لتثبيت النبي وأصحابه القلائل الذين آمنوا به، ومواجهة الزعيم القوي بقوة وعنف يصدمانه على غير توقع. ولا شك في أن النبي صلى الله عليه وسلم قد تلا الآيات على أصحابه، فقوّت من روحهم، وزادتهم إيماناً، ووصلت إلى صاحبها وناديه فصعقتهم بعنفها، وجعلتهم يشعرون بالقوة الروحية التي يستمد منها النبي، وازداد النبي بهذا وذاك قوة وعزماً على الاستمرار في مهمته، غير مبال بالزعيم القوي وناديه.
على أن جملة :﴿ فليدع ناديه ﴾ تسوغ القول أن أبا جهل لم يكن وحيداً في موقفه من النبي صلى الله عليه وسلم، وهو ما تدل عليه الآيات التي نزلت بعد هذه الآيات في مناسبات عديدة مبكرة.
وليس بعيداً أن يكون تعبير " ناديه " قد عنى دار الندوة التي كان يجتمع فيها أهل الحلّ والعقد في مكة الذين هم رؤساء الأسر القرشية البارزة، وقد كانت هذه الدار قرب الكعبة، فإذا صح ّهذا فإن من السائغ أن يقال : إن السلطات الرسمية قد رأت في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم علناً بصلاة جديدة لا عهد للناس بها، وفي دعوته الناس جهاراً إلى دين يخالف ما عليه الناس بدعة، ورأت وجوب الوقوف في وجهها، وأنها عمدت إلى أحد أعضائها بتنفيذ ذلك، أو أن هذا العضو كان أشدّ حماساً ضدها من غيره فكان هو المتصدي.
وهكذا ينطوي في الآيات المبكرة جدا في النزول أولى صورة من صور مواقف زعماء مكة الشديدة المناوأة التي تكررت واستمرت إلى أن تم الفتح المكي. وأولى صورة من صور الردّ القرآني المبلغ للرسول والمعلن للناس من قبله على هذه المواقف التي تكررت وحكاها القرآن المكي في مختلف أدوار التنزيل. وفي الرد القرآني المنطوي في آيات السورة تعليل لهذا الموقف وقد انطوى في الردود القرآنية مثل هذا التعليل أو ما يقاربه. وهو على الأكثر الاستكبار ومكر السيء والاستهتار والاعتداد بالمال والولد والحرص على التقاليد التي كانوا يستمدون منها قوة وجاهاً والحسد والاعتبارات الشخصية والأسرية. ومن ذلك آيات سورة فاطر هذه :﴿ وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءهُمْ نَذِيرٌ لَّيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا( ٤٢ ) اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ ﴾، وآيات سورة الزخرف هذه :﴿ وَلَمَّا جَاءهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ( ٣٠ ) وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ( ٣١ ) ﴾، وآيات سورة ص هذه :﴿ وَعَجِبُوا أَن جَاءهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَابٌ( ٤ ) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ( ٥ )وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ( ٦ ) مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ( ٧ ) أَأُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِن بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّن ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ( ٨ ) ﴾ ( ٤-٨ ).
وقد يعني هذا أن الزعماء الذين كان أكثرهم أغنياء وأولو عصبية في الوقت نفسه قد رأوا في الدعوة النبوية تحديا لهم وتهديداً لمركزهم وثرواتهم، فانبروا إلى مناوأتها من أول أيامها، وأدى ذلك إلى نضال طويل مرير مختلف الصور والأشكال بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم مما شغلت حكايته وصوره حيزاً كبيراً من القرآن، وبخاصة المكي منه على ما سوف يأتي متوالياً.

ناديه : النادي : مجلس القوم، والمقصود أهل المجلس.
﴿ كَلَّا ١إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى٢ ( ٦ ) أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى٣( ٧ ) إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى( ٨ ) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى ( ٩ ) عَبْدًا إِذَا صَلَّى ( ١٠ ) أَرَأَيْتَ إِن كَانَ عَلَى الْهُدَ( ١١ ) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى ٤( ١٢ ) أَرَأَيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى ٥ ( ١٣ ) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى ( ١٤ ) كَلَّا لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعًا ٦ بِالنَّاصِيَةِ ٧ ( ١٥ ) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ( ١٦ ) فَلْيَدْعُ نَادِيَه ٨ ( ١٧ ) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ ٩ ( ١٨ ) كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ ١٠ وَاقْتَرِبْ١١ ( ١٩ ) ﴾ ( ٦-١٩ ).
تعليق على ما في الآيات
﴿ كلا إن الإنسان ليطغى( ٦ ) أن رآه استغنى( ٧ ) ﴾
من تلقين ثم من مدى ومغزى
في صدد أهداف الرسالة الإسلامية
وهذه الآيات بخاصة محل لتعليق آخر، من حيث إنها تجعل الطغيان نتيجة لكثرة المال والغنى. ولقد احتوت سور كثيرة مبكرة في النزول حملة على شدة حب المال، والحرص عليه، والتباهي به، واعتباره عنواناً للكرامة، وتنديداً بذلك، مثل سور القلم والمزمل والمدثر والمسد والفجر والعاديات والتكاثر والهمزة والبلد ممّا لم نر إيراده لأنه سوف يأتي بعد قليل.
ولقد احتوت هذه السور وسور أخرى مبكرة في النزول أيضا مثل الليل والأعلى والنجم فضلاً عن سور كثيرة أخرى نزلت في مختلف أدوار التنزيل حضاً على إطعام المساكين، والتصدّق على الفقراء، وتزكية المال، والإنفاق في سبيل الله. واحتوت في الوقت نفسه صوراً عديدة من مواقف الأغنياء المناوئة لنبوة النبي، ودعوته إلى جانب الزعماء ؛ حيث يبدو أن الأغنياء بدورهم رأوا في هذه النبوة والدعوة تهديداً لثرواتهم، فتضامنوا مع الزعماء في المناوأة منذ عهد مبكر جداً، واستحقوا وصف الطغيان الذي احتوته الآيات.
وبالإضافة إلى ما في هذا من تلقين جليل سلبي وإيجابي للمسلم فإنه ينطوي على مدى ومغزى عظيمين في صدد الرسالة الإسلامية التي يمثلها القرآن في الدرجة الأولى، وهما كون هذه الرسالة قد جاءت في جملة ما جاءت به للحدّ من جشع الإنسان للمال وتكالبه عليه، والدعوة إلى مساعدة المحتاجين إليه. وورود هذا في السور المبكرة في النزول يسبغ على ذلك المدى والمغزى خطورة خاصة، وقد استمر ذلك بأساليب متنوعة في سور كثيرة أخرى مما يزيد في قوة هذه الخطورة.
وهناك أحاديث كثيرة مأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم مع كل ذلك أيضاً شأنها مع كل المبادئ والتلقينات القرآنية سنوردها في مناسبات آتية أكثر ملاءمة.

في هذه الآيات :


١-
تقرير حقيقة في أخلاق البشر بوجه عام. وهي أن كثيراً منهم يتجاوزون الحد كبراً وبغياً حينما يشعرون في أنفسهم بالقوة، ويخيل إليهم أنهم في غنى عن غيرهم بكثرة مالهم، وقوة أنصارهم، وعصبيتهم وشخصيتهم، وأسلوب الآية التي ودرت فيها أسلوب تنديدي بهذا الخلق.

٢-
تذكير وإنذار بأن الناس راجعون إلى الله ومعروضون عليه.

٣-
تنديد بالذي يتعرض لعبد من عباد الله فينهاه عن الصلاة له مع أنه يسير على طريق الحق والهدى. ويدعو إلى تقوى الله ويذكّر به. وتنديد كذلك بالذي يكذب دعوة الله ويعرض عنها، وتذكير له في معرض الإنذار، وبأسلوب الاستفهام الإنكاري عما إذا لم يكن يعلم أن الله يراقبه ويحصى عليه آثامه ومواقفه.

٤-
تهديد وتحدّ وإنذار لهذا المكذب المتعرض المعرض بأسلوب قارع قاصم. فإذا لم ينتهِ عن موقفه الباغي فلسوف يسفعه الله بناصيته الكاذبة الخاطئة. وإذا دعا ناديه لنصرته، فسوف يدعو الله الزبانية الموكلين بالعذاب ليتولوا أمرهم.

٥-
تثبيت للنبي عليه السلام في دعوته، فلا محل للخوف من هذا المتعرض والاستجابة لما يقول والاهتمام به. وعليه أن يسجد لله ويتقرب إليه.
والآيات الثلاث الأولى تمهيد لما بعدها على ما هو المتبادر مما هو مستفيض في الأسلوب القرآني. والآيات التالية لها تتضمن مشهداً من مشاهد الدعوة النبوية في الخطوات الأولى حيث تفيد أن زعيماً طاغية تعرّض للنبي عليه السلام حينما رآه يصلي صلاة جديدة، ويدعو إلى الله وتقواه، فضلاً عن تكذيبه للدعوة وإعراضه عنها.
ولقد رويت بعض الأحاديث الصحيحة في مناسبة نزول هذه الآيات. منها حديث رواه الشيخان والترمذي عن ابن عباس قال :" قال أبو جهل : لئن رأيت محمدا يصلي عند الكعبة لأطأن على عنقه، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال : لو فعل لاتخذته الملائكة عياناً " ١. ومنها حديث رواه مسلم عن ابن عباس أيضا قال :" وقال أبو جهل : هل يعفر محمد وجهه بين أظهركم - يريد على ما يظهر هل يصلي ويسجد - قيل : نعم، فقال : واللات والعزى لئن رأيته يفعل ذلك لأطأن على رقبته. فأتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي فما فجئهم منه إلا وهو ينكُص على عقبيه، ويتقي بيديه، فقيل له : ما لك ؟ فقال : إن بيني وبينه لخندقا من نار وهوْلاً وأجنحة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضوا عضوا، فأنزل الله :﴿ كلا إن الإنسان ليطغى( ٦ ) ﴾ إلى آخر السورة " ٢.
ومنها حديث رواه الترمذي عن ابن عباس قال :" كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي فجاء أبو جهل فقال : ألم أنهك عن هذا ؟ ألم أنهك عن هذا ؟ فزبره النبي صلى الله عليه وسلم، فقال أبو جهل : إنك لتعلم ما بها ناد أكثر مني، فأنزل الله :﴿ فليدع ناديه ( ١٧ ) سندع الزبانية( ١٨ ) ﴾. قال ابن عباس :( فوالله لو دعا ناديه لأخذته زبانية الله )٣.
والحديث الأخير قد يفيد أن الآيات نزلت على دفعات. غير أن الذي نرجحه على ضوء الحديث الثاني أنها نزلت دفعة واحدة. ولا يمنع هذا أن يكون ما روي عن لسان أبي جهل مما ذكره الحديث الأخير صحيحاً من جملة ما قاله وفعله، وحاول أن يفعله فكان كل هذا مناسبة لنزول الآيات جميعها.
وتسمية ( أبي جهل ) تسمية إسلامية، واسم هذا الرجل هو عمرو بن هشام المخزومي وكنيته أبو الحكم. ولقد روى ابن هشام أن أبا سفيان وأبا جهل والأخنس بن شريق خرجوا ليلة ليسمعوا لرسول الله وهو يصلي في بيته فأخذ كل رجل منهم مجلساً يستمع فيه، وكل لا يعلم بمكان صاحبه، فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر تفرقوا فجمعهم الطريق فتلاوموا وقالوا لبعضهم : لا تعودوا فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئا، ثم انصرفوا غير أنهم عادوا ليلة ثانية، ثم ليلة ثالثة. وذهب الأخنس إلى أبي سفيان فقال له : ما رأيك يا أبا حنظلة فيما سمعت من محمد ؟ قال : والله لقد سمعت أشياء أعرفها، وأعرف ما يراد بها، وسمعت أشياء ما عرفت معناها وما يراد بها، فقال له : وأنا الذي حلفت به كذلك. ثم خرج حتى أتى أبا جهل فقال : ما رأيك فيما سمعت من محمد ؟ فقال : ما سمعت : تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف. أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تحاذينا على الركب، وكنا كفرسي رهان قالوا : منا نبي يأتيه الوحي من السماء، فمتى ندرك مثل هذه ؟ و الله لا نؤمن به أبداً ولا نصدقه٤ ؛ حيث يفيد هذا أن موقف أبي جهل كان متأثرا بالاعتبارات الشخصية والأسرية.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:موقف الزعامة من النبي
وموقف النبي منها منذ البدء
وفي الآيات وبخاصة في الآيات ( ١٥-١٩ ) تطمين وتثبيت للنبي صلى الله عليه وسلم إزاء تعرض الزعيم الطاغية كما هو واضح، وقد ثبت فيه بدون ريب الطمأنينة والقوة والعزم على متابعة مهمته العظمى. ومما لا ريب فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قد تلا الآيات حتى وصلت إلى مسامع الطاغية، بل من المحتمل القوي أن يكون قذف بها في وجهه مباشرة.
وإذ يتصور المرء النبي صلى الله عليه وسلم يصرخ في وجه هذا الطاغية المعتدّ بماله وقوته وناديه صرخته المدوية ترداداً لوحي الله : كلا كلا، ثم يقذف بكلمات التنديد والتهديد والتحدي والإنذار القرآنية غير مبال بالزعامة وقوتها وهو من دون نصير من الناس، ولم يكن قد آمن به من يستطيع له نصراً ويقف في جانبه، يدرك من دون ريب تلك الشجاعة التي كان يتحلى بها، والتي استمدها من إيمان عميق مستول على مشاعره جعله لا يرى عظمة إلا لله، ولا قوة إلا لله، ولا سلطانا إلا لله، وجعله يرى كل ما عداه أضعف من أن يخشى، وأعجز من أن يستطيع له نفعاً أو ضراً، أو يقف أمام دين الله ويحول دون الدعوة إليه. ويدرك بهذا ما تحلى به من عظمة الخلق، وقوة الجنان، وعمق اليقين، مما كان موضوع ثناء الله في آية القلم :﴿ وإنك لعلى خلق عظيم ( ٤ ) ﴾.
وفي كل هذا أسوة يجب على المسلمين أن يتأسوا بها وبخاصة الدعاة إلى الإصلاح والمتعرضين للظلم والطغيان ؛ لأن الله سبحانه أمرهم بأن يكون لهم في رسوله الأسوة الحسنة كما جاء في آية سورة الأحزاب هذه :﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا( ٢١ ) ﴾.
ويتبادر من عنف الآيات وقوتها القارعة أن الحكمة الربانية اقتضت أن يكون الرد على أول متصدّ للنبي صلى الله عليه وسلم من الزعماء الأقوياء بهذا الأسلوب لتثبيت النبي وأصحابه القلائل الذين آمنوا به، ومواجهة الزعيم القوي بقوة وعنف يصدمانه على غير توقع. ولا شك في أن النبي صلى الله عليه وسلم قد تلا الآيات على أصحابه، فقوّت من روحهم، وزادتهم إيماناً، ووصلت إلى صاحبها وناديه فصعقتهم بعنفها، وجعلتهم يشعرون بالقوة الروحية التي يستمد منها النبي، وازداد النبي بهذا وذاك قوة وعزماً على الاستمرار في مهمته، غير مبال بالزعيم القوي وناديه.
على أن جملة :﴿ فليدع ناديه ﴾ تسوغ القول أن أبا جهل لم يكن وحيداً في موقفه من النبي صلى الله عليه وسلم، وهو ما تدل عليه الآيات التي نزلت بعد هذه الآيات في مناسبات عديدة مبكرة.
وليس بعيداً أن يكون تعبير " ناديه " قد عنى دار الندوة التي كان يجتمع فيها أهل الحلّ والعقد في مكة الذين هم رؤساء الأسر القرشية البارزة، وقد كانت هذه الدار قرب الكعبة، فإذا صح ّهذا فإن من السائغ أن يقال : إن السلطات الرسمية قد رأت في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم علناً بصلاة جديدة لا عهد للناس بها، وفي دعوته الناس جهاراً إلى دين يخالف ما عليه الناس بدعة، ورأت وجوب الوقوف في وجهها، وأنها عمدت إلى أحد أعضائها بتنفيذ ذلك، أو أن هذا العضو كان أشدّ حماساً ضدها من غيره فكان هو المتصدي.
وهكذا ينطوي في الآيات المبكرة جدا في النزول أولى صورة من صور مواقف زعماء مكة الشديدة المناوأة التي تكررت واستمرت إلى أن تم الفتح المكي. وأولى صورة من صور الردّ القرآني المبلغ للرسول والمعلن للناس من قبله على هذه المواقف التي تكررت وحكاها القرآن المكي في مختلف أدوار التنزيل. وفي الرد القرآني المنطوي في آيات السورة تعليل لهذا الموقف وقد انطوى في الردود القرآنية مثل هذا التعليل أو ما يقاربه. وهو على الأكثر الاستكبار ومكر السيء والاستهتار والاعتداد بالمال والولد والحرص على التقاليد التي كانوا يستمدون منها قوة وجاهاً والحسد والاعتبارات الشخصية والأسرية. ومن ذلك آيات سورة فاطر هذه :﴿ وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءهُمْ نَذِيرٌ لَّيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا( ٤٢ ) اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ ﴾، وآيات سورة الزخرف هذه :﴿ وَلَمَّا جَاءهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ( ٣٠ ) وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ( ٣١ ) ﴾، وآيات سورة ص هذه :﴿ وَعَجِبُوا أَن جَاءهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَابٌ( ٤ ) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ( ٥ )وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ( ٦ ) مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ( ٧ ) أَأُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِن بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّن ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ( ٨ ) ﴾ ( ٤-٨ ).
وقد يعني هذا أن الزعماء الذين كان أكثرهم أغنياء وأولو عصبية في الوقت نفسه قد رأوا في الدعوة النبوية تحديا لهم وتهديداً لمركزهم وثرواتهم، فانبروا إلى مناوأتها من أول أيامها، وأدى ذلك إلى نضال طويل مرير مختلف الصور والأشكال بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم مما شغلت حكايته وصوره حيزاً كبيراً من القرآن، وبخاصة المكي منه على ما سوف يأتي متوالياً.

الزبانية : الموكلون بالعذاب
﴿ كَلَّا ١إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى٢ ( ٦ ) أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى٣( ٧ ) إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى( ٨ ) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى ( ٩ ) عَبْدًا إِذَا صَلَّى ( ١٠ ) أَرَأَيْتَ إِن كَانَ عَلَى الْهُدَ( ١١ ) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى ٤( ١٢ ) أَرَأَيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى ٥ ( ١٣ ) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى ( ١٤ ) كَلَّا لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعًا ٦ بِالنَّاصِيَةِ ٧ ( ١٥ ) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ( ١٦ ) فَلْيَدْعُ نَادِيَه ٨ ( ١٧ ) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ ٩ ( ١٨ ) كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ ١٠ وَاقْتَرِبْ١١ ( ١٩ ) ﴾ ( ٦-١٩ ).
تعليق على ما في الآيات
﴿ كلا إن الإنسان ليطغى( ٦ ) أن رآه استغنى( ٧ ) ﴾
من تلقين ثم من مدى ومغزى
في صدد أهداف الرسالة الإسلامية
وهذه الآيات بخاصة محل لتعليق آخر، من حيث إنها تجعل الطغيان نتيجة لكثرة المال والغنى. ولقد احتوت سور كثيرة مبكرة في النزول حملة على شدة حب المال، والحرص عليه، والتباهي به، واعتباره عنواناً للكرامة، وتنديداً بذلك، مثل سور القلم والمزمل والمدثر والمسد والفجر والعاديات والتكاثر والهمزة والبلد ممّا لم نر إيراده لأنه سوف يأتي بعد قليل.
ولقد احتوت هذه السور وسور أخرى مبكرة في النزول أيضا مثل الليل والأعلى والنجم فضلاً عن سور كثيرة أخرى نزلت في مختلف أدوار التنزيل حضاً على إطعام المساكين، والتصدّق على الفقراء، وتزكية المال، والإنفاق في سبيل الله. واحتوت في الوقت نفسه صوراً عديدة من مواقف الأغنياء المناوئة لنبوة النبي، ودعوته إلى جانب الزعماء ؛ حيث يبدو أن الأغنياء بدورهم رأوا في هذه النبوة والدعوة تهديداً لثرواتهم، فتضامنوا مع الزعماء في المناوأة منذ عهد مبكر جداً، واستحقوا وصف الطغيان الذي احتوته الآيات.
وبالإضافة إلى ما في هذا من تلقين جليل سلبي وإيجابي للمسلم فإنه ينطوي على مدى ومغزى عظيمين في صدد الرسالة الإسلامية التي يمثلها القرآن في الدرجة الأولى، وهما كون هذه الرسالة قد جاءت في جملة ما جاءت به للحدّ من جشع الإنسان للمال وتكالبه عليه، والدعوة إلى مساعدة المحتاجين إليه. وورود هذا في السور المبكرة في النزول يسبغ على ذلك المدى والمغزى خطورة خاصة، وقد استمر ذلك بأساليب متنوعة في سور كثيرة أخرى مما يزيد في قوة هذه الخطورة.
وهناك أحاديث كثيرة مأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم مع كل ذلك أيضاً شأنها مع كل المبادئ والتلقينات القرآنية سنوردها في مناسبات آتية أكثر ملاءمة.

في هذه الآيات :


١-
تقرير حقيقة في أخلاق البشر بوجه عام. وهي أن كثيراً منهم يتجاوزون الحد كبراً وبغياً حينما يشعرون في أنفسهم بالقوة، ويخيل إليهم أنهم في غنى عن غيرهم بكثرة مالهم، وقوة أنصارهم، وعصبيتهم وشخصيتهم، وأسلوب الآية التي ودرت فيها أسلوب تنديدي بهذا الخلق.

٢-
تذكير وإنذار بأن الناس راجعون إلى الله ومعروضون عليه.

٣-
تنديد بالذي يتعرض لعبد من عباد الله فينهاه عن الصلاة له مع أنه يسير على طريق الحق والهدى. ويدعو إلى تقوى الله ويذكّر به. وتنديد كذلك بالذي يكذب دعوة الله ويعرض عنها، وتذكير له في معرض الإنذار، وبأسلوب الاستفهام الإنكاري عما إذا لم يكن يعلم أن الله يراقبه ويحصى عليه آثامه ومواقفه.

٤-
تهديد وتحدّ وإنذار لهذا المكذب المتعرض المعرض بأسلوب قارع قاصم. فإذا لم ينتهِ عن موقفه الباغي فلسوف يسفعه الله بناصيته الكاذبة الخاطئة. وإذا دعا ناديه لنصرته، فسوف يدعو الله الزبانية الموكلين بالعذاب ليتولوا أمرهم.

٥-
تثبيت للنبي عليه السلام في دعوته، فلا محل للخوف من هذا المتعرض والاستجابة لما يقول والاهتمام به. وعليه أن يسجد لله ويتقرب إليه.
والآيات الثلاث الأولى تمهيد لما بعدها على ما هو المتبادر مما هو مستفيض في الأسلوب القرآني. والآيات التالية لها تتضمن مشهداً من مشاهد الدعوة النبوية في الخطوات الأولى حيث تفيد أن زعيماً طاغية تعرّض للنبي عليه السلام حينما رآه يصلي صلاة جديدة، ويدعو إلى الله وتقواه، فضلاً عن تكذيبه للدعوة وإعراضه عنها.
ولقد رويت بعض الأحاديث الصحيحة في مناسبة نزول هذه الآيات. منها حديث رواه الشيخان والترمذي عن ابن عباس قال :" قال أبو جهل : لئن رأيت محمدا يصلي عند الكعبة لأطأن على عنقه، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال : لو فعل لاتخذته الملائكة عياناً " ١. ومنها حديث رواه مسلم عن ابن عباس أيضا قال :" وقال أبو جهل : هل يعفر محمد وجهه بين أظهركم - يريد على ما يظهر هل يصلي ويسجد - قيل : نعم، فقال : واللات والعزى لئن رأيته يفعل ذلك لأطأن على رقبته. فأتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي فما فجئهم منه إلا وهو ينكُص على عقبيه، ويتقي بيديه، فقيل له : ما لك ؟ فقال : إن بيني وبينه لخندقا من نار وهوْلاً وأجنحة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضوا عضوا، فأنزل الله :﴿ كلا إن الإنسان ليطغى( ٦ ) ﴾ إلى آخر السورة " ٢.
ومنها حديث رواه الترمذي عن ابن عباس قال :" كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي فجاء أبو جهل فقال : ألم أنهك عن هذا ؟ ألم أنهك عن هذا ؟ فزبره النبي صلى الله عليه وسلم، فقال أبو جهل : إنك لتعلم ما بها ناد أكثر مني، فأنزل الله :﴿ فليدع ناديه ( ١٧ ) سندع الزبانية( ١٨ ) ﴾. قال ابن عباس :( فوالله لو دعا ناديه لأخذته زبانية الله )٣.
والحديث الأخير قد يفيد أن الآيات نزلت على دفعات. غير أن الذي نرجحه على ضوء الحديث الثاني أنها نزلت دفعة واحدة. ولا يمنع هذا أن يكون ما روي عن لسان أبي جهل مما ذكره الحديث الأخير صحيحاً من جملة ما قاله وفعله، وحاول أن يفعله فكان كل هذا مناسبة لنزول الآيات جميعها.
وتسمية ( أبي جهل ) تسمية إسلامية، واسم هذا الرجل هو عمرو بن هشام المخزومي وكنيته أبو الحكم. ولقد روى ابن هشام أن أبا سفيان وأبا جهل والأخنس بن شريق خرجوا ليلة ليسمعوا لرسول الله وهو يصلي في بيته فأخذ كل رجل منهم مجلساً يستمع فيه، وكل لا يعلم بمكان صاحبه، فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر تفرقوا فجمعهم الطريق فتلاوموا وقالوا لبعضهم : لا تعودوا فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئا، ثم انصرفوا غير أنهم عادوا ليلة ثانية، ثم ليلة ثالثة. وذهب الأخنس إلى أبي سفيان فقال له : ما رأيك يا أبا حنظلة فيما سمعت من محمد ؟ قال : والله لقد سمعت أشياء أعرفها، وأعرف ما يراد بها، وسمعت أشياء ما عرفت معناها وما يراد بها، فقال له : وأنا الذي حلفت به كذلك. ثم خرج حتى أتى أبا جهل فقال : ما رأيك فيما سمعت من محمد ؟ فقال : ما سمعت : تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف. أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تحاذينا على الركب، وكنا كفرسي رهان قالوا : منا نبي يأتيه الوحي من السماء، فمتى ندرك مثل هذه ؟ و الله لا نؤمن به أبداً ولا نصدقه٤ ؛ حيث يفيد هذا أن موقف أبي جهل كان متأثرا بالاعتبارات الشخصية والأسرية.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:موقف الزعامة من النبي
وموقف النبي منها منذ البدء
وفي الآيات وبخاصة في الآيات ( ١٥-١٩ ) تطمين وتثبيت للنبي صلى الله عليه وسلم إزاء تعرض الزعيم الطاغية كما هو واضح، وقد ثبت فيه بدون ريب الطمأنينة والقوة والعزم على متابعة مهمته العظمى. ومما لا ريب فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قد تلا الآيات حتى وصلت إلى مسامع الطاغية، بل من المحتمل القوي أن يكون قذف بها في وجهه مباشرة.
وإذ يتصور المرء النبي صلى الله عليه وسلم يصرخ في وجه هذا الطاغية المعتدّ بماله وقوته وناديه صرخته المدوية ترداداً لوحي الله : كلا كلا، ثم يقذف بكلمات التنديد والتهديد والتحدي والإنذار القرآنية غير مبال بالزعامة وقوتها وهو من دون نصير من الناس، ولم يكن قد آمن به من يستطيع له نصراً ويقف في جانبه، يدرك من دون ريب تلك الشجاعة التي كان يتحلى بها، والتي استمدها من إيمان عميق مستول على مشاعره جعله لا يرى عظمة إلا لله، ولا قوة إلا لله، ولا سلطانا إلا لله، وجعله يرى كل ما عداه أضعف من أن يخشى، وأعجز من أن يستطيع له نفعاً أو ضراً، أو يقف أمام دين الله ويحول دون الدعوة إليه. ويدرك بهذا ما تحلى به من عظمة الخلق، وقوة الجنان، وعمق اليقين، مما كان موضوع ثناء الله في آية القلم :﴿ وإنك لعلى خلق عظيم ( ٤ ) ﴾.
وفي كل هذا أسوة يجب على المسلمين أن يتأسوا بها وبخاصة الدعاة إلى الإصلاح والمتعرضين للظلم والطغيان ؛ لأن الله سبحانه أمرهم بأن يكون لهم في رسوله الأسوة الحسنة كما جاء في آية سورة الأحزاب هذه :﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا( ٢١ ) ﴾.
ويتبادر من عنف الآيات وقوتها القارعة أن الحكمة الربانية اقتضت أن يكون الرد على أول متصدّ للنبي صلى الله عليه وسلم من الزعماء الأقوياء بهذا الأسلوب لتثبيت النبي وأصحابه القلائل الذين آمنوا به، ومواجهة الزعيم القوي بقوة وعنف يصدمانه على غير توقع. ولا شك في أن النبي صلى الله عليه وسلم قد تلا الآيات على أصحابه، فقوّت من روحهم، وزادتهم إيماناً، ووصلت إلى صاحبها وناديه فصعقتهم بعنفها، وجعلتهم يشعرون بالقوة الروحية التي يستمد منها النبي، وازداد النبي بهذا وذاك قوة وعزماً على الاستمرار في مهمته، غير مبال بالزعيم القوي وناديه.
على أن جملة :﴿ فليدع ناديه ﴾ تسوغ القول أن أبا جهل لم يكن وحيداً في موقفه من النبي صلى الله عليه وسلم، وهو ما تدل عليه الآيات التي نزلت بعد هذه الآيات في مناسبات عديدة مبكرة.
وليس بعيداً أن يكون تعبير " ناديه " قد عنى دار الندوة التي كان يجتمع فيها أهل الحلّ والعقد في مكة الذين هم رؤساء الأسر القرشية البارزة، وقد كانت هذه الدار قرب الكعبة، فإذا صح ّهذا فإن من السائغ أن يقال : إن السلطات الرسمية قد رأت في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم علناً بصلاة جديدة لا عهد للناس بها، وفي دعوته الناس جهاراً إلى دين يخالف ما عليه الناس بدعة، ورأت وجوب الوقوف في وجهها، وأنها عمدت إلى أحد أعضائها بتنفيذ ذلك، أو أن هذا العضو كان أشدّ حماساً ضدها من غيره فكان هو المتصدي.
وهكذا ينطوي في الآيات المبكرة جدا في النزول أولى صورة من صور مواقف زعماء مكة الشديدة المناوأة التي تكررت واستمرت إلى أن تم الفتح المكي. وأولى صورة من صور الردّ القرآني المبلغ للرسول والمعلن للناس من قبله على هذه المواقف التي تكررت وحكاها القرآن المكي في مختلف أدوار التنزيل. وفي الرد القرآني المنطوي في آيات السورة تعليل لهذا الموقف وقد انطوى في الردود القرآنية مثل هذا التعليل أو ما يقاربه. وهو على الأكثر الاستكبار ومكر السيء والاستهتار والاعتداد بالمال والولد والحرص على التقاليد التي كانوا يستمدون منها قوة وجاهاً والحسد والاعتبارات الشخصية والأسرية. ومن ذلك آيات سورة فاطر هذه :﴿ وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءهُمْ نَذِيرٌ لَّيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا( ٤٢ ) اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ ﴾، وآيات سورة الزخرف هذه :﴿ وَلَمَّا جَاءهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ( ٣٠ ) وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ( ٣١ ) ﴾، وآيات سورة ص هذه :﴿ وَعَجِبُوا أَن جَاءهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَابٌ( ٤ ) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ( ٥ )وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ( ٦ ) مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ( ٧ ) أَأُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِن بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّن ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ( ٨ ) ﴾ ( ٤-٨ ).
وقد يعني هذا أن الزعماء الذين كان أكثرهم أغنياء وأولو عصبية في الوقت نفسه قد رأوا في الدعوة النبوية تحديا لهم وتهديداً لمركزهم وثرواتهم، فانبروا إلى مناوأتها من أول أيامها، وأدى ذلك إلى نضال طويل مرير مختلف الصور والأشكال بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم مما شغلت حكايته وصوره حيزاً كبيراً من القرآن، وبخاصة المكي منه على ما سوف يأتي متوالياً.

اسجد : أمر بالسجود لله. والسجود هو وضع الجبهة على الأرض في معرض عبادة الله وتعظيمه والخضوع له.
اقترب : تقرب إلى الله بالسجود.
﴿ كَلَّا ١إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى٢ ( ٦ ) أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى٣( ٧ ) إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى( ٨ ) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى ( ٩ ) عَبْدًا إِذَا صَلَّى ( ١٠ ) أَرَأَيْتَ إِن كَانَ عَلَى الْهُدَ( ١١ ) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى ٤( ١٢ ) أَرَأَيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى ٥ ( ١٣ ) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى ( ١٤ ) كَلَّا لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعًا ٦ بِالنَّاصِيَةِ ٧ ( ١٥ ) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ( ١٦ ) فَلْيَدْعُ نَادِيَه ٨ ( ١٧ ) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ ٩ ( ١٨ ) كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ ١٠ وَاقْتَرِبْ١١ ( ١٩ ) ﴾ ( ٦-١٩ ).
تعليق على ما في الآيات
﴿ كلا إن الإنسان ليطغى( ٦ ) أن رآه استغنى( ٧ ) ﴾
من تلقين ثم من مدى ومغزى
في صدد أهداف الرسالة الإسلامية
وهذه الآيات بخاصة محل لتعليق آخر، من حيث إنها تجعل الطغيان نتيجة لكثرة المال والغنى. ولقد احتوت سور كثيرة مبكرة في النزول حملة على شدة حب المال، والحرص عليه، والتباهي به، واعتباره عنواناً للكرامة، وتنديداً بذلك، مثل سور القلم والمزمل والمدثر والمسد والفجر والعاديات والتكاثر والهمزة والبلد ممّا لم نر إيراده لأنه سوف يأتي بعد قليل.
ولقد احتوت هذه السور وسور أخرى مبكرة في النزول أيضا مثل الليل والأعلى والنجم فضلاً عن سور كثيرة أخرى نزلت في مختلف أدوار التنزيل حضاً على إطعام المساكين، والتصدّق على الفقراء، وتزكية المال، والإنفاق في سبيل الله. واحتوت في الوقت نفسه صوراً عديدة من مواقف الأغنياء المناوئة لنبوة النبي، ودعوته إلى جانب الزعماء ؛ حيث يبدو أن الأغنياء بدورهم رأوا في هذه النبوة والدعوة تهديداً لثرواتهم، فتضامنوا مع الزعماء في المناوأة منذ عهد مبكر جداً، واستحقوا وصف الطغيان الذي احتوته الآيات.
وبالإضافة إلى ما في هذا من تلقين جليل سلبي وإيجابي للمسلم فإنه ينطوي على مدى ومغزى عظيمين في صدد الرسالة الإسلامية التي يمثلها القرآن في الدرجة الأولى، وهما كون هذه الرسالة قد جاءت في جملة ما جاءت به للحدّ من جشع الإنسان للمال وتكالبه عليه، والدعوة إلى مساعدة المحتاجين إليه. وورود هذا في السور المبكرة في النزول يسبغ على ذلك المدى والمغزى خطورة خاصة، وقد استمر ذلك بأساليب متنوعة في سور كثيرة أخرى مما يزيد في قوة هذه الخطورة.
وهناك أحاديث كثيرة مأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم مع كل ذلك أيضاً شأنها مع كل المبادئ والتلقينات القرآنية سنوردها في مناسبات آتية أكثر ملاءمة.

في هذه الآيات :


١-
تقرير حقيقة في أخلاق البشر بوجه عام. وهي أن كثيراً منهم يتجاوزون الحد كبراً وبغياً حينما يشعرون في أنفسهم بالقوة، ويخيل إليهم أنهم في غنى عن غيرهم بكثرة مالهم، وقوة أنصارهم، وعصبيتهم وشخصيتهم، وأسلوب الآية التي ودرت فيها أسلوب تنديدي بهذا الخلق.

٢-
تذكير وإنذار بأن الناس راجعون إلى الله ومعروضون عليه.

٣-
تنديد بالذي يتعرض لعبد من عباد الله فينهاه عن الصلاة له مع أنه يسير على طريق الحق والهدى. ويدعو إلى تقوى الله ويذكّر به. وتنديد كذلك بالذي يكذب دعوة الله ويعرض عنها، وتذكير له في معرض الإنذار، وبأسلوب الاستفهام الإنكاري عما إذا لم يكن يعلم أن الله يراقبه ويحصى عليه آثامه ومواقفه.

٤-
تهديد وتحدّ وإنذار لهذا المكذب المتعرض المعرض بأسلوب قارع قاصم. فإذا لم ينتهِ عن موقفه الباغي فلسوف يسفعه الله بناصيته الكاذبة الخاطئة. وإذا دعا ناديه لنصرته، فسوف يدعو الله الزبانية الموكلين بالعذاب ليتولوا أمرهم.

٥-
تثبيت للنبي عليه السلام في دعوته، فلا محل للخوف من هذا المتعرض والاستجابة لما يقول والاهتمام به. وعليه أن يسجد لله ويتقرب إليه.
والآيات الثلاث الأولى تمهيد لما بعدها على ما هو المتبادر مما هو مستفيض في الأسلوب القرآني. والآيات التالية لها تتضمن مشهداً من مشاهد الدعوة النبوية في الخطوات الأولى حيث تفيد أن زعيماً طاغية تعرّض للنبي عليه السلام حينما رآه يصلي صلاة جديدة، ويدعو إلى الله وتقواه، فضلاً عن تكذيبه للدعوة وإعراضه عنها.
ولقد رويت بعض الأحاديث الصحيحة في مناسبة نزول هذه الآيات. منها حديث رواه الشيخان والترمذي عن ابن عباس قال :" قال أبو جهل : لئن رأيت محمدا يصلي عند الكعبة لأطأن على عنقه، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال : لو فعل لاتخذته الملائكة عياناً " ١. ومنها حديث رواه مسلم عن ابن عباس أيضا قال :" وقال أبو جهل : هل يعفر محمد وجهه بين أظهركم - يريد على ما يظهر هل يصلي ويسجد - قيل : نعم، فقال : واللات والعزى لئن رأيته يفعل ذلك لأطأن على رقبته. فأتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي فما فجئهم منه إلا وهو ينكُص على عقبيه، ويتقي بيديه، فقيل له : ما لك ؟ فقال : إن بيني وبينه لخندقا من نار وهوْلاً وأجنحة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضوا عضوا، فأنزل الله :﴿ كلا إن الإنسان ليطغى( ٦ ) ﴾ إلى آخر السورة " ٢.
ومنها حديث رواه الترمذي عن ابن عباس قال :" كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي فجاء أبو جهل فقال : ألم أنهك عن هذا ؟ ألم أنهك عن هذا ؟ فزبره النبي صلى الله عليه وسلم، فقال أبو جهل : إنك لتعلم ما بها ناد أكثر مني، فأنزل الله :﴿ فليدع ناديه ( ١٧ ) سندع الزبانية( ١٨ ) ﴾. قال ابن عباس :( فوالله لو دعا ناديه لأخذته زبانية الله )٣.
والحديث الأخير قد يفيد أن الآيات نزلت على دفعات. غير أن الذي نرجحه على ضوء الحديث الثاني أنها نزلت دفعة واحدة. ولا يمنع هذا أن يكون ما روي عن لسان أبي جهل مما ذكره الحديث الأخير صحيحاً من جملة ما قاله وفعله، وحاول أن يفعله فكان كل هذا مناسبة لنزول الآيات جميعها.
وتسمية ( أبي جهل ) تسمية إسلامية، واسم هذا الرجل هو عمرو بن هشام المخزومي وكنيته أبو الحكم. ولقد روى ابن هشام أن أبا سفيان وأبا جهل والأخنس بن شريق خرجوا ليلة ليسمعوا لرسول الله وهو يصلي في بيته فأخذ كل رجل منهم مجلساً يستمع فيه، وكل لا يعلم بمكان صاحبه، فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر تفرقوا فجمعهم الطريق فتلاوموا وقالوا لبعضهم : لا تعودوا فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئا، ثم انصرفوا غير أنهم عادوا ليلة ثانية، ثم ليلة ثالثة. وذهب الأخنس إلى أبي سفيان فقال له : ما رأيك يا أبا حنظلة فيما سمعت من محمد ؟ قال : والله لقد سمعت أشياء أعرفها، وأعرف ما يراد بها، وسمعت أشياء ما عرفت معناها وما يراد بها، فقال له : وأنا الذي حلفت به كذلك. ثم خرج حتى أتى أبا جهل فقال : ما رأيك فيما سمعت من محمد ؟ فقال : ما سمعت : تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف. أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تحاذينا على الركب، وكنا كفرسي رهان قالوا : منا نبي يأتيه الوحي من السماء، فمتى ندرك مثل هذه ؟ و الله لا نؤمن به أبداً ولا نصدقه٤ ؛ حيث يفيد هذا أن موقف أبي جهل كان متأثرا بالاعتبارات الشخصية والأسرية.
تعليق على سنّة سجود التلاوة
في مناسبة الآية الأخيرة من السورة
هذا، وهناك أحاديث عديدة تقرر سنة نبوية بالسجود عند تلاوة عدد من الآيات فيها أمر بالسجود لله، أو خبر باستكبار الكفار عنه. من جملة ذلك : سنة السجود عند تلاوة آخر سورة العلق ؛ حيث روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة حديثا جاء فيه : " سجدنا مع رسول الله في ﴿ إذا السماء انشقت ﴾ ( الانشقاق : ١ )، و﴿ اقرأ باسم ربك الذي خلق ﴾ ( العلق : ١ ) ".
ومن الأحاديث المروية في الموضوع عامة حديث رواه البخاري ومسلم عن ابن عمر جاء فيه : " كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ السورة التي فيها السجدة فيسجد ونسجد معه، حتى ما يجد أحدنا مكانا لموضع جبهته ". وحديث رواه مسلم عن أبي هريرة جاء فيه : " إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي يقول : يا ويله، وفي رواية : يا ويلي أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة، وأمرت بالسجود فأبيت فلي النار ". وحديث رواه أبو داود والحاكم عن ابن عمر جاء فيه : " كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ علينا القرآن، فإذا مرَّ بالسجدة كبَّر وسجدَ وسجدنا معه " ١.
وفي المصحف الذي اعتمدنا عليه إشارة إلى أربع عشرة سجدة هي آيات الرعد ( ١٥ ) والنحل ( ٤٩ ) والإسراء ( ١٠٧ ) ومريم ( ٥٨ ) والحج ( ١٨ و٧٧ ) والفرقان ( ٦٠ ) والنمل ( ٢٥ ) والسجدة ( ١٥ ) وص ( ٢٤ ) وفصلت ( ٣٧ ) والنجم ( ٦٢ ) والانشقاق ( ٢١ ) والعلق ( ١٨ ). وفي بعض هذه السجدات أحاديث دون بعض. ولقد روى أبو داود وابن ماجه عن عمرو بن العاص حديثا قال فيه : " إن النبي صلى الله عليه وسلم أقرأني خمس عشرة سجدة : منها ثلاث في المفصل، وفي سورة الحج سجدتان " ٢. وروى الترمذي وأبو داود عن أبي الدرداء حديثاً جاء فيه : " سجدت مع رسول الله إحدى عشرة سجدة، منها التي في النجم " ٣. وروى أبو داود حديثا مرفوعا جاء فيه : " قرأ رسول الله وهو على المنبر ( ص )، فلما بلغ السجدة نزل فسجدَ وسجدَ الناس معه. فلما كان يوم آخر قرأها فلما بلغ السجدة تَشَزَّنَ الناس للسجود فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنما هي توبة نبي، ولكني رأيتكم تَشزَّنتُم للسجودِ، فنزلَ فسجدَ وسجدُوا " ٤. وهذا بالإضافة إلى حديث أبي هريرة الذي ذكر في سجدتي الانشقاق والعلق. وما بقية السجدات فهي على ما يبدو من تنبيهات المفسرين اجتهادية جرياً على قاعدة ذكرها الزمخشري في سياق آية سورة النمل [ ٢٥ ] حيث قال : إن مواضع السجدة إما أمر بها، أو مدح لمن أتى بها، أو ذم لمن تركها. ثم قال : إن أبا حنيفة والشافعي رحمهما الله اتفقا على أن سجدات القرآن أربع عشرة، وإنما اختلفا في سجدة ( ص ) وسجدتي ( النحل ).
ولقد روى الخمسة عن زيد بن ثابت قال : قرأت على النبي صلى الله عليه وسلم النجم فلم يسجدْ فيها "، وروى البخاري عن ربيعة بن عبد الله قال : " قرأ عمر بن الخطاب على المنبر يوم الجمعة بسورة النحل فلما جاء السجدة نزل فسجد وسجد الناس، حتى إذا كانت الجمعة القابلة قرأ بها فلما جاء السجدة قال : يا أيّها الناس إنما نمّر بالسجود فمن سجدَ فقد أصابَ، ومن لم يسْجد فلا إثم عليه، ولم يسجد عمرُ " وروى البخاري حديثا عن ابن عمر جاء فيه : " إن الله لم يفرضْ علينَا السجودَ إلا أن نشاء ".
ويلحظ أن السجدات جميعها في سور مكية، وقد كان العهد المكي بنوع خاص عهد نضال وتشاد مريرين بين التوحيد والشرك، والإيمان والكفر، وبين النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وكفار العرب وفي مقدمتهم زعماء مكة. حيث يلمح من ذلك حكمة السنة النبوية التي فيها علامة الاستجابة السريعة من أهل الإيمان إلى السجود إلى الله عز وجل عند كل مناسبة، ورد وتحد عمليان على الكفار بسبب استكبارهم وعنادهم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:موقف الزعامة من النبي
وموقف النبي منها منذ البدء
وفي الآيات وبخاصة في الآيات ( ١٥-١٩ ) تطمين وتثبيت للنبي صلى الله عليه وسلم إزاء تعرض الزعيم الطاغية كما هو واضح، وقد ثبت فيه بدون ريب الطمأنينة والقوة والعزم على متابعة مهمته العظمى. ومما لا ريب فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قد تلا الآيات حتى وصلت إلى مسامع الطاغية، بل من المحتمل القوي أن يكون قذف بها في وجهه مباشرة.
وإذ يتصور المرء النبي صلى الله عليه وسلم يصرخ في وجه هذا الطاغية المعتدّ بماله وقوته وناديه صرخته المدوية ترداداً لوحي الله : كلا كلا، ثم يقذف بكلمات التنديد والتهديد والتحدي والإنذار القرآنية غير مبال بالزعامة وقوتها وهو من دون نصير من الناس، ولم يكن قد آمن به من يستطيع له نصراً ويقف في جانبه، يدرك من دون ريب تلك الشجاعة التي كان يتحلى بها، والتي استمدها من إيمان عميق مستول على مشاعره جعله لا يرى عظمة إلا لله، ولا قوة إلا لله، ولا سلطانا إلا لله، وجعله يرى كل ما عداه أضعف من أن يخشى، وأعجز من أن يستطيع له نفعاً أو ضراً، أو يقف أمام دين الله ويحول دون الدعوة إليه. ويدرك بهذا ما تحلى به من عظمة الخلق، وقوة الجنان، وعمق اليقين، مما كان موضوع ثناء الله في آية القلم :﴿ وإنك لعلى خلق عظيم ( ٤ ) ﴾.
وفي كل هذا أسوة يجب على المسلمين أن يتأسوا بها وبخاصة الدعاة إلى الإصلاح والمتعرضين للظلم والطغيان ؛ لأن الله سبحانه أمرهم بأن يكون لهم في رسوله الأسوة الحسنة كما جاء في آية سورة الأحزاب هذه :﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا( ٢١ ) ﴾.
ويتبادر من عنف الآيات وقوتها القارعة أن الحكمة الربانية اقتضت أن يكون الرد على أول متصدّ للنبي صلى الله عليه وسلم من الزعماء الأقوياء بهذا الأسلوب لتثبيت النبي وأصحابه القلائل الذين آمنوا به، ومواجهة الزعيم القوي بقوة وعنف يصدمانه على غير توقع. ولا شك في أن النبي صلى الله عليه وسلم قد تلا الآيات على أصحابه، فقوّت من روحهم، وزادتهم إيماناً، ووصلت إلى صاحبها وناديه فصعقتهم بعنفها، وجعلتهم يشعرون بالقوة الروحية التي يستمد منها النبي، وازداد النبي بهذا وذاك قوة وعزماً على الاستمرار في مهمته، غير مبال بالزعيم القوي وناديه.
على أن جملة :﴿ فليدع ناديه ﴾ تسوغ القول أن أبا جهل لم يكن وحيداً في موقفه من النبي صلى الله عليه وسلم، وهو ما تدل عليه الآيات التي نزلت بعد هذه الآيات في مناسبات عديدة مبكرة.
وليس بعيداً أن يكون تعبير " ناديه " قد عنى دار الندوة التي كان يجتمع فيها أهل الحلّ والعقد في مكة الذين هم رؤساء الأسر القرشية البارزة، وقد كانت هذه الدار قرب الكعبة، فإذا صح ّهذا فإن من السائغ أن يقال : إن السلطات الرسمية قد رأت في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم علناً بصلاة جديدة لا عهد للناس بها، وفي دعوته الناس جهاراً إلى دين يخالف ما عليه الناس بدعة، ورأت وجوب الوقوف في وجهها، وأنها عمدت إلى أحد أعضائها بتنفيذ ذلك، أو أن هذا العضو كان أشدّ حماساً ضدها من غيره فكان هو المتصدي.
وهكذا ينطوي في الآيات المبكرة جدا في النزول أولى صورة من صور مواقف زعماء مكة الشديدة المناوأة التي تكررت واستمرت إلى أن تم الفتح المكي. وأولى صورة من صور الردّ القرآني المبلغ للرسول والمعلن للناس من قبله على هذه المواقف التي تكررت وحكاها القرآن المكي في مختلف أدوار التنزيل. وفي الرد القرآني المنطوي في آيات السورة تعليل لهذا الموقف وقد انطوى في الردود القرآنية مثل هذا التعليل أو ما يقاربه. وهو على الأكثر الاستكبار ومكر السيء والاستهتار والاعتداد بالمال والولد والحرص على التقاليد التي كانوا يستمدون منها قوة وجاهاً والحسد والاعتبارات الشخصية والأسرية. ومن ذلك آيات سورة فاطر هذه :﴿ وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءهُمْ نَذِيرٌ لَّيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا( ٤٢ ) اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ ﴾، وآيات سورة الزخرف هذه :﴿ وَلَمَّا جَاءهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ( ٣٠ ) وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ( ٣١ ) ﴾، وآيات سورة ص هذه :﴿ وَعَجِبُوا أَن جَاءهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَابٌ( ٤ ) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ( ٥ )وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ( ٦ ) مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ( ٧ ) أَأُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِن بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّن ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ( ٨ ) ﴾ ( ٤-٨ ).
وقد يعني هذا أن الزعماء الذين كان أكثرهم أغنياء وأولو عصبية في الوقت نفسه قد رأوا في الدعوة النبوية تحديا لهم وتهديداً لمركزهم وثرواتهم، فانبروا إلى مناوأتها من أول أيامها، وأدى ذلك إلى نضال طويل مرير مختلف الصور والأشكال بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم مما شغلت حكايته وصوره حيزاً كبيراً من القرآن، وبخاصة المكي منه على ما سوف يأتي متوالياً.


١ - "التاج" ج ١ ص ١٩٨ وما بعدها..
٢ - التاج ج ١ ص ١٩٨ وما بعدها..
٣ - المصدر نفسه..
٤ - المصدر السابق نفسه..
Icon