تفسير سورة العلق

التفسير المنير
تفسير سورة سورة العلق من كتاب التفسير المنير .
لمؤلفه وهبة الزحيلي . المتوفي سنة 1436 هـ

الحكمة في خلق الإنسان وتعليمه القراءة والكتابة
[سورة العلق (٩٦) : الآيات ١ الى ٨]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (١) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (٢) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (٣) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (٤)
عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ (٥) كَلاَّ إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (٦) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى (٧) إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى (٨)
الإعراب:
اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ: جملة اسمية في موضع نصب على الحال من ضمير اقْرَأْ.
عَلَّمَ بدل اشتمال من عَلَّمَ بِالْقَلَمِ أي علمه به وبدونه من الأمور الكلية والجزئية والجلية والخفية.
أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى أَنْ رَآهُ: في موضع نصب على أنه مفعول لأجله، أي لأن رآه، وأصله «رأيه» فتحركت الياء وانفتح ما قبلها، فقلبت ألفا. ورأى: يتعدى إلى فعلين لأنه من رؤية القلب، فالمفعول الأول: الهاء، والثاني: اسْتَغْنى.
وقرئ «رأه» بهمزة من غير ألف بعدها، على أساس حذف لام الفعل مثل حاشَ لِلَّهِ أو لأن مضارعه «يرى» وقد حذفت عينه بعد نقل حركتها إلى ما قبلها، أو حذفت لسكونها وسكون السين في اسْتَغْنى.
البلاغة:
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ سجع مرصّع.
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ واقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ إطناب بتكرار الفعل، لمزيد الاهتمام بشأن القراءة والعلم.
خَلَقَ وعَلَقٍ بينهما جناس ناقص.
عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ بينهما طباق السلب.
إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى
التفات من الغيبة إلى الخطاب، تهديدا وتحذيرا من عاقبة الطغيان.
314
المفردات اللغوية:
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ ابتدئ قراءة القرآن مفتتحا باسم ربّك، أو مستعينا به. الَّذِي خَلَقَ الذي خلق كل شيء. خَلَقَ الْإِنْسانَ جنس الإنسان. مِنْ عَلَقٍ جمع علقة: وهي قطعة دم يسيرة جامدة، فإذا جرى الدم فهو المسفوح. اقْرَأْ تأكيد للأول. وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الذي لا يوازيه كريم، الزائد في الكرم على كل كريم، فإنه ينعم بلا غرض. الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ علّم الخط والكتابة بالقلم، وأول من خط به إدريس عليه السّلام. عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ علم جنس الإنسان بخلق القوى، وإقامة الدلائل، وإنزال الآيات، وبتعليمه الأشياء من غير معلّم كالكتابة والصناعة وغيرها. والمقصود: أنه يعلمك القراءة وإن لم تكن قارئا. وقال: مِنْ عَلَقٍ بلفظ الجمع لأنه أراد بالإنسان الجمع، وكل الناس خلقوا من علق بعد النطفة. والعلقة:
قطعة من دم رطب، سميت بذلك لأنها تعلق لرطوبتها بما تمر عليه، فإذا جفّت لم تكن علقة.
وقد أبان في هذه الآيات مبدأ خلق الإنسان الذي يدلّ على الأوصاف الإلهية وأهمها بيان وجوده وقدرته تعالى، ثم أشار إلى إثبات العلوم السمعية الموقوفة على النقل والكتابة، ثم إثبات النبوة.
كَلَّا أي حقا عند بعض المفسرين لأنه ليس قبله ولا بعده شيء يتوجه إليه الردع، وقال الزمخشري: إنه ردع لمن كفر بنعمة اللَّه عليه وطغى، وهذا معلوم من سياق الكلام، وإن لم يذكر. إِنَّ الْإِنْسانَ أي: فرد من النوع الإنساني. لَيَطْغى يتكبر ويتجاوز الحدّ في العصيان. أَنْ رَآهُ لأن رأى نفسه. اسْتَغْنى اغتنى بالمال وغيره، أي صار ذا مال وأعوان يغني بهما، والآية نزلت في أبي جهل، كما سأبيّن. إِنَّ إِلى رَبِّكَ
يا إنسان. الرُّجْعى
الرجوع، والرجعى والمرجع والرجوع: مصادر، أي المصير والعودة، والمراد تخويف الإنسان، فإن اللَّه يجازي الطاغي بما يستحقه.
سبب النزول: نزول الآية (٦) :
كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ..: أخرج أحمد ومسلم والنسائي وابن المنذر وغيرهم عن أبي هريرة قال: قال أبو جهل: هل يعفّر محمد وجهه بين أظهركم؟ فقيل:
نعم، فقال: واللات والعزى، لئن رأيته يفعل لأطأنّ على رقبته، ولأعفرنّ وجهه في التراب، فأنزل اللَّه: كَلَّا، إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى الآيات.
315
ثم إنه رأى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في الصلاة، فنكص على عقبيه، فقالوا له:
مالك يا أبا الحكم؟ فقال: إن بيني وبينه لخندقا من نار، وهولا شديدا.
التفسير والبيان:
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ أي اقرأ مبتدئا باسم ربّك، أو مستعينا باسم ربّك، الذي أوجد وخلق كل شيء. وقد وصف اللَّه لنا نفسه بأنه الخالق للتذكير بأول النعم وأعظمها. والمراد: الأمر من اللَّه لنبيّه بأن يصير قارئا، بقدرة اللَّه الذي خلقه وإرادته، وإن لم يكن من قبل قارئا ولا كاتبا، فمن خلق الكون قادر على أن يوجد فيه القراءة، وإن لم يتعلمها سابقا.
خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ أوجد بني آدم من قطعة دم جامد وهي العلقة، التي هي طور من أطوار خلق الجنين، فإنه يبدأ نطفة، ثم يتحول بقدرة اللَّه إلى علقة: وهي كأنها قطعة من الدم الجامد، ثم يكون مضغة: وهي كأنها قطعة لحم، ثم يظهر فيها بقية التخليق من عظام، فلحم، فإنسان كامل الخلقة.
ويلاحظ أنه تعالى أطلق الخلق أولا ليتناول كل المخلوقات، ثم خصّ الإنسان بالذّكر لشرفه، أو لعجيب فطرته، أو لأن الآية سيقت من أجله.
وإنما قال: باسم ربّك، ولم يقل: باسم اللَّه كما في التسمية المعروفة:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ لأن الربّ: من صفات الفعل، واللَّه: من أسماء الذات، وبما أنه أمره بالعبادة، وصفات الذات لا تستوجب شيئا، وإنما يستوجب العبادة صفات الفعل، فكان ذلك أبلغ في الحثّ على الطاعة، والخلاصة: إنه لم يأت بلفظ الجلالة، لما في لفظ الرّب من معنى الذي ربّاك، ونظر في مصلحتك، وجاء الخطاب ليدل على التأنيس والاختصاص، أي ليس لك ربّ غيره.
وإنما أضاف ذاته إلى رسوله، فقال: بِاسْمِ رَبِّكَ للدلالة على أنه له،
316
تصل إليه منفعته، أما طاعة العبد فلا تحقق منفعة للَّه، فإذا أتى بما طلبه منه من طاعة أو توبة، أضافه إلى نفسه بوصف العبودية، فقال: أَسْرى بِعَبْدِهِ [/ الإسراء ١٧/ ١].
وإنما ذكر قوله الَّذِي خَلَقَ بعد قوله: رَبِّكَ للاستدلال على أنه ربّه، وهو الذي أوجده، فصار موجودا بعد أن كان معدوما، والخلق والإيجاد تربية، وكذلك جاء بصفة الخالق، أي المنشئ للعالم، للإتيان بصفة لا يمكن للأصنام شركة فيها، فيكون ردّا على العرب التي كانت تسمي الأصنام أربابا.
اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ أي افعل ما أمرت به من القراءة، وربّك الذي أمرك بالقراءة هو الأكرم من كل كريم، ومن كرمه: تمكينك من القراءة وأنت أمّي. وإنما كرر كلمة اقْرَأْ للتأكيد، ولأن القراءة لا تتحقق إلا بالتكرار والإعادة. وقوله: وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ لإزاحة المانع، وإزالة العذر الذي اعتذر به النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم لجبريل حين طلب منه بقوله: اقْرَأْ، فقال: ما أنا بقارئ.
والأوجه: أن يراد بقوله الأول: اقْرَأْ: أوجد القراءة، وبالثاني:
استعن باسم ربّك.
ثم قرن القراءة بالكتابة، فقال:
الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ أي علّم الإنسان الكتابة بالقلم، فهو نعمة عظيمة من اللَّه عزّ وجلّ، وواسطة للتفاهم بين الناس كالتعبير باللسان ولولا الكتابة لزالت العلوم، ولم يبق أثر لدين، ولم يصلح عيش، ولم يستقر نظام، فالكتابة قيد العلوم والمعارف، ووسيلة ضبط أخبار الأولين ومقالاتهم، وأداة انتقال العلوم بين الأمم والشعوب، فتبقى المعلومات، ثم يبنى عليها ويزاد إلى ما شاء اللَّه، فتنمو
317
الحضارات، وتسمو الأفكار، وتحفظ الأديان، وتنشر الهداية.
وجاء في الأثر: «قيدوا العلم بالكتابة» «١».
لهذا بدأت دعوة الإسلام بالترغيب في القراءة والكتابة، وبيان أنها من آيات اللَّه في خلقه، ومن رحمته بهم، وكانت معجزة محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم الخالدة، وهو العربي الأميّ، قرآنا يتلى، وكتابا يكتب، وأنه بذلك نقل أمته من حال الأميّة والجهل إلى أفق النور والعلم، كما قال تعالى ممتنا بذلك: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ، يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ، وَيُزَكِّيهِمْ، وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ، وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الجمعة ٦٢/ ٢].
ثم أبان عموم فضله وكثرة نعمه، فقال:
عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ أي علّم اللَّه الإنسان بالقلم كثيرا من الأمور ما لم يعلم بها، فلا عجب أن يعلمك اللَّه أيها النبي القراءة، وكثيرا من العلوم، لنفع أمتك.
ورد في الأثر: «من عمل بما علم، ورّثه اللَّه علم ما لم يكن يعلم» «٢».
ثم ردع الإنسان على طغيانه حال الغنى، فقال:
كَلَّا، إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى، أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى أي ارتدع وانزجر أيها الإنسان، عن كفرك بنعمة اللَّه عليك، وتجاوزك الحدّ في العصيان، لأن رأيت نفسك مستغنيا بالمال والقوة والأعوان.
وقيل: المراد بالآية: حقا إن أمر الإنسان عجيب، يستذل ويضعف حال الفقر، ويطغى ويتجاوز الحدّ في المعاصي ويتكبّر ويتمرد حتى أحسّ بنفسه القدرة والثروة. وأكثر المفسرين على أن المراد بالإنسان هنا أبو جهل وأمثاله.
(١) أخرجه الطبراني والحاكم عن عبد اللَّه بن عمرو، وهو صحيح.
(٢) تفسير ابن كثير: ٤/ ٥٢٨
318
ثم أنذر بالعقاب في الآخرة، فقال:
إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى
أي إن الرجوع والمصير إلى اللَّه وحده، لا إلى غيره، فهو الذي يحاسب كل إنسان على ماله من أين جمعه، وأين صرفه.
ويلاحظ أن هذا الكلام جاء على طريقة الالتفات إلى خطاب الإنسان، تهديدا له، وتحذيرا من عاقبة الطغيان.
روى ابن أبي حاتم عن عبد اللَّه بن مسعود: منهومان لا يشبعان: صاحب العلم، وصاحب الدنيا، ولا يستويان، فأما صاحب العلم فيزداد رضا الرحمن، وأما صاحب الدنيا، فيتمادى في الطغيان، ثم قرأ عبد اللَّه: إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى، أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى وقال للآخر: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ
وقد روي هذا مرفوعا إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «منهومان لا يشبعان: طالب علم، وطالب دنيا».
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
١- بيان قدرة اللَّه تعالى بالخلق، فهو الخالق، والتنبيه على ابتداء خلق الإنسان من علقة: قطعة دم جامد رطب غير جاف. وهذه الآيات الكريمات أول شيء نزل من القرآن، وهن أول رحمة من اللَّه لعباده وأول نعمة أنعم اللَّه بها عليهم.
٢- أمر اللَّه سبحانه الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم بأن يقرأ القرآن باسم ربّه الذي خلق، واسم الذي علّم الإنسان ما لم يعلم.
٣- أمر اللَّه تعالى أيضا بتعلم القراءة والكتابة لأنهما أداة معرفة علوم الدين والوحي، وإثبات العلوم السمعية ونقلها بين الناس، وأساس تقدم العلوم والمعارف والآداب والثقافات، ونمو الحضارة والمدنية.
319
٤- من كرم اللَّه تعالى وفضله: أن الإنسان ما لم يكن يعلمه، لينقله من ظلمة الجهل إلى نور العلم، فقد شرّفه وكرّمه بالعلم، وبه امتاز أبو البرية آدم على الملائكة، والعلم إما بالفكر والذهن، وإما باللسان، وإما بالكتابة بالبنان. قال قتادة: القلم نعمة من اللَّه تعالى عظيمة، لولا ذلك لم يقم دين، ولم يصلح عيش.
وفضائل الكتابة والخط كثيرة، فحيث منّ اللَّه على الإنسان بالخط والتعليم، مدح ذاته بالأكرمية، فقال: وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ أي علّم الإنسان بواسطة القلم، أو علّمه الكتابة بالقلم.
مع أنه سبحانه حين عدد على الإنسان نعمة الخلق والتسوية وتعديل الأعضاء الظاهرة والباطنة، وصف نفسه بالكرم قائلا: يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ، ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ، فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ [الانفطار ٨٢/ ٦- ٧].
جاء في الحديث الصحيح: «أول ما خلق اللَّه القلم، فقال له: اكتب، فكتب ما يكون إلى يوم القيامة، فهو عنده في الذّكر فوق عرشه» «١».
وكانت أمّية الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم ثم تعليمه من اللَّه أثبت لمعجزته بين العرب الأميين، وأقوى في حجته.
٥- أخبر اللَّه تعالى عن طبع ذميم في الإنسان وهو أنه ذو فرح وأشر، وبطر وطغيان إذا رأى نفسه قد استغنى، وكثر ماله.
لذا هدده اللَّه وتوعده ووعظه ليضبط طغيانه ويوقف تهوره بإخباره بأنه إلى اللَّه المصير والمرجع، وسيحاسب كل إنسان على ماله، من أين جمعه، وفيم صرفه وأنفقه.
(١) تفسير القرطبي: ٢٠/ ١٢١
320
وأصل نزول الآية في أبي جهل عند أكثر المفسرين، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
قال ابن عباس: لما نزلت هذه الآية وسمع بها المشركون، أتاه أبو جهل فقال: يا محمد تزعم أنه من استغنى طغى فاجعل لنا جبال مكة ذهبا، لعلنا نأخذ منها، فنطغى فندع ديننا ونتبع دينك. فأتاه جبريل عليه السّلام فقال:
«يا محمد خيّرهم في ذلك، فإن شاؤوا فعلنا بهم ما أرادوه، فإن لم يسلموا فعلنا بهم كما فعلنا بأصحاب المائدة». فعلم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أن القوم لا يقبلون ذلك فكفّ عنهم إبقاء عليهم «١».
٦- أول السورة يدل على مدح العلم، وآخرها يدل على مذمة المال، وكفى بذلك مرغبا في الدين، ومنفرا عن الدنيا والمال «٢».
صور أخرى من الطغيان وتهديد الطغاة ووعيدهم
[سورة العلق (٩٦) : الآيات ٩ الى ١٩]
أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى (٩) عَبْداً إِذا صَلَّى (١٠) أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى (١١) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى (١٢) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (١٣)
أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى (١٤) كَلاَّ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ (١٥) ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ (١٦) فَلْيَدْعُ نادِيَهُ (١٧) سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ (١٨)
كَلاَّ لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (١٩)
الإعراب:
أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى أَرَأَيْتَ: يقرأ بالهمز على الأصل، وبالتخفيف بجعل الهمزة بين الهمزة والألف لأن حركة الهمزة فتحة، وتخفيف الهمزة: أن تجعل بين الهمزة والحرف الذي
(١) تفسير القرطبي: ٢٠/ ١٢٣
(٢) تفسير الرازي: ٣٢/ ٩
321
حركتها منه. وتقرأ بالإبدال: بجعل الهمزة ألفا تشبيها لها بما إذا كانت ساكنة، مفتوحا ما قبلها، وليس لقياس. والَّذِي يَنْهى: مفعول أول لأرأيت الأول وأ رأيت الثاني مكرر للتأكيد ولطول الكلام. وقوله: إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى مع ما عطف عليه مفعول ثان له. وجواب الشرط محذوف يدل عليه جواب الشرط الثاني وهو قوله: أَلَمْ يَعْلَمْ. ويجوز أن يكون أَرَأَيْتَ الثالث أيضا مكررا. وجواب الشرط بالحقيقة هو ما تدل عليه هذه الجملة الاستفهامية وهي: أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى كأنه قيل: إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى أو كذب وتولى، فإن اللَّه مجازيه.
لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ، ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ نون نسفعن نون التوكيد الخفيفة، وتكتب بالألف عند البصريين كالتنوين، وبالنون عند الكوفيين، وهي مكتوبة في المصحف بالألف، كمذهب البصريين، مثل: وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ [يوسف ١٢/ ٣٢] وليس في القرآن لهما نظير. ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ: بدل من الناصية، وهذا بدل النكرة من المعرفة.
فَلْيَدْعُ نادِيَهُ أي أهل مجلسه، أهل ناديه، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه.
البلاغة:
أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى عَبْداً؟ كناية، كنى بالعبد عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، ولم يقل: ينهاك تفخيما لشأنه وتعظيما لقدره. وأَ رَأَيْتَ استفهام للإنكار والتعجب، وهي بمعنى أخبرني.
أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى؟ استفهام للتعجيب من حال الناهي الذي ينهى.
ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ مجاز عقلي، أسند الكذب والخطأ إلى الناصية مجازا، والمراد صاحبها لأنه السبب.
فَلْيَدْعُ نادِيَهُ مجاز مرسل علاقته المحلية، أي أهل ناديه، بإطلاق المحل وإرادة الحال.
المفردات اللغوية:
أَرَأَيْتَ؟ أي أخبرني، وهي في المواضع الثلاثة للتعجب، والمراد من الاستخبار: إنكار الحال المستخبر عنها وتقبيحها، مثل: أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ؟ [الماعون ١٠٧/ ١].
الَّذِي يَنْهى عَبْداً إِذا صَلَّى الناهي: هو أبو جهل، والعبد: هو النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم. والمعنى: أخبرني عمن ينهى بعض عباد اللَّه عن صلاته إن كان ذلك الناهي على طريقة سديدة فيما ينهى عنه من عبادة اللَّه، أو كان آمرا بالمعروف والتقوى فيما يأمر به من عبادة الأوثان كما يعتقد، وكذلك إن كان على التكذيب للحق والتولي عن الدين الصحيح كما نقول نحن؟!
322
وقيل: أرأيت إن كان المنهي على الهدى أو أمر بالتقوى؟ وأو: للتقسيم. أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ الناهي النبيّ؟ وَتَوَلَّى عن الإيمان. أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى؟ أي ألم يدر بأن اللَّه يرى ويشاهد ما يصدر منه، فيجازيه عليه؟ أي أعجب منه يا مخاطب من حيث نهيه عن الصلاة، ومن حيث إن المنهي عن الهدى آمر بالتقوى، ومن حيث إن الناهي مكذب متول عن الإيمان؟! والخطاب في قوله: أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى للرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم على وجه التعجب.
وفيه أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم كان يقول: «اللهم أعزّ الإسلام بعمر، أو بأبي جهل بن هشام»
وكأنه تعالى قال له: يا محمد كنت تظن أنه يعزّ به الإسلام، وهو ينهى عن الصلاة التي هي أول أركان الإسلام. وكان يلقب بأبي الحكم، فقيل له: كيف يليق به هذا اللقب، وهو ينهى العبد عن خدمة ربه، ويأمره بعبادة الجماد؟! وجواب شرط: إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى محذوف تقديره: إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى، ألم يعلم بأن اللَّه يرى، أي فإن اللَّه مجازيه.
كَلَّا ردع للناهي. لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ عما هو فيه أو عليه من الكفر، واللام: لام القسم. لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ لنأخذن بناصيته، ولنسحبنه بها إلى النار. والسفع: الجذب بشدة، والناصية: شعر الجبهة، والمراد بذلك: القهر والإذلال بأنواع العذاب. كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ وصفها بالكذب والخطأ، والمراد صاحبها، بالإسناد المجازي للمبالغة. نادِيَهُ أي أهل ناديه، والنادي:
المجلس أو مكان اجتماع القوم للتحدث فيه، ولا يسمى ناديا حتى يكون فيه أهله.
سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ ليجروه إلى النار، والزَّبانِيَةَ الملائكة الغلاظ الشداد جمع زبنية وزبني، قال ابن عباس فيما ذكره أحمد: «لو دعا ناديه لأخذته الزبانية عيانا». كَلَّا ردع للناهي أيضا. لا تُطِعْهُ يا محمد في ترك الصلاة، واثبت أنت على طاعتك. وَاسْجُدْ ودم على سجودك، وصل للَّه. وَاقْتَرِبْ تقرب إلى ربك بطاعته.
سبب النزول:
نزول الآية (٩) :
أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى:
أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يصلي، فجاءه أبو جهل، فنهاه، فأنزل اللَّه: أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى عَبْداً إِذا صَلَّى إلى قوله: كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ.
323
نزول الآية (١٧) :
فَلْيَدْعُ نادِيَهُ:
أخرج أحمد والترمذي والنسائي وابن جرير عن ابن عباس قال: كان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يصلّي، فجاءه أبو جهل، فقال: ألم أنهك عن هذا؟ فزجره النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال أبو جهل: إنك لتعلم ما بها ناد أكثر مني، فأنزل اللَّه: فَلْيَدْعُ نادِيَهُ، سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ
وهو حسن صحيح كما قال الترمذي.
المناسبة:
بعد أن أبان سبحانه في مطلع السورة مظاهر القدرة الإلهية، وعدد نعمه ومننه العظمى على الإنسان بتعليمه القراءة والكتابة وما لم يعلم، ذكر السبب الحقيقي لكفر الإنسان وطغيانه وبغيه وهو حب الدنيا والثورة والاغترار بها، مما شغله عن النظر في آيات اللَّه وشكر نعمه.
ثم ذكر صورا أخرى من طغيان الإنسان وهي النهي عن الصلاة والعبادة، وهل يأمر بالمعروف والتقوى فيما يأمر به من عبادة الأوثان؟ وتكذيبه بالحق والتولي عن الدين والإيمان.
وناسب بعد هذا تهديده ووعيده بالعقاب الشديد والنكال الأليم يوم العرض والحساب، من غير أن يجد نصيرا ينصره أو معينا يمنعه من العذاب.
وختمت السورة بأمر النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بعدم طاعة هذا الطاغية، والإقبال على عبادة ربه، والتقرب إليه بالطاعة.
التفسير والبيان:
أخبر اللَّه تعالى عن حالات قبيحة جدا من أحوال الطغاة وهي:
١- أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى، عَبْداً إِذا صَلَّى؟ أي أخبرني عن حال هذا الطاغية المغرور وهو أبو جهل وأمثاله، كيف يجرأ على أن ينهى عبدا هو محمد
324
رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وأتباعه عن أداء الصلاة والعبادة للَّه رب العالمين، ويريد طاعته في عبادة الأوثان، وترك عبادة الخالق الرزاق؟ وتنكير كلمة عَبْداً يدل على كونه كاملا في العبودية. والمراد بالآية: ما أجهل من ينهى أشد الخلق عبودية عن الصلاة، وذلك مذموم عند العقلاء.
روي أن عليا رضي اللَّه عنه رأى في المصلّى أقواما يصلون قبل صلاة العيد، فقال: ما رأيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يفعل ذلك، فقيل له: ألا تنهاهم؟ فقال:
أخشى أن أدخل تحت قوله تعالى: أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى عَبْداً إِذا صَلَّى فلم يصرح بالنهي عن الصلاة.
وأخذ أبو حنيفة منه هذا الأدب الجميل حين قال أبو يوسف: أيقول المصلي حين يرفع رأسه من الركوع: اللهم اغفر لي؟ فقال:
يقول: ربنا لك الحمد، ويسجد، ولم يصرح بالنهي عن الدعاء «١».
٢- أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى، أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى؟ أي أخبرني أيضا عن حال هذا الطاغية الناهي، إن كان على طريق سديد فيما ينهى عنه من عبادة اللَّه تعالى، أو هل هو آمر بالتقوى فيما يأمر به من عبادة الأوثان، كما يعتقد؟
والأكثرون على أن الخطاب للنبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أيضا، ليكون الكلام على نسق واحد. وقيل: الخطاب للكافر، والمعنى: أرأيت يا كافر إن كانت صلاة هذا العبد المنهي هدى، ودعاؤه إلى الدين أمرا بالتقوى، أتنهاه مع ذلك؟
والتقوى: الإخلاص والتوحيد والعمل الصالح الذي تتقى به النار. ويتصور هذا كأن الظالم والمظلوم حضرا عند الحاكم، أحدهما المدعي، والآخر المدعى عليه، ثم خاطب هذا مرة، أي في الكلام الأول: أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى وهذا مرة أي في الكلام الثاني: أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى...
(١) تفسير الرازي: ٣٢/ ٢١، غرائب القرآن: ٣٠/ ١٣٦ [.....]
325
٣- أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى أي أخبرني يا محمد عن حال هذا الكافر أبي جهل إن كذب بدلائل التوحيد الظاهرة، ومظاهر القدرة الباهرة، وبما جاء به رسول اللَّه، وأعرض عن الإيمان بدعوتك؟ والجواب فيما دل عليه ما يأتي: ألم يعلم بعقله أن اللَّه يرى منه هذه الأعمال القبيحة، وأنه سيجازيه ويحاسبه على جرائمه؟
وهذا على رأي الأكثرين في أن الخطاب في أَرَأَيْتَ في المواضع الثلاثة للنبي صلّى اللَّه عليه وسلّم. فإن كان الخطاب للكافر فالمراد بالآية الثالثة: إن كان محمد كاذبا أو متوليا عن الحق، ألا يعلم أن خالقه يراه حتى ينتهي، فلا يحتاج إلى نهيك؟
قال العلماء: هذه الآية وإن نزلت في حق أبي جهل، إلا أن كل من ينهى عن طاعة اللَّه فهو شريك في وعيد أبي جهل.
ثم جاء الزجر والتهديد والوعيد بصيغ مختلفة مبالغ فيها، وبعضها أشد من بعض:
١- أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى أي أما علم هذا الناهي لهذا المهتدي أن اللَّه يراه ويسمع كلامه ويطلع على أحواله، وسيجازيه بها أتم الجزاء، فكيف اجترأ على ما اجترأ عليه؟! ٢- كَلَّا، لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ، ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ أي ليرتدع وينزجر هذا الناهي عن البرّ والعبادة للَّه تعالى، فواللَّه لئن لم ينته عما هو عليه ولم ينزجر عن الشقاق والعناد، لنأخذن بناصيته، ولنجرّنه إلى النار.
والناصية: شعر مقدم الرأس، وصاحبها كاذب خاطئ مستهتر بفعل الخطايا والذنوب.
وفي هذا توعد شديد، وتهديد أكيد عن طغيان هذا الطاغية.
326
٣- فَلْيَدْعُ نادِيَهُ، سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ أي فليدع هذا الناهي أهل ناديه أي قومه وعشيرته، ليستنصر بهم ويعينوه، والنادي: المجلس الذي يجتمع فيه القوم أو الأهل والعشيرة، فإنه إن دعاهم لنصرته، تعرض لسخط ربه وعقابه الأشد، وسندعو له حينئذ الزبانية، أي الملائكة الغلاظ الشداد، ليأخذوه ويلقوه في نار جهنم. وفي هذا تحدّ بالغ.
روي أن أبا جهل قال لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: أتهددني وأنا أكثر أهل الوادي ناديا؟! فنزلت، كما تقدم.
وروى البخاري والترمذي والنسائي وابن جرير عن ابن عباس قال: قال أبو جهل: لئن رأيت محمدا يصلي عند الكعبة لأطأن على عنقه، فبلغ النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: «لئن فعل لأخذته الملائكة».
٤- كَلَّا، لا تُطِعْهُ، وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ أي إياك يا محمد أن تجامل هذا الطاغية في شيء، أو تطيعه فيما دعاك إليه من ترك الصلاة كما قال: فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ [القلم ٦٨/ ٨]، وصل للَّه غير مكترث به، ولا مبال بتهديده أو نهيه، وتقرب إلى اللَّه سبحانه بالطاعة والعبادة، فذلك يكسبك قوة وعزة، ومنعة وهيبة في قلوب الأعداء، والعبادة هي الحصن والوقاية، وطريق النجاة والنجاح والنصر.
وقوله: كَلَّا ردع لأبي جهل عن قبائح أحواله وأفعاله. والمراد بنهي النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم عن طاعة أبي جهل: قطع كل الصلات والعلاقات معه، والمراد بالأمر بالسجود: أن يزداد غيظ الكافر.
وهذا تهكم بهذا الطاغية، واستخفاف به، وتعريض بأن اللَّه سبحانه وتعالى عاصم نبيه وحافظه.
327
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
١- وصف اللَّه تعالى أبا جهل وأمثاله من الطغاة المتمردين المتكبرين بأنه ينهى الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم وأتباعه عن عبادة اللَّه تعالى، وأنه فيما يأمر به من عبادة الأوثان ليس على طريق سديدة، ولا على منهج الهدى، ولا من الآمرين بالتقوى، أي التوحيد والإيمان والعمل الصالح، وأنه في الحقيقة مكذب بكتاب اللَّه عز وجل، ومعرض عن الإيمان.
٢- هدد اللَّه تعالى هذا الطاغية بالحشر والنشر، فإن اللَّه تعالى عالم بجميع المعلومات، حكيم لا يهمل، عالم لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، فلا بد أن يجازي كل أحد بما عمل. وفي هذا تخويف شديد للعصاة، وترغيب قوي لأهل الطاعة.
وهذه الآية، وإن نزلت في حق أبي جهل، فكل من نهى عن طاعة اللَّه، فهو شريك أبي جهل في هذا الوعيد، كما تقدم.
ولا يعترض عليه بالمنع من الصلاة في الدار المغصوبة، والأوقات المكروهة لأن المنهي عنه غير الصلاة، وهو المعصية.
كذلك لا يعترض عليه بمنع الزوجة عن صوم التطوع وعن الاعتكاف لأن ذلك لاستيفاء مصلحة الزوج بإذن اللَّه، لا بغضا بعبادة ربه.
٣- زاد اللَّه تعالى في الزجر والوعيد لذلك الطاغية أبي جهل وأمثاله: بأنه إن لم ينته عن أذى محمد ليأخذن اللَّه بناصيته (مقدم شعر رأسه) وليذلّنه ويجرّنه إلى نار السعير لأن ناصية أبي جهل كاذبة في قوله، خاطئة في فعلها، والخاطئ
328
معاقب مأخوذ، والمخطئ «١» غير مؤاخذ. والمراد أن صاحب تلك الناصية كاذب خاطئ، كما يقال: نهاره صائم، وليله قائم، أي هو صائم في نهاره، قائم في ليله.
٤- تحدى اللَّه تعالى هذا الطاغية مع التهكم والتوبيخ بأن يطلب أهل مجلسه وعشيرته، ليستنصر بهم، فإنه إذا فعل أحضر اللَّه الزبانية الملائكة الغلاظ الشداد لإلقائه في نار السعير.
٥- بالغ اللَّه تعالى في زجر هذا الكافر عن كبريائه، ونفى قدرته على تحقيق تهديده، وحقّره وأبان صغر شأنه وعجز نفسه، فليس الأمر كما يظنه أبو جهل، ولا تطعه يا محمد فيما دعاك إليه من ترك الصلاة، وصل للَّه، وتقرب إلى جنابه بالطاعة والتعبد.
وإنما عبّر عن الصلاة للَّه بقوله وَاسْجُدْ لما
روى عطاء عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «أقرب ما يكون العبد من ربه، وأحبه إليه، جبهته في الأرض، ساجدا للَّه».
وعند مسلم عن أبي هريرة: «أقرب ما يكون العبد من ربه، وهو ساجد، فأكثروا الدعاء».
وإنما كان ذلك لأن السجود على الأرض نهاية العبودية والذلة، وللَّه غاية العزة، وله العزة التي لا مقدار لها، فكلما بعدت من صفته، قربت من جنته، ودنوت من جواره في داره.
جاء في الحديث الصحيح: أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال:
«أما الركوع فعظموا فيه الرب. وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء، فإنه قمن «٢» أن يستجاب لكم» «٣».
(١) الخاطئ: الآثم القاصد للذنب. والمخطئ: من أراد الصواب، فصار إلى غيره.
(٢) قمن: خليق وجدير.
(٣) تفسير القرطبي: ٢٠/ ١٢٨
329

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة القدر
مكيّة، وهي خمس آيات.
تسميتها:
سميت سورة القدر أي العظمة والشرف تسمية لها بصفة ليلة القدر الذي أنزل اللَّه فيها القرآن، فقال سبحانه: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ أي في ليلة عظيمة القدر والشرف.
مناسبتها لما قبلها:
أمر اللَّه تعالى في سورة العلق نبيه صلّى اللَّه عليه وسلّم بقراءة القرآن باسم ربه الذي خلق، واسم الذي علّم الإنسان ما لم يعلم، ثم أبان في هذه السورة زمن البدء في نزول القرآن، وهو ليلة القدر ذات الشرف الرفيع والقدر العالي بسبب نزول القرآن فيها.
ما اشتملت عليه السورة:
تحدثت هذه السورة المكية عن تاريخ بدء نزول القرآن الكريم، وعن فضل ليلة القدر على سائر الأيام والليالي والشهور، لنزول الملائكة وجبريل فيها بالأنوار والأفضال والبركات والخيرات على عباد اللَّه المؤمنين الصالحين، من لدن أرحم الراحمين الذي يفيض بها على من يشاء.
330
Icon