تفسير سورة الهمزة

تفسير البغوي
تفسير سورة سورة الهمزة من كتاب معالم التنزيل المعروف بـتفسير البغوي .
لمؤلفه البغوي . المتوفي سنة 516 هـ
سورة الهمزة
مكية، وآياتها تسع.

الدُّنْيَا وَهَرِمَ، لَفِي نَقْصٍ وَتَرَاجُعٍ إِلَّا الْمُؤْمِنِينَ، فَإِنَّهُمْ يُكْتَبُ لَهُمْ أُجُورُهُمْ وَمَحَاسِنُ أَعْمَالِهِمُ الَّتِي كَانُوا يَعْمَلُونَهَا فِي شَبَابِهِمْ وَصِحَّتِهِمْ، وَهِيَ مِثْلُ قَوْلِهِ: "لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ". سُورَةُ الْهُمَزَةِ مَكِّيَّةٌ (١) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (١) ﴾
﴿وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُمُ الْمَشَّاءُونَ بِالنَّمِيمَةِ، الْمُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْأَحِبَّةِ، الْبَاغُونَ لِلْبُرَآءِ الْعَيْبَ (٢)، وَمَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ وَهُوَ الْعَيَّابُ.
وَقَالَ مُقَاتِلٌ: "الْهُمَزَةُ": الَّذِي يَعِيبُكَ فِي الْغَيْبِ، وَ"اللُّمَزَةُ": الَّذِي يَعِيبُكَ فِي الْوَجْهِ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَالْحَسَنُ بِضِدِّهِ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَقَتَادَةُ: "الْهَمْزَةُ" الَّذِي يَأْكُلُ لُحُومَ النَّاسِ وَيَغْتَابُهُمْ، وَ"اللُّمَزَةُ": الطَّعَّانُ عَلَيْهِمْ.
وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: "الْهُمَزَةُ" الَّذِي يَهْمِزُ النَّاسَ بِيَدِهِ وَيَضْرِبُهُمْ، وَ"اللُّمَزَةُ": الَّذِي يَلْمِزُهُمْ بِلِسَانِهِ وَيَعِيبُهُمْ.
وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: وَيَهْمِزُ بِلِسَانِهِ وَيَلْمِزُ بِعَيْنِهِ. وَمِثْلُهُ قَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: "الْهُمَزَةُ" الَّذِي يُؤْذِي جَلِيسَهُ بِسُوءِ اللَّفْظِ وَ"اللُّمَزَةُ" الَّذِي يُومِضُ بِعَيْنِهِ وَيُشِيرُ بِرَأْسِهِ، وَيَرْمُزُ بِحَاجِبِهِ وَهُمَا نَعْتَانِ لِلْفَاعِلِ، نَحْوُ سُخَرَةٍ وَضُحَكَةٍ: لِلَّذِي يَسْخَرُ وَيَضْحَكُ مِنَ النَّاسِ [وَالْهُمْزَةُ وَاللُّمْزَةُ، سَاكِنَةُ الْمِيمِ، الَّذِي يُفْعَلُ ذَلِكَ بِهِ] (٣).
(١) أخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: أنزلت (ويل لكل همزة) بمكة. انظر الدر المنثور: ٨ / ٦٢٣.
(٢) أخرجه سعيد بن منصور. انظر: فتح الباري ٨ / ٧٢٩.
(٣) ما بين القوسين ساقط من "ب".
وَأَصْلُ الْهَمْزِ: الْكَسْرُ وَالْعَضُّ عَلَى الشَّيْءِ بِالْعُنْفِ.
وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ؟ قَالَ الْكَلْبِيُّ: نَزَلَتْ فِي الْأَخْنَسِ بْنِ شُرَيْقِ بْنِ وَهْبٍ الثَّقَفِيِّ كَانَ يَقَعُ فِي النَّاسِ وَيَغْتَابُهُمْ (١).
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: مَا زِلْنَا نَسْمَعُ أَنَّ سُورَةَ الْهُمَزَةِ [نَزَلَتْ فِي أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ الْجُمَحِيِّ] (٢).
وَقَالَ مُقَاتِلٌ: نَزَلَتْ فِي الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، كَانَ يَغْتَابُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وَرَائِهِ وَيَطْعَنُ عَلَيْهِ فِي وَجْهِهِ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هِيَ عَامَّةٌ فِي حَقِّ كُلِّ مَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ.
﴿الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (٢) يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (٣) كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (٤) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ (٥) نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (٦) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (٧) ﴾
ثُمَّ وَصَفَهُ فَقَالَ: ﴿الَّذِي جَمَعَ مَالًا﴾ قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ: "جَمَّعَ" بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ عَلَى التَّكْثِيرِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالتَّخْفِيفِ. ﴿وَعَدَّدَهُ﴾ أَحْصَاهُ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: اسْتَعَدَّهُ وَادَّخَرَهُ وَجَعَلَهُ عَتَادًا لَهُ، يُقَالُ: أَعْدَدْتُ [الشَّيْءَ] (٣) وَعَدَّدْتُهُ إِذَا أَمْسَكْتُهُ. ﴿يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ﴾ فِي الدُّنْيَا، يَظُنُّ أَنَّهُ لَا يَمُوتُ مَعَ يَسَارِهِ. ﴿كَلَّا﴾ رَدًّا عَلَيْهِ أَنْ لَا يُخَلِّدَهُ مَالُهُ، ﴿لَيُنْبَذَنَّ﴾ لَيُطْرَحَنَّ، ﴿فِي الْحُطَمَةِ﴾ فِي جَهَنَّمَ، وَالْحَطْمَةُ مِنْ أَسْمَاءِ النَّارِ، مِثْلُ: سَقَرَ، وَلَظَى (٤) سُمِّيَتْ "حُطَمَةَ" لِأَنَّهَا تَحْطِمُ الْعِظَامَ وَتَكْسِرُهَا. ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ﴾ أَيِ الَّتِي يَبْلُغُ أَلَمُهَا وَوَجَعُهَا إِلَى الْقُلُوبِ، وَالِاطِّلَاعُ وَالْبُلُوغُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، يُحْكَى عَنِ الْعَرَبِ: مَتَى طَلَعْتَ أَرْضَنَا؟ أَيْ بَلَغْتَ.
وَمَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّهَا تَأْكُلُ كُلَّ شَيْءٍ مِنْهُ حَتَّى تَنْتَهِيَ إِلَى فُؤَادِهِ قَالَهُ الْقُرَظِيُّ وَالْكَلْبِيُّ.
(١) عزاه السيوطي في الدر المنثور: ٨ / ٦٢٣ لابن أبي حاتم عن السدي.
(٢) ما بين القوسين ساقط من "أ" وانظر: ابن هشام: ١ / ٣٨٢.
(٣) ساقط من "أ".
(٤) وهو قول الفراء وذكره البخاري في ترجمة: ٨ / ٧٢٩.
﴿إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (٨) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (٩) ﴾
﴿إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ﴾ مُطْبَقَةٌ مُغْلَقَةٌ. ﴿فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ﴾ قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ: ﴿فِي عُمُدٍ﴾ بِضَمِّ الْعَيْنِ وَالْمِيمِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِفَتْحِهِمَا، كَقَوْلِهِ تعالى: "رفع السموات بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا" (الرَّعْدِ -٢) وَهْمًا جَمِيعًا جَمْعُ عَمُودٍ، مِثْلُ: أَدِيمٍ وَأَدَمٍ [وَأُدُمٍ] (١)، قَالَهُ الْفَرَّاءُ (٢).
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: جَمْعُ عِمَادٍ، مِثْلُ: إِهَابٍ وَأَهَبٍ وَأُهُبٍ (٣).
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَدْخَلَهُمْ فِي عَمَدٍ فَمُدَّتْ عَلَيْهِمْ بِعِمَادٍ.
[وَقِيلَ: "فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ] :(٤) فِي أَعْنَاقِهِمُ الْأَغْلَالُ السَّلَاسِلُ.
[وَقِيلَ: "هِيَ عَمَدٌ مُمَدَّدَةٌ": عَلَى بَابِ جَهَنَّمَ] (٥)، سُدَّتْ عَلَيْهِمْ بِهَا الْأَبْوَابُ [لَا يُمْكِنُهُمُ الْخُرُوجُ] (٦).
وَقَالَ قَتَادَةُ: بَلَغَنَا أَنَّهَا عُمُدٌ يُعَذَّبُونَ بِهَا فِي النَّارِ.
وَقِيلَ: هِيَ أَوْتَادُ الْأَطْبَاقِ الَّتِي تُطْبِقُ عَلَى أَهْلِ النَّارِ، أَيْ أَنَّهَا مُطْبِقَةٌ عَلَيْهِمْ بِأَوْتَادٍ مُمَدَّدَةٍ، وَهِيَ فِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ "بِعُمُدٍ" بِالْبَاءِ.
قَالَ مُقَاتِلٌ: أَطْبَقَتِ الْأَبْوَابُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ سُدَّتْ بِأَوْتَادٍ مِنْ حَدِيدٍ مِنْ نَارٍ حَتَّى يَرْجِعَ عَلَيْهِمْ غَمُّهَا وَحَرُّهَا، فَلَا يُفْتَحُ عَلَيْهِمْ بَابٌ وَلَا يُدْخَلُ عَلَيْهِمْ رَوْحٌ، وَالْمُمَدَّدَةُ مِنْ صِفَةِ الْعَمَدِ، أَيْ مُطَوَّلَةٍ فَتَكُونُ أَرْسَخُ مِنَ الْقَصِيرَةِ.
(١) ساقط من "ب".
(٢) انظر: معاني القرآن للفراء: ٣ / ٢٩١.
(٣) قال الفيومي في "المصباح المنير" ١ / ٢٨: "الإهاب: الجلد.. والجمع: أهب" بضمتين على القياس مثل: كتاب وكتب، وبفتحتين على غير قياس. قال بعضهم: وليس في كلام العرب فعال يجمع على فعل بفتحتين إلا إهاب وأهب، وعماد وعمد.
(٤) ما بين القوسين ساقط من "ب".
(٥) ما بين القوسين ساقط من "ب".
(٦) ما بين القوسين ساقط من "ب".
Icon