وفيها قولان :
أحدهما : مكية، قاله الجمهور.
والثاني : مدنية، قاله الضحاك، وابن السائب.
واختلف القراء في " لإيلاف " : فقرأ ابن عامر ﴿ لإلاف ﴾ بغير ياء بعد الهمزة، مثل : لعلاف. وقرأ أبو جعفر بياء ساكنة من غير همز. وروى حماد بن أحمد عن الشموني بهمزتين مخففتين، الأولى : مكسورة، والثانية : ساكنة على وزن لعِعْلاف. وقرأ الباقون بهمزة بعدها ياء ساكنة، مثل لعيلاف.
وفي لام ﴿ لإيلاف ﴾ ثلاثة أقوال :
أحدها : موصولة بما قبلها، المعنى : فجعلهم كعصف مأكول لإيلاف قريش، أي : أهلك الله أصحاب الفيل لتبقى قريش وما قد ألفوا من رحلة الشتاء والصيف. هذا قول الفراء والجمهور.
والثاني : أنها لام التعجب، كأن المعنى : اعجبوا لإيلاف قريش رحلة الشتاء والصيف، وتركهم عبادة رب هذا البيت، قاله الأعمش والكسائي.
والثالث : أن معناها متصل بما بعدها. المعنى : فليعبدوا رب هذا البيت لإيلافهم رحلة الشتاء والصيف ؛ لأنهم كانوا في الرحلتين آمنين، فإذا عرض لهم عارض قالوا : نحن أهل حرم الله فلا يُتعرض لهم، قال الزجاج : وهذا الوجه قول النحويين الذين ترتضى أقوالهم. وقال ابن قتيبة : بعض الناس يذهب إلى أن هذه السورة وسورة الفيل واحدة، وأكثر الناس على أنهما سورتان، وإن كانتا متصلتي الألفاظ. والمعنى : أن قريش كانت بالحرم آمنة من الأعداء. والحرم واد جديب لا زرع فيه ولا شجر، وإنما كانت قريش تعيش فيه بالتجارة، وكانت لهم رحلتان في كل سنة، رحلة في الشتاء، ورحلة في الصيف إلى الشام، ولولا هاتان الرحلتان لم يكن به مقام، ولولا أنهم بمجاورة البيت لم يقدروا على التصرف، فلما قصد أصحاب الفيل هدم الكعبة أهلكهم الله لتقيم قريش بالحرم، فذكرهم الله نعمته بالسورتين. والمعنى : أنه أهلك أولئك ليؤلف قريشا هاتين الرحلتين اللتين بهما معاشهم، ومقامهم بمكة. تقول : ألفت موضع كذا : إذا لزمته، وألفنيه الله، كما تقول : لزمت موضع كذا وكذا، وألزمنيه الله، وكرر ﴿ لإيلاف ﴾ للتوكيد، كما تقول : أعطيتك المال لصيانة وجهك صيانة عن كل الناس. قال الزجاج : يقال : ألفت المكان ألفا، وآلفته إيلافا بمعنى واحد.
وأما قريش فهم ولد النضر بن كنانة، وكل من لم يلده النضر فليس بقرشي.
وقيل : هم من ولد فهر بن مالك بن النضر، فمن لم يلده فهر فليس بقرشي. وإنما سموا قريشا لتجارتهم وجمعهم المال. والقرش : الكسب. يقال : هو يقرش لعياله، ويقترش، أي : يكتسب. وقد سأل معاوية ابن عباس رضي الله عنهم : لم سميت قريش قريشا ؟ فقال ابن عباس : بدابة تكون في البحر يقال لها : القريش، لا تمر بشيء من الغث والسمين إلا أكلته. وأنشد :
وقريش هي التي تسكن البح | ر بها سميت قريش قريشا |
ولما دنا الرايات واقترش القنا | وطار مع القوم القلوب الرواجف |
ﰡ
والقرش: الكسب. يقال: هو يقرش لعياله، ويقترش، أي: يكتسب. وقد سأل معاوية ابن عباس لم سمّيت قريش قريشا؟ فقال ابن عباس: بدابّة تكون في البحر يقال لها: القريش لا تمرّ بشيء من الغثّ والسمين إلّا أكلته. وأنشد:
وقريش هي التي تسكن البحر | بها سمّيت قريش قريشا |
تأكل الغثّ والسّمين ولا تترك | فيه لذي الجناحين ريشا |
ولمّا دنا الرّايات واقترش القنا | وطار مع القوم القلوب الرّواجف |
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة قريش (١٠٦) : الآيات ١ الى ٤]بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
لِإِيلافِ قُرَيْشٍ (١) إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ (٢) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ (٣) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (٤)قوله عزّ وجلّ: إِيلافِهِمْ قرأ أبو جعفر وابن فليح عن ابن كثير، والوليد بن عتبة عن ابن عامر، والثّعلبي عن ابن ذكوان، عنه «إلا فهم» بهمزة مكسورة من غير ياءٍ بعدها، مثل: علافهم. وروى الخزاعي عن ابن فليح، وأبان بن تغلب عن عاصم «إلفهم» بسكون اللام أيضاً. ورواه الشموني إلا حماداً بهمزتين مكسورتين بعدهما ياء ساكنة، ورواه حماد كذلك إلا أنه حذف الياء. وقرأ الباقون بهمزة، بعدها ياء ساكنة مثل «عيلافهم». وجمهور العلماء على أن الرَّحلتين كانتا للتجارة، وكانوا يخرجون إلى الشام في الصيف، وإلى اليمن في الشتاء لشدة برد الشام. وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كانوا يشتون بمكة، ويصيفون بالطائف. قال الفراء: والرحلة منصوبة بإيقاع الفعل عليها.
قوله عزّ وجلّ: لْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ
أي: ليوحِّدوه الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ أي: بعد الجوع، كما تقول: كسيتك من عري، وذلك أنّ الله آمَنَهم بالحرم، فلم يُتَعرَّض لهم في رحلتهم، وكان ذلك سببا لإطعامهم بعد ما كانوا فيه من الجوع. وروى عطاء عن ابن عباس قال: كانوا في ضُرٍّ ومجاعة حتى جمعهم هاشم على الرّحلتين، فكانوا يقسمون ربحهم بين الغني والفقير حتى استَغْنوا.
قوله عزّ وجلّ: وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ وذلك أنهم كانوا آمنين بالحرم، إن حضروا حماهم، وإن سافروا قيل: هؤلاء أهل الحرم، فلا يَعْرِضُ لهم أحد.