تفسير سورة الملك

الطبري
تفسير سورة سورة الملك من كتاب جامع البيان في تأويل آي القرآن المعروف بـالطبري .
لمؤلفه الطبري . المتوفي سنة 310 هـ

بسم الله الرحمن الرحيم

القول في تأويل قوله تعالى: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (٢) ﴾
يعني بقوله تعالى ذكره: (تَبَارَكَ) : تعاظم وتعالى (الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ) بيده ملك الدنيا والآخرة وسُلطانهما نافذ فيهما أمره وقضاؤه (وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) يقول: وهو على ما يشاء فعله ذو قدرة لا يمنعه من فعله مانع، ولا يحول بينه وبينه عجز.
وقوله: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ) فأمات من شاء وما شاء، وأحيا من أراد وما أراد إلى أجل معلوم (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا) يقول: ليختبركم فينظر أيكم له أيها الناس أطوع، وإلى طلب رضاه أسرع.
وقد حدثني ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ) قال: أذل الله ابن آدم بالموت، وجعل الدنيا دار حياة ودار فناء، وجعل الآخرة دار جزاء وبقاء.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ) ذكر أن نبيّ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم أكان يقول: "إنَّ الله أذَلَّ ابْنَ آدَمَ بالمَوْتِ".
وقوله: (وَهُوَ الْعَزِيزُ) يقول: وهو القويّ الشديد انتقامه ممن عصاه، وخالف أمره (الْغَفُورُ) ذنوب من أناب إليه وتاب من ذنوبه.
القول في تأويل قوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى
فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (٣) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ (٤) }
يقول تعالى ذكره: مخبرا عن صفته: (الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا) طبقا فوق طبق، بعضها فوق بعض.
وقوله: (مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ) يقول جل ثناؤه: ما ترى في خلق الرحمن الذي خلق لا في سماء ولا في أرض، ولا في غير ذلك من تفاوت، يعني من اختلاف.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ) : ما ترى فيهم من اختلاف.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله: (مِنْ تَفَاوُتٍ) قال: من اختلاف.
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة وبعض الكوفيين: (مِنْ تَفَاوُتٍ) بألف. وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة: (مِنْ تَفَوُّتٍ) بتشديد الواو بغير ألف.
والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان معروفتان بمعنى واحد، كما قيل: ولا تُصَاعِرْ، ولا تُصَعِّر؛ وتعهَّدت فلانا، وتعاهدته؛ وتظهَّرت، وتظاهرت؛ وكذلك التفاوت والتفوّت.
وقوله: (فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ)
يقول: فرد البصر، هل ترى فيه من صُدوع؟ وهي من قول الله: (تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ) بمعنى يتشققن ويتصدّعن، الفُطُور مصدر فُطِر فطُورا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
506
عن أبيه، عن ابن عباس (هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ) قال: الفطور: الوهي.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ) يقول: هل ترى من خلل يا ابن آدم.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (مِنْ فُطُورٍ) قال: من خلل
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان (هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ) قال: من شقوق.
وقوله: (ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ) يقول جل ثناؤه: ثم ردّ البصر يا ابن آدم كرّتين، مرة بعد أخرى، فانظر (هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ) أو تفاوت (يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا) يقول: يرجع إليك بصرك صاغرًا مُبْعَدا من قولهم للكلب: اخسأ، إذا طردوه أي أبعد صاغرا (وَهُوَ حَسِيرٌ) يقول: وهو مُعْيٍ كالّ.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس (ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ) يقول: هل ترى في السماء من خَلل؟ (يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ) بسواد الليل.
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، في قوله: (خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ) يقول: ذليلا وقوله: (وَهُوَ حَسِيرٌ) يقول: مرجف.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا) أي حاسرا (وَهُوَ حَسِيرٌ) أي مُعْيٍ
حدثني ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله: (خَاسِئًا) قال: صاغرا، (وَهُوَ حَسِيرٌ) يقول: مُعْيٍ لم ير خَلَلا ولا تفاوتا.
وقال بعضهم: الخاسئ والحسير واحد.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، في قوله: (فَارْجِعِ
507
الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ)... الآية، قال: الخاسئ، والخاسر واحد؛ حَسَر طرفه أن يَرى فيها فَطْرًا فرجع وهو حسير قبل أن يرى فيها فَطْرا؛ قال: فإذا جاء يوم القيامة انفطرت ثم انشقت، ثم جاء أمر أكبر من ذلك انكشطت.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ (٥) ﴾
يقول تعالى ذكره: (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ) وهي النجوم، وجعلها مصابيح لإضاءتها، وكذلك الصبح إنما قيل له صبح للضوء الذي يضئ للناس من النهار (وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ) يقول: وجعلنا المصابيح التي زيَّنا بها السماء الدنيا رجوما للشياطين تُرْجم بها.
وقد حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ) إن الله جلّ ثناؤه إنما خلق هذه النجوم لثلاث خصال: خلقها زينة للسماء الدنيا، ورجومًا للشياطين، وعلامات يهتدي بها؛ فمن يتأوّل منها غير ذلك، فقد قال برأيه، وأخطأ حظه، وأضاع نصيبه، وتكلَّف ما لا علم له به.
وقوله: (وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ) يقول جلّ ثناؤه: وأعتدنا للشياطين في الآخرة عذاب السعير، تُسْعَر عليهم فتُسْجَر.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٦) إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ (٧) ﴾
يقول تعالى ذكره: (وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ) الذي خلقهم في الدنيا (عَذَابَ جَهَنَّمَ) في الآخرة (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) يقول: وبئس المصير عذاب جهنم.
وقوله: (إِذَا أُلْقُوا فِيهَا) يعني إذا ألقى الكافرون في جهنم (سَمِعُوا لَهَا) يعني لجهنم (شَهِيقًا) يعني بالشهيق: الصوت الذي يخرج من الجوف بشدّة كصوت
الحمار، كما قال رؤبة في صفة حمار:
حَشْرج في الجَوْفِ سَحيلا أوْ شهَقْ حَتَّى يُقَال ناهِق ومَا نَهَقْ (١)
وقوله: (وَهِيَ تَفُورُ) يقول: تَغْلِي.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن مجاهد (سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ) يقول: تغلي كما يغلي القدر.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (٨) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نزلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ (٩) ﴾
يقول تعالى ذكره: (تَكَادُ) جهنم (تَمَيَّزُ) يقول: تتفرّق وتتقطع (مِنَ الْغَيْظِ) على أهلها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ) يقول: تتفرّق.
(١) البيتان في (ديوان رؤبة الراجز طبع ليبسج ١٠٦) وحشرج الحمار: قطع صوته وردده في حلقه، والسحيل: صوت إلى البحة يدور في صدر الحمار، وكذلك السحال بالضم والشهيق: نهيق الحمار. والشهيق: رد النفس، والزفير: إخراج النفس، قال الله عز وجل في صفة أهل النار: (لهم فيها زفير وشهيق) قال الزجاج: الزفير والشهيق: من أصوات المكروبين. قال: والزفير من شديد الأنين وقبيحة. والشهيق: الأنين الشديد المرتفع جدا. قال: وزعم بعض أهل اللغة من البصريين والكوفيين: أن الزفير بمنزلة ابتداء صوت الحمار من النهيق، والشهيق: بمنزلة آخر صوته في الشهيق. وروى عن الربيع في قوله: (لهم فيها زفير وشهيق) قال: الزفير في الحلق، والشهيق في الصدر (اللسان: شهق).
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ) تكاد يفارق بعضها بعضا وتنفطر.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ) يقول: تفرّق.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، في قوله: (تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ) قال: التميز: التفرّق من الغيظ على أهل معاصي الله غضبا لله، وانتقاما له.
وقوله: (كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ) يقول جلّ ثناؤه: كلما ألقي في جهنم جماعة (سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ) يقول: سأل الفوجَ خزنة جهنم، فقالوا لهم: ألم يأتكم ي الدنيا نذير ينذركم هذا العذاب الذي أنتم فيه؟ فأجابهم المساكين (قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ) ينذرنا هذا، فَكَذَّبْناهُ وَقُلْنَا له (مَا نزلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ) يقول: في ذهاب عن الحقّ بعيد.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (١٠) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لأصْحَابِ السَّعِيرِ (١١) ﴾
يقول تعالى ذكره: وقال الفوج الذي ألقي في النار للخزنة: (لَوْ كُنَّا) في الدنيا (نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ) من النذر ما جاءونا به من النصيحة، أو نعقل عنهم ما كانوا يدعوننا إليه (مَا كُنَّا) اليوم (فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ) يعني: أهل النار.
وقوله: (فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ) يقول: فأقرّوا بذنبهم ووحَّد الذنب، وقد أضيف إلى الجمع لأن فيه معنى فعل، فأدى الواحد عن الجمع، كما يقال: خرج عطاء الناس، وأعطية الناس (فَسُحْقًا لأصْحَابِ السَّعِيرِ) يقول: فبُعدا لأهل النار.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (فَسُحْقًا لأصْحَابِ السَّعِيرِ) يقول: بُعدا.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن سلمة بن كهيل، عن سعيد بن جبير (فَسُحْقًا لأصْحَابِ السَّعِيرِ) قال: قال سُحقا واد في جهنم، والقرّاء على تخفيف الحاء من السُّحْق، وهو الصواب عندنا لأن الفصيح من كلام العرب ذلك، ومن العرب من يحرّكها بالضمّ.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (١٢) ﴾
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (١٣) ﴾
يقول تعالى ذكره: إن الذين يخافون ربهم بالغيب، يقول: وهم لم يرَوُه (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) يقول: لهم عفو من الله عن ذنوبهم (وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) يقول: وثواب من الله لهم على خشيتهم إياه بالغيب جزيل.
وقوله: (وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ) يقول جلّ ثناؤه: وأخفوا قولكم وكلامكم أيها الناس أو أعلنوه وأظهروه (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) يقول: إنه ذو علم بضمائر الصدور التي لم يُتَكَلَّم بها، فكيف بما نطق به وتكلم به، أخفي ذلك أو أعلن، لأن من لم تخف عليه ضمائر الصدور فغيرها أحرى أن لا يخفي عليه.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (١٤) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ ذَلُولا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (١٥) ﴾
يقول تعالى ذكره: (أَلا يَعْلَمُ) الربّ جلّ ثناؤه (مَنْ خَلَقَ) من خلقه؟ يقول: كيف يخفي عليه خلقه الذي خلق (وَهُوَ اللَّطِيفُ) بعباده (الْخَبِيرُ) بهم وبأعمالهم.
وقوله: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ ذَلُولا)
يقول تعالى ذكره: الله الذي جعل لكم الأرض ذَلُولا سَهْلا سَهَّلها لكم (فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا).
اختلف أهل العلم في معنى (مَنَاكِبِهَا) فقال بعضهم: مناكبها: جبالها.
511
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (فِي مَنَاكِبِهَا) يقول: جبالها.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الأعلى، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، عن بشير بن كعب أنه قرأ هذه الآية (فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا) فقال لجارية له: إن دَريْت ما مناكبها، فأنت حرة لوجه الله؛ قالت: فإن مناكبها: جبالها، فكأنما سُفِع في وجهه، ورغب في جاريته، فسأل، منهم من أمره، ومنهم من نهاه، فسأل أبا الدرداء، فقال: الخير في طمأنينة، والشرّ في ريبة، فَذرْ ما يريبك إلى ما لا يريبك.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا معاذ بن هشام، قال: ثني أبي، عن قتادة، عن بشير بن كعب، بمثله سواء.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا) : جبالها.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله: (فِي مَنَاكِبِهَا) قال: في جبالها.
وقال آخرون: (مَنَاكِبِهَا) : أطرافها ونواحيها.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا) يقول: امشوا في أطرافها.
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، عن سعيد، عن قتادة، أن بشير بن كعب العدويّ، قرأ هذه الآية (فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا) فقال لجاريته: إن أخبرتني ما مناكبها، فأنت حرّة، فقالت: نواحيها؛ فأراد أن يتزوّجها، فسأل أبا الدرداء، فقال: إن الخير في طمأنينة، وإن الشرّ في ريبة، فدع ما يَريبك إلى ما لا يريبك.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا) قال: طرقها وفجاجها.
512
وأولى القولين عندي بالصواب قول من قال: معنى ذلك: فامشوا في نواحيها وجوانبها، وذلك أن نواحيها نظير مناكب الإنسان التي هي من أطرافه.
وقوله: (وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ) يقول: وكلوا من رزق الله الذي أخرجه لكم من مناكب الأرض، (وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) يقول تعالى ذكره: وإلى الله نشركم من قبوركم.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (١٦) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (١٧) ﴾
يقول تعالى ذكره: (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ) أيها الكافرون (أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ) يقول: فإذا الأرض تذهب بكم وتجيئ وتضطرب (أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ) وهو الله (أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا) وهو التراب فيه الحصباء الصغار (فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ) يقول: فستعلمون أيها الكفرة كيف عاقبة نذيري لكم، إذ كذبتم به، ورددتموه على رسولي.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (١٨) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (١٩) ﴾
يقول تعالى ذكره: ولقد كذّب الذين من قبل هؤلاء المشركين من قريش من الأمم الخالية رسلهم. (فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ) يقول: فكيف كان نكيري تكذيبهم إياهم (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ) يقول: أو لم ير هؤلاء المشركون إلى الطير فوقهم صافات أجنحتهنّ (وَيَقْبِضْنَ) يقول: ويقبضن أجنحتهنّ أحيانا. وإنما عُنِي بذلك أنها تصُفُّ أجنحتها أحيانا، وتقبض أحيانا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن عبد الأعلى، مقال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله: (صَافَّاتٍ) قال: الطير يصفّ جناحه كما رأيت، ثم يقبضه.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ) بسطهنّ أجنحتهنّ وقبضهنّ.
وقوله: (مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلا الرَّحْمَنُ) يقول: ما يمسك الطير الصافات فوقكم إلا الرحمن. يقول: فلهم بذلك مذكر إن ذكروا، ومعتبر إن اعتبروا، يعلمون به أن ربهم واحد لا شريك له (إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ) يقول: إن الله بكل شيء ذو بصر وخبرة، لا يدخل تدبيره خلل، ولا يرى في خلقه تفاوت.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿أَمْ مَنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلا فِي (٢٠) ﴾
يقول تعالى ذكره: للمشركين به من قريش: من هذا الذي هو جند لكم أيها الكافرون به، ينصركم من دون الرحمن إن أراد بكم سوءا، فيدفع عنكم ما أراد بكم من ذلك (إِنِ الْكَافِرُونَ إِلا فِي غُرُورٍ) يقول تعالى ذكره: ما الكافرون بالله إلا في غرور من ظنهم أن آلهتهم تقرّبهم إلى الله زلفى، وأنها تنفع أو تضر.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿أَمْ مَنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ (٢١) ﴾
يقول تعالى ذكره: أم من هذا الذي يطعمكم ويسقيكم، ويأتي بأقواتكم إن أمسك بكم رزقه الذي يرزقه عنكم.
وقوله: (بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ) يقول: بل تمادوا في طغيان ونفور عن الحقّ واستكبار.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ) يقول: في ضلال.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله: (بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ) قال: كفور.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمْ مَنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ (٢٢) ﴾
يقول تعالى ذكره: (أَفَمَنْ يَمْشِي) أيها الناس (مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ) لا يبصر ما بين يديه، وما عن يمينه وشماله (أَهْدَى) : أشدّ استقامة على الطريق، وأهدى له، (أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا) مشي بني آدم على قدميه (عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) يقول: على طريق لا اعوجاج فيه؛ وقيل (مُكِبًّا) لأنه فعل غير واقع، وإذا لم يكن واقعا أدخلوا فيه الألف، فقالوا: أكبّ فلان على وجهه، فهو مكبّ؛ ومنه قول الأعشى:
مُكِبا على رَوْقَيْه يَحْفِرُ عِرْقَها عَلَى ظَهْر عُرْيان الطَّرِيقةِ أهْيَما (١)
فقال: مكبا، لأنه فعل غير واقع، فإذا كان واقعا حُذفت منه الألف، فقيل:
(١) البيت لأعشى بني قيس بن ثعلبة (ديوانه ٢٩٥) من قصيدة يمدح بها إياس بن قبيصة الطائي، والبيت في وصف ثور شبه به ناقة. ومكبا: مطأطئا رأسه يحفر الأرطاة (في البيت قبله) ليتخذ فيها كناسا يأوى إليه. وروقية: قرنيه. وعلى ظهر عريان الطريقة: على ظاهر الطريق. وأهيم منهار لا يتماسك، وهو من صفة (عريان الطريقة). يقول: أكب الثور على أصل الشجرة بقرينه يحفر فيها بيتا يؤويه، في هذا الموضع المكشوف، الذي تنهال رماله غير متماسكة. وقد أورد المؤلف البيت شاهدا على قول الله تعالى: (أفمن يمشي مكبا على وجهه) أي مطرقا إلى الأرض. وقال الفراء في معاني القرآن. (الورقة ٣٣٨) وقوله: (أفمن يمشي مكبا على وجهه) تقول: قد أكب الرجل إذا كان فعل غير واقع على أحد (غير متعد) فإذا وقع الفعل (تعدى) أسقطت الألف، فتقول: قد كبه الله لوجهه، وكببته أنا لوجهه. اهـ
515
كببت فلانا على وجهه وكبه الله على وجهه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) يقول: من يمشي في الضلالة أهدى، أم من يمشي مهتديا؟.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ) قال: في الضلالة (أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) قال: حقّ مستقيم.
حدثنا عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ) يعني الكافر أهدى (أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا) المؤمن؟ ضرب الله مثلا لهما.
وقال آخرون: بل عنى بذلك أن الكافر يحشره الله يوم القيامة على وجهه، فقال: (أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ) يوم القيامة (أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا) يومئذ.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى) "هو الكافر أكبّ على معاصي الله في الدنيا، حشره الله يوم القيامة على وجهه، فقيل: يا نبيّ الله كيف يحشر الكافر على وجهه؟ قال: "إن الذي أمشاه على رجليه قادر أن يحشره يوم القيامة على وجهه"
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ) قال: هو الكافر يعمل بمعصية الله، فيحشره الله يوم القيامة على وجهه. قال معمر: قيل للنبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: كيف يمشون على وجوههم؟ قال: "إنَّ الَّذِي أمْشاهُم على أقْدَامِهمْ قادِرٌ عَلى أنْ يُمْشيَهُمْ عَلى وُجُوهِهِمْ"
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) قال المؤمن عمل بطاعة الله، فيحشره الله على طاعته.
516
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ وَالأفْئِدَةَ قَلِيلا مَا تَشْكُرُونَ (٢٣) ﴾
يقول تعالى ذكره: قل يا محمد للذين يكذّبون بالبعث من المشركين. الله الذي أنشأكم فخلقكم، (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ) تسمعون به (وَالأبْصَارَ) تبصرون بها (وَالأفْئِدَةَ) تعقلون بها (قَلِيلا مَا تَشْكُرُونَ) يقول: قليلا ما تشكرون ربكم على هذه النعم التي انعمها عليكم.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الأرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٤) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٢٥) ﴾
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد، الله (الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الأرْضِ) يقول: الله الذي خلقكم في الأرض (وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) يقول: وإلى الله تحشرون، فتجمعون من قبوركم لموقف الحساب (وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) يقول جلّ ثناؤه: ويقول المشركون: متى يكون ما تعدنا من الحشر إلى الله إن كنتم صادقين في وعدكم إيانا ما تعدوننا.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢٦) ﴾
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (٢٧) ﴾
يقول تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وَسلم: قل يا محمد لهؤلاء المستعجليك بالعذاب وقيام الساعة: إنما علم الساعة، ومتى تقوم القيامة عند الله لا يعلم ذلك غيره (وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ) يقول: وما أنا إلا نذير لكم أنذركم عذاب الله على كفركم به (مُبِينٌ) : قد أبان لكم إنذاره.
517
وقوله: (فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا) يقول تعالى ذكره: فلما رأى هؤلاء المشركون عذاب الله زلفة، يقول: قريبا، وعاينوه، (سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا) يقول: ساء الله بذلك وجوه الكافرين.
وبنحو الذي قلنا في قوله: (زُلْفَةً) قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، عن أبي رجاء، عن الحسن، في قوله: (فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ) قال: لما عاينوه.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا يحيى بن أبي بكير، قال: ثنا شعبة، عن أبي رجاء، قال: سألت الحسن، عن قوله: (فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً) قال: معاينة.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً) قال: قد اقترب.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا) لما عاينت من عذاب الله.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً) قال: لما رأوا عذاب الله زلفة، يقول: سيئت وجوههم حين عاينوا من عذاب الله وخزيه ما عاينوا.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، في قوله: (فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ) قيل: الزلفة حاضر قد حضرهم عذاب الله عزّ وجلّ.
: (وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ) يقول: وقال الله لهم: هذا العذاب الذي كنتم به تذكرون ربكم أن يعجله لكم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، في قوله: (وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ) قال: استعجالهم بالعذاب.
518
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء الأمصار (هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ) بتشديد الدال بمعنى تفتعلون من الدعاء.
وذكر عن قتادة والضحاك أنهما قرءا ذلك (تَدَّعُونَ) بمعنى تفعلون في الدنيا.
حدثني أحمد بن يوسف، قال: ثنا القاسم، قال: ثنا حجاج، عن هارون، قال: أخبرنا أبان العطار وسعيد بن أبي عروبة، عن قتادة أنه قرأها (الذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ) خفيفة؛ ويقول: كانوا يدعون بالعذاب، ثم قرأ: (وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ).
والصواب من القراءة في ذلك، ما عليه قراء الأمصار لإجماع الحجة من القرّاء عليه.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (٢٨) ﴾
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: (قُلْ) يا محمد للمشركين من قومك، (أَرَأَيْتُمْ) أيها الناس (إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ) فأماتني (وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا) فأخَّر في آجالنا (فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ) بالله (مِنْ عَذَابِ) موجع مؤلم، وذلك عذاب النار. يقول: ليس ينجي الكفار من عذاب الله موتُنا وحياتنا، فلا حاجة بكم إلى أن تستعجلوا قيام الساعة، ونزول العذاب، فإن ذلك غير نافعكم، بل ذلك بلاء عليكم عظيم.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٩) ﴾
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد ﷺ قل يا محمد: ربنا (الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ) يقول: صدّقنا به (وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا) يقول: وعليه اعتمدنا في أمورنا، وبه وثقنا فيها (فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) يقول: فستعلمون أيها المشركون بالله الذي هو في ذهاب عن الحقّ، والذي هو على غير طريق مستقيم منا ومنكم إذا صرنا إليه، وحشرنا جميعا.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ (٣٠) ﴾
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: (قُلْ) يا محمد لهؤلاء المشركين: (أَرَأَيْتُمْ) أيها القوم العادلون بالله (إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا) يقول: غائرا لا تناله الدلاء (فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ) يقول: فمن يجيئكم بماء معين، يعني بالمعين: الذي تراه العيون ظاهرا
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ) يقول: بماء عذب.
حدثنا ابن عبد الأعلى بن واصل، قال: ثني عبيد بن قاسم البزاز، قال: ثنا شريك، عن سالم، عن سعيد بن جُبير في قوله: (إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا) لا تناله الدلاء (فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ) قال: الظاهر.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا) : أي ذاهبا (فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ) قال: الماء المعين: الجاري.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول، في قوله: (مَاؤُكُمْ غَوْرًا) ذاهبا (فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ) جار.
وقيل غورا فوصف الماء بالمصدر، كما يقال: ليلة عم، يراد: ليلة عامة.
آخر تفسير سورة الملك
Icon