تفسير سورة الشرح

التفسير الوسيط للزحيلي
تفسير سورة سورة الشرح من كتاب التفسير الوسيط المعروف بـالتفسير الوسيط للزحيلي .
لمؤلفه وهبة الزحيلي . المتوفي سنة 1436 هـ

تفسير سورة الشرح أو الانشراح
نعم أخرى على النبي صلّى الله عليه وسلّم
أنعم الله تعالى على نبيه قبل البعثة وبعدها بنعم كثيرة، منها اجتماعية إنسانية، كما في سورة الضحى، ومنها شخصية ودينية تتعلق برسالته، كما في سورة الشرح المكية بالإجماع، والسورتان ذات موضوع واحد، وترتبط كل منهما بالأخرى، حتى قال بعضهم: إنهما سورة واحدة. ومجملها شرح الصدر: وهو كناية عن السرور، ووضع الأوزار المتقدمة على النبوة، ورفع الذّكر والسمعة والصيت، وتحقيق اليسر في الدين والدنيا والآخرة، وكل ذلك يقتضي الشكر، والحث على العبادة، والطاعة، والعمل الصالح، كما يبدو في سورة الشرح الآتية:
[سورة الشرح (٩٤) : الآيات ١ الى ٨]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (١) وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ (٢) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (٣) وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ (٤)
فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (٥) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (٦) فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (٧) وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ (٨)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» «٦» «٧» [الشرح: ٩٤/ ١- ٨].
هذه طائفة من النعم التي أنعم الله بها على نبيه محمد صلّى الله عليه وسلّم، أولها: أن شرح الله صدره للنبوة وهيأه لها، وشرح الصدر في رأي الجمهور: تنويره بالحكمة، وتوسيعه لتلقي ما يوحى إليه. وقال ابن عباس رضي الله عنه وجماعة: هذه إشارة إلى شرح
(١) ألم نوسع ونبسط لك صدرك أيها النبي، وهو كناية عن السرور وانبساط النفس.
(٢) حملك الثقيل.
(٣) أثقله.
(٤) الصعوبة والشدة.
(٥) سهولة.
(٦) إذا فرغت من تبليغ الرسالة، فأتعب نفسك في الدعاء والعبادة.
(٧) اتجه إلى الله.
2894
صدره عليه السّلام، بشق جبريل عليه السّلام عنه، في وقت صغره، وفي وقت الإسراء، إذ التشريح: شق اللحم.
وحديث شق الصدر
أخرجه الإمام أحمد عن أبي بن كعب: ومضمون الحديث: أن جبريل عليه السّلام أتى محمدا صلّى الله عليه وسلّم في صغره، وشق صدره، وأخرج قلبه، وغسله، وأنقاه من المعاصي، ثم ملأه علما وإيمانا وحكمة، ووضعه في صدره.
وهذا من قبيل إرهاصات النبوة، أي مقدماتها وبشائرها.
وحططنا عنك ما كنت تتصور من وجود ذنوب ومعاص أثقلت كاهلك، وأتعبت نفسك، سواء قبل النبوة أو بعدها، مما هو خلاف الأولى، وهو لا يتفق مع سمو قدرك، ورفعة منزلتك، وعلو شأنك، كالإذن لبعض المنافقين بالتخلف عن غزوة تبوك، وقبول الفداء من أسرى بدر، والعبوس في وجه الأعمى ابن أم مكتوم.
وجعلنا لك ذكرا مرفوعا عاليا في الدنيا والآخرة، بالنبوة وختم الرسالات بك، وإنزال القرآن العظيم عليك، وتكليف المؤمنين بالشهادتين، سواء في الأذان والإقامة أو في التشهد، أو في الخطبة وغيرها. والهدف من تعداد هذه النعم: أنه قد جعلنا لك يا محمد جميع هذا، فلا تكترث بأذى قريش، فإن الذي فعل بك هذه النعم، سينصرك عليهم.
ثم أخبر الله تعالى عن خصيصة مهمة جدا من خصائص رسالة النبي صلّى الله عليه وسلّم، وهي وجود يسيرين مع كل عسر، لتقوية رجائه وأمله في تغير أحواله وانتصاره، ردا على المشركين الذين عيّروا النبي بالفقر، والضعف. والمعنى: إن مع كل عسر يسرين بهذه الآية: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (٥) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (٦) لأن العسر معرّف للعهد، و (اليسر) منكر، فالأول وهو اليسر غير الثاني، وأما العسر فهو واحد. والعسر المعرّف واحد، لكن اليسر منكر، فهو اثنان، فيكون مع كل عسر يسران، لما
أخرجه
2895
الحاكم، وعبد الرزاق، وابن جرير، والبيهقي، عن الحسن، قال: خرج النبي صلّى الله عليه وسلّم يوما فرحا مسرورا، وهو يضحك ويقول: «لن يغلب عسر يسرين، إن مع العسر يسرا، إن مع العسر يسرا».
أي مع ما تراه من الأذى فرج يأتيك.
وهذه بشارة للرسول صلّى الله عليه وسلّم بأن الله سيبدل حاله من فقر إلى غنى، ومن ضعف إلى عزة وقوة، ومن عداوة قومه إلى محبتهم.
ثم أمر الله تعالى نبيه بمتابعة العبادة والعمل والطاعة، فإذا فرغ من شغل من أشغال النبوة والعبادة، فعليه أن ينصب (يتعب) في آخر، والنصب: التعب، فالمعنى: أن يدأب على ما أمر به ولا يفتر.
إذا فرغت أيها النبي من تبليغ الدعوة، أو من الجهاد، أو من عبادة، أو من أحد مشاغل الدنيا وعلاقاتها، فأتعب نفسك في العبادة، واجتهد في الدعاء، واطلب من الله حاجتك، وأخلص لربك النية والرغبة، وهذا دليل على طلب الاستمرار في العمل الصالح والخير والمثابرة على الطاعة، لأن استغلال الوقت مطلوب شرعا، والانتفاع بالزمن ضروري دائما.
وإذا فرغت من أعمالك الدينية والدنيوية، فأقبل على الله تعالى، واجعل رغبتك إلى الله وحده، وتضرع إليه راهبا من النار، راغبا في الجنة، ولا تطلب ثواب عملك إلا من الله تعالى، فإنه الجدير بالتوجيه والتضرع إليه، والتوكل عليه، فهذا أمر بالتوكل على الله عز وجل، وصرف وجه الرغبات إليه لا إلى سواه.
إن هذه الأوامر بمتابعة العبادة والتضرع إلى الله، والتوكل على الله وحده، تصوغ فكر النبي صلّى الله عليه وسلّم، وتصبغ قلبه بالعبادة الخالصة لله سبحانه، وتجعله إنسان الدعوة الدائمة إلى الله، بلسانه وقلبه وفكره وسلوكه وعمله، فيتهيأ أن يكون الأسوة الحسنة والقدوة الطيبة للأجيال، على سبيل الوفاء والكمال.
2896
Icon