تفسير سورة سبأ

تفسير البيضاوي
تفسير سورة سورة سبأ من كتاب أنوار التنزيل وأسرار التأويل المعروف بـتفسير البيضاوي .
لمؤلفه البيضاوي . المتوفي سنة 685 هـ
سورة سبأ مكية وقيل إلا قوله : ويرى الذين أتوا العلم الآية، وآيها أربع وخمسون آية.

(٣٤) سورة سبأ
مكية وقيل إلا قوله: (وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) الآية، وآيها أربع وخمسون آية
[سورة سبإ (٣٤) : الآيات ١ الى ٢]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (١) يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (٢)
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ خلقاً ونعمة، فله الحمد في الدنيا لكمال قدرته وعلى تمام نعمته. وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ لأن ما في الآخرة أيضاً كذلك، وليس هذا من عطف المقيد على المطلق فإن الوصف بما يدل على أنه المنعم بالنعم الدنيوية قيد الحمد بها، وتقديم الصلة للاختصاص فإن النعم الدنيوية قد تكون بواسطة من يستحق الحمد لأجلها ولا كذلك نعم الآخرة. وَهُوَ الْحَكِيمُ الذي أحكم أمور الدارين. الْخَبِيرُ ببواطن الأشياء.
يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ كالغيث ينفذ في موضع وينبع في آخر، وكالكنوز والدفائن والأموات. وَما يَخْرُجُ مِنْها كالحيوان والنبات والفلزات وماء العيون. وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ كالملائكة والكتب والمقادير والأرزاق والأنداء والصواعق. وَما يَعْرُجُ فِيها كالملائكة وأعمال العباد والأبخرة والأدخنة. وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ للمفرطين في شكر نعمته مع كثرتها، أو في الآخرة مع ما له من سوابق هذه النعم الفائتة للحصر.
[سورة سبإ (٣٤) : آية ٣]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لاَ تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٣)
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لاَ تَأْتِينَا السَّاعَةُ إنكار لمجيئها أو استبطاء استهزاء بالوعد به. قُلْ بَلى رد لكلامهم وإثبات لما نفوه. وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ تكرير لإِيجابه مؤكداً بالقسم مقرراً لوصف المقسم به بصفات تقرر إمكانه وتنفي استبعاده على ما مر غير مرة، وقرأ حمزة والكسائي «علام الغيب» للمبالغة، ونافع وابن عامر ورويس عالِمِ الْغَيْبِ بالرفع على أنه خبر محذوف أو مبتدأ خبره. لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وقرأ الكسائي لاَ يَعْزُبُ بالكسر. وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ جملة مؤكدة لنفي العزوب، ورفعهما بالابتداء ويؤيده القراءة بالفتح على نفي الجنس، ولا يجوز عطف المرفوع على مِثْقالُ والمفتوح على ذَرَّةٍ بأنه فتح في موضع الجر لامتناع الصرف لأن الاستثناء يمنعه، اللهم إلا إذا جعل الضمير في عَنْهُ للغيب وجعل المثبت في اللوح خارجاً عنه لظهوره على المطالعين له فيكون المعنى لا ينفصل عن الغيب شيء إلا مسطوراً في اللوح.
[سورة سبإ (٣٤) : الآيات ٤ الى ٥]
لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٤) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (٥)
لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ علة لقوله لَتَأْتِيَنَّكُمْ وبيان لما يقتضي إتيانها. أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ لا تعب فيه ولا مَنٌ عليه.
وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا بإبطال وتزهيد الناس فيها. مُعاجِزِينَ مسابقين كي يفوتونا. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو معجزين أي مثبطين عن الإِيمان من أراده. أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ من سيّئ العذاب.
أَلِيمٌ مؤلم، ورفعه ابن كثير ويعقوب وحفص.
[سورة سبإ (٣٤) : آية ٦]
وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (٦)
وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ويعلم أولو العلم من الصحابة ومن شايعهم من الأمة، أو من مسلمي أهل الكتاب. الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ القرآن. هُوَ الْحَقَّ ومن رفع الْحَقَّ جعل هو مبتدأ والْحَقَّ خبره والجملة ثاني مفعولي يَرَى، وهو مرفوع مستأنف للاستشهاد بأولي العلم على الجهلة الساعين في الآيات. وقيل منصوب معطوف على لِيَجْزِيَ أي وليعلم أولو العلم عند مجيء الساعة أنه الحق عياناً كما علموه الآن برهاناً وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ الذي هو التوحيد والتدرع بلباس التقوى.
[سورة سبإ (٣٤) : الآيات ٧ الى ٨]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (٧) أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ (٨)
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا قال بعضهم لبعض. هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يعنون محمداً عليه الصلاة والسلام.
يُنَبِّئُكُمْ يحدثكم بأعجب الاعاجيب. إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ إنكم تنشؤون خلقاً جديداً بعد أن تمزق أجسادكم كل تمزيق وتفريق بحيث تصير تراباً، وتقديم الظرف للدلالة على البعد والمبالغة فيه، وعامله محذوف دل عليه ما بعده فإن ما قبله لم يقارنه وما بعده مضاف إليه، أو محجوب بينه وبينه بأن ومُمَزَّقٍ يحتمل أن يكون مكاناً بمعنى إذا مزقتم وذهبت بكم السيول كل مذهب وطرحتم كل مطرح وجَدِيدٍ بمعنى فاعل من جد كحديد من حد، وقيل بمعنى مفعول من جد النساج الثوب إذا قطعه.
أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ جنون يوهمه ذلك ويلقيه على لسانه، واستدل بجعلهم إياه قسيم الافتراء غير معتقدين صدقه على أن بين الصدق والكذب واسطة، وهو كل خبر لا يكون عن بصيرة بالمخبر عنه وضعفه بين لأن الافتراء أخص من الكذب. بَلِ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ رد من الله تعالى عليهم ترديدهم وإثبات لهم ما هو أفظع من القسمين، وهو الضلال البعيد عن الصواب بحيث لا يرجى الخلاص منه وما هو مؤداه من العذاب، وجعله رسيلاً له في الوقوع ومقدماً عليه في اللفظ للمبالغة في استحقاقهم له، والبعد في الأصل صفة الضال ووصف الضلال به على الإسناد المجازي.
[سورة سبإ (٣٤) : آية ٩]
أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (٩)
أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ تذكير بما يعاينونه مما يدل على كمال قدرة الله وما يحتمل فيه إزاحة لاسَتحالتهم الإِحياء حتى جعلوه افتراء وهزءا، وتهديداً عليها والمعنى أعموا فلم ينظروا إلى ما أحاط بجوانبهم من السماء والأرض ولم يتفكروا أهم أشد خلقاً، أم السماء، وإنا إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً، لتكذيبهم بالآيات بعد ظهور البينات. وقرأ حمزة والكسائي يشأ ويخسف ويسقط بالياء لقوله: أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ. والكسائي وحده بإدغام الفاء في الباء وحفص كِسَفاً بالتحريك. إِنَّ فِي ذلِكَ النظر والتفكر فيهما
وما يدلان عليه. لَآيَةً لدلالة. لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ راجع إلى ربه فإنه يكون كثير التأمل في أمره.
[سورة سبإ (٣٤) : الآيات ١٠ الى ١١]
وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (١٠) أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١)
وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا أي على سائر الأنبياء وهو ما ذكر بعد، أو على سائر الناس فيندرج فيه النبوة والكتاب والملك والصوت الحسن. يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ رجعي معه التسبيح أو النوحة على الذنب، وذلك إما بخلق صوت مثل صوته فيها أو بحملها إياه على التسبيح إذا تأمل ما فيها، أو سيري معه حيث سار. وقرئ «أوبي» من الأوب أي ارجعي في التسبيح كلما رجع فيه، وهو بدل من فَضْلًا أو من آتَيْنا بإضمار قولنا أو قلنا. وَالطَّيْرَ عطف على محل الجبال ويؤيده القراءة بالرفع عطفاً على لفظها تشبيهاً للحركة البنائية العارضة بالحركة الإِعرابية أو على فَضْلًا، أو مفعول معه ل أَوِّبِي وعلى هذا يجوز أن يكون الرفع بالعطف على ضميره وكان الأصل: ولقد آتينا داود منا فضلاً تأويب الجبال والطير، فبدل بهذا النظم لما فيه من الفخامة والدلالة على عظم شأنه وكبرياء سلطانه، حيث جعل الجبال والطيور كالعقلاء المنقادين لأمره في نفاذ مشيئته فيها. وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ جعلناه في يده كالشمع يصرفه كيف يشاء من غير إحماء وطرق بآلاته أو بقوته.
أَنِ اعْمَلْ أمرناه أن اعمل ف أَنِ مفسرة أو مصدرية. سابِغاتٍ دروعا واسعات، وقرئ «صابغات» وهو أول من اتخذها. وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وقدر في نسجها بحيث يتناسب حلقها، أو قدر مساميرها فلا تجعلها دقاقاً فتقلق ولا غلاظاً فتنخرق.
ورد بأن دروعه لم تكن مسمرة
ويؤيده قوله: وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ.
وَاعْمَلُوا صالِحاً الضمير فيه لداود وأهله. إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ فأجازيكم عليه.
[سورة سبإ (٣٤) : الآيات ١٢ الى ١٣]
وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ (١٢) يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ (١٣)
وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ أي وسخرنا له الريح، وقرئ «الريح» بالرفع أي ولسليمان الريح مسخرة وقرئ «الرياح». غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ جريها بالغداة مسيرة شهر وبالعشي كذلك، وقرئ «غدوتها» «وروحتها». وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ النحاس المذاب أساله له من معدنه فنبع منه نبوع الماء من الينبوع، ولذلك سماه عيناً وكان ذلك باليمن. وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ عطف على الرِّيحَ وَمِنَ الْجِنِّ حال مقدمة، أو جملة مِنَ مبتدأ وخبر. بِإِذْنِ رَبِّهِ بأمره. وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ ومن يعدل منهم. عَنْ أَمْرِنا عما أمرناه من طاعة سليمان، وقرئ «يَزِغْ» من أزاغه. نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ عذاب الآخرة.
يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ قصور حصينة ومساكن شريفة سميت بها لأنها يذب عنها ويحارب عليها. وَتَماثِيلَ وصوراً هي تماثيل للملائكة والأنبياء على ما اعتادوا من العبادات ليراها الناس فيعبدوا نحو عبادتهم وحرمة التصاوير شرع مجدد.
روي أنهم عملوا له أسدين في أسفل كرسيه ونسرين فوقه، فإذا أراد أن يصعد بسط الأسدان له ذراعيهما وإذا قعد أظله النسران بأجنحتهما.
وَجِفانٍ وصحاف. كَالْجَوابِ كالحياض الكبار جمع جابية من الجباية وهي من الصفات الغالبة كالدابة. وَقُدُورٍ راسِياتٍ ثابتات على الأثافي لا تنزل عنها لعظمها. اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً حكاية عما قيل لهم وشُكْراً نصب على العلة أي:
اعملوا له واعبدوه شكراً، أو المصدر لأن العمل له شكراً أو الوصف له أو الحال أو المفعول به. وَقَلِيلٌ مِنْ
عِبادِيَ الشَّكُورُ
المتوفر على أداء الشكر بقلبه ولسانه وجوارحه أكثر أوقاته ومع ذلك لا يوفى حقه، لأن توفيقه الشكر نعمة تستدعي شكراً آخر لا إلى نهايته، ولذلك قيل الشكور من يرى عجزه عن الشكر.
[سورة سبإ (٣٤) : الآيات ١٤ الى ١٥]
فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ (١٤) لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (١٥)
فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ أي على سليمان. مَا دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ ما دل الجن وقيل آله. إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ أي الأرضة أضيفت إلى فعلها، وقرئ بفتح الراء وهو تأثر الخشبة من فعلها يقال: أرضت الأرضة الخشبة أرضاً فأرضت أرضاً مثل أكلت القوادح الأسنان أكلاً فأكلت أكلاً. تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ عصاه من نسأت البعير إذا طردته لأنها يطرد بها، وقرئ بفتح الميم وتخفيف الهمزة قلباً وحذفاً على غير قياس إذ القياس إخراجها بين بين، و «منساءته» على مفعالة كميضاءة في ميضأة و «من سأته» أي طرف عصاه مستعار من سأت القوس، وفيه لغتان كما في قحة وقحة، وقرأ نافع وأبو عمرو مِنْسَأَتَهُ بألف بدلاً من الهمزة وابن ذكوان بهمزة ساكنة وحمزة إذا وقف جعلها بين بين. فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ علمت الجن بعد التباس الأمر عليهم.
أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ أنهم لو كانوا يعلمون الغيب كما يزعمون لعلموا موته حينما وقع فلم يلبثوا بعده حولاً في تسخيره إلى أن خرَّ، أو ظهرت الجن وأن بما في حيزه بدل منه أي ظهر أن الجن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب. وذلك أن داود أسس بيت المقدس في موضع فسطاط موسى عليهما الصلاة والسلام فمات قبل تمامه، فوصى به إلى سليمان عليه السلام فاستعمل الجن فيه فلم يتم بعد إذ دنا أجله وأعلم به، فأراد أن يعمي عليهم موته ليتموه فدعاهم فبنوا عليه صرحاً من قوارير ليس له باب، فقام يصلي متكئاً على عصاه فقبض روحه وهو متكئ عليها، فبقي كذلك حتى أكلتها الأرضة فخرَّ ثم فتحوا عنه وأرادوا أن يعرفوا وقت موته، فوضعوا الأرضة على العصا فأكلت يوماً وليلة مقداراً فحسبوا على ذلك فوجدوه قد مات منذ سنة، وكان عمره ثلاثاً وخمسين سنة وملك وهو ابن ثلاثة عشرة سنة، وابتدأ عمارة بيت المقدس لأربع مضين من ملكه. لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ لأولاد سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، ومنع الصرف عنه ابن كثير وأبو عمرو لأنه صار اسم القبيلة، وعن ابن كثير قلب همزته ألفاً ولعله أخرجه بين بين فلم يؤده الراوي كما وجب. فِى مساكنهم في مواضع سكناهم، وهي باليمن يقال لها مأرب، بينها وبين صنعاء مسيرة ثلاث، وقرأ حمزة وحفص بالإِفراد والفتح، والكسائي بالكسر حملاً على ما شذ من القياس كالمسجد والمطلع. آيَةٌ علامة دالة على وجود الصانع المختار، وأنه قادر على ما يشاء من الأمور العجيبة مجاز للمحسن والمسيء معاضدة للبرهان السابق كما في قصتي داود وسليمان عليهما السلام. جَنَّتانِ بدل من آيَةٌ أو خبر محذوف تقديره الآية جنتان، وقرئ بالنصب على المدح والمراد جماعتان من البساتين.
عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ جماعة عن يمين بلدهم وجماعة عن شماله كل واحدة منهما في تقاربها وتضامهما كأنها جنة واحدة، أو بستاناً كُلِ رجل منهم عن يمين مسكنه وعن شماله. كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ حكاية لما قال لهم نبيهم، أو لسان الحال أو دلالة بأنهم كانوا أحقاء بأن يقال لهم ذلك. بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ استئناف للدلالة على موجب الشكر، أي هذه البلدة التي فيها رزقكم بلدة طيبة وربكم الذي رزقكم وطلب شكركم رب غفور فرطات من يشكره. وقرئ الكل بالنصب على المدح. قيل كانت أخصب البلاد وأطيبها لم يكن فيها عاهة ولا هامة.
[سورة سبإ (٣٤) : الآيات ١٦ الى ١٧]
فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (١٦) ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلاَّ الْكَفُورَ (١٧)
فَأَعْرَضُوا عن الشكر. فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ سيل الأمر العرم أي الصعب من عرم الرجل فهو عارم، وعرم إذا شرس خلقه وصعب، أو المطر الشديد أو الجرذ، أضاف إليه ال سَيْلَ لأنه نقب عليهم سكراً ضربته لهم بلقيس فحقنت به ماء الشجر وتركت فيه ثقباً على مقدار ما يحتاجون إليه، أو المسناة التي عقدت سكراً على أنه جمع عرمة وهي الحجارة المركومة، وقيل اسم وادٍ جاء السيل من قبله وكان ذلك بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام. وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ ثمر بشع فإن الخمط كل نبت أخذ طعماً من مرارة، وقيل الأراك أو كل شجر لا شوك له، والتقدير أكل أكل خمط فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه في كونه بدلاً، أو عطف بيان. وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ معطوفان على أُكُلٍ لا على خَمْطٍ، فإن الأثل هو الطرفاء ولا ثمر له، وقرئا بالنصب عطفاً على جَنَّتَيْنِ ووصف السدر بالقلة فإن جناه وهو النبق مما يطيب أكله ولذلك يغرس في البساتين، وتسمية البدل جَنَّتَيْنِ للمشاكلة والتهكم. وقرأ أبو عمرو «ذواتي أكل» بغير تنوين اللام وقرأ الحرميان بتخفيف أُكُلٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا بكفرانهم النعمة أو بكفرهم بالرسل، إِذ روي أنه بعث إليهم ثلاثة عشر نبياً فكذبوهم، وتقديم المفعول للتعظيم لا للتخصيص. وَهَلْ يُجْازِى إِلاَّ الكفور وهل يجازى بمثل ما فعلنا بهم إلا البليغ في الكفران أو الكفر. وقرأ حمزة والكسائي ويعقوب وحفص نُجازِي بالنون والْكَفُورَ بالنصب.
[سورة سبإ (٣٤) : الآيات ١٨ الى ١٩]
وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ (١٨) فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (١٩)
وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها بالتوسعة على أهلها وهي قرى الشأم. قُرىً ظاهِرَةً متواصلة يظهر بعضها لبعض، أو راكبة متن الطريق ظاهرة لأبناء السبيل. وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ بحيث يقيل الغادي في قرية ويبيت الرائح في قرية إلى أن يبلغ الشام. سِيرُوا فِيها على إرادة القول بلسان الحال أو المقال. لَيالِيَ وَأَيَّاماً متى شئتم من ليل أو نهار. آمِنِينَ لا يختلف الأمن فيها باختلاف الأوقات، أو سيروا آمنين وإن طالت مدة سفركم فيها، أو سيروا فيها ليالي أعماركم وأيامها لا تلقون فيها إلا الأمن.
فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا أشروا النعمة وملوا العافية كبني إسرائيل فسألوا الله أن يجعل بينهم وبين الشام مفاوز ليتطاولوا فيها على الفقراء بركوب الرواحل وتزود الأزواد، فأجابهم الله بتخريب القرى المتوسطة.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وهشام «بعد»، ويعقوب رَبَّنا باعِدْ بلفظ الخبر على أنه شكوى منهم لبعد سفرهم إفراطاً في الترفه وعدم الاعتداد بما أنعم الله عليهم فيه، ومثله قراءة من قرأ «ربنا بعد» أو «بعد» على النداء وإسناد الفعل إلى بَيْنَ. وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ حيث بطروا النعمة ولم يعتدوا بها. فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ يتحدث الناس بهم تعجباً وضرب مثل فيقولون: تفرقوا أيدي سبأ. وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ ففرقناهم غاية التفريق حتى لحق غسان منهم بالشأم، وأنمار بيثرب، وجذام بتهامة، والأزد بعمان. إِنَّ فِي ذلِكَ فيما ذكر. لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ عن المعاصي. شَكُورٍ على النعم.
[سورة سبإ (٣٤) : الآيات ٢٠ الى ٢١]
وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢٠) وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (٢١)
وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ أي صدق في ظنه أو صدق بظن ظنه مثل فعلته جهدك، ويجوز أن يعدى الفعل إليه بنفسه كما في: صَدَقَ وَعْدَهُ. لأنه نوع من القول، وشدده الكوفيون بمعنى حقق ظنه أو وجده صادقا. وقرئ بنصب إِبْلِيسَ ورفع الظن مع التشديد بمعنى وجده ظنه صادقاً، والتخفيف بمعنى قال له ظنه الصدق حين خيله إغواءهم، وبرفعهما والتخفيف على الأبدان وذلك إما ظنه بسبأ حين رأى انهماكهم في الشهوات أو ببني آدم حين رأى أباهم النبي ضعيف العزم، أو ما ركب فيهم من الشهوة والغضب، أو سمع من الملائكة قولهم أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها فقال: لَأُضِلَّنَّهُمْ ولَأُغْوِيَنَّهُمْ.
فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ إلا فريقاً هم المؤمنون لم يتبعوه، وتقليلهم بالإِضافة إلى الكفار، أو إلا فريقاً من فرق المؤمنين لم يتبعوه في العصيان وهم المخلصون.
وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ تسلط واستيلاء بالوسوسة والاستغواء. إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ إلا ليتعلق علمنا بذلك تعلقاً يترتب عليه الجزاء، أو ليتميز المؤمن من الشاك، أو ليؤمن من قدر إيمانه ويشك من قدر ضلاله، والمراد من حصول العلم حصول متعلقه مبالغة، وفي نظم الصلتين نكتة لا تخفى. وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ محافظ والزنتان متآخيتان.
[سورة سبإ (٣٤) : الآيات ٢٢ الى ٢٣]
قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لاَ يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (٢٢) وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ماذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (٢٣)
قُلِ للمشركين. ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أي زعمتموهم آلهة، وهما مفعولا زعم حذف الأول لطول الموصول بصلته والثاني لقيام صفته مقامه، ولا يجوز أن يكون هو مفعوله الثاني لأنه لا يلتئم مع الضمير كلاماً ولا لاَّ يَمْلِكُونَ لأنهم لا يزعمونه. مِنْ دُونِ اللَّهِ والمعنى ادعوهم فيما يهمكم من جلب نفع أو دفع ضر لعلهم يستجيبون لكم إن صح دعواكم، ثم أجاب عنهم إشعاراً بتعين الجواب وأنه لا يقبل المكابرة فقال: لاَ يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ من خير أو شر. فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ في أمر ما وذكرهما للعموم العرفي، أو لأن آلهتهم بعضها سماوية كالملائكة والكواكب وبعضها أرضية كالأصنام، أو لأن الأسباب القريبة للشر والخير سماوية وأرضية والجملة استئناف لبيان حالهم. وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ من شركة لا خلقاً ولا ملكا. وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ يعينه على تدبير أمرهما.
وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ فلا ينفعهم شفاعة أيضاً كما يزعمون إذ لا تنفع الشفاعة عند الله. إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ أذن له أن يشفع، أو أذن أن يشفع له لعلو شأنه ولم يثبت ذلك، واللام على الأول كاللام في قولك:
الكرم لزيد وعلى الثاني كاللام في قولك: جئتك لزيد، وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي بضم الهمزة. حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ غاية لمفهوم الكلام من أن ثم توقفا وانتظاراً للإِذن أي: يتربصون فزعين حتى إذا كشف الفزع عن قلوب الشافعين والمشفوع لهم بالإِذن، وقيل الضمير للملائكة وقد تقدم ذكرهم ضمناً. وقرأ ابن عامر ويعقوب فُزِّعَ على البناء للفاعل. وقرئ «فرغ» أي نفي الوجل من فرغ الزاد إذا فني. قالُوا قال بعضهم لبعض. مَاذَا قالَ رَبُّكُمْ في الشفاعة. قالُوا الْحَقَّ قالوا قال القول الحق وهو الإِذن بالشفاعة لمن ارتضى وهم المؤمنون، وقرئ بالرفع أي مقوله الحق. وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ذو العلو والكبرياء ليس لملك ولا نبي من الأنبياء أن يتكلم ذلك اليوم إلا بإذنه.
[سورة سبإ (٣٤) : آية ٢٤]
قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٤)
قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يريد به تقرير قوله لاَّ يَمْلِكُونَ. قُلِ اللَّهُ إذ لا جواب سواه، وفيه إشعار بأنهم إن سكتوا أو تلعثموا في الجواب مخافة الإِلزام فهم مقرون به بقلوبهم. وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي وإن أحد الفريقين من الموحدين المتوحد بالرزق والقدرة الذاتية بالعبادة، والمشركين به الجماد النازل في أدنى المراتب الإِمكانية لعلى أحد الأمرين من الهدى والضلال المبينين، وهو بعد ما تقدم من التقرير البليغ الدال على من هو على الهدى ومن هو في الضلال أبلغ من التصريح لأنه في صورة الانصاف المسكت للخصم المشاغب، ونظيره قول حسان:
أَتَهْجُوهُ وَلَسْتَ لَهُ بكفء فشرّكما لخير كما الفِدَاءُ
وقيل إنه على اللف والنشر وفيه نظر، واختلاف الحرفين لأن الهادي كمن صعد مناراً ينظر الأشياء ويتطلع عليها أو ركب جواداً يركضه حيث يشاء، والضال كأنه منغمس في ظلام مرتبك لا يرى شيئاً أو محبوس في مطمورة لا يستطيع أن يتفصى منها.
[سورة سبإ (٣٤) : الآيات ٢٥ الى ٢٦]
قُلْ لاَّ تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٢٥) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (٢٦)
قُلْ لاَّ تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ هذا أدخل في الإنصاف وأبلغ في الإخبات حيث أسند الإجرام إلى أنفسهم والعمل إلى المخاطبين.
قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا يوم القيامة. ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ يحكم ويفصل بأن يدخل المحقين الجنة والمبطلين النار. وَهُوَ الْفَتَّاحُ الحاكم الفاصل في القضايا المنغلقة. الْعَلِيمُ بما ينبغي أن يقضى به.
[سورة سبإ (٣٤) : الآيات ٢٧ الى ٢٨]
قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ كَلاَّ بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٧) وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ (٢٨)
قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ لأرى بأي صفة ألحقتموهم بالله في استحقاق العبادة، وهو استفسار عن شبهتهم بعد إلزام الحجة عليهم زيادة في تبكيتهم. كَلَّا ردع لهم عن المشاركة بعد إبطال المقايسة.
بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ الموصوف بالغلبة وكمال القدرة والحكمة، وهؤلاء الملحقون به متسمون بالذلة متأبية عن قبول العلم والقدرة رأساً، والضمير لله أو للشأن.
وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ إلا إرسالة عامة لهم من الكف فإنها إذا عمتهم فقد كفتهم أن يخرج منها أحد منهم، أو إلا جامعاً لهم في الإِبلاغ فهي حال من الكاف والتاء للمبالغة، ولا يجوز جعلها حالاً من الناس على المختار. بَشِيراً وَنَذِيراً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ فيحملهم جهلهم على مخالفتك.
[سورة سبإ (٣٤) : الآيات ٢٩ الى ٣٠]
وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٩) قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ (٣٠)
وَيَقُولُونَ من فرط جهلهم. مَتى هذَا الْوَعْدُ يعنون المبشر به والمنذر عنه أو الموعود بقوله:
يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا. إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ يخاطبون به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين.
قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ وعد يوم أو زمان وعد، وإضافته إلى اليوم للتبيين ويؤيده أنه قرئ «يوم» على البدل، وقرئ «يوما» بإضمار أعني. لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ إذا فاجأكم وهو جواب تهديد جاء مطابقاً لما قصدوه بسؤالهم من التعنت والإنكار.

[سورة سبإ (٣٤) : الآيات ٣١ الى ٣٢]

وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (٣١) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (٣٢)
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ ولا بما تقدمه من الكتب الدالة على النعت. قيل إن كفار مكة سألوا أهل الكتاب عن الرسول صلّى الله عليه وسلّم فأخبروهم أنهم يجدون نعته في كتبهم فغضبوا وقالوا ذلك، وقيل الذي بين يديه يوم القيامة. وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ أي في موضع المحاسبة. يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يتحاورون ويتراجعون القول. يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا يقول الأتباع. لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا للرؤساء. لَوْلا أَنْتُمْ لولا إضلالكم وصدكم إيانا عن الإِيمان. لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ باتباع الرسول صلّى الله عليه وسلّم.
قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ أنكروا أنهم كانوا صادّين لهم عن الإِيمان وأثبتوا أنهم هم الذين صدوا أنفسهم حيث أعرضوا عن الهدى وآثروا التقليد عليه، ولذلك بنوا الإِنكار على الإِسم.
[سورة سبإ (٣٤) : آية ٣٣]
وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (٣٣)
وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إضراب عن إضرابهم أي: لم يكن إجرامنا الصاد بل مكركم لنا دائباً ليلاً ونهاراً حتى أعورتم علينا رأينا. إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً والعاطف يعطفه على كلامهم الأول وإضافة ال مَكْرُ إلى الظرف على الاتساع، وقرئ «مكر الليل» بالنصب على المصدر و «مكر الليل» بالتنوين ونصب الظرف و «مكر الليل» من الكرور. وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وأضمر الفريقان الندامة على الضلال والإضلال وأخفاها كل عن صاحبه مخافة التعيير، أو أظهروها فإنه من الأضداد إذ الهمزة تصلح للإثبات والسلب كما في أشكيته. وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا أي في أعناقهم فجاء بالظاهر تنويهاً بذمهم وإشعاراً بموجب أغلالهم. هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كانُوا يَعْمَلُونَ أي لا يفعل بهم ما يفعل إلا جزاء على أعمالهم، وتعدية يجزي إما لتضمين معنى يقضي أو بنزع الخافض.
[سورة سبإ (٣٤) : الآيات ٣٤ الى ٣٦]
وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (٣٤) وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (٣٥) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ (٣٦)
وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها تسلية لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم مما مني به من قومه، وتخصيص المتنعمين بالتكذيب لأن الداعي المعظم إليه التكبر والمفاخرة بزخارف الدنيا والانهماك في الشهوات والاستهانة بمن لم يحظ منها، ولذلك ضموا التهكم والمفاخرة إلى التكذيب فقالوا: إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ على مقابلة الجمع بالجمع.
وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَأَوْلاداً فنحن أولى بما تدعونه إن أمكن. وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ إما لأن العذاب لا يكون، أو لأنه أكرمنا بذلك فلا يهيننا بالعذاب.
قُلْ رداً لحسبانهم. إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ ولذلك يختلف فيه الأشخاص المتماثلة في الخصائص والصفات، ولو كان ذلك لكرامة وهوان يوجبانه لم يكن بمشيئته. وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ فيظنون أن كثرة الأموال والأولاد للشرف والكرامة وكثيراً ما يكون للاستدراج كما قال:
[سورة سبإ (٣٤) : الآيات ٣٧ الى ٣٨]
وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ (٣٧) وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (٣٨)
وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى قربة والتي إما لأن المراد وما جماعة أموالكم وأولادكم، أو لأنها صفة محذوف كالتقوى والخصلة. وقرئ «بالذي» أي بالشيء الذي يقربكم. إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً استثناء من مفعول تُقَرِّبُكُمْ، أي الأموال والأولاد لا تقرب أحداً إلا المؤمن الصالح الذي ينفق ماله في سبيل الله ويعلم ولده الخير ويربيه على الصلاح، أو من أَمْوالُكُمْ وأَوْلادُكُمْ على حذف المضاف. فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ أن يجازوا الضعف إلى عشر فما فوقه، والإِضافة إضافة المصدر إلى المفعول، وقرئ بالأعمال على الأصل وعن يعقوب رفعهما على إبدال الضعف، ونصب الجزاء على التمييز أو المصدر لفعله الذي دل عليه لهم. بِما عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ من المكاره، وقرئ بفتح الراء وسكونها، وقرأ حمزة «في الغرفة» على إرادة الجنس.
وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا بالرد والطعن فيها. مُعاجِزِينَ مسابقين لأنبيائنا أو ظانين أنهم يفوتوننا.
أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ.
[سورة سبإ (٣٤) : آية ٣٩]
قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٣٩)
قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ يوسع عليه تارة ويضيق عليه أخرى، فهذا في شخص واحد باعتبار وقتين وما سبق في شخصين فلا تكرير. وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ عوضاً إما عاجلاً أو آجلاً. وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ فإن غيره وسط في إيصال رزقه لا حقيقة لرازقيته.
[سورة سبإ (٣٤) : الآيات ٤٠ الى ٤١]
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ (٤٠) قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (٤١)
وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً المستكبرين والمستضعفين ثُمَّ نَقُولُ للملائكة أَهَؤُلاَءِ إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ تقريعاً للمشركين وتبكيتاً لهم وإقناطاً لهم عما يتوقعون من شفاعتهم، وتخصيص الملائكة لأنهم أشرف شركائهم والصالحون للخطاب منهم، ولأن عبادتهم مبدأ الشرك وأصله. وقرأ حفص ويعقوب بالياء فيهما.
قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ أنت الذي نواليه من دونهم لا موالاة بيننا وبينهم، كأنهم بينوا بذلك براءتهم من الرضا بعبادتهم ثم أضربوا عن ذلك ونفوا أنهم عبدوهم على الحقيقة بقولهم: بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أي الشياطين حيث أطاعوهم في عبادة غير الله. وقيل كانوا يتمثلون لهم ويخيلون إليهم أنهم
الملائكة فيعبدونهم. أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ الضمير الأول للإِنس أو للمشركين، والأكثر بمعنى الكل والثاني ل الْجِنَّ.
[سورة سبإ (٣٤) : الآيات ٤٢ الى ٤٣]
فَالْيَوْمَ لاَ يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (٤٢) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا مَا هذا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ وَقالُوا ما هذا إِلاَّ إِفْكٌ مُفْتَرىً وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٤٣)
فَالْيَوْمَ لاَ يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا إذ الأمر فيه كله له لأن الدار دار جزاء وهو المجازي وحده. وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ عطف على لاَ يَمْلِكُ مبين للمقصود من تمهيده.
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا مَا هذا يعنون محمّدا عليه الصلاة والسلام. إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ فيستتبعكم بما يستبدعه. وَقالُوا مَا هذا يعنون القرآن. إِلَّا إِفْكٌ لعدم مطابقة ما فيه الواقع. مُفْتَرىً بإضافته إلى الله سبحانه وتعالى. وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ لأمر النبوة أو للإسلام أو للقرآن، والأول باعتبار معناه وهذا باعتبار لفظه وإعجازه. إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ ظاهر سحريته، وفي تكرير الفعل والتصريح بذكر الكفرة وما في اللامين من الإِشارة إلى القائلين والمقول فيه، وما في لَمَّا من المبادهة إلى البت بهذا القول إنكار عظيم له وتعجيب بليغ منه.
[سورة سبإ (٣٤) : الآيات ٤٤ الى ٤٥]
وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (٤٤) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما بَلَغُوا مِعْشارَ مَا آتَيْناهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (٤٥)
وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها فيها دليل على صحة الإِشراك. وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ يدعوهم إليه وينذرهم على تركه، وقد بان من قبل أن لا وجه له فمن أين وقع لهم هذه الشبهة، وهذا في غاية التجهيل لهم والتسفيه لرأيهم ثم هددهم فقال:
وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كما كذبوا. وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ وما بلغ هؤلاء عشر ما آتينا أولئك من القوة وطول العمر وكثرة المال، أو ما بلغ أولئك عشر ما آتينا هؤلاء من البينات والهدى. فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ فحين كذبوا رسلي جاءهم إنكاري بالتدمير فكيف كان نكيري لهم فليحذر هؤلاء من مثله، ولا تكرير في كذب لأن الأول للتكثير والثاني للتكذيب، أو الأول مطلق والثاني مقيد ولذلك عطف عليه بالفاء.
[سورة سبإ (٣٤) : آية ٤٦]
قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ (٤٦)
قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أرشدكم وأنصح لكم بخصلة واحدة هي ما دل عليه: أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ وهو القيام من مجلس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، أو الانتصاب في الأمر خالصاً لوجه الله معرضاً عن المراء والتقليد. مَثْنى وَفُرادى متفرقين اثنين اثنين وواحداً واحداً، فإن الازدحام يشوش الخاطر ويخلط القول. ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا في أمر محمّد صلّى الله عليه وسلّم وما جاء به لتعلموا حقيقته، ومحله الجر على البدل أو البيان أو الرفع أو النصب بإضمار هو أو أعني. مَا بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ فتعلموا ما به من جنون يحمله على ذلك، أو استئناف منبه لهم على أن ما عرفوا من رجاحة عقله كاف في ترجيح صدقه، فإنه لا يدعه أن يتصدى لادعاء أمر خطير وخطب عظيم من
غير تحقق ووثوق ببرهان، فيفتضح على رؤوس الأشهاد ويلقي نفسه إلى الهلاك، فكيف وقد انضم إليه معجزات كثيرة. وقيل مَا استفهامية والمعنى: ثم تتفكروا أي شيء به من آثار الجنون: إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ قدامه لأنه مبعوث في نسم الساعة.
[سورة سبإ (٣٤) : آية ٤٧]
قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٤٧)
قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ أي شيء سألتكم من أجر على الرسالة. فَهُوَ لَكُمْ والمراد نفي السؤال عنه، كأنه جعل التنبي مستلزماً لأحد الأمرين إما الجنون وإما توقع نفع دنيوي عليه، لأنه إما أن يكون لغرض أو لغيره وأياً ما كان يلزم أحدهما ثم نفى كلاً منهما. وقيل مَا موصولة مراد بها ما سألهم بقوله: ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا وقوله: لاَّ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى واتخاذ السبيل ينفعهم وقرباه قرباهم. إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ مطلع يعلم صدقي وخلوص نيتي، وقرأ ابن كثير وأبو بكر وحمزة والكسائي بإسكان الياء.
[سورة سبإ (٣٤) : الآيات ٤٨ الى ٤٩]
قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (٤٨) قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ (٤٩)
قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ يلقيه وينزله على من يجتبيه من عباده، أو يرمي به الباطل فيدمغه أو يرمي به إلى أقطار الآفاق، فيكون وعداً بإظهار الإِسلام وإفشائه. وقرأ نافع وأبو عمرو بفتح الياء. عَلَّامُ الْغُيُوبِ صفة محمولة على محل إِنَّ واسمها، أو بدل من المستكن في يَقْذِفُ أو خبر ثان أو خبر محذوف.
وقرئ بالنصب صفة ل رَبِّي أو مقدراً بأعني. وقرأ حمزة وأبو بكر «الغيوب» بالكسر كالبيوت وبالضم كالعشور، وقرئ بالفتح كالصبور على أنه مبالغة غائب.
قُلْ جاءَ الْحَقُّ أي الإِسلام. وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ وزهق الباطل أي الشرك بحيث لم يبق له أثر مأخوذ من هلاك الحي، فإنه إذا هلك لم يبق له إبداء ولا إعادة قال:
أَقْفَر مِنْ أَهْلِهِ عبيد فَالْيَوْمَ لاَ يُبْدِي وَلاَ يُعِيد
وقيل الباطل إبليس أو الصنم، والمعنى لا ينشئ خلقاً ولا يعيده، أو لا يبدئ خيراً لأهله ولا يعيده.
وقيل مَا استفهامية منتصبة بما بعدها.
[سورة سبإ (٣٤) : آية ٥٠]
قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (٥٠)
قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ عن الحق. فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي فإن وبال ضلالي عليها لأنه بسببها إذ هي الجاهلة بالذات والأمارة بالسوء، وبهذا الاعتبار قابل الشرطية بقوله: وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي فإن الاهتداء بهدايته وتوفيقه. إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ يدرك قول كل ضال ومهتد وفعله وإن أخفاه.
[سورة سبإ (٣٤) : آية ٥١]
وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (٥١)
وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا عند الموت أو البعث أو يوم بدر، وجواب لَوْ محذوف تقديره لرأيت أمراً فظيعاً. فَلا فَوْتَ فلا يفوتون الله بهرب أو تحصن. وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ من ظهر الأرض إلى بطنها، أو من الموقف إلى النار أو من صحراء بدر إلى القليب، والعطف على فَزِعُوا أو لا فوت ويؤيده أنه قرئ «وأخذ» عطفاً على محله أي: فلا فوت هناك وهناك أخذ.
[سورة سبإ (٣٤) : آية ٥٢]
وَقالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (٥٢)
وَقالُوا آمَنَّا بِهِ بمحمّد عليه الصلاة والسلام، وقد مر ذكره في قوله: مَا بِصاحِبِكُمْ. وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ ومن أين لهم أن يتناولوا الإِيمان تناولاً سهلاً. مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ فإنه في حيز التكليف وقد بعد عنهم، وهو تمثيل لحالهم في الاستخلاص بالإيمان بعد ما فات عنهم أوانه وبعد عنهم، بحال من يريد أن يتناول الشيء من غلوة تناوله من ذراع في الاستحالة، وقرأ أبو عمرو والكوفيون غير حفص بالهمز على قلب الواو لضمتها.
أو أنه من نأشت الشيء إذا طلبته قال رؤبة:
أَقْحَمَنِي جَارُ أَبِي الجَامُوش إِلَيْكَ نَأْشَ القدر النؤوش
أو من نأشت إذا تأخرت ومنه قوله:
تَمَنَّى نَشِيْشاً أَن يَكُونَ أَطَاعَنِي وَقَدْ حَدَثَتْ بَعْدَ الأُمُورِ أُمُورُ
فيكون بمعنى التناول من بعد.
[سورة سبإ (٣٤) : الآيات ٥٣ الى ٥٤]
وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (٥٣) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (٥٤)
وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ بمحمد عليه الصلاة والسلام أو بالعذاب. مِنْ قَبْلُ من قبل ذلك أوان التكليف.
وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ ويرجمون بالظن ويتكلمون بما لم يظهر لهم في الرسول عليه الصلاة والسلام من المطاعن، أو في العذاب من البت على نفيه. مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ من جانب بعيد من أمره، وهو الشبه التي تمحلوها في أمر الرسول صلّى الله عليه وسلّم، أو حال الآخرة كما حكاه من قبل. ولعله تمثيل لحالهم في ذلك بحال من يرمي شيئاً لا يراه من مكان بعيد لا مجال للظن في لحوقه، وقرئ «وَيَقْذِفُونَ» على أن الشيطان يلقي إليهم ويلقنهم ذلك، والعطف على وَقَدْ كَفَرُوا على حكاية الحال الماضية أو على قالوا فيكون تمثيلاً لحالهم بحال القاذف في تحصيل ما ضيعوه من الإِيمان في الدنيا.
وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ من نفع الإِيمان والنجاة به من النار، وقرأ ابن عامر والكسائي بإشمام الضم للحاء. كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ بأشباههم من كفرة الأمم الدارجة. إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ موقع في الريبة، أو ذي ريبة منقول من المشكك، أو الشك نعت به الشك للمبالغة.
عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم «من قرأ سورة سبأ لم يبق رسول ولا نبي إلا كان له يوم القيامة رفيقاً ومصافحاً».
Icon