تفسير سورة الجن

التفسير الحديث
تفسير سورة سورة الجن من كتاب التفسير الحديث .
لمؤلفه دروزة . المتوفي سنة 1404 هـ
سورة الجن
في السورة حكاية لقصة استماع نفر من الجن للقرآن وأثرها ومواعظ ومبادئ قرآنية بمناسبتها، وأسلوب الآيات يدلّ على تساوق فصليها ووحدة نزولها أو نزولهما الواحد بعد الآخر تتابعا.

﴿ قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا١ يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ ولَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا ٢ وأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَة ولَا ولَدًا ٣ وأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا ٤ وأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن تَقُولَ الْإِنسُ والْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ٥ وأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا ٦ وأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا ٧وأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاء فَوجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وشُهُبًا ٨ وأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَّصَدًا٩ وأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا ١٠ وأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ ومِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا ١١ وأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن نُّعجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ ولَن نُّعْجِزَهُ هَرَبًا ١٢ وأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا ولَا رَهَقًا ١٣ وأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ ومِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا ١٤ وأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا ١٥ ﴾[ ١١٥ ].
شرح الفصل الأول من السورة والتعليق
على مدى محتوياته
هذه الآيات هي الفصل الأول من الفصلين اللذين تتألف منهما السورة. وفيها أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يخبر الناس بأن الله تعالى أوحى إليه بأنه استمع نفر من الجن للقرآن فعظّموا شأنه وشأن ربّهم العظيم وآمنوا به ونزّهوه عن اتخاذ زوجة وولد وأنهم تذاكروا مع بعضهم أمورا متنوعة مما كانت عليه أحوالهم وعقائدهم وظنونهم، وموقف جماعات من الإنس إزاءهم وما بوغتوا به بخاصة من تكاثر الشهب المنقضة من السماء في هذا الظرف، وما أثار ذلك فيهم من خوف وتساؤل على النحو الوارد في الآيات والواضح العبارة.
ولقد روى البخاري والترمذي عن ابن عباس حديثا جاء فيه : " انطلقَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في طائفةٍ من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء، وأرسلت عليهم الشهب فرجعت الشياطين فقالوا : ما لكم ؟ قالوا : حيل بيننا وبينَ خبر السماء. وأرسلت علينا الشهبُ. قالوا : ما حالَ بينكم وبينَ خبر السماء إلاّ ما حدث. فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها، فانظروا ما هذا الذي حدث فانطلقوا ينظرونَ. فالذين توجّهوا نحو تهامة سمعُوا قراءةَ رسول الله وهو يصلّي الفجرَ بأصحابه بنخلة، فتسمّعوا له فقالوا : هذا الذي حال بينكم وبينَ خبر السماء. فرجعوا إلى قومهم فقالوا : يا قومَنا إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربّنا أحدا. وأنزل الله تعالى :﴿ قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ ﴾. وإنما أوحي إليه قول الجن " ١.
ولقد أورد الطبري هذا الحديث، وأعقبه بكلام يفيد أن حادث استماع الجنّ للقرآن المذكور في هذه السورة وحادث استماعهم المذكور في آيات سورة الأحقاف هذه :﴿ وإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ ولَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ ٢٩ قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ٣٠ ﴾ واحد. مع أن الذي نرجّحه بل المستفاد من روح مجموعتي السورتين والفترة الطويلة بين نزول السورتين، وحديث آخر مروي في سياق نزول مجموعة الأحقاف أنهما حادثان على ما سوف نزيده شرحا في سياق تفسير سورة الأحقاف. والعبارة القرآنية قطعية الدلالة على حدوث هذا الحادث الغيبي. ومن واجب المسلم الإيمان به كما هو الشأن في الإيمان بوجود الجنّ على ما شرحناه في سياق سورة الناس.
والآيات مع الحديث تساعد على تسجيل الملاحظات التالية :
١ إن الآية الأولى تفيد أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير نفر الجن ولم يسمع أقوالهم، وأن ذلك كان أمرا مغيبا عنه أخبر به بوحي رباني قرآني. وقد روى المفسرون حديثا عن ابن عباس جاء فيه فيما جاء : أن النبي صلى الله عليه وسلم ما قرأ على الجنّ ولا رآهم وإنما أوحي إليه قولهم٢.
٢ إن الآيات تقرّر بصراحة وجود الجنّ وأنهم طوائف ومذاهب وأن منهم الصالحين وغير الصالحين والمسلمين والقاسطين والمنحرفين والعقلاء الراشدين، والسفهاء الضالين.
٣ إن الآية السادسة تحتوي صورة لما كانت عليه عقائد العرب في الجنّ حيث كانوا يعتقدون بوجودهم وبما هم عليه من قوة وتأثير. وكانوا يخشون شرّهم ويستعيذون بهم.
٤ إن ما جاء في صدد قعود الجنّ مقاعد للسمع في السماء وما كان من تبدّل الموقف، وامتلاء السماء بالشهب والحرس، وأن من يحاول منهم الاستماع كما كان يفعل سابقا يجد شهابا مترصّدا له هو حكاية عن الجن وليس تقريرا قرآنيا مباشرا. غير أن أسلوب الآيات يلهم أنهم يقولون أمورا واقعة لا ينفيها القرآن. وقد أيّدها في آيات عديدة في سور أخرى مثل آيات سورة الحجر هذه :﴿ ولَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاء بُرُوجًا وزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ ١٦ وحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ ١٧ إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُّبِينٌ١٨ ﴾ وآيات سورة الصافات هذه :﴿ إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ ٦ وحِفْظًا مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ ٧ لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى ويُقْذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِبٍ ٨ دُحُورًا ولَهُمْ عَذَابٌ واصِبٌ ٩ إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ ١٠ ﴾ وآية سورة الملك هذه :﴿ ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين واعتدنا لهم عذاب السعير٥ ﴾.
٥ إن الآية الرابعة قد تلهم أن النفر المستمعين كانوا يدينون بأن الله سبحانه اتخذ زوجة وكان له منها ولد. ونرجّح أن هذا يمتّ إلى عقيدة النصارى أكثر من عقيدة العرب الذين كانوا يعتقدون أن الملائكة بنات الله ؛ لأنه ليس في عقائد العرب أن لله زوجة.
ولقد علقنا على كلمة الجن بما فيه الكفاية في سياق تفسير سورة الناس، ونقول هنا : إن وجود الجنّ وأخوالهم وماهية استراقهم السمع من السماء من الأمور المغيبة التي يقررها القرآن، فيجب الإيمان بها ولو لم تدركها الحواس البشرية أو يتسق مع ما عرفه الناس من نواميس ونظم كونية كسائر الحقائق المغيبة التي قررها القرآن والوقوف منها عندما وقف عنده القرآن دون تزيد وتمحل. فالعقل البشري كان وما يزال عاجزا عن إدراك كنه كثير من أسرار الكون وقواه.
ولقد أورد المفسرون أحاديث عديدة في سياق تفسير آيات سورة الحجر فيها تفصيلات عن استراق الشياطين للسمع وإيصال الأخبار إلى السحرة والكهان لم ترد في كتب الأحاديث الصحيحة. ولكنها متساوقة مع ما جاء في حديث البخاري وآيات سورة الجن وسور الحجر والصافات والملك. منها حديث عن ابن عباس قال : " تصعد الشياطين أفواجا تسترق السمع، فينفرد المارد فيها فيعلو فيرمى بالشهاب فيصيب جبهته أو جنبه أو حيث شاء الله منه فيلتهب، فيأتي أصحابه وهو يلتهب فيقول : إنه كان من الأمر كذا وكذا فيذهب أولئك إلى إخوانهم من الكهنة، فيزيدون عليه أضعافه من الكذب فيخبرونهم به، فإذا رأوا شيئا مما قالوا قد كان صدقوهم بما جاؤوهم به من الكذب ". وحديث أورده البغوي في سياق الآيات المذكورة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله، كأنه سلسلة على صفوان، فإذا فزع عن قلوبهم قالوا : ماذا قال ربكم ؟ قالوا : الحق وهو العلي الكبير، فيسمعها مسترقو السمع ومسترقو السمع هكذا بعضهم فوق بعض، فيسمع أحدهم الكلمة فيلقيها إلى من تحته ثم يلقيها الآخر إلى من تحته حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها، وربّما ألقاها قبل أن يدركه فيكذب معها مائة كذبة فيقال : أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا يكون كذا وكذا ؟ فيصدق بتلك الكلمة التي سمعت من السماء ". ومنها حديث رواه البغوي عن عائشة في سياق الآيات نفسها جاء فيه : " إنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إن الملائكة تنزل في العنان وهو السّحاب فتذكر الأمر الذي قضي في السماء فتسترق الشياطين السمع فتسمعه فتوحيه إلى الكهّان فيكذبون معها مائة كذبة من عند أنفسهم ".
ونرجّح بل نجزم بأن ما ورد في هذه الأحاديث كان مما يتداوله العرب قبل الإسلام. ولقد روى الطبري في سياق آيات سورة الصافات عن الزهري أن انقضاض الشهب قد تزايد كثيرا إبّان ظهور النبي صلى الله عليه وسلم. فمن المحتمل أن يكون ذلك قد لفت نظر العرب وجعلهم يكثرون من التحدث عنه. ويحسبون أن لبعثة النبي صلى الله عليه وسلم صلة ما بذلك ؛ حيث كانوا ينعتونه بالساحر والشاعر والكاهن الذين كانوا يعتقدون أن الشياطين تنزل إليهم بأخبار السماء على ماحكته آيات عديدة عنهم مثل آيات سورة الطور هذه :﴿ فذَكِّرْ فَمَا أَنتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ ولَا مَجْنُونٍ ٢٩ أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ٣٠ قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُم منَ الْمُتَرَبِّصِينََ ٣١ ﴾ وآيات سورة الحاقة هذه :﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ ٣٨ ومَا لَا تُبْصِرُونَ ٣٩ إِنَّهُ َقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ٤٠ ومَا هُو بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ ٤١ ولَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ ٤٢ تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ ٤٣ ﴾ وآيات سورة الذاريات هذه :﴿ كذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ٥٢ أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ ٥٣ فَتَولَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنتَ بِمَلُومٍ ٥٤ وذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ٥٥ ﴾ وآيات سورة ص هذه :﴿ وعجبوا أن جاءهم منذر منهم وقال الكافرون هذا ساحر كذاب ٤ ﴾ فاقتضت حكمة التنزيل ذكر مسألة استراق الشياطين للسمع في الآيات القرآنية لإعلامهم أن الشياطين قد منعوا من أخبار السماء، وأن الله تعالى قد حفظها منهم وأعدّ لهم فيها شهبا راجمة، وأن الجن قد يئسوا من ذلك ثم بيان كون الشياطين إنما كانت تنزل على الكاذبين الأفاكين الآثمين. وكون القرآن الصادق الداعي إلى الله وحده والمبشّر بأسمى المبادئ لا يمكن أن تنزل به شياطين وكون الرسول الذي يبلغ هذا القرآن لا يمكن أن يكون له صلة بالشياطين وإنما صلته بالله تعالى كما جاء في آيات سورة الشعراء هذه :
١ ﴿ وإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ١٩٢ ن
١ التاج ج ٤ ص ٢٤٦. ونخلة موضع قريب إلى سوق عكاظ بين مكة وسوق عكاظ..
٢ انظر تفسير ابن كثير لآيات الأحقاف {وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن﴾ الخ مثلا. وهذا المعنى وارد في الحديث المروي آنفا أيضا..
جد ربنا : عظمة ربنا.
صاحبة : كناية عن الزوجة.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١:﴿ قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا١ يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ ولَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا ٢ وأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَة ولَا ولَدًا ٣ وأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا ٤ وأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن تَقُولَ الْإِنسُ والْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ٥ وأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا ٦ وأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا ٧وأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاء فَوجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وشُهُبًا ٨ وأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَّصَدًا٩ وأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا ١٠ وأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ ومِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا ١١ وأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن نُّعجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ ولَن نُّعْجِزَهُ هَرَبًا ١٢ وأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا ولَا رَهَقًا ١٣ وأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ ومِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا ١٤ وأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا ١٥ ﴾[ ١١٥ ].
شرح الفصل الأول من السورة والتعليق
على مدى محتوياته
هذه الآيات هي الفصل الأول من الفصلين اللذين تتألف منهما السورة. وفيها أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يخبر الناس بأن الله تعالى أوحى إليه بأنه استمع نفر من الجن للقرآن فعظّموا شأنه وشأن ربّهم العظيم وآمنوا به ونزّهوه عن اتخاذ زوجة وولد وأنهم تذاكروا مع بعضهم أمورا متنوعة مما كانت عليه أحوالهم وعقائدهم وظنونهم، وموقف جماعات من الإنس إزاءهم وما بوغتوا به بخاصة من تكاثر الشهب المنقضة من السماء في هذا الظرف، وما أثار ذلك فيهم من خوف وتساؤل على النحو الوارد في الآيات والواضح العبارة.
ولقد روى البخاري والترمذي عن ابن عباس حديثا جاء فيه :" انطلقَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في طائفةٍ من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء، وأرسلت عليهم الشهب فرجعت الشياطين فقالوا : ما لكم ؟ قالوا : حيل بيننا وبينَ خبر السماء. وأرسلت علينا الشهبُ. قالوا : ما حالَ بينكم وبينَ خبر السماء إلاّ ما حدث. فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها، فانظروا ما هذا الذي حدث فانطلقوا ينظرونَ. فالذين توجّهوا نحو تهامة سمعُوا قراءةَ رسول الله وهو يصلّي الفجرَ بأصحابه بنخلة، فتسمّعوا له فقالوا : هذا الذي حال بينكم وبينَ خبر السماء. فرجعوا إلى قومهم فقالوا : يا قومَنا إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربّنا أحدا. وأنزل الله تعالى :﴿ قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ ﴾. وإنما أوحي إليه قول الجن " ١.
ولقد أورد الطبري هذا الحديث، وأعقبه بكلام يفيد أن حادث استماع الجنّ للقرآن المذكور في هذه السورة وحادث استماعهم المذكور في آيات سورة الأحقاف هذه :﴿ وإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ ولَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ ٢٩ قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ٣٠ ﴾ واحد. مع أن الذي نرجّحه بل المستفاد من روح مجموعتي السورتين والفترة الطويلة بين نزول السورتين، وحديث آخر مروي في سياق نزول مجموعة الأحقاف أنهما حادثان على ما سوف نزيده شرحا في سياق تفسير سورة الأحقاف. والعبارة القرآنية قطعية الدلالة على حدوث هذا الحادث الغيبي. ومن واجب المسلم الإيمان به كما هو الشأن في الإيمان بوجود الجنّ على ما شرحناه في سياق سورة الناس.
والآيات مع الحديث تساعد على تسجيل الملاحظات التالية :
١ إن الآية الأولى تفيد أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير نفر الجن ولم يسمع أقوالهم، وأن ذلك كان أمرا مغيبا عنه أخبر به بوحي رباني قرآني. وقد روى المفسرون حديثا عن ابن عباس جاء فيه فيما جاء : أن النبي صلى الله عليه وسلم ما قرأ على الجنّ ولا رآهم وإنما أوحي إليه قولهم٢.
٢ إن الآيات تقرّر بصراحة وجود الجنّ وأنهم طوائف ومذاهب وأن منهم الصالحين وغير الصالحين والمسلمين والقاسطين والمنحرفين والعقلاء الراشدين، والسفهاء الضالين.
٣ إن الآية السادسة تحتوي صورة لما كانت عليه عقائد العرب في الجنّ حيث كانوا يعتقدون بوجودهم وبما هم عليه من قوة وتأثير. وكانوا يخشون شرّهم ويستعيذون بهم.
٤ إن ما جاء في صدد قعود الجنّ مقاعد للسمع في السماء وما كان من تبدّل الموقف، وامتلاء السماء بالشهب والحرس، وأن من يحاول منهم الاستماع كما كان يفعل سابقا يجد شهابا مترصّدا له هو حكاية عن الجن وليس تقريرا قرآنيا مباشرا. غير أن أسلوب الآيات يلهم أنهم يقولون أمورا واقعة لا ينفيها القرآن. وقد أيّدها في آيات عديدة في سور أخرى مثل آيات سورة الحجر هذه :﴿ ولَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاء بُرُوجًا وزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ ١٦ وحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ ١٧ إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُّبِينٌ١٨ ﴾ وآيات سورة الصافات هذه :﴿ إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ ٦ وحِفْظًا مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ ٧ لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى ويُقْذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِبٍ ٨ دُحُورًا ولَهُمْ عَذَابٌ واصِبٌ ٩ إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ ١٠ ﴾ وآية سورة الملك هذه :﴿ ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين واعتدنا لهم عذاب السعير٥ ﴾.
٥ إن الآية الرابعة قد تلهم أن النفر المستمعين كانوا يدينون بأن الله سبحانه اتخذ زوجة وكان له منها ولد. ونرجّح أن هذا يمتّ إلى عقيدة النصارى أكثر من عقيدة العرب الذين كانوا يعتقدون أن الملائكة بنات الله ؛ لأنه ليس في عقائد العرب أن لله زوجة.
ولقد علقنا على كلمة الجن بما فيه الكفاية في سياق تفسير سورة الناس، ونقول هنا : إن وجود الجنّ وأخوالهم وماهية استراقهم السمع من السماء من الأمور المغيبة التي يقررها القرآن، فيجب الإيمان بها ولو لم تدركها الحواس البشرية أو يتسق مع ما عرفه الناس من نواميس ونظم كونية كسائر الحقائق المغيبة التي قررها القرآن والوقوف منها عندما وقف عنده القرآن دون تزيد وتمحل. فالعقل البشري كان وما يزال عاجزا عن إدراك كنه كثير من أسرار الكون وقواه.
ولقد أورد المفسرون أحاديث عديدة في سياق تفسير آيات سورة الحجر فيها تفصيلات عن استراق الشياطين للسمع وإيصال الأخبار إلى السحرة والكهان لم ترد في كتب الأحاديث الصحيحة. ولكنها متساوقة مع ما جاء في حديث البخاري وآيات سورة الجن وسور الحجر والصافات والملك. منها حديث عن ابن عباس قال :" تصعد الشياطين أفواجا تسترق السمع، فينفرد المارد فيها فيعلو فيرمى بالشهاب فيصيب جبهته أو جنبه أو حيث شاء الله منه فيلتهب، فيأتي أصحابه وهو يلتهب فيقول : إنه كان من الأمر كذا وكذا فيذهب أولئك إلى إخوانهم من الكهنة، فيزيدون عليه أضعافه من الكذب فيخبرونهم به، فإذا رأوا شيئا مما قالوا قد كان صدقوهم بما جاؤوهم به من الكذب ". وحديث أورده البغوي في سياق الآيات المذكورة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله، كأنه سلسلة على صفوان، فإذا فزع عن قلوبهم قالوا : ماذا قال ربكم ؟ قالوا : الحق وهو العلي الكبير، فيسمعها مسترقو السمع ومسترقو السمع هكذا بعضهم فوق بعض، فيسمع أحدهم الكلمة فيلقيها إلى من تحته ثم يلقيها الآخر إلى من تحته حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها، وربّما ألقاها قبل أن يدركه فيكذب معها مائة كذبة فيقال : أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا يكون كذا وكذا ؟ فيصدق بتلك الكلمة التي سمعت من السماء ". ومنها حديث رواه البغوي عن عائشة في سياق الآيات نفسها جاء فيه :" إنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إن الملائكة تنزل في العنان وهو السّحاب فتذكر الأمر الذي قضي في السماء فتسترق الشياطين السمع فتسمعه فتوحيه إلى الكهّان فيكذبون معها مائة كذبة من عند أنفسهم ".
ونرجّح بل نجزم بأن ما ورد في هذه الأحاديث كان مما يتداوله العرب قبل الإسلام. ولقد روى الطبري في سياق آيات سورة الصافات عن الزهري أن انقضاض الشهب قد تزايد كثيرا إبّان ظهور النبي صلى الله عليه وسلم. فمن المحتمل أن يكون ذلك قد لفت نظر العرب وجعلهم يكثرون من التحدث عنه. ويحسبون أن لبعثة النبي صلى الله عليه وسلم صلة ما بذلك ؛ حيث كانوا ينعتونه بالساحر والشاعر والكاهن الذين كانوا يعتقدون أن الشياطين تنزل إليهم بأخبار السماء على ماحكته آيات عديدة عنهم مثل آيات سورة الطور هذه :﴿ فذَكِّرْ فَمَا أَنتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ ولَا مَجْنُونٍ ٢٩ أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ٣٠ قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُم منَ الْمُتَرَبِّصِينََ ٣١ ﴾ وآيات سورة الحاقة هذه :﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ ٣٨ ومَا لَا تُبْصِرُونَ ٣٩ إِنَّهُ َقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ٤٠ ومَا هُو بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ ٤١ ولَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ ٤٢ تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ ٤٣ ﴾ وآيات سورة الذاريات هذه :﴿ كذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ٥٢ أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ ٥٣ فَتَولَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنتَ بِمَلُومٍ ٥٤ وذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ٥٥ ﴾ وآيات سورة ص هذه :﴿ وعجبوا أن جاءهم منذر منهم وقال الكافرون هذا ساحر كذاب ٤ ﴾ فاقتضت حكمة التنزيل ذكر مسألة استراق الشياطين للسمع في الآيات القرآنية لإعلامهم أن الشياطين قد منعوا من أخبار السماء، وأن الله تعالى قد حفظها منهم وأعدّ لهم فيها شهبا راجمة، وأن الجن قد يئسوا من ذلك ثم بيان كون الشياطين إنما كانت تنزل على الكاذبين الأفاكين الآثمين. وكون القرآن الصادق الداعي إلى الله وحده والمبشّر بأسمى المبادئ لا يمكن أن تنزل به شياطين وكون الرسول الذي يبلغ هذا القرآن لا يمكن أن يكون له صلة بالشياطين وإنما صلته بالله تعالى كما جاء في آيات سورة الشعراء هذه :
١ ﴿ وإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ١٩٢ ن
١ التاج ج ٤ ص ٢٤٦. ونخلة موضع قريب إلى سوق عكاظ بين مكة وسوق عكاظ..
٢ انظر تفسير ابن كثير لآيات الأحقاف {وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن﴾ الخ مثلا. وهذا المعنى وارد في الحديث المروي آنفا أيضا..

سفيهنا : جاهلنا.
شططا : بعيدا عن الحق.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١:﴿ قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا١ يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ ولَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا ٢ وأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَة ولَا ولَدًا ٣ وأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا ٤ وأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن تَقُولَ الْإِنسُ والْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ٥ وأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا ٦ وأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا ٧وأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاء فَوجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وشُهُبًا ٨ وأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَّصَدًا٩ وأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا ١٠ وأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ ومِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا ١١ وأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن نُّعجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ ولَن نُّعْجِزَهُ هَرَبًا ١٢ وأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا ولَا رَهَقًا ١٣ وأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ ومِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا ١٤ وأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا ١٥ ﴾[ ١١٥ ].
شرح الفصل الأول من السورة والتعليق
على مدى محتوياته
هذه الآيات هي الفصل الأول من الفصلين اللذين تتألف منهما السورة. وفيها أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يخبر الناس بأن الله تعالى أوحى إليه بأنه استمع نفر من الجن للقرآن فعظّموا شأنه وشأن ربّهم العظيم وآمنوا به ونزّهوه عن اتخاذ زوجة وولد وأنهم تذاكروا مع بعضهم أمورا متنوعة مما كانت عليه أحوالهم وعقائدهم وظنونهم، وموقف جماعات من الإنس إزاءهم وما بوغتوا به بخاصة من تكاثر الشهب المنقضة من السماء في هذا الظرف، وما أثار ذلك فيهم من خوف وتساؤل على النحو الوارد في الآيات والواضح العبارة.
ولقد روى البخاري والترمذي عن ابن عباس حديثا جاء فيه :" انطلقَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في طائفةٍ من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء، وأرسلت عليهم الشهب فرجعت الشياطين فقالوا : ما لكم ؟ قالوا : حيل بيننا وبينَ خبر السماء. وأرسلت علينا الشهبُ. قالوا : ما حالَ بينكم وبينَ خبر السماء إلاّ ما حدث. فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها، فانظروا ما هذا الذي حدث فانطلقوا ينظرونَ. فالذين توجّهوا نحو تهامة سمعُوا قراءةَ رسول الله وهو يصلّي الفجرَ بأصحابه بنخلة، فتسمّعوا له فقالوا : هذا الذي حال بينكم وبينَ خبر السماء. فرجعوا إلى قومهم فقالوا : يا قومَنا إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربّنا أحدا. وأنزل الله تعالى :﴿ قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ ﴾. وإنما أوحي إليه قول الجن " ١.
ولقد أورد الطبري هذا الحديث، وأعقبه بكلام يفيد أن حادث استماع الجنّ للقرآن المذكور في هذه السورة وحادث استماعهم المذكور في آيات سورة الأحقاف هذه :﴿ وإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ ولَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ ٢٩ قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ٣٠ ﴾ واحد. مع أن الذي نرجّحه بل المستفاد من روح مجموعتي السورتين والفترة الطويلة بين نزول السورتين، وحديث آخر مروي في سياق نزول مجموعة الأحقاف أنهما حادثان على ما سوف نزيده شرحا في سياق تفسير سورة الأحقاف. والعبارة القرآنية قطعية الدلالة على حدوث هذا الحادث الغيبي. ومن واجب المسلم الإيمان به كما هو الشأن في الإيمان بوجود الجنّ على ما شرحناه في سياق سورة الناس.
والآيات مع الحديث تساعد على تسجيل الملاحظات التالية :
١ إن الآية الأولى تفيد أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير نفر الجن ولم يسمع أقوالهم، وأن ذلك كان أمرا مغيبا عنه أخبر به بوحي رباني قرآني. وقد روى المفسرون حديثا عن ابن عباس جاء فيه فيما جاء : أن النبي صلى الله عليه وسلم ما قرأ على الجنّ ولا رآهم وإنما أوحي إليه قولهم٢.
٢ إن الآيات تقرّر بصراحة وجود الجنّ وأنهم طوائف ومذاهب وأن منهم الصالحين وغير الصالحين والمسلمين والقاسطين والمنحرفين والعقلاء الراشدين، والسفهاء الضالين.
٣ إن الآية السادسة تحتوي صورة لما كانت عليه عقائد العرب في الجنّ حيث كانوا يعتقدون بوجودهم وبما هم عليه من قوة وتأثير. وكانوا يخشون شرّهم ويستعيذون بهم.
٤ إن ما جاء في صدد قعود الجنّ مقاعد للسمع في السماء وما كان من تبدّل الموقف، وامتلاء السماء بالشهب والحرس، وأن من يحاول منهم الاستماع كما كان يفعل سابقا يجد شهابا مترصّدا له هو حكاية عن الجن وليس تقريرا قرآنيا مباشرا. غير أن أسلوب الآيات يلهم أنهم يقولون أمورا واقعة لا ينفيها القرآن. وقد أيّدها في آيات عديدة في سور أخرى مثل آيات سورة الحجر هذه :﴿ ولَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاء بُرُوجًا وزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ ١٦ وحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ ١٧ إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُّبِينٌ١٨ ﴾ وآيات سورة الصافات هذه :﴿ إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ ٦ وحِفْظًا مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ ٧ لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى ويُقْذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِبٍ ٨ دُحُورًا ولَهُمْ عَذَابٌ واصِبٌ ٩ إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ ١٠ ﴾ وآية سورة الملك هذه :﴿ ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين واعتدنا لهم عذاب السعير٥ ﴾.
٥ إن الآية الرابعة قد تلهم أن النفر المستمعين كانوا يدينون بأن الله سبحانه اتخذ زوجة وكان له منها ولد. ونرجّح أن هذا يمتّ إلى عقيدة النصارى أكثر من عقيدة العرب الذين كانوا يعتقدون أن الملائكة بنات الله ؛ لأنه ليس في عقائد العرب أن لله زوجة.
ولقد علقنا على كلمة الجن بما فيه الكفاية في سياق تفسير سورة الناس، ونقول هنا : إن وجود الجنّ وأخوالهم وماهية استراقهم السمع من السماء من الأمور المغيبة التي يقررها القرآن، فيجب الإيمان بها ولو لم تدركها الحواس البشرية أو يتسق مع ما عرفه الناس من نواميس ونظم كونية كسائر الحقائق المغيبة التي قررها القرآن والوقوف منها عندما وقف عنده القرآن دون تزيد وتمحل. فالعقل البشري كان وما يزال عاجزا عن إدراك كنه كثير من أسرار الكون وقواه.
ولقد أورد المفسرون أحاديث عديدة في سياق تفسير آيات سورة الحجر فيها تفصيلات عن استراق الشياطين للسمع وإيصال الأخبار إلى السحرة والكهان لم ترد في كتب الأحاديث الصحيحة. ولكنها متساوقة مع ما جاء في حديث البخاري وآيات سورة الجن وسور الحجر والصافات والملك. منها حديث عن ابن عباس قال :" تصعد الشياطين أفواجا تسترق السمع، فينفرد المارد فيها فيعلو فيرمى بالشهاب فيصيب جبهته أو جنبه أو حيث شاء الله منه فيلتهب، فيأتي أصحابه وهو يلتهب فيقول : إنه كان من الأمر كذا وكذا فيذهب أولئك إلى إخوانهم من الكهنة، فيزيدون عليه أضعافه من الكذب فيخبرونهم به، فإذا رأوا شيئا مما قالوا قد كان صدقوهم بما جاؤوهم به من الكذب ". وحديث أورده البغوي في سياق الآيات المذكورة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله، كأنه سلسلة على صفوان، فإذا فزع عن قلوبهم قالوا : ماذا قال ربكم ؟ قالوا : الحق وهو العلي الكبير، فيسمعها مسترقو السمع ومسترقو السمع هكذا بعضهم فوق بعض، فيسمع أحدهم الكلمة فيلقيها إلى من تحته ثم يلقيها الآخر إلى من تحته حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها، وربّما ألقاها قبل أن يدركه فيكذب معها مائة كذبة فيقال : أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا يكون كذا وكذا ؟ فيصدق بتلك الكلمة التي سمعت من السماء ". ومنها حديث رواه البغوي عن عائشة في سياق الآيات نفسها جاء فيه :" إنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إن الملائكة تنزل في العنان وهو السّحاب فتذكر الأمر الذي قضي في السماء فتسترق الشياطين السمع فتسمعه فتوحيه إلى الكهّان فيكذبون معها مائة كذبة من عند أنفسهم ".
ونرجّح بل نجزم بأن ما ورد في هذه الأحاديث كان مما يتداوله العرب قبل الإسلام. ولقد روى الطبري في سياق آيات سورة الصافات عن الزهري أن انقضاض الشهب قد تزايد كثيرا إبّان ظهور النبي صلى الله عليه وسلم. فمن المحتمل أن يكون ذلك قد لفت نظر العرب وجعلهم يكثرون من التحدث عنه. ويحسبون أن لبعثة النبي صلى الله عليه وسلم صلة ما بذلك ؛ حيث كانوا ينعتونه بالساحر والشاعر والكاهن الذين كانوا يعتقدون أن الشياطين تنزل إليهم بأخبار السماء على ماحكته آيات عديدة عنهم مثل آيات سورة الطور هذه :﴿ فذَكِّرْ فَمَا أَنتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ ولَا مَجْنُونٍ ٢٩ أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ٣٠ قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُم منَ الْمُتَرَبِّصِينََ ٣١ ﴾ وآيات سورة الحاقة هذه :﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ ٣٨ ومَا لَا تُبْصِرُونَ ٣٩ إِنَّهُ َقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ٤٠ ومَا هُو بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ ٤١ ولَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ ٤٢ تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ ٤٣ ﴾ وآيات سورة الذاريات هذه :﴿ كذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ٥٢ أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ ٥٣ فَتَولَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنتَ بِمَلُومٍ ٥٤ وذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ٥٥ ﴾ وآيات سورة ص هذه :﴿ وعجبوا أن جاءهم منذر منهم وقال الكافرون هذا ساحر كذاب ٤ ﴾ فاقتضت حكمة التنزيل ذكر مسألة استراق الشياطين للسمع في الآيات القرآنية لإعلامهم أن الشياطين قد منعوا من أخبار السماء، وأن الله تعالى قد حفظها منهم وأعدّ لهم فيها شهبا راجمة، وأن الجن قد يئسوا من ذلك ثم بيان كون الشياطين إنما كانت تنزل على الكاذبين الأفاكين الآثمين. وكون القرآن الصادق الداعي إلى الله وحده والمبشّر بأسمى المبادئ لا يمكن أن تنزل به شياطين وكون الرسول الذي يبلغ هذا القرآن لا يمكن أن يكون له صلة بالشياطين وإنما صلته بالله تعالى كما جاء في آيات سورة الشعراء هذه :
١ ﴿ وإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ١٩٢ ن
١ التاج ج ٤ ص ٢٤٦. ونخلة موضع قريب إلى سوق عكاظ بين مكة وسوق عكاظ..
٢ انظر تفسير ابن كثير لآيات الأحقاف {وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن﴾ الخ مثلا. وهذا المعنى وارد في الحديث المروي آنفا أيضا..

يعوذون : يستجيرون ويلتجئون.
رهقا : قال الزمخشري : أصل معنى الرهق غشيان المحارم والمتبادر من فحوى الآيات أن الكلمة الواردة في الآية [ ٦ ] بمعنى زادوهم كفرا وضلالا والواردة في الآية [ ١٣ ] بمعنى ظلما وحيفا.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١:﴿ قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا١ يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ ولَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا ٢ وأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَة ولَا ولَدًا ٣ وأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا ٤ وأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن تَقُولَ الْإِنسُ والْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ٥ وأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا ٦ وأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا ٧وأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاء فَوجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وشُهُبًا ٨ وأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَّصَدًا٩ وأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا ١٠ وأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ ومِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا ١١ وأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن نُّعجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ ولَن نُّعْجِزَهُ هَرَبًا ١٢ وأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا ولَا رَهَقًا ١٣ وأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ ومِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا ١٤ وأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا ١٥ ﴾[ ١١٥ ].
شرح الفصل الأول من السورة والتعليق
على مدى محتوياته
هذه الآيات هي الفصل الأول من الفصلين اللذين تتألف منهما السورة. وفيها أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يخبر الناس بأن الله تعالى أوحى إليه بأنه استمع نفر من الجن للقرآن فعظّموا شأنه وشأن ربّهم العظيم وآمنوا به ونزّهوه عن اتخاذ زوجة وولد وأنهم تذاكروا مع بعضهم أمورا متنوعة مما كانت عليه أحوالهم وعقائدهم وظنونهم، وموقف جماعات من الإنس إزاءهم وما بوغتوا به بخاصة من تكاثر الشهب المنقضة من السماء في هذا الظرف، وما أثار ذلك فيهم من خوف وتساؤل على النحو الوارد في الآيات والواضح العبارة.
ولقد روى البخاري والترمذي عن ابن عباس حديثا جاء فيه :" انطلقَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في طائفةٍ من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء، وأرسلت عليهم الشهب فرجعت الشياطين فقالوا : ما لكم ؟ قالوا : حيل بيننا وبينَ خبر السماء. وأرسلت علينا الشهبُ. قالوا : ما حالَ بينكم وبينَ خبر السماء إلاّ ما حدث. فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها، فانظروا ما هذا الذي حدث فانطلقوا ينظرونَ. فالذين توجّهوا نحو تهامة سمعُوا قراءةَ رسول الله وهو يصلّي الفجرَ بأصحابه بنخلة، فتسمّعوا له فقالوا : هذا الذي حال بينكم وبينَ خبر السماء. فرجعوا إلى قومهم فقالوا : يا قومَنا إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربّنا أحدا. وأنزل الله تعالى :﴿ قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ ﴾. وإنما أوحي إليه قول الجن " ١.
ولقد أورد الطبري هذا الحديث، وأعقبه بكلام يفيد أن حادث استماع الجنّ للقرآن المذكور في هذه السورة وحادث استماعهم المذكور في آيات سورة الأحقاف هذه :﴿ وإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ ولَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ ٢٩ قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ٣٠ ﴾ واحد. مع أن الذي نرجّحه بل المستفاد من روح مجموعتي السورتين والفترة الطويلة بين نزول السورتين، وحديث آخر مروي في سياق نزول مجموعة الأحقاف أنهما حادثان على ما سوف نزيده شرحا في سياق تفسير سورة الأحقاف. والعبارة القرآنية قطعية الدلالة على حدوث هذا الحادث الغيبي. ومن واجب المسلم الإيمان به كما هو الشأن في الإيمان بوجود الجنّ على ما شرحناه في سياق سورة الناس.
والآيات مع الحديث تساعد على تسجيل الملاحظات التالية :
١ إن الآية الأولى تفيد أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير نفر الجن ولم يسمع أقوالهم، وأن ذلك كان أمرا مغيبا عنه أخبر به بوحي رباني قرآني. وقد روى المفسرون حديثا عن ابن عباس جاء فيه فيما جاء : أن النبي صلى الله عليه وسلم ما قرأ على الجنّ ولا رآهم وإنما أوحي إليه قولهم٢.
٢ إن الآيات تقرّر بصراحة وجود الجنّ وأنهم طوائف ومذاهب وأن منهم الصالحين وغير الصالحين والمسلمين والقاسطين والمنحرفين والعقلاء الراشدين، والسفهاء الضالين.
٣ إن الآية السادسة تحتوي صورة لما كانت عليه عقائد العرب في الجنّ حيث كانوا يعتقدون بوجودهم وبما هم عليه من قوة وتأثير. وكانوا يخشون شرّهم ويستعيذون بهم.
٤ إن ما جاء في صدد قعود الجنّ مقاعد للسمع في السماء وما كان من تبدّل الموقف، وامتلاء السماء بالشهب والحرس، وأن من يحاول منهم الاستماع كما كان يفعل سابقا يجد شهابا مترصّدا له هو حكاية عن الجن وليس تقريرا قرآنيا مباشرا. غير أن أسلوب الآيات يلهم أنهم يقولون أمورا واقعة لا ينفيها القرآن. وقد أيّدها في آيات عديدة في سور أخرى مثل آيات سورة الحجر هذه :﴿ ولَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاء بُرُوجًا وزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ ١٦ وحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ ١٧ إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُّبِينٌ١٨ ﴾ وآيات سورة الصافات هذه :﴿ إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ ٦ وحِفْظًا مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ ٧ لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى ويُقْذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِبٍ ٨ دُحُورًا ولَهُمْ عَذَابٌ واصِبٌ ٩ إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ ١٠ ﴾ وآية سورة الملك هذه :﴿ ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين واعتدنا لهم عذاب السعير٥ ﴾.
٥ إن الآية الرابعة قد تلهم أن النفر المستمعين كانوا يدينون بأن الله سبحانه اتخذ زوجة وكان له منها ولد. ونرجّح أن هذا يمتّ إلى عقيدة النصارى أكثر من عقيدة العرب الذين كانوا يعتقدون أن الملائكة بنات الله ؛ لأنه ليس في عقائد العرب أن لله زوجة.
ولقد علقنا على كلمة الجن بما فيه الكفاية في سياق تفسير سورة الناس، ونقول هنا : إن وجود الجنّ وأخوالهم وماهية استراقهم السمع من السماء من الأمور المغيبة التي يقررها القرآن، فيجب الإيمان بها ولو لم تدركها الحواس البشرية أو يتسق مع ما عرفه الناس من نواميس ونظم كونية كسائر الحقائق المغيبة التي قررها القرآن والوقوف منها عندما وقف عنده القرآن دون تزيد وتمحل. فالعقل البشري كان وما يزال عاجزا عن إدراك كنه كثير من أسرار الكون وقواه.
ولقد أورد المفسرون أحاديث عديدة في سياق تفسير آيات سورة الحجر فيها تفصيلات عن استراق الشياطين للسمع وإيصال الأخبار إلى السحرة والكهان لم ترد في كتب الأحاديث الصحيحة. ولكنها متساوقة مع ما جاء في حديث البخاري وآيات سورة الجن وسور الحجر والصافات والملك. منها حديث عن ابن عباس قال :" تصعد الشياطين أفواجا تسترق السمع، فينفرد المارد فيها فيعلو فيرمى بالشهاب فيصيب جبهته أو جنبه أو حيث شاء الله منه فيلتهب، فيأتي أصحابه وهو يلتهب فيقول : إنه كان من الأمر كذا وكذا فيذهب أولئك إلى إخوانهم من الكهنة، فيزيدون عليه أضعافه من الكذب فيخبرونهم به، فإذا رأوا شيئا مما قالوا قد كان صدقوهم بما جاؤوهم به من الكذب ". وحديث أورده البغوي في سياق الآيات المذكورة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله، كأنه سلسلة على صفوان، فإذا فزع عن قلوبهم قالوا : ماذا قال ربكم ؟ قالوا : الحق وهو العلي الكبير، فيسمعها مسترقو السمع ومسترقو السمع هكذا بعضهم فوق بعض، فيسمع أحدهم الكلمة فيلقيها إلى من تحته ثم يلقيها الآخر إلى من تحته حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها، وربّما ألقاها قبل أن يدركه فيكذب معها مائة كذبة فيقال : أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا يكون كذا وكذا ؟ فيصدق بتلك الكلمة التي سمعت من السماء ". ومنها حديث رواه البغوي عن عائشة في سياق الآيات نفسها جاء فيه :" إنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إن الملائكة تنزل في العنان وهو السّحاب فتذكر الأمر الذي قضي في السماء فتسترق الشياطين السمع فتسمعه فتوحيه إلى الكهّان فيكذبون معها مائة كذبة من عند أنفسهم ".
ونرجّح بل نجزم بأن ما ورد في هذه الأحاديث كان مما يتداوله العرب قبل الإسلام. ولقد روى الطبري في سياق آيات سورة الصافات عن الزهري أن انقضاض الشهب قد تزايد كثيرا إبّان ظهور النبي صلى الله عليه وسلم. فمن المحتمل أن يكون ذلك قد لفت نظر العرب وجعلهم يكثرون من التحدث عنه. ويحسبون أن لبعثة النبي صلى الله عليه وسلم صلة ما بذلك ؛ حيث كانوا ينعتونه بالساحر والشاعر والكاهن الذين كانوا يعتقدون أن الشياطين تنزل إليهم بأخبار السماء على ماحكته آيات عديدة عنهم مثل آيات سورة الطور هذه :﴿ فذَكِّرْ فَمَا أَنتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ ولَا مَجْنُونٍ ٢٩ أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ٣٠ قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُم منَ الْمُتَرَبِّصِينََ ٣١ ﴾ وآيات سورة الحاقة هذه :﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ ٣٨ ومَا لَا تُبْصِرُونَ ٣٩ إِنَّهُ َقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ٤٠ ومَا هُو بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ ٤١ ولَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ ٤٢ تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ ٤٣ ﴾ وآيات سورة الذاريات هذه :﴿ كذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ٥٢ أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ ٥٣ فَتَولَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنتَ بِمَلُومٍ ٥٤ وذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ٥٥ ﴾ وآيات سورة ص هذه :﴿ وعجبوا أن جاءهم منذر منهم وقال الكافرون هذا ساحر كذاب ٤ ﴾ فاقتضت حكمة التنزيل ذكر مسألة استراق الشياطين للسمع في الآيات القرآنية لإعلامهم أن الشياطين قد منعوا من أخبار السماء، وأن الله تعالى قد حفظها منهم وأعدّ لهم فيها شهبا راجمة، وأن الجن قد يئسوا من ذلك ثم بيان كون الشياطين إنما كانت تنزل على الكاذبين الأفاكين الآثمين. وكون القرآن الصادق الداعي إلى الله وحده والمبشّر بأسمى المبادئ لا يمكن أن تنزل به شياطين وكون الرسول الذي يبلغ هذا القرآن لا يمكن أن يكون له صلة بالشياطين وإنما صلته بالله تعالى كما جاء في آيات سورة الشعراء هذه :
١ ﴿ وإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ١٩٢ ن
١ التاج ج ٤ ص ٢٤٦. ونخلة موضع قريب إلى سوق عكاظ بين مكة وسوق عكاظ..
٢ انظر تفسير ابن كثير لآيات الأحقاف {وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن﴾ الخ مثلا. وهذا المعنى وارد في الحديث المروي آنفا أيضا..

شهبا : جمع شهاب وهو في الأصل النور أو الشيء المضيء. وقد جاء في القرآن على الأكثر للكناية عن الشهب المنقضة من السماء نحو الأرض.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١:﴿ قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا١ يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ ولَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا ٢ وأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَة ولَا ولَدًا ٣ وأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا ٤ وأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن تَقُولَ الْإِنسُ والْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ٥ وأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا ٦ وأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا ٧وأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاء فَوجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وشُهُبًا ٨ وأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَّصَدًا٩ وأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا ١٠ وأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ ومِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا ١١ وأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن نُّعجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ ولَن نُّعْجِزَهُ هَرَبًا ١٢ وأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا ولَا رَهَقًا ١٣ وأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ ومِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا ١٤ وأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا ١٥ ﴾[ ١١٥ ].
شرح الفصل الأول من السورة والتعليق
على مدى محتوياته
هذه الآيات هي الفصل الأول من الفصلين اللذين تتألف منهما السورة. وفيها أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يخبر الناس بأن الله تعالى أوحى إليه بأنه استمع نفر من الجن للقرآن فعظّموا شأنه وشأن ربّهم العظيم وآمنوا به ونزّهوه عن اتخاذ زوجة وولد وأنهم تذاكروا مع بعضهم أمورا متنوعة مما كانت عليه أحوالهم وعقائدهم وظنونهم، وموقف جماعات من الإنس إزاءهم وما بوغتوا به بخاصة من تكاثر الشهب المنقضة من السماء في هذا الظرف، وما أثار ذلك فيهم من خوف وتساؤل على النحو الوارد في الآيات والواضح العبارة.
ولقد روى البخاري والترمذي عن ابن عباس حديثا جاء فيه :" انطلقَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في طائفةٍ من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء، وأرسلت عليهم الشهب فرجعت الشياطين فقالوا : ما لكم ؟ قالوا : حيل بيننا وبينَ خبر السماء. وأرسلت علينا الشهبُ. قالوا : ما حالَ بينكم وبينَ خبر السماء إلاّ ما حدث. فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها، فانظروا ما هذا الذي حدث فانطلقوا ينظرونَ. فالذين توجّهوا نحو تهامة سمعُوا قراءةَ رسول الله وهو يصلّي الفجرَ بأصحابه بنخلة، فتسمّعوا له فقالوا : هذا الذي حال بينكم وبينَ خبر السماء. فرجعوا إلى قومهم فقالوا : يا قومَنا إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربّنا أحدا. وأنزل الله تعالى :﴿ قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ ﴾. وإنما أوحي إليه قول الجن " ١.
ولقد أورد الطبري هذا الحديث، وأعقبه بكلام يفيد أن حادث استماع الجنّ للقرآن المذكور في هذه السورة وحادث استماعهم المذكور في آيات سورة الأحقاف هذه :﴿ وإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ ولَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ ٢٩ قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ٣٠ ﴾ واحد. مع أن الذي نرجّحه بل المستفاد من روح مجموعتي السورتين والفترة الطويلة بين نزول السورتين، وحديث آخر مروي في سياق نزول مجموعة الأحقاف أنهما حادثان على ما سوف نزيده شرحا في سياق تفسير سورة الأحقاف. والعبارة القرآنية قطعية الدلالة على حدوث هذا الحادث الغيبي. ومن واجب المسلم الإيمان به كما هو الشأن في الإيمان بوجود الجنّ على ما شرحناه في سياق سورة الناس.
والآيات مع الحديث تساعد على تسجيل الملاحظات التالية :
١ إن الآية الأولى تفيد أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير نفر الجن ولم يسمع أقوالهم، وأن ذلك كان أمرا مغيبا عنه أخبر به بوحي رباني قرآني. وقد روى المفسرون حديثا عن ابن عباس جاء فيه فيما جاء : أن النبي صلى الله عليه وسلم ما قرأ على الجنّ ولا رآهم وإنما أوحي إليه قولهم٢.
٢ إن الآيات تقرّر بصراحة وجود الجنّ وأنهم طوائف ومذاهب وأن منهم الصالحين وغير الصالحين والمسلمين والقاسطين والمنحرفين والعقلاء الراشدين، والسفهاء الضالين.
٣ إن الآية السادسة تحتوي صورة لما كانت عليه عقائد العرب في الجنّ حيث كانوا يعتقدون بوجودهم وبما هم عليه من قوة وتأثير. وكانوا يخشون شرّهم ويستعيذون بهم.
٤ إن ما جاء في صدد قعود الجنّ مقاعد للسمع في السماء وما كان من تبدّل الموقف، وامتلاء السماء بالشهب والحرس، وأن من يحاول منهم الاستماع كما كان يفعل سابقا يجد شهابا مترصّدا له هو حكاية عن الجن وليس تقريرا قرآنيا مباشرا. غير أن أسلوب الآيات يلهم أنهم يقولون أمورا واقعة لا ينفيها القرآن. وقد أيّدها في آيات عديدة في سور أخرى مثل آيات سورة الحجر هذه :﴿ ولَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاء بُرُوجًا وزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ ١٦ وحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ ١٧ إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُّبِينٌ١٨ ﴾ وآيات سورة الصافات هذه :﴿ إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ ٦ وحِفْظًا مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ ٧ لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى ويُقْذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِبٍ ٨ دُحُورًا ولَهُمْ عَذَابٌ واصِبٌ ٩ إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ ١٠ ﴾ وآية سورة الملك هذه :﴿ ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين واعتدنا لهم عذاب السعير٥ ﴾.
٥ إن الآية الرابعة قد تلهم أن النفر المستمعين كانوا يدينون بأن الله سبحانه اتخذ زوجة وكان له منها ولد. ونرجّح أن هذا يمتّ إلى عقيدة النصارى أكثر من عقيدة العرب الذين كانوا يعتقدون أن الملائكة بنات الله ؛ لأنه ليس في عقائد العرب أن لله زوجة.
ولقد علقنا على كلمة الجن بما فيه الكفاية في سياق تفسير سورة الناس، ونقول هنا : إن وجود الجنّ وأخوالهم وماهية استراقهم السمع من السماء من الأمور المغيبة التي يقررها القرآن، فيجب الإيمان بها ولو لم تدركها الحواس البشرية أو يتسق مع ما عرفه الناس من نواميس ونظم كونية كسائر الحقائق المغيبة التي قررها القرآن والوقوف منها عندما وقف عنده القرآن دون تزيد وتمحل. فالعقل البشري كان وما يزال عاجزا عن إدراك كنه كثير من أسرار الكون وقواه.
ولقد أورد المفسرون أحاديث عديدة في سياق تفسير آيات سورة الحجر فيها تفصيلات عن استراق الشياطين للسمع وإيصال الأخبار إلى السحرة والكهان لم ترد في كتب الأحاديث الصحيحة. ولكنها متساوقة مع ما جاء في حديث البخاري وآيات سورة الجن وسور الحجر والصافات والملك. منها حديث عن ابن عباس قال :" تصعد الشياطين أفواجا تسترق السمع، فينفرد المارد فيها فيعلو فيرمى بالشهاب فيصيب جبهته أو جنبه أو حيث شاء الله منه فيلتهب، فيأتي أصحابه وهو يلتهب فيقول : إنه كان من الأمر كذا وكذا فيذهب أولئك إلى إخوانهم من الكهنة، فيزيدون عليه أضعافه من الكذب فيخبرونهم به، فإذا رأوا شيئا مما قالوا قد كان صدقوهم بما جاؤوهم به من الكذب ". وحديث أورده البغوي في سياق الآيات المذكورة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله، كأنه سلسلة على صفوان، فإذا فزع عن قلوبهم قالوا : ماذا قال ربكم ؟ قالوا : الحق وهو العلي الكبير، فيسمعها مسترقو السمع ومسترقو السمع هكذا بعضهم فوق بعض، فيسمع أحدهم الكلمة فيلقيها إلى من تحته ثم يلقيها الآخر إلى من تحته حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها، وربّما ألقاها قبل أن يدركه فيكذب معها مائة كذبة فيقال : أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا يكون كذا وكذا ؟ فيصدق بتلك الكلمة التي سمعت من السماء ". ومنها حديث رواه البغوي عن عائشة في سياق الآيات نفسها جاء فيه :" إنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إن الملائكة تنزل في العنان وهو السّحاب فتذكر الأمر الذي قضي في السماء فتسترق الشياطين السمع فتسمعه فتوحيه إلى الكهّان فيكذبون معها مائة كذبة من عند أنفسهم ".
ونرجّح بل نجزم بأن ما ورد في هذه الأحاديث كان مما يتداوله العرب قبل الإسلام. ولقد روى الطبري في سياق آيات سورة الصافات عن الزهري أن انقضاض الشهب قد تزايد كثيرا إبّان ظهور النبي صلى الله عليه وسلم. فمن المحتمل أن يكون ذلك قد لفت نظر العرب وجعلهم يكثرون من التحدث عنه. ويحسبون أن لبعثة النبي صلى الله عليه وسلم صلة ما بذلك ؛ حيث كانوا ينعتونه بالساحر والشاعر والكاهن الذين كانوا يعتقدون أن الشياطين تنزل إليهم بأخبار السماء على ماحكته آيات عديدة عنهم مثل آيات سورة الطور هذه :﴿ فذَكِّرْ فَمَا أَنتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ ولَا مَجْنُونٍ ٢٩ أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ٣٠ قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُم منَ الْمُتَرَبِّصِينََ ٣١ ﴾ وآيات سورة الحاقة هذه :﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ ٣٨ ومَا لَا تُبْصِرُونَ ٣٩ إِنَّهُ َقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ٤٠ ومَا هُو بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ ٤١ ولَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ ٤٢ تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ ٤٣ ﴾ وآيات سورة الذاريات هذه :﴿ كذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ٥٢ أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ ٥٣ فَتَولَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنتَ بِمَلُومٍ ٥٤ وذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ٥٥ ﴾ وآيات سورة ص هذه :﴿ وعجبوا أن جاءهم منذر منهم وقال الكافرون هذا ساحر كذاب ٤ ﴾ فاقتضت حكمة التنزيل ذكر مسألة استراق الشياطين للسمع في الآيات القرآنية لإعلامهم أن الشياطين قد منعوا من أخبار السماء، وأن الله تعالى قد حفظها منهم وأعدّ لهم فيها شهبا راجمة، وأن الجن قد يئسوا من ذلك ثم بيان كون الشياطين إنما كانت تنزل على الكاذبين الأفاكين الآثمين. وكون القرآن الصادق الداعي إلى الله وحده والمبشّر بأسمى المبادئ لا يمكن أن تنزل به شياطين وكون الرسول الذي يبلغ هذا القرآن لا يمكن أن يكون له صلة بالشياطين وإنما صلته بالله تعالى كما جاء في آيات سورة الشعراء هذه :
١ ﴿ وإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ١٩٢ ن
١ التاج ج ٤ ص ٢٤٦. ونخلة موضع قريب إلى سوق عكاظ بين مكة وسوق عكاظ..
٢ انظر تفسير ابن كثير لآيات الأحقاف {وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن﴾ الخ مثلا. وهذا المعنى وارد في الحديث المروي آنفا أيضا..

رصدا : مترصدا ومترقبا.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١:﴿ قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا١ يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ ولَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا ٢ وأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَة ولَا ولَدًا ٣ وأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا ٤ وأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن تَقُولَ الْإِنسُ والْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ٥ وأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا ٦ وأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا ٧وأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاء فَوجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وشُهُبًا ٨ وأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَّصَدًا٩ وأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا ١٠ وأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ ومِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا ١١ وأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن نُّعجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ ولَن نُّعْجِزَهُ هَرَبًا ١٢ وأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا ولَا رَهَقًا ١٣ وأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ ومِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا ١٤ وأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا ١٥ ﴾[ ١١٥ ].
شرح الفصل الأول من السورة والتعليق
على مدى محتوياته
هذه الآيات هي الفصل الأول من الفصلين اللذين تتألف منهما السورة. وفيها أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يخبر الناس بأن الله تعالى أوحى إليه بأنه استمع نفر من الجن للقرآن فعظّموا شأنه وشأن ربّهم العظيم وآمنوا به ونزّهوه عن اتخاذ زوجة وولد وأنهم تذاكروا مع بعضهم أمورا متنوعة مما كانت عليه أحوالهم وعقائدهم وظنونهم، وموقف جماعات من الإنس إزاءهم وما بوغتوا به بخاصة من تكاثر الشهب المنقضة من السماء في هذا الظرف، وما أثار ذلك فيهم من خوف وتساؤل على النحو الوارد في الآيات والواضح العبارة.
ولقد روى البخاري والترمذي عن ابن عباس حديثا جاء فيه :" انطلقَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في طائفةٍ من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء، وأرسلت عليهم الشهب فرجعت الشياطين فقالوا : ما لكم ؟ قالوا : حيل بيننا وبينَ خبر السماء. وأرسلت علينا الشهبُ. قالوا : ما حالَ بينكم وبينَ خبر السماء إلاّ ما حدث. فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها، فانظروا ما هذا الذي حدث فانطلقوا ينظرونَ. فالذين توجّهوا نحو تهامة سمعُوا قراءةَ رسول الله وهو يصلّي الفجرَ بأصحابه بنخلة، فتسمّعوا له فقالوا : هذا الذي حال بينكم وبينَ خبر السماء. فرجعوا إلى قومهم فقالوا : يا قومَنا إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربّنا أحدا. وأنزل الله تعالى :﴿ قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ ﴾. وإنما أوحي إليه قول الجن " ١.
ولقد أورد الطبري هذا الحديث، وأعقبه بكلام يفيد أن حادث استماع الجنّ للقرآن المذكور في هذه السورة وحادث استماعهم المذكور في آيات سورة الأحقاف هذه :﴿ وإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ ولَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ ٢٩ قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ٣٠ ﴾ واحد. مع أن الذي نرجّحه بل المستفاد من روح مجموعتي السورتين والفترة الطويلة بين نزول السورتين، وحديث آخر مروي في سياق نزول مجموعة الأحقاف أنهما حادثان على ما سوف نزيده شرحا في سياق تفسير سورة الأحقاف. والعبارة القرآنية قطعية الدلالة على حدوث هذا الحادث الغيبي. ومن واجب المسلم الإيمان به كما هو الشأن في الإيمان بوجود الجنّ على ما شرحناه في سياق سورة الناس.
والآيات مع الحديث تساعد على تسجيل الملاحظات التالية :
١ إن الآية الأولى تفيد أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير نفر الجن ولم يسمع أقوالهم، وأن ذلك كان أمرا مغيبا عنه أخبر به بوحي رباني قرآني. وقد روى المفسرون حديثا عن ابن عباس جاء فيه فيما جاء : أن النبي صلى الله عليه وسلم ما قرأ على الجنّ ولا رآهم وإنما أوحي إليه قولهم٢.
٢ إن الآيات تقرّر بصراحة وجود الجنّ وأنهم طوائف ومذاهب وأن منهم الصالحين وغير الصالحين والمسلمين والقاسطين والمنحرفين والعقلاء الراشدين، والسفهاء الضالين.
٣ إن الآية السادسة تحتوي صورة لما كانت عليه عقائد العرب في الجنّ حيث كانوا يعتقدون بوجودهم وبما هم عليه من قوة وتأثير. وكانوا يخشون شرّهم ويستعيذون بهم.
٤ إن ما جاء في صدد قعود الجنّ مقاعد للسمع في السماء وما كان من تبدّل الموقف، وامتلاء السماء بالشهب والحرس، وأن من يحاول منهم الاستماع كما كان يفعل سابقا يجد شهابا مترصّدا له هو حكاية عن الجن وليس تقريرا قرآنيا مباشرا. غير أن أسلوب الآيات يلهم أنهم يقولون أمورا واقعة لا ينفيها القرآن. وقد أيّدها في آيات عديدة في سور أخرى مثل آيات سورة الحجر هذه :﴿ ولَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاء بُرُوجًا وزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ ١٦ وحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ ١٧ إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُّبِينٌ١٨ ﴾ وآيات سورة الصافات هذه :﴿ إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ ٦ وحِفْظًا مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ ٧ لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى ويُقْذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِبٍ ٨ دُحُورًا ولَهُمْ عَذَابٌ واصِبٌ ٩ إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ ١٠ ﴾ وآية سورة الملك هذه :﴿ ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين واعتدنا لهم عذاب السعير٥ ﴾.
٥ إن الآية الرابعة قد تلهم أن النفر المستمعين كانوا يدينون بأن الله سبحانه اتخذ زوجة وكان له منها ولد. ونرجّح أن هذا يمتّ إلى عقيدة النصارى أكثر من عقيدة العرب الذين كانوا يعتقدون أن الملائكة بنات الله ؛ لأنه ليس في عقائد العرب أن لله زوجة.
ولقد علقنا على كلمة الجن بما فيه الكفاية في سياق تفسير سورة الناس، ونقول هنا : إن وجود الجنّ وأخوالهم وماهية استراقهم السمع من السماء من الأمور المغيبة التي يقررها القرآن، فيجب الإيمان بها ولو لم تدركها الحواس البشرية أو يتسق مع ما عرفه الناس من نواميس ونظم كونية كسائر الحقائق المغيبة التي قررها القرآن والوقوف منها عندما وقف عنده القرآن دون تزيد وتمحل. فالعقل البشري كان وما يزال عاجزا عن إدراك كنه كثير من أسرار الكون وقواه.
ولقد أورد المفسرون أحاديث عديدة في سياق تفسير آيات سورة الحجر فيها تفصيلات عن استراق الشياطين للسمع وإيصال الأخبار إلى السحرة والكهان لم ترد في كتب الأحاديث الصحيحة. ولكنها متساوقة مع ما جاء في حديث البخاري وآيات سورة الجن وسور الحجر والصافات والملك. منها حديث عن ابن عباس قال :" تصعد الشياطين أفواجا تسترق السمع، فينفرد المارد فيها فيعلو فيرمى بالشهاب فيصيب جبهته أو جنبه أو حيث شاء الله منه فيلتهب، فيأتي أصحابه وهو يلتهب فيقول : إنه كان من الأمر كذا وكذا فيذهب أولئك إلى إخوانهم من الكهنة، فيزيدون عليه أضعافه من الكذب فيخبرونهم به، فإذا رأوا شيئا مما قالوا قد كان صدقوهم بما جاؤوهم به من الكذب ". وحديث أورده البغوي في سياق الآيات المذكورة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله، كأنه سلسلة على صفوان، فإذا فزع عن قلوبهم قالوا : ماذا قال ربكم ؟ قالوا : الحق وهو العلي الكبير، فيسمعها مسترقو السمع ومسترقو السمع هكذا بعضهم فوق بعض، فيسمع أحدهم الكلمة فيلقيها إلى من تحته ثم يلقيها الآخر إلى من تحته حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها، وربّما ألقاها قبل أن يدركه فيكذب معها مائة كذبة فيقال : أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا يكون كذا وكذا ؟ فيصدق بتلك الكلمة التي سمعت من السماء ". ومنها حديث رواه البغوي عن عائشة في سياق الآيات نفسها جاء فيه :" إنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إن الملائكة تنزل في العنان وهو السّحاب فتذكر الأمر الذي قضي في السماء فتسترق الشياطين السمع فتسمعه فتوحيه إلى الكهّان فيكذبون معها مائة كذبة من عند أنفسهم ".
ونرجّح بل نجزم بأن ما ورد في هذه الأحاديث كان مما يتداوله العرب قبل الإسلام. ولقد روى الطبري في سياق آيات سورة الصافات عن الزهري أن انقضاض الشهب قد تزايد كثيرا إبّان ظهور النبي صلى الله عليه وسلم. فمن المحتمل أن يكون ذلك قد لفت نظر العرب وجعلهم يكثرون من التحدث عنه. ويحسبون أن لبعثة النبي صلى الله عليه وسلم صلة ما بذلك ؛ حيث كانوا ينعتونه بالساحر والشاعر والكاهن الذين كانوا يعتقدون أن الشياطين تنزل إليهم بأخبار السماء على ماحكته آيات عديدة عنهم مثل آيات سورة الطور هذه :﴿ فذَكِّرْ فَمَا أَنتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ ولَا مَجْنُونٍ ٢٩ أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ٣٠ قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُم منَ الْمُتَرَبِّصِينََ ٣١ ﴾ وآيات سورة الحاقة هذه :﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ ٣٨ ومَا لَا تُبْصِرُونَ ٣٩ إِنَّهُ َقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ٤٠ ومَا هُو بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ ٤١ ولَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ ٤٢ تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ ٤٣ ﴾ وآيات سورة الذاريات هذه :﴿ كذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ٥٢ أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ ٥٣ فَتَولَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنتَ بِمَلُومٍ ٥٤ وذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ٥٥ ﴾ وآيات سورة ص هذه :﴿ وعجبوا أن جاءهم منذر منهم وقال الكافرون هذا ساحر كذاب ٤ ﴾ فاقتضت حكمة التنزيل ذكر مسألة استراق الشياطين للسمع في الآيات القرآنية لإعلامهم أن الشياطين قد منعوا من أخبار السماء، وأن الله تعالى قد حفظها منهم وأعدّ لهم فيها شهبا راجمة، وأن الجن قد يئسوا من ذلك ثم بيان كون الشياطين إنما كانت تنزل على الكاذبين الأفاكين الآثمين. وكون القرآن الصادق الداعي إلى الله وحده والمبشّر بأسمى المبادئ لا يمكن أن تنزل به شياطين وكون الرسول الذي يبلغ هذا القرآن لا يمكن أن يكون له صلة بالشياطين وإنما صلته بالله تعالى كما جاء في آيات سورة الشعراء هذه :
١ ﴿ وإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ١٩٢ ن
١ التاج ج ٤ ص ٢٤٦. ونخلة موضع قريب إلى سوق عكاظ بين مكة وسوق عكاظ..
٢ انظر تفسير ابن كثير لآيات الأحقاف {وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن﴾ الخ مثلا. وهذا المعنى وارد في الحديث المروي آنفا أيضا..

طرائق قددا : مذاهب متفرقة.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١:﴿ قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا١ يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ ولَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا ٢ وأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَة ولَا ولَدًا ٣ وأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا ٤ وأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن تَقُولَ الْإِنسُ والْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ٥ وأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا ٦ وأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا ٧وأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاء فَوجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وشُهُبًا ٨ وأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَّصَدًا٩ وأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا ١٠ وأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ ومِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا ١١ وأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن نُّعجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ ولَن نُّعْجِزَهُ هَرَبًا ١٢ وأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا ولَا رَهَقًا ١٣ وأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ ومِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا ١٤ وأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا ١٥ ﴾[ ١١٥ ].
شرح الفصل الأول من السورة والتعليق
على مدى محتوياته
هذه الآيات هي الفصل الأول من الفصلين اللذين تتألف منهما السورة. وفيها أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يخبر الناس بأن الله تعالى أوحى إليه بأنه استمع نفر من الجن للقرآن فعظّموا شأنه وشأن ربّهم العظيم وآمنوا به ونزّهوه عن اتخاذ زوجة وولد وأنهم تذاكروا مع بعضهم أمورا متنوعة مما كانت عليه أحوالهم وعقائدهم وظنونهم، وموقف جماعات من الإنس إزاءهم وما بوغتوا به بخاصة من تكاثر الشهب المنقضة من السماء في هذا الظرف، وما أثار ذلك فيهم من خوف وتساؤل على النحو الوارد في الآيات والواضح العبارة.
ولقد روى البخاري والترمذي عن ابن عباس حديثا جاء فيه :" انطلقَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في طائفةٍ من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء، وأرسلت عليهم الشهب فرجعت الشياطين فقالوا : ما لكم ؟ قالوا : حيل بيننا وبينَ خبر السماء. وأرسلت علينا الشهبُ. قالوا : ما حالَ بينكم وبينَ خبر السماء إلاّ ما حدث. فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها، فانظروا ما هذا الذي حدث فانطلقوا ينظرونَ. فالذين توجّهوا نحو تهامة سمعُوا قراءةَ رسول الله وهو يصلّي الفجرَ بأصحابه بنخلة، فتسمّعوا له فقالوا : هذا الذي حال بينكم وبينَ خبر السماء. فرجعوا إلى قومهم فقالوا : يا قومَنا إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربّنا أحدا. وأنزل الله تعالى :﴿ قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ ﴾. وإنما أوحي إليه قول الجن " ١.
ولقد أورد الطبري هذا الحديث، وأعقبه بكلام يفيد أن حادث استماع الجنّ للقرآن المذكور في هذه السورة وحادث استماعهم المذكور في آيات سورة الأحقاف هذه :﴿ وإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ ولَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ ٢٩ قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ٣٠ ﴾ واحد. مع أن الذي نرجّحه بل المستفاد من روح مجموعتي السورتين والفترة الطويلة بين نزول السورتين، وحديث آخر مروي في سياق نزول مجموعة الأحقاف أنهما حادثان على ما سوف نزيده شرحا في سياق تفسير سورة الأحقاف. والعبارة القرآنية قطعية الدلالة على حدوث هذا الحادث الغيبي. ومن واجب المسلم الإيمان به كما هو الشأن في الإيمان بوجود الجنّ على ما شرحناه في سياق سورة الناس.
والآيات مع الحديث تساعد على تسجيل الملاحظات التالية :
١ إن الآية الأولى تفيد أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير نفر الجن ولم يسمع أقوالهم، وأن ذلك كان أمرا مغيبا عنه أخبر به بوحي رباني قرآني. وقد روى المفسرون حديثا عن ابن عباس جاء فيه فيما جاء : أن النبي صلى الله عليه وسلم ما قرأ على الجنّ ولا رآهم وإنما أوحي إليه قولهم٢.
٢ إن الآيات تقرّر بصراحة وجود الجنّ وأنهم طوائف ومذاهب وأن منهم الصالحين وغير الصالحين والمسلمين والقاسطين والمنحرفين والعقلاء الراشدين، والسفهاء الضالين.
٣ إن الآية السادسة تحتوي صورة لما كانت عليه عقائد العرب في الجنّ حيث كانوا يعتقدون بوجودهم وبما هم عليه من قوة وتأثير. وكانوا يخشون شرّهم ويستعيذون بهم.
٤ إن ما جاء في صدد قعود الجنّ مقاعد للسمع في السماء وما كان من تبدّل الموقف، وامتلاء السماء بالشهب والحرس، وأن من يحاول منهم الاستماع كما كان يفعل سابقا يجد شهابا مترصّدا له هو حكاية عن الجن وليس تقريرا قرآنيا مباشرا. غير أن أسلوب الآيات يلهم أنهم يقولون أمورا واقعة لا ينفيها القرآن. وقد أيّدها في آيات عديدة في سور أخرى مثل آيات سورة الحجر هذه :﴿ ولَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاء بُرُوجًا وزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ ١٦ وحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ ١٧ إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُّبِينٌ١٨ ﴾ وآيات سورة الصافات هذه :﴿ إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ ٦ وحِفْظًا مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ ٧ لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى ويُقْذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِبٍ ٨ دُحُورًا ولَهُمْ عَذَابٌ واصِبٌ ٩ إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ ١٠ ﴾ وآية سورة الملك هذه :﴿ ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين واعتدنا لهم عذاب السعير٥ ﴾.
٥ إن الآية الرابعة قد تلهم أن النفر المستمعين كانوا يدينون بأن الله سبحانه اتخذ زوجة وكان له منها ولد. ونرجّح أن هذا يمتّ إلى عقيدة النصارى أكثر من عقيدة العرب الذين كانوا يعتقدون أن الملائكة بنات الله ؛ لأنه ليس في عقائد العرب أن لله زوجة.
ولقد علقنا على كلمة الجن بما فيه الكفاية في سياق تفسير سورة الناس، ونقول هنا : إن وجود الجنّ وأخوالهم وماهية استراقهم السمع من السماء من الأمور المغيبة التي يقررها القرآن، فيجب الإيمان بها ولو لم تدركها الحواس البشرية أو يتسق مع ما عرفه الناس من نواميس ونظم كونية كسائر الحقائق المغيبة التي قررها القرآن والوقوف منها عندما وقف عنده القرآن دون تزيد وتمحل. فالعقل البشري كان وما يزال عاجزا عن إدراك كنه كثير من أسرار الكون وقواه.
ولقد أورد المفسرون أحاديث عديدة في سياق تفسير آيات سورة الحجر فيها تفصيلات عن استراق الشياطين للسمع وإيصال الأخبار إلى السحرة والكهان لم ترد في كتب الأحاديث الصحيحة. ولكنها متساوقة مع ما جاء في حديث البخاري وآيات سورة الجن وسور الحجر والصافات والملك. منها حديث عن ابن عباس قال :" تصعد الشياطين أفواجا تسترق السمع، فينفرد المارد فيها فيعلو فيرمى بالشهاب فيصيب جبهته أو جنبه أو حيث شاء الله منه فيلتهب، فيأتي أصحابه وهو يلتهب فيقول : إنه كان من الأمر كذا وكذا فيذهب أولئك إلى إخوانهم من الكهنة، فيزيدون عليه أضعافه من الكذب فيخبرونهم به، فإذا رأوا شيئا مما قالوا قد كان صدقوهم بما جاؤوهم به من الكذب ". وحديث أورده البغوي في سياق الآيات المذكورة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله، كأنه سلسلة على صفوان، فإذا فزع عن قلوبهم قالوا : ماذا قال ربكم ؟ قالوا : الحق وهو العلي الكبير، فيسمعها مسترقو السمع ومسترقو السمع هكذا بعضهم فوق بعض، فيسمع أحدهم الكلمة فيلقيها إلى من تحته ثم يلقيها الآخر إلى من تحته حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها، وربّما ألقاها قبل أن يدركه فيكذب معها مائة كذبة فيقال : أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا يكون كذا وكذا ؟ فيصدق بتلك الكلمة التي سمعت من السماء ". ومنها حديث رواه البغوي عن عائشة في سياق الآيات نفسها جاء فيه :" إنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إن الملائكة تنزل في العنان وهو السّحاب فتذكر الأمر الذي قضي في السماء فتسترق الشياطين السمع فتسمعه فتوحيه إلى الكهّان فيكذبون معها مائة كذبة من عند أنفسهم ".
ونرجّح بل نجزم بأن ما ورد في هذه الأحاديث كان مما يتداوله العرب قبل الإسلام. ولقد روى الطبري في سياق آيات سورة الصافات عن الزهري أن انقضاض الشهب قد تزايد كثيرا إبّان ظهور النبي صلى الله عليه وسلم. فمن المحتمل أن يكون ذلك قد لفت نظر العرب وجعلهم يكثرون من التحدث عنه. ويحسبون أن لبعثة النبي صلى الله عليه وسلم صلة ما بذلك ؛ حيث كانوا ينعتونه بالساحر والشاعر والكاهن الذين كانوا يعتقدون أن الشياطين تنزل إليهم بأخبار السماء على ماحكته آيات عديدة عنهم مثل آيات سورة الطور هذه :﴿ فذَكِّرْ فَمَا أَنتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ ولَا مَجْنُونٍ ٢٩ أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ٣٠ قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُم منَ الْمُتَرَبِّصِينََ ٣١ ﴾ وآيات سورة الحاقة هذه :﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ ٣٨ ومَا لَا تُبْصِرُونَ ٣٩ إِنَّهُ َقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ٤٠ ومَا هُو بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ ٤١ ولَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ ٤٢ تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ ٤٣ ﴾ وآيات سورة الذاريات هذه :﴿ كذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ٥٢ أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ ٥٣ فَتَولَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنتَ بِمَلُومٍ ٥٤ وذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ٥٥ ﴾ وآيات سورة ص هذه :﴿ وعجبوا أن جاءهم منذر منهم وقال الكافرون هذا ساحر كذاب ٤ ﴾ فاقتضت حكمة التنزيل ذكر مسألة استراق الشياطين للسمع في الآيات القرآنية لإعلامهم أن الشياطين قد منعوا من أخبار السماء، وأن الله تعالى قد حفظها منهم وأعدّ لهم فيها شهبا راجمة، وأن الجن قد يئسوا من ذلك ثم بيان كون الشياطين إنما كانت تنزل على الكاذبين الأفاكين الآثمين. وكون القرآن الصادق الداعي إلى الله وحده والمبشّر بأسمى المبادئ لا يمكن أن تنزل به شياطين وكون الرسول الذي يبلغ هذا القرآن لا يمكن أن يكون له صلة بالشياطين وإنما صلته بالله تعالى كما جاء في آيات سورة الشعراء هذه :
١ ﴿ وإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ١٩٢ ن
١ التاج ج ٤ ص ٢٤٦. ونخلة موضع قريب إلى سوق عكاظ بين مكة وسوق عكاظ..
٢ انظر تفسير ابن كثير لآيات الأحقاف {وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن﴾ الخ مثلا. وهذا المعنى وارد في الحديث المروي آنفا أيضا..

ظننا : هنا بمعنى تيقنا.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١:﴿ قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا١ يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ ولَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا ٢ وأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَة ولَا ولَدًا ٣ وأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا ٤ وأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن تَقُولَ الْإِنسُ والْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ٥ وأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا ٦ وأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا ٧وأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاء فَوجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وشُهُبًا ٨ وأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَّصَدًا٩ وأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا ١٠ وأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ ومِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا ١١ وأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن نُّعجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ ولَن نُّعْجِزَهُ هَرَبًا ١٢ وأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا ولَا رَهَقًا ١٣ وأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ ومِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا ١٤ وأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا ١٥ ﴾[ ١١٥ ].
شرح الفصل الأول من السورة والتعليق
على مدى محتوياته
هذه الآيات هي الفصل الأول من الفصلين اللذين تتألف منهما السورة. وفيها أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يخبر الناس بأن الله تعالى أوحى إليه بأنه استمع نفر من الجن للقرآن فعظّموا شأنه وشأن ربّهم العظيم وآمنوا به ونزّهوه عن اتخاذ زوجة وولد وأنهم تذاكروا مع بعضهم أمورا متنوعة مما كانت عليه أحوالهم وعقائدهم وظنونهم، وموقف جماعات من الإنس إزاءهم وما بوغتوا به بخاصة من تكاثر الشهب المنقضة من السماء في هذا الظرف، وما أثار ذلك فيهم من خوف وتساؤل على النحو الوارد في الآيات والواضح العبارة.
ولقد روى البخاري والترمذي عن ابن عباس حديثا جاء فيه :" انطلقَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في طائفةٍ من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء، وأرسلت عليهم الشهب فرجعت الشياطين فقالوا : ما لكم ؟ قالوا : حيل بيننا وبينَ خبر السماء. وأرسلت علينا الشهبُ. قالوا : ما حالَ بينكم وبينَ خبر السماء إلاّ ما حدث. فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها، فانظروا ما هذا الذي حدث فانطلقوا ينظرونَ. فالذين توجّهوا نحو تهامة سمعُوا قراءةَ رسول الله وهو يصلّي الفجرَ بأصحابه بنخلة، فتسمّعوا له فقالوا : هذا الذي حال بينكم وبينَ خبر السماء. فرجعوا إلى قومهم فقالوا : يا قومَنا إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربّنا أحدا. وأنزل الله تعالى :﴿ قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ ﴾. وإنما أوحي إليه قول الجن " ١.
ولقد أورد الطبري هذا الحديث، وأعقبه بكلام يفيد أن حادث استماع الجنّ للقرآن المذكور في هذه السورة وحادث استماعهم المذكور في آيات سورة الأحقاف هذه :﴿ وإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ ولَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ ٢٩ قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ٣٠ ﴾ واحد. مع أن الذي نرجّحه بل المستفاد من روح مجموعتي السورتين والفترة الطويلة بين نزول السورتين، وحديث آخر مروي في سياق نزول مجموعة الأحقاف أنهما حادثان على ما سوف نزيده شرحا في سياق تفسير سورة الأحقاف. والعبارة القرآنية قطعية الدلالة على حدوث هذا الحادث الغيبي. ومن واجب المسلم الإيمان به كما هو الشأن في الإيمان بوجود الجنّ على ما شرحناه في سياق سورة الناس.
والآيات مع الحديث تساعد على تسجيل الملاحظات التالية :
١ إن الآية الأولى تفيد أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير نفر الجن ولم يسمع أقوالهم، وأن ذلك كان أمرا مغيبا عنه أخبر به بوحي رباني قرآني. وقد روى المفسرون حديثا عن ابن عباس جاء فيه فيما جاء : أن النبي صلى الله عليه وسلم ما قرأ على الجنّ ولا رآهم وإنما أوحي إليه قولهم٢.
٢ إن الآيات تقرّر بصراحة وجود الجنّ وأنهم طوائف ومذاهب وأن منهم الصالحين وغير الصالحين والمسلمين والقاسطين والمنحرفين والعقلاء الراشدين، والسفهاء الضالين.
٣ إن الآية السادسة تحتوي صورة لما كانت عليه عقائد العرب في الجنّ حيث كانوا يعتقدون بوجودهم وبما هم عليه من قوة وتأثير. وكانوا يخشون شرّهم ويستعيذون بهم.
٤ إن ما جاء في صدد قعود الجنّ مقاعد للسمع في السماء وما كان من تبدّل الموقف، وامتلاء السماء بالشهب والحرس، وأن من يحاول منهم الاستماع كما كان يفعل سابقا يجد شهابا مترصّدا له هو حكاية عن الجن وليس تقريرا قرآنيا مباشرا. غير أن أسلوب الآيات يلهم أنهم يقولون أمورا واقعة لا ينفيها القرآن. وقد أيّدها في آيات عديدة في سور أخرى مثل آيات سورة الحجر هذه :﴿ ولَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاء بُرُوجًا وزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ ١٦ وحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ ١٧ إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُّبِينٌ١٨ ﴾ وآيات سورة الصافات هذه :﴿ إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ ٦ وحِفْظًا مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ ٧ لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى ويُقْذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِبٍ ٨ دُحُورًا ولَهُمْ عَذَابٌ واصِبٌ ٩ إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ ١٠ ﴾ وآية سورة الملك هذه :﴿ ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين واعتدنا لهم عذاب السعير٥ ﴾.
٥ إن الآية الرابعة قد تلهم أن النفر المستمعين كانوا يدينون بأن الله سبحانه اتخذ زوجة وكان له منها ولد. ونرجّح أن هذا يمتّ إلى عقيدة النصارى أكثر من عقيدة العرب الذين كانوا يعتقدون أن الملائكة بنات الله ؛ لأنه ليس في عقائد العرب أن لله زوجة.
ولقد علقنا على كلمة الجن بما فيه الكفاية في سياق تفسير سورة الناس، ونقول هنا : إن وجود الجنّ وأخوالهم وماهية استراقهم السمع من السماء من الأمور المغيبة التي يقررها القرآن، فيجب الإيمان بها ولو لم تدركها الحواس البشرية أو يتسق مع ما عرفه الناس من نواميس ونظم كونية كسائر الحقائق المغيبة التي قررها القرآن والوقوف منها عندما وقف عنده القرآن دون تزيد وتمحل. فالعقل البشري كان وما يزال عاجزا عن إدراك كنه كثير من أسرار الكون وقواه.
ولقد أورد المفسرون أحاديث عديدة في سياق تفسير آيات سورة الحجر فيها تفصيلات عن استراق الشياطين للسمع وإيصال الأخبار إلى السحرة والكهان لم ترد في كتب الأحاديث الصحيحة. ولكنها متساوقة مع ما جاء في حديث البخاري وآيات سورة الجن وسور الحجر والصافات والملك. منها حديث عن ابن عباس قال :" تصعد الشياطين أفواجا تسترق السمع، فينفرد المارد فيها فيعلو فيرمى بالشهاب فيصيب جبهته أو جنبه أو حيث شاء الله منه فيلتهب، فيأتي أصحابه وهو يلتهب فيقول : إنه كان من الأمر كذا وكذا فيذهب أولئك إلى إخوانهم من الكهنة، فيزيدون عليه أضعافه من الكذب فيخبرونهم به، فإذا رأوا شيئا مما قالوا قد كان صدقوهم بما جاؤوهم به من الكذب ". وحديث أورده البغوي في سياق الآيات المذكورة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله، كأنه سلسلة على صفوان، فإذا فزع عن قلوبهم قالوا : ماذا قال ربكم ؟ قالوا : الحق وهو العلي الكبير، فيسمعها مسترقو السمع ومسترقو السمع هكذا بعضهم فوق بعض، فيسمع أحدهم الكلمة فيلقيها إلى من تحته ثم يلقيها الآخر إلى من تحته حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها، وربّما ألقاها قبل أن يدركه فيكذب معها مائة كذبة فيقال : أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا يكون كذا وكذا ؟ فيصدق بتلك الكلمة التي سمعت من السماء ". ومنها حديث رواه البغوي عن عائشة في سياق الآيات نفسها جاء فيه :" إنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إن الملائكة تنزل في العنان وهو السّحاب فتذكر الأمر الذي قضي في السماء فتسترق الشياطين السمع فتسمعه فتوحيه إلى الكهّان فيكذبون معها مائة كذبة من عند أنفسهم ".
ونرجّح بل نجزم بأن ما ورد في هذه الأحاديث كان مما يتداوله العرب قبل الإسلام. ولقد روى الطبري في سياق آيات سورة الصافات عن الزهري أن انقضاض الشهب قد تزايد كثيرا إبّان ظهور النبي صلى الله عليه وسلم. فمن المحتمل أن يكون ذلك قد لفت نظر العرب وجعلهم يكثرون من التحدث عنه. ويحسبون أن لبعثة النبي صلى الله عليه وسلم صلة ما بذلك ؛ حيث كانوا ينعتونه بالساحر والشاعر والكاهن الذين كانوا يعتقدون أن الشياطين تنزل إليهم بأخبار السماء على ماحكته آيات عديدة عنهم مثل آيات سورة الطور هذه :﴿ فذَكِّرْ فَمَا أَنتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ ولَا مَجْنُونٍ ٢٩ أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ٣٠ قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُم منَ الْمُتَرَبِّصِينََ ٣١ ﴾ وآيات سورة الحاقة هذه :﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ ٣٨ ومَا لَا تُبْصِرُونَ ٣٩ إِنَّهُ َقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ٤٠ ومَا هُو بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ ٤١ ولَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ ٤٢ تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ ٤٣ ﴾ وآيات سورة الذاريات هذه :﴿ كذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ٥٢ أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ ٥٣ فَتَولَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنتَ بِمَلُومٍ ٥٤ وذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ٥٥ ﴾ وآيات سورة ص هذه :﴿ وعجبوا أن جاءهم منذر منهم وقال الكافرون هذا ساحر كذاب ٤ ﴾ فاقتضت حكمة التنزيل ذكر مسألة استراق الشياطين للسمع في الآيات القرآنية لإعلامهم أن الشياطين قد منعوا من أخبار السماء، وأن الله تعالى قد حفظها منهم وأعدّ لهم فيها شهبا راجمة، وأن الجن قد يئسوا من ذلك ثم بيان كون الشياطين إنما كانت تنزل على الكاذبين الأفاكين الآثمين. وكون القرآن الصادق الداعي إلى الله وحده والمبشّر بأسمى المبادئ لا يمكن أن تنزل به شياطين وكون الرسول الذي يبلغ هذا القرآن لا يمكن أن يكون له صلة بالشياطين وإنما صلته بالله تعالى كما جاء في آيات سورة الشعراء هذه :
١ ﴿ وإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ١٩٢ ن
١ التاج ج ٤ ص ٢٤٦. ونخلة موضع قريب إلى سوق عكاظ بين مكة وسوق عكاظ..
٢ انظر تفسير ابن كثير لآيات الأحقاف {وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن﴾ الخ مثلا. وهذا المعنى وارد في الحديث المروي آنفا أيضا..

بخسا : ظلما أو انتقاصا.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١:﴿ قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا١ يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ ولَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا ٢ وأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَة ولَا ولَدًا ٣ وأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا ٤ وأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن تَقُولَ الْإِنسُ والْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ٥ وأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا ٦ وأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا ٧وأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاء فَوجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وشُهُبًا ٨ وأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَّصَدًا٩ وأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا ١٠ وأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ ومِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا ١١ وأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن نُّعجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ ولَن نُّعْجِزَهُ هَرَبًا ١٢ وأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا ولَا رَهَقًا ١٣ وأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ ومِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا ١٤ وأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا ١٥ ﴾[ ١١٥ ].
شرح الفصل الأول من السورة والتعليق
على مدى محتوياته
هذه الآيات هي الفصل الأول من الفصلين اللذين تتألف منهما السورة. وفيها أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يخبر الناس بأن الله تعالى أوحى إليه بأنه استمع نفر من الجن للقرآن فعظّموا شأنه وشأن ربّهم العظيم وآمنوا به ونزّهوه عن اتخاذ زوجة وولد وأنهم تذاكروا مع بعضهم أمورا متنوعة مما كانت عليه أحوالهم وعقائدهم وظنونهم، وموقف جماعات من الإنس إزاءهم وما بوغتوا به بخاصة من تكاثر الشهب المنقضة من السماء في هذا الظرف، وما أثار ذلك فيهم من خوف وتساؤل على النحو الوارد في الآيات والواضح العبارة.
ولقد روى البخاري والترمذي عن ابن عباس حديثا جاء فيه :" انطلقَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في طائفةٍ من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء، وأرسلت عليهم الشهب فرجعت الشياطين فقالوا : ما لكم ؟ قالوا : حيل بيننا وبينَ خبر السماء. وأرسلت علينا الشهبُ. قالوا : ما حالَ بينكم وبينَ خبر السماء إلاّ ما حدث. فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها، فانظروا ما هذا الذي حدث فانطلقوا ينظرونَ. فالذين توجّهوا نحو تهامة سمعُوا قراءةَ رسول الله وهو يصلّي الفجرَ بأصحابه بنخلة، فتسمّعوا له فقالوا : هذا الذي حال بينكم وبينَ خبر السماء. فرجعوا إلى قومهم فقالوا : يا قومَنا إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربّنا أحدا. وأنزل الله تعالى :﴿ قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ ﴾. وإنما أوحي إليه قول الجن " ١.
ولقد أورد الطبري هذا الحديث، وأعقبه بكلام يفيد أن حادث استماع الجنّ للقرآن المذكور في هذه السورة وحادث استماعهم المذكور في آيات سورة الأحقاف هذه :﴿ وإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ ولَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ ٢٩ قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ٣٠ ﴾ واحد. مع أن الذي نرجّحه بل المستفاد من روح مجموعتي السورتين والفترة الطويلة بين نزول السورتين، وحديث آخر مروي في سياق نزول مجموعة الأحقاف أنهما حادثان على ما سوف نزيده شرحا في سياق تفسير سورة الأحقاف. والعبارة القرآنية قطعية الدلالة على حدوث هذا الحادث الغيبي. ومن واجب المسلم الإيمان به كما هو الشأن في الإيمان بوجود الجنّ على ما شرحناه في سياق سورة الناس.
والآيات مع الحديث تساعد على تسجيل الملاحظات التالية :
١ إن الآية الأولى تفيد أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير نفر الجن ولم يسمع أقوالهم، وأن ذلك كان أمرا مغيبا عنه أخبر به بوحي رباني قرآني. وقد روى المفسرون حديثا عن ابن عباس جاء فيه فيما جاء : أن النبي صلى الله عليه وسلم ما قرأ على الجنّ ولا رآهم وإنما أوحي إليه قولهم٢.
٢ إن الآيات تقرّر بصراحة وجود الجنّ وأنهم طوائف ومذاهب وأن منهم الصالحين وغير الصالحين والمسلمين والقاسطين والمنحرفين والعقلاء الراشدين، والسفهاء الضالين.
٣ إن الآية السادسة تحتوي صورة لما كانت عليه عقائد العرب في الجنّ حيث كانوا يعتقدون بوجودهم وبما هم عليه من قوة وتأثير. وكانوا يخشون شرّهم ويستعيذون بهم.
٤ إن ما جاء في صدد قعود الجنّ مقاعد للسمع في السماء وما كان من تبدّل الموقف، وامتلاء السماء بالشهب والحرس، وأن من يحاول منهم الاستماع كما كان يفعل سابقا يجد شهابا مترصّدا له هو حكاية عن الجن وليس تقريرا قرآنيا مباشرا. غير أن أسلوب الآيات يلهم أنهم يقولون أمورا واقعة لا ينفيها القرآن. وقد أيّدها في آيات عديدة في سور أخرى مثل آيات سورة الحجر هذه :﴿ ولَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاء بُرُوجًا وزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ ١٦ وحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ ١٧ إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُّبِينٌ١٨ ﴾ وآيات سورة الصافات هذه :﴿ إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ ٦ وحِفْظًا مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ ٧ لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى ويُقْذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِبٍ ٨ دُحُورًا ولَهُمْ عَذَابٌ واصِبٌ ٩ إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ ١٠ ﴾ وآية سورة الملك هذه :﴿ ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين واعتدنا لهم عذاب السعير٥ ﴾.
٥ إن الآية الرابعة قد تلهم أن النفر المستمعين كانوا يدينون بأن الله سبحانه اتخذ زوجة وكان له منها ولد. ونرجّح أن هذا يمتّ إلى عقيدة النصارى أكثر من عقيدة العرب الذين كانوا يعتقدون أن الملائكة بنات الله ؛ لأنه ليس في عقائد العرب أن لله زوجة.
ولقد علقنا على كلمة الجن بما فيه الكفاية في سياق تفسير سورة الناس، ونقول هنا : إن وجود الجنّ وأخوالهم وماهية استراقهم السمع من السماء من الأمور المغيبة التي يقررها القرآن، فيجب الإيمان بها ولو لم تدركها الحواس البشرية أو يتسق مع ما عرفه الناس من نواميس ونظم كونية كسائر الحقائق المغيبة التي قررها القرآن والوقوف منها عندما وقف عنده القرآن دون تزيد وتمحل. فالعقل البشري كان وما يزال عاجزا عن إدراك كنه كثير من أسرار الكون وقواه.
ولقد أورد المفسرون أحاديث عديدة في سياق تفسير آيات سورة الحجر فيها تفصيلات عن استراق الشياطين للسمع وإيصال الأخبار إلى السحرة والكهان لم ترد في كتب الأحاديث الصحيحة. ولكنها متساوقة مع ما جاء في حديث البخاري وآيات سورة الجن وسور الحجر والصافات والملك. منها حديث عن ابن عباس قال :" تصعد الشياطين أفواجا تسترق السمع، فينفرد المارد فيها فيعلو فيرمى بالشهاب فيصيب جبهته أو جنبه أو حيث شاء الله منه فيلتهب، فيأتي أصحابه وهو يلتهب فيقول : إنه كان من الأمر كذا وكذا فيذهب أولئك إلى إخوانهم من الكهنة، فيزيدون عليه أضعافه من الكذب فيخبرونهم به، فإذا رأوا شيئا مما قالوا قد كان صدقوهم بما جاؤوهم به من الكذب ". وحديث أورده البغوي في سياق الآيات المذكورة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله، كأنه سلسلة على صفوان، فإذا فزع عن قلوبهم قالوا : ماذا قال ربكم ؟ قالوا : الحق وهو العلي الكبير، فيسمعها مسترقو السمع ومسترقو السمع هكذا بعضهم فوق بعض، فيسمع أحدهم الكلمة فيلقيها إلى من تحته ثم يلقيها الآخر إلى من تحته حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها، وربّما ألقاها قبل أن يدركه فيكذب معها مائة كذبة فيقال : أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا يكون كذا وكذا ؟ فيصدق بتلك الكلمة التي سمعت من السماء ". ومنها حديث رواه البغوي عن عائشة في سياق الآيات نفسها جاء فيه :" إنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إن الملائكة تنزل في العنان وهو السّحاب فتذكر الأمر الذي قضي في السماء فتسترق الشياطين السمع فتسمعه فتوحيه إلى الكهّان فيكذبون معها مائة كذبة من عند أنفسهم ".
ونرجّح بل نجزم بأن ما ورد في هذه الأحاديث كان مما يتداوله العرب قبل الإسلام. ولقد روى الطبري في سياق آيات سورة الصافات عن الزهري أن انقضاض الشهب قد تزايد كثيرا إبّان ظهور النبي صلى الله عليه وسلم. فمن المحتمل أن يكون ذلك قد لفت نظر العرب وجعلهم يكثرون من التحدث عنه. ويحسبون أن لبعثة النبي صلى الله عليه وسلم صلة ما بذلك ؛ حيث كانوا ينعتونه بالساحر والشاعر والكاهن الذين كانوا يعتقدون أن الشياطين تنزل إليهم بأخبار السماء على ماحكته آيات عديدة عنهم مثل آيات سورة الطور هذه :﴿ فذَكِّرْ فَمَا أَنتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ ولَا مَجْنُونٍ ٢٩ أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ٣٠ قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُم منَ الْمُتَرَبِّصِينََ ٣١ ﴾ وآيات سورة الحاقة هذه :﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ ٣٨ ومَا لَا تُبْصِرُونَ ٣٩ إِنَّهُ َقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ٤٠ ومَا هُو بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ ٤١ ولَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ ٤٢ تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ ٤٣ ﴾ وآيات سورة الذاريات هذه :﴿ كذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ٥٢ أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ ٥٣ فَتَولَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنتَ بِمَلُومٍ ٥٤ وذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ٥٥ ﴾ وآيات سورة ص هذه :﴿ وعجبوا أن جاءهم منذر منهم وقال الكافرون هذا ساحر كذاب ٤ ﴾ فاقتضت حكمة التنزيل ذكر مسألة استراق الشياطين للسمع في الآيات القرآنية لإعلامهم أن الشياطين قد منعوا من أخبار السماء، وأن الله تعالى قد حفظها منهم وأعدّ لهم فيها شهبا راجمة، وأن الجن قد يئسوا من ذلك ثم بيان كون الشياطين إنما كانت تنزل على الكاذبين الأفاكين الآثمين. وكون القرآن الصادق الداعي إلى الله وحده والمبشّر بأسمى المبادئ لا يمكن أن تنزل به شياطين وكون الرسول الذي يبلغ هذا القرآن لا يمكن أن يكون له صلة بالشياطين وإنما صلته بالله تعالى كما جاء في آيات سورة الشعراء هذه :
١ ﴿ وإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ١٩٢ ن
١ التاج ج ٤ ص ٢٤٦. ونخلة موضع قريب إلى سوق عكاظ بين مكة وسوق عكاظ..
٢ انظر تفسير ابن كثير لآيات الأحقاف {وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن﴾ الخ مثلا. وهذا المعنى وارد في الحديث المروي آنفا أيضا..

القاسطون : هنا بمعنى المنحرفين أو الجائرين.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١:﴿ قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا١ يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ ولَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا ٢ وأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَة ولَا ولَدًا ٣ وأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا ٤ وأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن تَقُولَ الْإِنسُ والْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ٥ وأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا ٦ وأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا ٧وأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاء فَوجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وشُهُبًا ٨ وأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَّصَدًا٩ وأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا ١٠ وأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ ومِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا ١١ وأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن نُّعجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ ولَن نُّعْجِزَهُ هَرَبًا ١٢ وأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا ولَا رَهَقًا ١٣ وأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ ومِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا ١٤ وأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا ١٥ ﴾[ ١١٥ ].
شرح الفصل الأول من السورة والتعليق
على مدى محتوياته
هذه الآيات هي الفصل الأول من الفصلين اللذين تتألف منهما السورة. وفيها أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يخبر الناس بأن الله تعالى أوحى إليه بأنه استمع نفر من الجن للقرآن فعظّموا شأنه وشأن ربّهم العظيم وآمنوا به ونزّهوه عن اتخاذ زوجة وولد وأنهم تذاكروا مع بعضهم أمورا متنوعة مما كانت عليه أحوالهم وعقائدهم وظنونهم، وموقف جماعات من الإنس إزاءهم وما بوغتوا به بخاصة من تكاثر الشهب المنقضة من السماء في هذا الظرف، وما أثار ذلك فيهم من خوف وتساؤل على النحو الوارد في الآيات والواضح العبارة.
ولقد روى البخاري والترمذي عن ابن عباس حديثا جاء فيه :" انطلقَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في طائفةٍ من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء، وأرسلت عليهم الشهب فرجعت الشياطين فقالوا : ما لكم ؟ قالوا : حيل بيننا وبينَ خبر السماء. وأرسلت علينا الشهبُ. قالوا : ما حالَ بينكم وبينَ خبر السماء إلاّ ما حدث. فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها، فانظروا ما هذا الذي حدث فانطلقوا ينظرونَ. فالذين توجّهوا نحو تهامة سمعُوا قراءةَ رسول الله وهو يصلّي الفجرَ بأصحابه بنخلة، فتسمّعوا له فقالوا : هذا الذي حال بينكم وبينَ خبر السماء. فرجعوا إلى قومهم فقالوا : يا قومَنا إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربّنا أحدا. وأنزل الله تعالى :﴿ قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ ﴾. وإنما أوحي إليه قول الجن " ١.
ولقد أورد الطبري هذا الحديث، وأعقبه بكلام يفيد أن حادث استماع الجنّ للقرآن المذكور في هذه السورة وحادث استماعهم المذكور في آيات سورة الأحقاف هذه :﴿ وإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ ولَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ ٢٩ قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ٣٠ ﴾ واحد. مع أن الذي نرجّحه بل المستفاد من روح مجموعتي السورتين والفترة الطويلة بين نزول السورتين، وحديث آخر مروي في سياق نزول مجموعة الأحقاف أنهما حادثان على ما سوف نزيده شرحا في سياق تفسير سورة الأحقاف. والعبارة القرآنية قطعية الدلالة على حدوث هذا الحادث الغيبي. ومن واجب المسلم الإيمان به كما هو الشأن في الإيمان بوجود الجنّ على ما شرحناه في سياق سورة الناس.
والآيات مع الحديث تساعد على تسجيل الملاحظات التالية :
١ إن الآية الأولى تفيد أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير نفر الجن ولم يسمع أقوالهم، وأن ذلك كان أمرا مغيبا عنه أخبر به بوحي رباني قرآني. وقد روى المفسرون حديثا عن ابن عباس جاء فيه فيما جاء : أن النبي صلى الله عليه وسلم ما قرأ على الجنّ ولا رآهم وإنما أوحي إليه قولهم٢.
٢ إن الآيات تقرّر بصراحة وجود الجنّ وأنهم طوائف ومذاهب وأن منهم الصالحين وغير الصالحين والمسلمين والقاسطين والمنحرفين والعقلاء الراشدين، والسفهاء الضالين.
٣ إن الآية السادسة تحتوي صورة لما كانت عليه عقائد العرب في الجنّ حيث كانوا يعتقدون بوجودهم وبما هم عليه من قوة وتأثير. وكانوا يخشون شرّهم ويستعيذون بهم.
٤ إن ما جاء في صدد قعود الجنّ مقاعد للسمع في السماء وما كان من تبدّل الموقف، وامتلاء السماء بالشهب والحرس، وأن من يحاول منهم الاستماع كما كان يفعل سابقا يجد شهابا مترصّدا له هو حكاية عن الجن وليس تقريرا قرآنيا مباشرا. غير أن أسلوب الآيات يلهم أنهم يقولون أمورا واقعة لا ينفيها القرآن. وقد أيّدها في آيات عديدة في سور أخرى مثل آيات سورة الحجر هذه :﴿ ولَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاء بُرُوجًا وزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ ١٦ وحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ ١٧ إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُّبِينٌ١٨ ﴾ وآيات سورة الصافات هذه :﴿ إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ ٦ وحِفْظًا مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ ٧ لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى ويُقْذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِبٍ ٨ دُحُورًا ولَهُمْ عَذَابٌ واصِبٌ ٩ إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ ١٠ ﴾ وآية سورة الملك هذه :﴿ ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين واعتدنا لهم عذاب السعير٥ ﴾.
٥ إن الآية الرابعة قد تلهم أن النفر المستمعين كانوا يدينون بأن الله سبحانه اتخذ زوجة وكان له منها ولد. ونرجّح أن هذا يمتّ إلى عقيدة النصارى أكثر من عقيدة العرب الذين كانوا يعتقدون أن الملائكة بنات الله ؛ لأنه ليس في عقائد العرب أن لله زوجة.
ولقد علقنا على كلمة الجن بما فيه الكفاية في سياق تفسير سورة الناس، ونقول هنا : إن وجود الجنّ وأخوالهم وماهية استراقهم السمع من السماء من الأمور المغيبة التي يقررها القرآن، فيجب الإيمان بها ولو لم تدركها الحواس البشرية أو يتسق مع ما عرفه الناس من نواميس ونظم كونية كسائر الحقائق المغيبة التي قررها القرآن والوقوف منها عندما وقف عنده القرآن دون تزيد وتمحل. فالعقل البشري كان وما يزال عاجزا عن إدراك كنه كثير من أسرار الكون وقواه.
ولقد أورد المفسرون أحاديث عديدة في سياق تفسير آيات سورة الحجر فيها تفصيلات عن استراق الشياطين للسمع وإيصال الأخبار إلى السحرة والكهان لم ترد في كتب الأحاديث الصحيحة. ولكنها متساوقة مع ما جاء في حديث البخاري وآيات سورة الجن وسور الحجر والصافات والملك. منها حديث عن ابن عباس قال :" تصعد الشياطين أفواجا تسترق السمع، فينفرد المارد فيها فيعلو فيرمى بالشهاب فيصيب جبهته أو جنبه أو حيث شاء الله منه فيلتهب، فيأتي أصحابه وهو يلتهب فيقول : إنه كان من الأمر كذا وكذا فيذهب أولئك إلى إخوانهم من الكهنة، فيزيدون عليه أضعافه من الكذب فيخبرونهم به، فإذا رأوا شيئا مما قالوا قد كان صدقوهم بما جاؤوهم به من الكذب ". وحديث أورده البغوي في سياق الآيات المذكورة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله، كأنه سلسلة على صفوان، فإذا فزع عن قلوبهم قالوا : ماذا قال ربكم ؟ قالوا : الحق وهو العلي الكبير، فيسمعها مسترقو السمع ومسترقو السمع هكذا بعضهم فوق بعض، فيسمع أحدهم الكلمة فيلقيها إلى من تحته ثم يلقيها الآخر إلى من تحته حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها، وربّما ألقاها قبل أن يدركه فيكذب معها مائة كذبة فيقال : أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا يكون كذا وكذا ؟ فيصدق بتلك الكلمة التي سمعت من السماء ". ومنها حديث رواه البغوي عن عائشة في سياق الآيات نفسها جاء فيه :" إنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إن الملائكة تنزل في العنان وهو السّحاب فتذكر الأمر الذي قضي في السماء فتسترق الشياطين السمع فتسمعه فتوحيه إلى الكهّان فيكذبون معها مائة كذبة من عند أنفسهم ".
ونرجّح بل نجزم بأن ما ورد في هذه الأحاديث كان مما يتداوله العرب قبل الإسلام. ولقد روى الطبري في سياق آيات سورة الصافات عن الزهري أن انقضاض الشهب قد تزايد كثيرا إبّان ظهور النبي صلى الله عليه وسلم. فمن المحتمل أن يكون ذلك قد لفت نظر العرب وجعلهم يكثرون من التحدث عنه. ويحسبون أن لبعثة النبي صلى الله عليه وسلم صلة ما بذلك ؛ حيث كانوا ينعتونه بالساحر والشاعر والكاهن الذين كانوا يعتقدون أن الشياطين تنزل إليهم بأخبار السماء على ماحكته آيات عديدة عنهم مثل آيات سورة الطور هذه :﴿ فذَكِّرْ فَمَا أَنتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ ولَا مَجْنُونٍ ٢٩ أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ٣٠ قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُم منَ الْمُتَرَبِّصِينََ ٣١ ﴾ وآيات سورة الحاقة هذه :﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ ٣٨ ومَا لَا تُبْصِرُونَ ٣٩ إِنَّهُ َقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ٤٠ ومَا هُو بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ ٤١ ولَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ ٤٢ تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ ٤٣ ﴾ وآيات سورة الذاريات هذه :﴿ كذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ٥٢ أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ ٥٣ فَتَولَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنتَ بِمَلُومٍ ٥٤ وذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ٥٥ ﴾ وآيات سورة ص هذه :﴿ وعجبوا أن جاءهم منذر منهم وقال الكافرون هذا ساحر كذاب ٤ ﴾ فاقتضت حكمة التنزيل ذكر مسألة استراق الشياطين للسمع في الآيات القرآنية لإعلامهم أن الشياطين قد منعوا من أخبار السماء، وأن الله تعالى قد حفظها منهم وأعدّ لهم فيها شهبا راجمة، وأن الجن قد يئسوا من ذلك ثم بيان كون الشياطين إنما كانت تنزل على الكاذبين الأفاكين الآثمين. وكون القرآن الصادق الداعي إلى الله وحده والمبشّر بأسمى المبادئ لا يمكن أن تنزل به شياطين وكون الرسول الذي يبلغ هذا القرآن لا يمكن أن يكون له صلة بالشياطين وإنما صلته بالله تعالى كما جاء في آيات سورة الشعراء هذه :
١ ﴿ وإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ١٩٢ ن
١ التاج ج ٤ ص ٢٤٦. ونخلة موضع قريب إلى سوق عكاظ بين مكة وسوق عكاظ..
٢ انظر تفسير ابن كثير لآيات الأحقاف {وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن﴾ الخ مثلا. وهذا المعنى وارد في الحديث المروي آنفا أيضا..

الطريقة : هنا كناية عن طريق الحق والخير.
غدقا : كثيرا مستمرا.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:﴿ وأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَة لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقًا ١٦ لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ومَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا ١٧ وأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا ١٨ وأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا ١٩ قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي ولَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا ٢٠ قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا ولَا رَشَدًا ٢١ قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ ولَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا ٢٢ إِلَّا بَلَاغًا مِّنَ اللَّهِ ورِسَالَاتِهِ ومَن يَعْصِ اللَّهَ ورَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ٢٣ حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وأَقَلُّ عَدَدًا ٢٤ قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا ٢٥ عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا ٢٦ إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ ومِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا ٢٧ ﴾ [ ١٦ ـ ٢٧ ].
هذا هو الفصل الثاني من السورة، وقد احتوى :
١ ـ تقريرا ربانيا بأن الناس لو اتّبعوا الطريق القويم واستقاموا عليه لأسقاهم الله ماء غدقا يكثر به رزقهم اختبارا لشكرهم واعترافهم بفضل الله، أما الذين يستكبرون ويبطرون ويعرضون عن ذكر ربهم وشكره يسلّط الله عليهم البلاء الشديد.
٢ ـ ودعوة ربانية بأن لا يدعو أحد مع الله أحدا ولا يشركوا معه في سجودهم وخضوعهم أحدا معه.
٣ ـ وإشارة إلى ما كان من مقابلة الناس للدعوة النبوية من تكتل وتآمر وتألب ومعارضة وأمرا للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يقول لهم : إن دعوتي لله وإني لا أشرك معه أحدا. كأنما يراد بهذا أن يقال لهم أيضا إن هذه المقابلة منكم عدوان وبغي لأنني لا أدعو إلى منكر وإنما أدعو إلى الخير والحق.
٤ ـ وأوامر ربانية أخرى للنبي صلى الله عليه وسلم بإبلاغ الناس بأنه لا يستطيع أن يضر أحدا ولا ينفعه، وأنه لا يجيره من الله تعالى إلاّ إبلاغ رسالته ووحيه، وأن من يعص الله ورسوله فمصيره الخلود في جهنّم، حيث يدرك العصاة حينما يرون مصداق ما يوعدون من هو الأضعف والأقل، كأنما يراد بهذا تحدّي الكفار وإنذارهم بأن عصيانهم على الله ورسوله هو منتهى السخف والضلال والجرأة ؛ لأنهم أعجز من أن يستطيعوا الانتصار على الله، وأنهم مخدوعون إذا قاسوا وقائع الحياة الدنيا على الآخرة واغترّوا بقوّتهم وكثرتهم لأن ذلك لن يغني عنهم من الله شيئا.
٥ ـ وأمرا ربانيا للنبي صلى الله عليه وسلم بإبلاغ الناس كذلك بأنه لا يدري وقت تحقيق ما يوعدون به أيطول أم يقصر. فالله لا يظهر على غيبه أحدا إلاّ ما شاء ممن ارتضى من الرسل الذين يجعلهم تحت حفظه ومراقبته للتحقق من قيامهم بمهمتهم وتبليغ رسالاته التي انتدبهم إليها، ويحيط بكل أمر من أمورهم وهو المحيط بكل أمر والمحصي لكل شيء.
تعليق على مفهوم آيات الفصل ودلالته وتلقيناته
ولقد تعددت الأقوال والروايات التي يرويها المفسرون عزوا إلى ابن عباس وعلماء التابعين في مدى الآيات الثلاث الأولى١. من ذلك أنها من جملة كلام الجن المحكي في الفصل الأول٢. ومن ذلك أنها مع بقية الفصل كلام مستقل عن الجن. وتقرير قرآني مباشر. ومن ذلك أنها عنت الإنس والجن معا. ومن ذلك أنها عنت الكفار فقط.
والمتبادر المستلهم من روح الآيات أنها مع سائر آيات الفصل الثاني كلام مستقلّ وأن المقصود بالآيات الثلاث كفار العرب. وأن هذا الفصل قد جاء تعقيبا التفاتيا للفصل السابق له. ويوثق ذلك تماثل الضمير في جمل ﴿ وألو استقاموا ﴾ و﴿ كادوا يكونون ﴾ و﴿ حتى إذا رأوا ما يوعدون ﴾ وواوات العطف المستمرة في جميع آيات الفصلين.
ولعل في الآية [ ٢٤ ] صورة لما كان في نفس زعماء الكفار من استصغار لشأن النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه لما كانوا عليه من قلّة وضعف. وقد احتوت الآية ردا عليهم منددة بسخفهم متوعدة إياهم باليوم الآخر الذي يظهر فيه القوي من الضعيف والقليل من الكثير ؛ حيث لا ينفع مال ولا بنون إلاّ من أتى الله بقلب سليم. وفي هذا كما هو المتبادر تسلية وتطمين للنبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين.
ويستلهم من الآية [ ٢٥ ] أنها جواب على تساؤل الناس عن موعد قيام القيامة ؛ حيث أمرت النبي صلى الله عليه وسلم بإعلان عدم علمه به ثم عقبت الآية [ ٢٦ ] على هذا بأن ذلك من خصائص الله الذي لا يطلع على غيبه أحدا إلاّ من ارتضى من رسول. وفي هذا تماثل لموقف حكته آيات السورة السابقة [ ١٨٦ـ ١٨٧ ] مع فرق الاستثناء هنا. على أن روح الآيات هنا تلهم أنها ليست بسبيل استثناء علم ذلك الموعد. وتكرر السؤال والجواب يدلّ على أن أفكار الناس ظلّت تشتغل بالآخرة وموعدها بين مستسلم وساخر مما هو تجاوب طبيعي لكثرة ورود الوعد والوعيد بها. وقد يدل تماثل السؤال والجواب في هذه السورة وسابقتها على صحة ترتيبها في النزول.
وآيات هذا الفصل مصدر إلهام وتلقين جليل مستمر المدى. سواء أفيما احتواه من عادة الله في اختبار الناس بنعمه وتذكيرهم بواجب شكره، أم في تنزيه النفس عن الدعاء والصلاة لغير الله في كل حال، أم في نفي أي نفع وضرر من أحد على أحد إلاّ الله، أم في التنديد بالمغترين بقوتهم وعددهم. أم في تذكير الناس بإحاطة الله بكل شيء ووجوب مراقبته وابتغاء رضائه والبعد عن موجبات سخطه وغضبه.
وتتجلى صميمية النبي صلى الله عليه وسلم الرائعة واستغراقه في مهمته في إعلانه ما جاء في الآيات [ ٢٠ ـ ٢٢ ] من أنه إنما يدعو إلى الله وحده وأنه لا يملك لأحد ضرّا ولا رشدا وأنه لن يجيره من الله أحد إذا تهاون في أداء المهمة التي انتدبه إليها كما تجلّت في سياق إعلان الآية [ ١٨٧ ] من السورة السابقة.

لنفتنهم : لنختبرهم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:﴿ وأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَة لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقًا ١٦ لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ومَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا ١٧ وأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا ١٨ وأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا ١٩ قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي ولَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا ٢٠ قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا ولَا رَشَدًا ٢١ قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ ولَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا ٢٢ إِلَّا بَلَاغًا مِّنَ اللَّهِ ورِسَالَاتِهِ ومَن يَعْصِ اللَّهَ ورَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ٢٣ حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وأَقَلُّ عَدَدًا ٢٤ قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا ٢٥ عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا ٢٦ إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ ومِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا ٢٧ ﴾ [ ١٦ ـ ٢٧ ].
هذا هو الفصل الثاني من السورة، وقد احتوى :
١ ـ تقريرا ربانيا بأن الناس لو اتّبعوا الطريق القويم واستقاموا عليه لأسقاهم الله ماء غدقا يكثر به رزقهم اختبارا لشكرهم واعترافهم بفضل الله، أما الذين يستكبرون ويبطرون ويعرضون عن ذكر ربهم وشكره يسلّط الله عليهم البلاء الشديد.
٢ ـ ودعوة ربانية بأن لا يدعو أحد مع الله أحدا ولا يشركوا معه في سجودهم وخضوعهم أحدا معه.
٣ ـ وإشارة إلى ما كان من مقابلة الناس للدعوة النبوية من تكتل وتآمر وتألب ومعارضة وأمرا للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يقول لهم : إن دعوتي لله وإني لا أشرك معه أحدا. كأنما يراد بهذا أن يقال لهم أيضا إن هذه المقابلة منكم عدوان وبغي لأنني لا أدعو إلى منكر وإنما أدعو إلى الخير والحق.
٤ ـ وأوامر ربانية أخرى للنبي صلى الله عليه وسلم بإبلاغ الناس بأنه لا يستطيع أن يضر أحدا ولا ينفعه، وأنه لا يجيره من الله تعالى إلاّ إبلاغ رسالته ووحيه، وأن من يعص الله ورسوله فمصيره الخلود في جهنّم، حيث يدرك العصاة حينما يرون مصداق ما يوعدون من هو الأضعف والأقل، كأنما يراد بهذا تحدّي الكفار وإنذارهم بأن عصيانهم على الله ورسوله هو منتهى السخف والضلال والجرأة ؛ لأنهم أعجز من أن يستطيعوا الانتصار على الله، وأنهم مخدوعون إذا قاسوا وقائع الحياة الدنيا على الآخرة واغترّوا بقوّتهم وكثرتهم لأن ذلك لن يغني عنهم من الله شيئا.
٥ ـ وأمرا ربانيا للنبي صلى الله عليه وسلم بإبلاغ الناس كذلك بأنه لا يدري وقت تحقيق ما يوعدون به أيطول أم يقصر. فالله لا يظهر على غيبه أحدا إلاّ ما شاء ممن ارتضى من الرسل الذين يجعلهم تحت حفظه ومراقبته للتحقق من قيامهم بمهمتهم وتبليغ رسالاته التي انتدبهم إليها، ويحيط بكل أمر من أمورهم وهو المحيط بكل أمر والمحصي لكل شيء.
تعليق على مفهوم آيات الفصل ودلالته وتلقيناته
ولقد تعددت الأقوال والروايات التي يرويها المفسرون عزوا إلى ابن عباس وعلماء التابعين في مدى الآيات الثلاث الأولى١. من ذلك أنها من جملة كلام الجن المحكي في الفصل الأول٢. ومن ذلك أنها مع بقية الفصل كلام مستقل عن الجن. وتقرير قرآني مباشر. ومن ذلك أنها عنت الإنس والجن معا. ومن ذلك أنها عنت الكفار فقط.
والمتبادر المستلهم من روح الآيات أنها مع سائر آيات الفصل الثاني كلام مستقلّ وأن المقصود بالآيات الثلاث كفار العرب. وأن هذا الفصل قد جاء تعقيبا التفاتيا للفصل السابق له. ويوثق ذلك تماثل الضمير في جمل ﴿ وألو استقاموا ﴾ و﴿ كادوا يكونون ﴾ و﴿ حتى إذا رأوا ما يوعدون ﴾ وواوات العطف المستمرة في جميع آيات الفصلين.
ولعل في الآية [ ٢٤ ] صورة لما كان في نفس زعماء الكفار من استصغار لشأن النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه لما كانوا عليه من قلّة وضعف. وقد احتوت الآية ردا عليهم منددة بسخفهم متوعدة إياهم باليوم الآخر الذي يظهر فيه القوي من الضعيف والقليل من الكثير ؛ حيث لا ينفع مال ولا بنون إلاّ من أتى الله بقلب سليم. وفي هذا كما هو المتبادر تسلية وتطمين للنبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين.
ويستلهم من الآية [ ٢٥ ] أنها جواب على تساؤل الناس عن موعد قيام القيامة ؛ حيث أمرت النبي صلى الله عليه وسلم بإعلان عدم علمه به ثم عقبت الآية [ ٢٦ ] على هذا بأن ذلك من خصائص الله الذي لا يطلع على غيبه أحدا إلاّ من ارتضى من رسول. وفي هذا تماثل لموقف حكته آيات السورة السابقة [ ١٨٦ـ ١٨٧ ] مع فرق الاستثناء هنا. على أن روح الآيات هنا تلهم أنها ليست بسبيل استثناء علم ذلك الموعد. وتكرر السؤال والجواب يدلّ على أن أفكار الناس ظلّت تشتغل بالآخرة وموعدها بين مستسلم وساخر مما هو تجاوب طبيعي لكثرة ورود الوعد والوعيد بها. وقد يدل تماثل السؤال والجواب في هذه السورة وسابقتها على صحة ترتيبها في النزول.
وآيات هذا الفصل مصدر إلهام وتلقين جليل مستمر المدى. سواء أفيما احتواه من عادة الله في اختبار الناس بنعمه وتذكيرهم بواجب شكره، أم في تنزيه النفس عن الدعاء والصلاة لغير الله في كل حال، أم في نفي أي نفع وضرر من أحد على أحد إلاّ الله، أم في التنديد بالمغترين بقوتهم وعددهم. أم في تذكير الناس بإحاطة الله بكل شيء ووجوب مراقبته وابتغاء رضائه والبعد عن موجبات سخطه وغضبه.
وتتجلى صميمية النبي صلى الله عليه وسلم الرائعة واستغراقه في مهمته في إعلانه ما جاء في الآيات [ ٢٠ ـ ٢٢ ] من أنه إنما يدعو إلى الله وحده وأنه لا يملك لأحد ضرّا ولا رشدا وأنه لن يجيره من الله أحد إذا تهاون في أداء المهمة التي انتدبه إليها كما تجلّت في سياق إعلان الآية [ ١٨٧ ] من السورة السابقة.

المساجد : هنا بمعنى السجود والصلاة.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:﴿ وأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَة لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقًا ١٦ لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ومَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا ١٧ وأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا ١٨ وأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا ١٩ قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي ولَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا ٢٠ قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا ولَا رَشَدًا ٢١ قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ ولَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا ٢٢ إِلَّا بَلَاغًا مِّنَ اللَّهِ ورِسَالَاتِهِ ومَن يَعْصِ اللَّهَ ورَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ٢٣ حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وأَقَلُّ عَدَدًا ٢٤ قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا ٢٥ عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا ٢٦ إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ ومِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا ٢٧ ﴾ [ ١٦ ـ ٢٧ ].
هذا هو الفصل الثاني من السورة، وقد احتوى :
١ ـ تقريرا ربانيا بأن الناس لو اتّبعوا الطريق القويم واستقاموا عليه لأسقاهم الله ماء غدقا يكثر به رزقهم اختبارا لشكرهم واعترافهم بفضل الله، أما الذين يستكبرون ويبطرون ويعرضون عن ذكر ربهم وشكره يسلّط الله عليهم البلاء الشديد.
٢ ـ ودعوة ربانية بأن لا يدعو أحد مع الله أحدا ولا يشركوا معه في سجودهم وخضوعهم أحدا معه.
٣ ـ وإشارة إلى ما كان من مقابلة الناس للدعوة النبوية من تكتل وتآمر وتألب ومعارضة وأمرا للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يقول لهم : إن دعوتي لله وإني لا أشرك معه أحدا. كأنما يراد بهذا أن يقال لهم أيضا إن هذه المقابلة منكم عدوان وبغي لأنني لا أدعو إلى منكر وإنما أدعو إلى الخير والحق.
٤ ـ وأوامر ربانية أخرى للنبي صلى الله عليه وسلم بإبلاغ الناس بأنه لا يستطيع أن يضر أحدا ولا ينفعه، وأنه لا يجيره من الله تعالى إلاّ إبلاغ رسالته ووحيه، وأن من يعص الله ورسوله فمصيره الخلود في جهنّم، حيث يدرك العصاة حينما يرون مصداق ما يوعدون من هو الأضعف والأقل، كأنما يراد بهذا تحدّي الكفار وإنذارهم بأن عصيانهم على الله ورسوله هو منتهى السخف والضلال والجرأة ؛ لأنهم أعجز من أن يستطيعوا الانتصار على الله، وأنهم مخدوعون إذا قاسوا وقائع الحياة الدنيا على الآخرة واغترّوا بقوّتهم وكثرتهم لأن ذلك لن يغني عنهم من الله شيئا.
٥ ـ وأمرا ربانيا للنبي صلى الله عليه وسلم بإبلاغ الناس كذلك بأنه لا يدري وقت تحقيق ما يوعدون به أيطول أم يقصر. فالله لا يظهر على غيبه أحدا إلاّ ما شاء ممن ارتضى من الرسل الذين يجعلهم تحت حفظه ومراقبته للتحقق من قيامهم بمهمتهم وتبليغ رسالاته التي انتدبهم إليها، ويحيط بكل أمر من أمورهم وهو المحيط بكل أمر والمحصي لكل شيء.
تعليق على مفهوم آيات الفصل ودلالته وتلقيناته
ولقد تعددت الأقوال والروايات التي يرويها المفسرون عزوا إلى ابن عباس وعلماء التابعين في مدى الآيات الثلاث الأولى١. من ذلك أنها من جملة كلام الجن المحكي في الفصل الأول٢. ومن ذلك أنها مع بقية الفصل كلام مستقل عن الجن. وتقرير قرآني مباشر. ومن ذلك أنها عنت الإنس والجن معا. ومن ذلك أنها عنت الكفار فقط.
والمتبادر المستلهم من روح الآيات أنها مع سائر آيات الفصل الثاني كلام مستقلّ وأن المقصود بالآيات الثلاث كفار العرب. وأن هذا الفصل قد جاء تعقيبا التفاتيا للفصل السابق له. ويوثق ذلك تماثل الضمير في جمل ﴿ وألو استقاموا ﴾ و﴿ كادوا يكونون ﴾ و﴿ حتى إذا رأوا ما يوعدون ﴾ وواوات العطف المستمرة في جميع آيات الفصلين.
ولعل في الآية [ ٢٤ ] صورة لما كان في نفس زعماء الكفار من استصغار لشأن النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه لما كانوا عليه من قلّة وضعف. وقد احتوت الآية ردا عليهم منددة بسخفهم متوعدة إياهم باليوم الآخر الذي يظهر فيه القوي من الضعيف والقليل من الكثير ؛ حيث لا ينفع مال ولا بنون إلاّ من أتى الله بقلب سليم. وفي هذا كما هو المتبادر تسلية وتطمين للنبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين.
ويستلهم من الآية [ ٢٥ ] أنها جواب على تساؤل الناس عن موعد قيام القيامة ؛ حيث أمرت النبي صلى الله عليه وسلم بإعلان عدم علمه به ثم عقبت الآية [ ٢٦ ] على هذا بأن ذلك من خصائص الله الذي لا يطلع على غيبه أحدا إلاّ من ارتضى من رسول. وفي هذا تماثل لموقف حكته آيات السورة السابقة [ ١٨٦ـ ١٨٧ ] مع فرق الاستثناء هنا. على أن روح الآيات هنا تلهم أنها ليست بسبيل استثناء علم ذلك الموعد. وتكرر السؤال والجواب يدلّ على أن أفكار الناس ظلّت تشتغل بالآخرة وموعدها بين مستسلم وساخر مما هو تجاوب طبيعي لكثرة ورود الوعد والوعيد بها. وقد يدل تماثل السؤال والجواب في هذه السورة وسابقتها على صحة ترتيبها في النزول.
وآيات هذا الفصل مصدر إلهام وتلقين جليل مستمر المدى. سواء أفيما احتواه من عادة الله في اختبار الناس بنعمه وتذكيرهم بواجب شكره، أم في تنزيه النفس عن الدعاء والصلاة لغير الله في كل حال، أم في نفي أي نفع وضرر من أحد على أحد إلاّ الله، أم في التنديد بالمغترين بقوتهم وعددهم. أم في تذكير الناس بإحاطة الله بكل شيء ووجوب مراقبته وابتغاء رضائه والبعد عن موجبات سخطه وغضبه.
وتتجلى صميمية النبي صلى الله عليه وسلم الرائعة واستغراقه في مهمته في إعلانه ما جاء في الآيات [ ٢٠ ـ ٢٢ ] من أنه إنما يدعو إلى الله وحده وأنه لا يملك لأحد ضرّا ولا رشدا وأنه لن يجيره من الله أحد إذا تهاون في أداء المهمة التي انتدبه إليها كما تجلّت في سياق إعلان الآية [ ١٨٧ ] من السورة السابقة.

عبد الله : كناية عن النبي صلى الله عليه وسلم.
لبدا : متزاحمين أو متكتلين أو متألبين.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:﴿ وأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَة لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقًا ١٦ لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ومَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا ١٧ وأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا ١٨ وأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا ١٩ قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي ولَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا ٢٠ قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا ولَا رَشَدًا ٢١ قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ ولَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا ٢٢ إِلَّا بَلَاغًا مِّنَ اللَّهِ ورِسَالَاتِهِ ومَن يَعْصِ اللَّهَ ورَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ٢٣ حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وأَقَلُّ عَدَدًا ٢٤ قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا ٢٥ عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا ٢٦ إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ ومِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا ٢٧ ﴾ [ ١٦ ـ ٢٧ ].
هذا هو الفصل الثاني من السورة، وقد احتوى :
١ ـ تقريرا ربانيا بأن الناس لو اتّبعوا الطريق القويم واستقاموا عليه لأسقاهم الله ماء غدقا يكثر به رزقهم اختبارا لشكرهم واعترافهم بفضل الله، أما الذين يستكبرون ويبطرون ويعرضون عن ذكر ربهم وشكره يسلّط الله عليهم البلاء الشديد.
٢ ـ ودعوة ربانية بأن لا يدعو أحد مع الله أحدا ولا يشركوا معه في سجودهم وخضوعهم أحدا معه.
٣ ـ وإشارة إلى ما كان من مقابلة الناس للدعوة النبوية من تكتل وتآمر وتألب ومعارضة وأمرا للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يقول لهم : إن دعوتي لله وإني لا أشرك معه أحدا. كأنما يراد بهذا أن يقال لهم أيضا إن هذه المقابلة منكم عدوان وبغي لأنني لا أدعو إلى منكر وإنما أدعو إلى الخير والحق.
٤ ـ وأوامر ربانية أخرى للنبي صلى الله عليه وسلم بإبلاغ الناس بأنه لا يستطيع أن يضر أحدا ولا ينفعه، وأنه لا يجيره من الله تعالى إلاّ إبلاغ رسالته ووحيه، وأن من يعص الله ورسوله فمصيره الخلود في جهنّم، حيث يدرك العصاة حينما يرون مصداق ما يوعدون من هو الأضعف والأقل، كأنما يراد بهذا تحدّي الكفار وإنذارهم بأن عصيانهم على الله ورسوله هو منتهى السخف والضلال والجرأة ؛ لأنهم أعجز من أن يستطيعوا الانتصار على الله، وأنهم مخدوعون إذا قاسوا وقائع الحياة الدنيا على الآخرة واغترّوا بقوّتهم وكثرتهم لأن ذلك لن يغني عنهم من الله شيئا.
٥ ـ وأمرا ربانيا للنبي صلى الله عليه وسلم بإبلاغ الناس كذلك بأنه لا يدري وقت تحقيق ما يوعدون به أيطول أم يقصر. فالله لا يظهر على غيبه أحدا إلاّ ما شاء ممن ارتضى من الرسل الذين يجعلهم تحت حفظه ومراقبته للتحقق من قيامهم بمهمتهم وتبليغ رسالاته التي انتدبهم إليها، ويحيط بكل أمر من أمورهم وهو المحيط بكل أمر والمحصي لكل شيء.
تعليق على مفهوم آيات الفصل ودلالته وتلقيناته
ولقد تعددت الأقوال والروايات التي يرويها المفسرون عزوا إلى ابن عباس وعلماء التابعين في مدى الآيات الثلاث الأولى١. من ذلك أنها من جملة كلام الجن المحكي في الفصل الأول٢. ومن ذلك أنها مع بقية الفصل كلام مستقل عن الجن. وتقرير قرآني مباشر. ومن ذلك أنها عنت الإنس والجن معا. ومن ذلك أنها عنت الكفار فقط.
والمتبادر المستلهم من روح الآيات أنها مع سائر آيات الفصل الثاني كلام مستقلّ وأن المقصود بالآيات الثلاث كفار العرب. وأن هذا الفصل قد جاء تعقيبا التفاتيا للفصل السابق له. ويوثق ذلك تماثل الضمير في جمل ﴿ وألو استقاموا ﴾ و﴿ كادوا يكونون ﴾ و﴿ حتى إذا رأوا ما يوعدون ﴾ وواوات العطف المستمرة في جميع آيات الفصلين.
ولعل في الآية [ ٢٤ ] صورة لما كان في نفس زعماء الكفار من استصغار لشأن النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه لما كانوا عليه من قلّة وضعف. وقد احتوت الآية ردا عليهم منددة بسخفهم متوعدة إياهم باليوم الآخر الذي يظهر فيه القوي من الضعيف والقليل من الكثير ؛ حيث لا ينفع مال ولا بنون إلاّ من أتى الله بقلب سليم. وفي هذا كما هو المتبادر تسلية وتطمين للنبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين.
ويستلهم من الآية [ ٢٥ ] أنها جواب على تساؤل الناس عن موعد قيام القيامة ؛ حيث أمرت النبي صلى الله عليه وسلم بإعلان عدم علمه به ثم عقبت الآية [ ٢٦ ] على هذا بأن ذلك من خصائص الله الذي لا يطلع على غيبه أحدا إلاّ من ارتضى من رسول. وفي هذا تماثل لموقف حكته آيات السورة السابقة [ ١٨٦ـ ١٨٧ ] مع فرق الاستثناء هنا. على أن روح الآيات هنا تلهم أنها ليست بسبيل استثناء علم ذلك الموعد. وتكرر السؤال والجواب يدلّ على أن أفكار الناس ظلّت تشتغل بالآخرة وموعدها بين مستسلم وساخر مما هو تجاوب طبيعي لكثرة ورود الوعد والوعيد بها. وقد يدل تماثل السؤال والجواب في هذه السورة وسابقتها على صحة ترتيبها في النزول.
وآيات هذا الفصل مصدر إلهام وتلقين جليل مستمر المدى. سواء أفيما احتواه من عادة الله في اختبار الناس بنعمه وتذكيرهم بواجب شكره، أم في تنزيه النفس عن الدعاء والصلاة لغير الله في كل حال، أم في نفي أي نفع وضرر من أحد على أحد إلاّ الله، أم في التنديد بالمغترين بقوتهم وعددهم. أم في تذكير الناس بإحاطة الله بكل شيء ووجوب مراقبته وابتغاء رضائه والبعد عن موجبات سخطه وغضبه.
وتتجلى صميمية النبي صلى الله عليه وسلم الرائعة واستغراقه في مهمته في إعلانه ما جاء في الآيات [ ٢٠ ـ ٢٢ ] من أنه إنما يدعو إلى الله وحده وأنه لا يملك لأحد ضرّا ولا رشدا وأنه لن يجيره من الله أحد إذا تهاون في أداء المهمة التي انتدبه إليها كما تجلّت في سياق إعلان الآية [ ١٨٧ ] من السورة السابقة.

جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:﴿ وأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَة لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقًا ١٦ لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ومَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا ١٧ وأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا ١٨ وأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا ١٩ قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي ولَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا ٢٠ قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا ولَا رَشَدًا ٢١ قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ ولَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا ٢٢ إِلَّا بَلَاغًا مِّنَ اللَّهِ ورِسَالَاتِهِ ومَن يَعْصِ اللَّهَ ورَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ٢٣ حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وأَقَلُّ عَدَدًا ٢٤ قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا ٢٥ عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا ٢٦ إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ ومِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا ٢٧ ﴾ [ ١٦ ـ ٢٧ ].
هذا هو الفصل الثاني من السورة، وقد احتوى :
١ ـ تقريرا ربانيا بأن الناس لو اتّبعوا الطريق القويم واستقاموا عليه لأسقاهم الله ماء غدقا يكثر به رزقهم اختبارا لشكرهم واعترافهم بفضل الله، أما الذين يستكبرون ويبطرون ويعرضون عن ذكر ربهم وشكره يسلّط الله عليهم البلاء الشديد.
٢ ـ ودعوة ربانية بأن لا يدعو أحد مع الله أحدا ولا يشركوا معه في سجودهم وخضوعهم أحدا معه.
٣ ـ وإشارة إلى ما كان من مقابلة الناس للدعوة النبوية من تكتل وتآمر وتألب ومعارضة وأمرا للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يقول لهم : إن دعوتي لله وإني لا أشرك معه أحدا. كأنما يراد بهذا أن يقال لهم أيضا إن هذه المقابلة منكم عدوان وبغي لأنني لا أدعو إلى منكر وإنما أدعو إلى الخير والحق.
٤ ـ وأوامر ربانية أخرى للنبي صلى الله عليه وسلم بإبلاغ الناس بأنه لا يستطيع أن يضر أحدا ولا ينفعه، وأنه لا يجيره من الله تعالى إلاّ إبلاغ رسالته ووحيه، وأن من يعص الله ورسوله فمصيره الخلود في جهنّم، حيث يدرك العصاة حينما يرون مصداق ما يوعدون من هو الأضعف والأقل، كأنما يراد بهذا تحدّي الكفار وإنذارهم بأن عصيانهم على الله ورسوله هو منتهى السخف والضلال والجرأة ؛ لأنهم أعجز من أن يستطيعوا الانتصار على الله، وأنهم مخدوعون إذا قاسوا وقائع الحياة الدنيا على الآخرة واغترّوا بقوّتهم وكثرتهم لأن ذلك لن يغني عنهم من الله شيئا.
٥ ـ وأمرا ربانيا للنبي صلى الله عليه وسلم بإبلاغ الناس كذلك بأنه لا يدري وقت تحقيق ما يوعدون به أيطول أم يقصر. فالله لا يظهر على غيبه أحدا إلاّ ما شاء ممن ارتضى من الرسل الذين يجعلهم تحت حفظه ومراقبته للتحقق من قيامهم بمهمتهم وتبليغ رسالاته التي انتدبهم إليها، ويحيط بكل أمر من أمورهم وهو المحيط بكل أمر والمحصي لكل شيء.
تعليق على مفهوم آيات الفصل ودلالته وتلقيناته
ولقد تعددت الأقوال والروايات التي يرويها المفسرون عزوا إلى ابن عباس وعلماء التابعين في مدى الآيات الثلاث الأولى١. من ذلك أنها من جملة كلام الجن المحكي في الفصل الأول٢. ومن ذلك أنها مع بقية الفصل كلام مستقل عن الجن. وتقرير قرآني مباشر. ومن ذلك أنها عنت الإنس والجن معا. ومن ذلك أنها عنت الكفار فقط.
والمتبادر المستلهم من روح الآيات أنها مع سائر آيات الفصل الثاني كلام مستقلّ وأن المقصود بالآيات الثلاث كفار العرب. وأن هذا الفصل قد جاء تعقيبا التفاتيا للفصل السابق له. ويوثق ذلك تماثل الضمير في جمل ﴿ وألو استقاموا ﴾ و﴿ كادوا يكونون ﴾ و﴿ حتى إذا رأوا ما يوعدون ﴾ وواوات العطف المستمرة في جميع آيات الفصلين.
ولعل في الآية [ ٢٤ ] صورة لما كان في نفس زعماء الكفار من استصغار لشأن النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه لما كانوا عليه من قلّة وضعف. وقد احتوت الآية ردا عليهم منددة بسخفهم متوعدة إياهم باليوم الآخر الذي يظهر فيه القوي من الضعيف والقليل من الكثير ؛ حيث لا ينفع مال ولا بنون إلاّ من أتى الله بقلب سليم. وفي هذا كما هو المتبادر تسلية وتطمين للنبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين.
ويستلهم من الآية [ ٢٥ ] أنها جواب على تساؤل الناس عن موعد قيام القيامة ؛ حيث أمرت النبي صلى الله عليه وسلم بإعلان عدم علمه به ثم عقبت الآية [ ٢٦ ] على هذا بأن ذلك من خصائص الله الذي لا يطلع على غيبه أحدا إلاّ من ارتضى من رسول. وفي هذا تماثل لموقف حكته آيات السورة السابقة [ ١٨٦ـ ١٨٧ ] مع فرق الاستثناء هنا. على أن روح الآيات هنا تلهم أنها ليست بسبيل استثناء علم ذلك الموعد. وتكرر السؤال والجواب يدلّ على أن أفكار الناس ظلّت تشتغل بالآخرة وموعدها بين مستسلم وساخر مما هو تجاوب طبيعي لكثرة ورود الوعد والوعيد بها. وقد يدل تماثل السؤال والجواب في هذه السورة وسابقتها على صحة ترتيبها في النزول.
وآيات هذا الفصل مصدر إلهام وتلقين جليل مستمر المدى. سواء أفيما احتواه من عادة الله في اختبار الناس بنعمه وتذكيرهم بواجب شكره، أم في تنزيه النفس عن الدعاء والصلاة لغير الله في كل حال، أم في نفي أي نفع وضرر من أحد على أحد إلاّ الله، أم في التنديد بالمغترين بقوتهم وعددهم. أم في تذكير الناس بإحاطة الله بكل شيء ووجوب مراقبته وابتغاء رضائه والبعد عن موجبات سخطه وغضبه.
وتتجلى صميمية النبي صلى الله عليه وسلم الرائعة واستغراقه في مهمته في إعلانه ما جاء في الآيات [ ٢٠ ـ ٢٢ ] من أنه إنما يدعو إلى الله وحده وأنه لا يملك لأحد ضرّا ولا رشدا وأنه لن يجيره من الله أحد إذا تهاون في أداء المهمة التي انتدبه إليها كما تجلّت في سياق إعلان الآية [ ١٨٧ ] من السورة السابقة.

جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:﴿ وأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَة لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقًا ١٦ لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ومَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا ١٧ وأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا ١٨ وأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا ١٩ قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي ولَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا ٢٠ قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا ولَا رَشَدًا ٢١ قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ ولَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا ٢٢ إِلَّا بَلَاغًا مِّنَ اللَّهِ ورِسَالَاتِهِ ومَن يَعْصِ اللَّهَ ورَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ٢٣ حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وأَقَلُّ عَدَدًا ٢٤ قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا ٢٥ عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا ٢٦ إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ ومِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا ٢٧ ﴾ [ ١٦ ـ ٢٧ ].
هذا هو الفصل الثاني من السورة، وقد احتوى :
١ ـ تقريرا ربانيا بأن الناس لو اتّبعوا الطريق القويم واستقاموا عليه لأسقاهم الله ماء غدقا يكثر به رزقهم اختبارا لشكرهم واعترافهم بفضل الله، أما الذين يستكبرون ويبطرون ويعرضون عن ذكر ربهم وشكره يسلّط الله عليهم البلاء الشديد.
٢ ـ ودعوة ربانية بأن لا يدعو أحد مع الله أحدا ولا يشركوا معه في سجودهم وخضوعهم أحدا معه.
٣ ـ وإشارة إلى ما كان من مقابلة الناس للدعوة النبوية من تكتل وتآمر وتألب ومعارضة وأمرا للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يقول لهم : إن دعوتي لله وإني لا أشرك معه أحدا. كأنما يراد بهذا أن يقال لهم أيضا إن هذه المقابلة منكم عدوان وبغي لأنني لا أدعو إلى منكر وإنما أدعو إلى الخير والحق.
٤ ـ وأوامر ربانية أخرى للنبي صلى الله عليه وسلم بإبلاغ الناس بأنه لا يستطيع أن يضر أحدا ولا ينفعه، وأنه لا يجيره من الله تعالى إلاّ إبلاغ رسالته ووحيه، وأن من يعص الله ورسوله فمصيره الخلود في جهنّم، حيث يدرك العصاة حينما يرون مصداق ما يوعدون من هو الأضعف والأقل، كأنما يراد بهذا تحدّي الكفار وإنذارهم بأن عصيانهم على الله ورسوله هو منتهى السخف والضلال والجرأة ؛ لأنهم أعجز من أن يستطيعوا الانتصار على الله، وأنهم مخدوعون إذا قاسوا وقائع الحياة الدنيا على الآخرة واغترّوا بقوّتهم وكثرتهم لأن ذلك لن يغني عنهم من الله شيئا.
٥ ـ وأمرا ربانيا للنبي صلى الله عليه وسلم بإبلاغ الناس كذلك بأنه لا يدري وقت تحقيق ما يوعدون به أيطول أم يقصر. فالله لا يظهر على غيبه أحدا إلاّ ما شاء ممن ارتضى من الرسل الذين يجعلهم تحت حفظه ومراقبته للتحقق من قيامهم بمهمتهم وتبليغ رسالاته التي انتدبهم إليها، ويحيط بكل أمر من أمورهم وهو المحيط بكل أمر والمحصي لكل شيء.
تعليق على مفهوم آيات الفصل ودلالته وتلقيناته
ولقد تعددت الأقوال والروايات التي يرويها المفسرون عزوا إلى ابن عباس وعلماء التابعين في مدى الآيات الثلاث الأولى١. من ذلك أنها من جملة كلام الجن المحكي في الفصل الأول٢. ومن ذلك أنها مع بقية الفصل كلام مستقل عن الجن. وتقرير قرآني مباشر. ومن ذلك أنها عنت الإنس والجن معا. ومن ذلك أنها عنت الكفار فقط.
والمتبادر المستلهم من روح الآيات أنها مع سائر آيات الفصل الثاني كلام مستقلّ وأن المقصود بالآيات الثلاث كفار العرب. وأن هذا الفصل قد جاء تعقيبا التفاتيا للفصل السابق له. ويوثق ذلك تماثل الضمير في جمل ﴿ وألو استقاموا ﴾ و﴿ كادوا يكونون ﴾ و﴿ حتى إذا رأوا ما يوعدون ﴾ وواوات العطف المستمرة في جميع آيات الفصلين.
ولعل في الآية [ ٢٤ ] صورة لما كان في نفس زعماء الكفار من استصغار لشأن النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه لما كانوا عليه من قلّة وضعف. وقد احتوت الآية ردا عليهم منددة بسخفهم متوعدة إياهم باليوم الآخر الذي يظهر فيه القوي من الضعيف والقليل من الكثير ؛ حيث لا ينفع مال ولا بنون إلاّ من أتى الله بقلب سليم. وفي هذا كما هو المتبادر تسلية وتطمين للنبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين.
ويستلهم من الآية [ ٢٥ ] أنها جواب على تساؤل الناس عن موعد قيام القيامة ؛ حيث أمرت النبي صلى الله عليه وسلم بإعلان عدم علمه به ثم عقبت الآية [ ٢٦ ] على هذا بأن ذلك من خصائص الله الذي لا يطلع على غيبه أحدا إلاّ من ارتضى من رسول. وفي هذا تماثل لموقف حكته آيات السورة السابقة [ ١٨٦ـ ١٨٧ ] مع فرق الاستثناء هنا. على أن روح الآيات هنا تلهم أنها ليست بسبيل استثناء علم ذلك الموعد. وتكرر السؤال والجواب يدلّ على أن أفكار الناس ظلّت تشتغل بالآخرة وموعدها بين مستسلم وساخر مما هو تجاوب طبيعي لكثرة ورود الوعد والوعيد بها. وقد يدل تماثل السؤال والجواب في هذه السورة وسابقتها على صحة ترتيبها في النزول.
وآيات هذا الفصل مصدر إلهام وتلقين جليل مستمر المدى. سواء أفيما احتواه من عادة الله في اختبار الناس بنعمه وتذكيرهم بواجب شكره، أم في تنزيه النفس عن الدعاء والصلاة لغير الله في كل حال، أم في نفي أي نفع وضرر من أحد على أحد إلاّ الله، أم في التنديد بالمغترين بقوتهم وعددهم. أم في تذكير الناس بإحاطة الله بكل شيء ووجوب مراقبته وابتغاء رضائه والبعد عن موجبات سخطه وغضبه.
وتتجلى صميمية النبي صلى الله عليه وسلم الرائعة واستغراقه في مهمته في إعلانه ما جاء في الآيات [ ٢٠ ـ ٢٢ ] من أنه إنما يدعو إلى الله وحده وأنه لا يملك لأحد ضرّا ولا رشدا وأنه لن يجيره من الله أحد إذا تهاون في أداء المهمة التي انتدبه إليها كما تجلّت في سياق إعلان الآية [ ١٨٧ ] من السورة السابقة.

ملتحدا : ملجأ.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:﴿ وأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَة لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقًا ١٦ لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ومَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا ١٧ وأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا ١٨ وأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا ١٩ قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي ولَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا ٢٠ قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا ولَا رَشَدًا ٢١ قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ ولَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا ٢٢ إِلَّا بَلَاغًا مِّنَ اللَّهِ ورِسَالَاتِهِ ومَن يَعْصِ اللَّهَ ورَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ٢٣ حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وأَقَلُّ عَدَدًا ٢٤ قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا ٢٥ عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا ٢٦ إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ ومِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا ٢٧ ﴾ [ ١٦ ـ ٢٧ ].
هذا هو الفصل الثاني من السورة، وقد احتوى :
١ ـ تقريرا ربانيا بأن الناس لو اتّبعوا الطريق القويم واستقاموا عليه لأسقاهم الله ماء غدقا يكثر به رزقهم اختبارا لشكرهم واعترافهم بفضل الله، أما الذين يستكبرون ويبطرون ويعرضون عن ذكر ربهم وشكره يسلّط الله عليهم البلاء الشديد.
٢ ـ ودعوة ربانية بأن لا يدعو أحد مع الله أحدا ولا يشركوا معه في سجودهم وخضوعهم أحدا معه.
٣ ـ وإشارة إلى ما كان من مقابلة الناس للدعوة النبوية من تكتل وتآمر وتألب ومعارضة وأمرا للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يقول لهم : إن دعوتي لله وإني لا أشرك معه أحدا. كأنما يراد بهذا أن يقال لهم أيضا إن هذه المقابلة منكم عدوان وبغي لأنني لا أدعو إلى منكر وإنما أدعو إلى الخير والحق.
٤ ـ وأوامر ربانية أخرى للنبي صلى الله عليه وسلم بإبلاغ الناس بأنه لا يستطيع أن يضر أحدا ولا ينفعه، وأنه لا يجيره من الله تعالى إلاّ إبلاغ رسالته ووحيه، وأن من يعص الله ورسوله فمصيره الخلود في جهنّم، حيث يدرك العصاة حينما يرون مصداق ما يوعدون من هو الأضعف والأقل، كأنما يراد بهذا تحدّي الكفار وإنذارهم بأن عصيانهم على الله ورسوله هو منتهى السخف والضلال والجرأة ؛ لأنهم أعجز من أن يستطيعوا الانتصار على الله، وأنهم مخدوعون إذا قاسوا وقائع الحياة الدنيا على الآخرة واغترّوا بقوّتهم وكثرتهم لأن ذلك لن يغني عنهم من الله شيئا.
٥ ـ وأمرا ربانيا للنبي صلى الله عليه وسلم بإبلاغ الناس كذلك بأنه لا يدري وقت تحقيق ما يوعدون به أيطول أم يقصر. فالله لا يظهر على غيبه أحدا إلاّ ما شاء ممن ارتضى من الرسل الذين يجعلهم تحت حفظه ومراقبته للتحقق من قيامهم بمهمتهم وتبليغ رسالاته التي انتدبهم إليها، ويحيط بكل أمر من أمورهم وهو المحيط بكل أمر والمحصي لكل شيء.
تعليق على مفهوم آيات الفصل ودلالته وتلقيناته
ولقد تعددت الأقوال والروايات التي يرويها المفسرون عزوا إلى ابن عباس وعلماء التابعين في مدى الآيات الثلاث الأولى١. من ذلك أنها من جملة كلام الجن المحكي في الفصل الأول٢. ومن ذلك أنها مع بقية الفصل كلام مستقل عن الجن. وتقرير قرآني مباشر. ومن ذلك أنها عنت الإنس والجن معا. ومن ذلك أنها عنت الكفار فقط.
والمتبادر المستلهم من روح الآيات أنها مع سائر آيات الفصل الثاني كلام مستقلّ وأن المقصود بالآيات الثلاث كفار العرب. وأن هذا الفصل قد جاء تعقيبا التفاتيا للفصل السابق له. ويوثق ذلك تماثل الضمير في جمل ﴿ وألو استقاموا ﴾ و﴿ كادوا يكونون ﴾ و﴿ حتى إذا رأوا ما يوعدون ﴾ وواوات العطف المستمرة في جميع آيات الفصلين.
ولعل في الآية [ ٢٤ ] صورة لما كان في نفس زعماء الكفار من استصغار لشأن النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه لما كانوا عليه من قلّة وضعف. وقد احتوت الآية ردا عليهم منددة بسخفهم متوعدة إياهم باليوم الآخر الذي يظهر فيه القوي من الضعيف والقليل من الكثير ؛ حيث لا ينفع مال ولا بنون إلاّ من أتى الله بقلب سليم. وفي هذا كما هو المتبادر تسلية وتطمين للنبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين.
ويستلهم من الآية [ ٢٥ ] أنها جواب على تساؤل الناس عن موعد قيام القيامة ؛ حيث أمرت النبي صلى الله عليه وسلم بإعلان عدم علمه به ثم عقبت الآية [ ٢٦ ] على هذا بأن ذلك من خصائص الله الذي لا يطلع على غيبه أحدا إلاّ من ارتضى من رسول. وفي هذا تماثل لموقف حكته آيات السورة السابقة [ ١٨٦ـ ١٨٧ ] مع فرق الاستثناء هنا. على أن روح الآيات هنا تلهم أنها ليست بسبيل استثناء علم ذلك الموعد. وتكرر السؤال والجواب يدلّ على أن أفكار الناس ظلّت تشتغل بالآخرة وموعدها بين مستسلم وساخر مما هو تجاوب طبيعي لكثرة ورود الوعد والوعيد بها. وقد يدل تماثل السؤال والجواب في هذه السورة وسابقتها على صحة ترتيبها في النزول.
وآيات هذا الفصل مصدر إلهام وتلقين جليل مستمر المدى. سواء أفيما احتواه من عادة الله في اختبار الناس بنعمه وتذكيرهم بواجب شكره، أم في تنزيه النفس عن الدعاء والصلاة لغير الله في كل حال، أم في نفي أي نفع وضرر من أحد على أحد إلاّ الله، أم في التنديد بالمغترين بقوتهم وعددهم. أم في تذكير الناس بإحاطة الله بكل شيء ووجوب مراقبته وابتغاء رضائه والبعد عن موجبات سخطه وغضبه.
وتتجلى صميمية النبي صلى الله عليه وسلم الرائعة واستغراقه في مهمته في إعلانه ما جاء في الآيات [ ٢٠ ـ ٢٢ ] من أنه إنما يدعو إلى الله وحده وأنه لا يملك لأحد ضرّا ولا رشدا وأنه لن يجيره من الله أحد إذا تهاون في أداء المهمة التي انتدبه إليها كما تجلّت في سياق إعلان الآية [ ١٨٧ ] من السورة السابقة.

ولن أجد من دونه ملتحدا إلاّ بلاغا من الله ورسالاته : أوجه ما قيل في تأويلها أني لن أجد ملجأ من الله إلاّ بإبلاغ وحيه ورسالاته أو أن كل مهمته إبلاغ رسالة الله.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:﴿ وأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَة لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقًا ١٦ لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ومَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا ١٧ وأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا ١٨ وأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا ١٩ قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي ولَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا ٢٠ قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا ولَا رَشَدًا ٢١ قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ ولَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا ٢٢ إِلَّا بَلَاغًا مِّنَ اللَّهِ ورِسَالَاتِهِ ومَن يَعْصِ اللَّهَ ورَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ٢٣ حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وأَقَلُّ عَدَدًا ٢٤ قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا ٢٥ عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا ٢٦ إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ ومِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا ٢٧ ﴾ [ ١٦ ـ ٢٧ ].
هذا هو الفصل الثاني من السورة، وقد احتوى :
١ ـ تقريرا ربانيا بأن الناس لو اتّبعوا الطريق القويم واستقاموا عليه لأسقاهم الله ماء غدقا يكثر به رزقهم اختبارا لشكرهم واعترافهم بفضل الله، أما الذين يستكبرون ويبطرون ويعرضون عن ذكر ربهم وشكره يسلّط الله عليهم البلاء الشديد.
٢ ـ ودعوة ربانية بأن لا يدعو أحد مع الله أحدا ولا يشركوا معه في سجودهم وخضوعهم أحدا معه.
٣ ـ وإشارة إلى ما كان من مقابلة الناس للدعوة النبوية من تكتل وتآمر وتألب ومعارضة وأمرا للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يقول لهم : إن دعوتي لله وإني لا أشرك معه أحدا. كأنما يراد بهذا أن يقال لهم أيضا إن هذه المقابلة منكم عدوان وبغي لأنني لا أدعو إلى منكر وإنما أدعو إلى الخير والحق.
٤ ـ وأوامر ربانية أخرى للنبي صلى الله عليه وسلم بإبلاغ الناس بأنه لا يستطيع أن يضر أحدا ولا ينفعه، وأنه لا يجيره من الله تعالى إلاّ إبلاغ رسالته ووحيه، وأن من يعص الله ورسوله فمصيره الخلود في جهنّم، حيث يدرك العصاة حينما يرون مصداق ما يوعدون من هو الأضعف والأقل، كأنما يراد بهذا تحدّي الكفار وإنذارهم بأن عصيانهم على الله ورسوله هو منتهى السخف والضلال والجرأة ؛ لأنهم أعجز من أن يستطيعوا الانتصار على الله، وأنهم مخدوعون إذا قاسوا وقائع الحياة الدنيا على الآخرة واغترّوا بقوّتهم وكثرتهم لأن ذلك لن يغني عنهم من الله شيئا.
٥ ـ وأمرا ربانيا للنبي صلى الله عليه وسلم بإبلاغ الناس كذلك بأنه لا يدري وقت تحقيق ما يوعدون به أيطول أم يقصر. فالله لا يظهر على غيبه أحدا إلاّ ما شاء ممن ارتضى من الرسل الذين يجعلهم تحت حفظه ومراقبته للتحقق من قيامهم بمهمتهم وتبليغ رسالاته التي انتدبهم إليها، ويحيط بكل أمر من أمورهم وهو المحيط بكل أمر والمحصي لكل شيء.
تعليق على مفهوم آيات الفصل ودلالته وتلقيناته
ولقد تعددت الأقوال والروايات التي يرويها المفسرون عزوا إلى ابن عباس وعلماء التابعين في مدى الآيات الثلاث الأولى١. من ذلك أنها من جملة كلام الجن المحكي في الفصل الأول٢. ومن ذلك أنها مع بقية الفصل كلام مستقل عن الجن. وتقرير قرآني مباشر. ومن ذلك أنها عنت الإنس والجن معا. ومن ذلك أنها عنت الكفار فقط.
والمتبادر المستلهم من روح الآيات أنها مع سائر آيات الفصل الثاني كلام مستقلّ وأن المقصود بالآيات الثلاث كفار العرب. وأن هذا الفصل قد جاء تعقيبا التفاتيا للفصل السابق له. ويوثق ذلك تماثل الضمير في جمل ﴿ وألو استقاموا ﴾ و﴿ كادوا يكونون ﴾ و﴿ حتى إذا رأوا ما يوعدون ﴾ وواوات العطف المستمرة في جميع آيات الفصلين.
ولعل في الآية [ ٢٤ ] صورة لما كان في نفس زعماء الكفار من استصغار لشأن النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه لما كانوا عليه من قلّة وضعف. وقد احتوت الآية ردا عليهم منددة بسخفهم متوعدة إياهم باليوم الآخر الذي يظهر فيه القوي من الضعيف والقليل من الكثير ؛ حيث لا ينفع مال ولا بنون إلاّ من أتى الله بقلب سليم. وفي هذا كما هو المتبادر تسلية وتطمين للنبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين.
ويستلهم من الآية [ ٢٥ ] أنها جواب على تساؤل الناس عن موعد قيام القيامة ؛ حيث أمرت النبي صلى الله عليه وسلم بإعلان عدم علمه به ثم عقبت الآية [ ٢٦ ] على هذا بأن ذلك من خصائص الله الذي لا يطلع على غيبه أحدا إلاّ من ارتضى من رسول. وفي هذا تماثل لموقف حكته آيات السورة السابقة [ ١٨٦ـ ١٨٧ ] مع فرق الاستثناء هنا. على أن روح الآيات هنا تلهم أنها ليست بسبيل استثناء علم ذلك الموعد. وتكرر السؤال والجواب يدلّ على أن أفكار الناس ظلّت تشتغل بالآخرة وموعدها بين مستسلم وساخر مما هو تجاوب طبيعي لكثرة ورود الوعد والوعيد بها. وقد يدل تماثل السؤال والجواب في هذه السورة وسابقتها على صحة ترتيبها في النزول.
وآيات هذا الفصل مصدر إلهام وتلقين جليل مستمر المدى. سواء أفيما احتواه من عادة الله في اختبار الناس بنعمه وتذكيرهم بواجب شكره، أم في تنزيه النفس عن الدعاء والصلاة لغير الله في كل حال، أم في نفي أي نفع وضرر من أحد على أحد إلاّ الله، أم في التنديد بالمغترين بقوتهم وعددهم. أم في تذكير الناس بإحاطة الله بكل شيء ووجوب مراقبته وابتغاء رضائه والبعد عن موجبات سخطه وغضبه.
وتتجلى صميمية النبي صلى الله عليه وسلم الرائعة واستغراقه في مهمته في إعلانه ما جاء في الآيات [ ٢٠ ـ ٢٢ ] من أنه إنما يدعو إلى الله وحده وأنه لا يملك لأحد ضرّا ولا رشدا وأنه لن يجيره من الله أحد إذا تهاون في أداء المهمة التي انتدبه إليها كما تجلّت في سياق إعلان الآية [ ١٨٧ ] من السورة السابقة.

جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:﴿ وأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَة لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقًا ١٦ لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ومَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا ١٧ وأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا ١٨ وأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا ١٩ قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي ولَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا ٢٠ قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا ولَا رَشَدًا ٢١ قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ ولَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا ٢٢ إِلَّا بَلَاغًا مِّنَ اللَّهِ ورِسَالَاتِهِ ومَن يَعْصِ اللَّهَ ورَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ٢٣ حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وأَقَلُّ عَدَدًا ٢٤ قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا ٢٥ عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا ٢٦ إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ ومِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا ٢٧ ﴾ [ ١٦ ـ ٢٧ ].
هذا هو الفصل الثاني من السورة، وقد احتوى :
١ ـ تقريرا ربانيا بأن الناس لو اتّبعوا الطريق القويم واستقاموا عليه لأسقاهم الله ماء غدقا يكثر به رزقهم اختبارا لشكرهم واعترافهم بفضل الله، أما الذين يستكبرون ويبطرون ويعرضون عن ذكر ربهم وشكره يسلّط الله عليهم البلاء الشديد.
٢ ـ ودعوة ربانية بأن لا يدعو أحد مع الله أحدا ولا يشركوا معه في سجودهم وخضوعهم أحدا معه.
٣ ـ وإشارة إلى ما كان من مقابلة الناس للدعوة النبوية من تكتل وتآمر وتألب ومعارضة وأمرا للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يقول لهم : إن دعوتي لله وإني لا أشرك معه أحدا. كأنما يراد بهذا أن يقال لهم أيضا إن هذه المقابلة منكم عدوان وبغي لأنني لا أدعو إلى منكر وإنما أدعو إلى الخير والحق.
٤ ـ وأوامر ربانية أخرى للنبي صلى الله عليه وسلم بإبلاغ الناس بأنه لا يستطيع أن يضر أحدا ولا ينفعه، وأنه لا يجيره من الله تعالى إلاّ إبلاغ رسالته ووحيه، وأن من يعص الله ورسوله فمصيره الخلود في جهنّم، حيث يدرك العصاة حينما يرون مصداق ما يوعدون من هو الأضعف والأقل، كأنما يراد بهذا تحدّي الكفار وإنذارهم بأن عصيانهم على الله ورسوله هو منتهى السخف والضلال والجرأة ؛ لأنهم أعجز من أن يستطيعوا الانتصار على الله، وأنهم مخدوعون إذا قاسوا وقائع الحياة الدنيا على الآخرة واغترّوا بقوّتهم وكثرتهم لأن ذلك لن يغني عنهم من الله شيئا.
٥ ـ وأمرا ربانيا للنبي صلى الله عليه وسلم بإبلاغ الناس كذلك بأنه لا يدري وقت تحقيق ما يوعدون به أيطول أم يقصر. فالله لا يظهر على غيبه أحدا إلاّ ما شاء ممن ارتضى من الرسل الذين يجعلهم تحت حفظه ومراقبته للتحقق من قيامهم بمهمتهم وتبليغ رسالاته التي انتدبهم إليها، ويحيط بكل أمر من أمورهم وهو المحيط بكل أمر والمحصي لكل شيء.
تعليق على مفهوم آيات الفصل ودلالته وتلقيناته
ولقد تعددت الأقوال والروايات التي يرويها المفسرون عزوا إلى ابن عباس وعلماء التابعين في مدى الآيات الثلاث الأولى١. من ذلك أنها من جملة كلام الجن المحكي في الفصل الأول٢. ومن ذلك أنها مع بقية الفصل كلام مستقل عن الجن. وتقرير قرآني مباشر. ومن ذلك أنها عنت الإنس والجن معا. ومن ذلك أنها عنت الكفار فقط.
والمتبادر المستلهم من روح الآيات أنها مع سائر آيات الفصل الثاني كلام مستقلّ وأن المقصود بالآيات الثلاث كفار العرب. وأن هذا الفصل قد جاء تعقيبا التفاتيا للفصل السابق له. ويوثق ذلك تماثل الضمير في جمل ﴿ وألو استقاموا ﴾ و﴿ كادوا يكونون ﴾ و﴿ حتى إذا رأوا ما يوعدون ﴾ وواوات العطف المستمرة في جميع آيات الفصلين.
ولعل في الآية [ ٢٤ ] صورة لما كان في نفس زعماء الكفار من استصغار لشأن النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه لما كانوا عليه من قلّة وضعف. وقد احتوت الآية ردا عليهم منددة بسخفهم متوعدة إياهم باليوم الآخر الذي يظهر فيه القوي من الضعيف والقليل من الكثير ؛ حيث لا ينفع مال ولا بنون إلاّ من أتى الله بقلب سليم. وفي هذا كما هو المتبادر تسلية وتطمين للنبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين.
ويستلهم من الآية [ ٢٥ ] أنها جواب على تساؤل الناس عن موعد قيام القيامة ؛ حيث أمرت النبي صلى الله عليه وسلم بإعلان عدم علمه به ثم عقبت الآية [ ٢٦ ] على هذا بأن ذلك من خصائص الله الذي لا يطلع على غيبه أحدا إلاّ من ارتضى من رسول. وفي هذا تماثل لموقف حكته آيات السورة السابقة [ ١٨٦ـ ١٨٧ ] مع فرق الاستثناء هنا. على أن روح الآيات هنا تلهم أنها ليست بسبيل استثناء علم ذلك الموعد. وتكرر السؤال والجواب يدلّ على أن أفكار الناس ظلّت تشتغل بالآخرة وموعدها بين مستسلم وساخر مما هو تجاوب طبيعي لكثرة ورود الوعد والوعيد بها. وقد يدل تماثل السؤال والجواب في هذه السورة وسابقتها على صحة ترتيبها في النزول.
وآيات هذا الفصل مصدر إلهام وتلقين جليل مستمر المدى. سواء أفيما احتواه من عادة الله في اختبار الناس بنعمه وتذكيرهم بواجب شكره، أم في تنزيه النفس عن الدعاء والصلاة لغير الله في كل حال، أم في نفي أي نفع وضرر من أحد على أحد إلاّ الله، أم في التنديد بالمغترين بقوتهم وعددهم. أم في تذكير الناس بإحاطة الله بكل شيء ووجوب مراقبته وابتغاء رضائه والبعد عن موجبات سخطه وغضبه.
وتتجلى صميمية النبي صلى الله عليه وسلم الرائعة واستغراقه في مهمته في إعلانه ما جاء في الآيات [ ٢٠ ـ ٢٢ ] من أنه إنما يدعو إلى الله وحده وأنه لا يملك لأحد ضرّا ولا رشدا وأنه لن يجيره من الله أحد إذا تهاون في أداء المهمة التي انتدبه إليها كما تجلّت في سياق إعلان الآية [ ١٨٧ ] من السورة السابقة.

جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:﴿ وأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَة لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقًا ١٦ لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ومَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا ١٧ وأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا ١٨ وأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا ١٩ قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي ولَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا ٢٠ قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا ولَا رَشَدًا ٢١ قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ ولَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا ٢٢ إِلَّا بَلَاغًا مِّنَ اللَّهِ ورِسَالَاتِهِ ومَن يَعْصِ اللَّهَ ورَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ٢٣ حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وأَقَلُّ عَدَدًا ٢٤ قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا ٢٥ عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا ٢٦ إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ ومِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا ٢٧ ﴾ [ ١٦ ـ ٢٧ ].
هذا هو الفصل الثاني من السورة، وقد احتوى :
١ ـ تقريرا ربانيا بأن الناس لو اتّبعوا الطريق القويم واستقاموا عليه لأسقاهم الله ماء غدقا يكثر به رزقهم اختبارا لشكرهم واعترافهم بفضل الله، أما الذين يستكبرون ويبطرون ويعرضون عن ذكر ربهم وشكره يسلّط الله عليهم البلاء الشديد.
٢ ـ ودعوة ربانية بأن لا يدعو أحد مع الله أحدا ولا يشركوا معه في سجودهم وخضوعهم أحدا معه.
٣ ـ وإشارة إلى ما كان من مقابلة الناس للدعوة النبوية من تكتل وتآمر وتألب ومعارضة وأمرا للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يقول لهم : إن دعوتي لله وإني لا أشرك معه أحدا. كأنما يراد بهذا أن يقال لهم أيضا إن هذه المقابلة منكم عدوان وبغي لأنني لا أدعو إلى منكر وإنما أدعو إلى الخير والحق.
٤ ـ وأوامر ربانية أخرى للنبي صلى الله عليه وسلم بإبلاغ الناس بأنه لا يستطيع أن يضر أحدا ولا ينفعه، وأنه لا يجيره من الله تعالى إلاّ إبلاغ رسالته ووحيه، وأن من يعص الله ورسوله فمصيره الخلود في جهنّم، حيث يدرك العصاة حينما يرون مصداق ما يوعدون من هو الأضعف والأقل، كأنما يراد بهذا تحدّي الكفار وإنذارهم بأن عصيانهم على الله ورسوله هو منتهى السخف والضلال والجرأة ؛ لأنهم أعجز من أن يستطيعوا الانتصار على الله، وأنهم مخدوعون إذا قاسوا وقائع الحياة الدنيا على الآخرة واغترّوا بقوّتهم وكثرتهم لأن ذلك لن يغني عنهم من الله شيئا.
٥ ـ وأمرا ربانيا للنبي صلى الله عليه وسلم بإبلاغ الناس كذلك بأنه لا يدري وقت تحقيق ما يوعدون به أيطول أم يقصر. فالله لا يظهر على غيبه أحدا إلاّ ما شاء ممن ارتضى من الرسل الذين يجعلهم تحت حفظه ومراقبته للتحقق من قيامهم بمهمتهم وتبليغ رسالاته التي انتدبهم إليها، ويحيط بكل أمر من أمورهم وهو المحيط بكل أمر والمحصي لكل شيء.
تعليق على مفهوم آيات الفصل ودلالته وتلقيناته
ولقد تعددت الأقوال والروايات التي يرويها المفسرون عزوا إلى ابن عباس وعلماء التابعين في مدى الآيات الثلاث الأولى١. من ذلك أنها من جملة كلام الجن المحكي في الفصل الأول٢. ومن ذلك أنها مع بقية الفصل كلام مستقل عن الجن. وتقرير قرآني مباشر. ومن ذلك أنها عنت الإنس والجن معا. ومن ذلك أنها عنت الكفار فقط.
والمتبادر المستلهم من روح الآيات أنها مع سائر آيات الفصل الثاني كلام مستقلّ وأن المقصود بالآيات الثلاث كفار العرب. وأن هذا الفصل قد جاء تعقيبا التفاتيا للفصل السابق له. ويوثق ذلك تماثل الضمير في جمل ﴿ وألو استقاموا ﴾ و﴿ كادوا يكونون ﴾ و﴿ حتى إذا رأوا ما يوعدون ﴾ وواوات العطف المستمرة في جميع آيات الفصلين.
ولعل في الآية [ ٢٤ ] صورة لما كان في نفس زعماء الكفار من استصغار لشأن النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه لما كانوا عليه من قلّة وضعف. وقد احتوت الآية ردا عليهم منددة بسخفهم متوعدة إياهم باليوم الآخر الذي يظهر فيه القوي من الضعيف والقليل من الكثير ؛ حيث لا ينفع مال ولا بنون إلاّ من أتى الله بقلب سليم. وفي هذا كما هو المتبادر تسلية وتطمين للنبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين.
ويستلهم من الآية [ ٢٥ ] أنها جواب على تساؤل الناس عن موعد قيام القيامة ؛ حيث أمرت النبي صلى الله عليه وسلم بإعلان عدم علمه به ثم عقبت الآية [ ٢٦ ] على هذا بأن ذلك من خصائص الله الذي لا يطلع على غيبه أحدا إلاّ من ارتضى من رسول. وفي هذا تماثل لموقف حكته آيات السورة السابقة [ ١٨٦ـ ١٨٧ ] مع فرق الاستثناء هنا. على أن روح الآيات هنا تلهم أنها ليست بسبيل استثناء علم ذلك الموعد. وتكرر السؤال والجواب يدلّ على أن أفكار الناس ظلّت تشتغل بالآخرة وموعدها بين مستسلم وساخر مما هو تجاوب طبيعي لكثرة ورود الوعد والوعيد بها. وقد يدل تماثل السؤال والجواب في هذه السورة وسابقتها على صحة ترتيبها في النزول.
وآيات هذا الفصل مصدر إلهام وتلقين جليل مستمر المدى. سواء أفيما احتواه من عادة الله في اختبار الناس بنعمه وتذكيرهم بواجب شكره، أم في تنزيه النفس عن الدعاء والصلاة لغير الله في كل حال، أم في نفي أي نفع وضرر من أحد على أحد إلاّ الله، أم في التنديد بالمغترين بقوتهم وعددهم. أم في تذكير الناس بإحاطة الله بكل شيء ووجوب مراقبته وابتغاء رضائه والبعد عن موجبات سخطه وغضبه.
وتتجلى صميمية النبي صلى الله عليه وسلم الرائعة واستغراقه في مهمته في إعلانه ما جاء في الآيات [ ٢٠ ـ ٢٢ ] من أنه إنما يدعو إلى الله وحده وأنه لا يملك لأحد ضرّا ولا رشدا وأنه لن يجيره من الله أحد إذا تهاون في أداء المهمة التي انتدبه إليها كما تجلّت في سياق إعلان الآية [ ١٨٧ ] من السورة السابقة.

جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:﴿ وأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَة لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقًا ١٦ لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ومَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا ١٧ وأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا ١٨ وأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا ١٩ قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي ولَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا ٢٠ قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا ولَا رَشَدًا ٢١ قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ ولَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا ٢٢ إِلَّا بَلَاغًا مِّنَ اللَّهِ ورِسَالَاتِهِ ومَن يَعْصِ اللَّهَ ورَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ٢٣ حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وأَقَلُّ عَدَدًا ٢٤ قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا ٢٥ عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا ٢٦ إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ ومِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا ٢٧ ﴾ [ ١٦ ـ ٢٧ ].
هذا هو الفصل الثاني من السورة، وقد احتوى :
١ ـ تقريرا ربانيا بأن الناس لو اتّبعوا الطريق القويم واستقاموا عليه لأسقاهم الله ماء غدقا يكثر به رزقهم اختبارا لشكرهم واعترافهم بفضل الله، أما الذين يستكبرون ويبطرون ويعرضون عن ذكر ربهم وشكره يسلّط الله عليهم البلاء الشديد.
٢ ـ ودعوة ربانية بأن لا يدعو أحد مع الله أحدا ولا يشركوا معه في سجودهم وخضوعهم أحدا معه.
٣ ـ وإشارة إلى ما كان من مقابلة الناس للدعوة النبوية من تكتل وتآمر وتألب ومعارضة وأمرا للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يقول لهم : إن دعوتي لله وإني لا أشرك معه أحدا. كأنما يراد بهذا أن يقال لهم أيضا إن هذه المقابلة منكم عدوان وبغي لأنني لا أدعو إلى منكر وإنما أدعو إلى الخير والحق.
٤ ـ وأوامر ربانية أخرى للنبي صلى الله عليه وسلم بإبلاغ الناس بأنه لا يستطيع أن يضر أحدا ولا ينفعه، وأنه لا يجيره من الله تعالى إلاّ إبلاغ رسالته ووحيه، وأن من يعص الله ورسوله فمصيره الخلود في جهنّم، حيث يدرك العصاة حينما يرون مصداق ما يوعدون من هو الأضعف والأقل، كأنما يراد بهذا تحدّي الكفار وإنذارهم بأن عصيانهم على الله ورسوله هو منتهى السخف والضلال والجرأة ؛ لأنهم أعجز من أن يستطيعوا الانتصار على الله، وأنهم مخدوعون إذا قاسوا وقائع الحياة الدنيا على الآخرة واغترّوا بقوّتهم وكثرتهم لأن ذلك لن يغني عنهم من الله شيئا.
٥ ـ وأمرا ربانيا للنبي صلى الله عليه وسلم بإبلاغ الناس كذلك بأنه لا يدري وقت تحقيق ما يوعدون به أيطول أم يقصر. فالله لا يظهر على غيبه أحدا إلاّ ما شاء ممن ارتضى من الرسل الذين يجعلهم تحت حفظه ومراقبته للتحقق من قيامهم بمهمتهم وتبليغ رسالاته التي انتدبهم إليها، ويحيط بكل أمر من أمورهم وهو المحيط بكل أمر والمحصي لكل شيء.
تعليق على مفهوم آيات الفصل ودلالته وتلقيناته
ولقد تعددت الأقوال والروايات التي يرويها المفسرون عزوا إلى ابن عباس وعلماء التابعين في مدى الآيات الثلاث الأولى١. من ذلك أنها من جملة كلام الجن المحكي في الفصل الأول٢. ومن ذلك أنها مع بقية الفصل كلام مستقل عن الجن. وتقرير قرآني مباشر. ومن ذلك أنها عنت الإنس والجن معا. ومن ذلك أنها عنت الكفار فقط.
والمتبادر المستلهم من روح الآيات أنها مع سائر آيات الفصل الثاني كلام مستقلّ وأن المقصود بالآيات الثلاث كفار العرب. وأن هذا الفصل قد جاء تعقيبا التفاتيا للفصل السابق له. ويوثق ذلك تماثل الضمير في جمل ﴿ وألو استقاموا ﴾ و﴿ كادوا يكونون ﴾ و﴿ حتى إذا رأوا ما يوعدون ﴾ وواوات العطف المستمرة في جميع آيات الفصلين.
ولعل في الآية [ ٢٤ ] صورة لما كان في نفس زعماء الكفار من استصغار لشأن النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه لما كانوا عليه من قلّة وضعف. وقد احتوت الآية ردا عليهم منددة بسخفهم متوعدة إياهم باليوم الآخر الذي يظهر فيه القوي من الضعيف والقليل من الكثير ؛ حيث لا ينفع مال ولا بنون إلاّ من أتى الله بقلب سليم. وفي هذا كما هو المتبادر تسلية وتطمين للنبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين.
ويستلهم من الآية [ ٢٥ ] أنها جواب على تساؤل الناس عن موعد قيام القيامة ؛ حيث أمرت النبي صلى الله عليه وسلم بإعلان عدم علمه به ثم عقبت الآية [ ٢٦ ] على هذا بأن ذلك من خصائص الله الذي لا يطلع على غيبه أحدا إلاّ من ارتضى من رسول. وفي هذا تماثل لموقف حكته آيات السورة السابقة [ ١٨٦ـ ١٨٧ ] مع فرق الاستثناء هنا. على أن روح الآيات هنا تلهم أنها ليست بسبيل استثناء علم ذلك الموعد. وتكرر السؤال والجواب يدلّ على أن أفكار الناس ظلّت تشتغل بالآخرة وموعدها بين مستسلم وساخر مما هو تجاوب طبيعي لكثرة ورود الوعد والوعيد بها. وقد يدل تماثل السؤال والجواب في هذه السورة وسابقتها على صحة ترتيبها في النزول.
وآيات هذا الفصل مصدر إلهام وتلقين جليل مستمر المدى. سواء أفيما احتواه من عادة الله في اختبار الناس بنعمه وتذكيرهم بواجب شكره، أم في تنزيه النفس عن الدعاء والصلاة لغير الله في كل حال، أم في نفي أي نفع وضرر من أحد على أحد إلاّ الله، أم في التنديد بالمغترين بقوتهم وعددهم. أم في تذكير الناس بإحاطة الله بكل شيء ووجوب مراقبته وابتغاء رضائه والبعد عن موجبات سخطه وغضبه.
وتتجلى صميمية النبي صلى الله عليه وسلم الرائعة واستغراقه في مهمته في إعلانه ما جاء في الآيات [ ٢٠ ـ ٢٢ ] من أنه إنما يدعو إلى الله وحده وأنه لا يملك لأحد ضرّا ولا رشدا وأنه لن يجيره من الله أحد إذا تهاون في أداء المهمة التي انتدبه إليها كما تجلّت في سياق إعلان الآية [ ١٨٧ ] من السورة السابقة.

جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:﴿ وأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَة لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقًا ١٦ لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ومَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا ١٧ وأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا ١٨ وأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا ١٩ قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي ولَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا ٢٠ قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا ولَا رَشَدًا ٢١ قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ ولَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا ٢٢ إِلَّا بَلَاغًا مِّنَ اللَّهِ ورِسَالَاتِهِ ومَن يَعْصِ اللَّهَ ورَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ٢٣ حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وأَقَلُّ عَدَدًا ٢٤ قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا ٢٥ عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا ٢٦ إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ ومِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا ٢٧ ﴾ [ ١٦ ـ ٢٧ ].
هذا هو الفصل الثاني من السورة، وقد احتوى :
١ ـ تقريرا ربانيا بأن الناس لو اتّبعوا الطريق القويم واستقاموا عليه لأسقاهم الله ماء غدقا يكثر به رزقهم اختبارا لشكرهم واعترافهم بفضل الله، أما الذين يستكبرون ويبطرون ويعرضون عن ذكر ربهم وشكره يسلّط الله عليهم البلاء الشديد.
٢ ـ ودعوة ربانية بأن لا يدعو أحد مع الله أحدا ولا يشركوا معه في سجودهم وخضوعهم أحدا معه.
٣ ـ وإشارة إلى ما كان من مقابلة الناس للدعوة النبوية من تكتل وتآمر وتألب ومعارضة وأمرا للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يقول لهم : إن دعوتي لله وإني لا أشرك معه أحدا. كأنما يراد بهذا أن يقال لهم أيضا إن هذه المقابلة منكم عدوان وبغي لأنني لا أدعو إلى منكر وإنما أدعو إلى الخير والحق.
٤ ـ وأوامر ربانية أخرى للنبي صلى الله عليه وسلم بإبلاغ الناس بأنه لا يستطيع أن يضر أحدا ولا ينفعه، وأنه لا يجيره من الله تعالى إلاّ إبلاغ رسالته ووحيه، وأن من يعص الله ورسوله فمصيره الخلود في جهنّم، حيث يدرك العصاة حينما يرون مصداق ما يوعدون من هو الأضعف والأقل، كأنما يراد بهذا تحدّي الكفار وإنذارهم بأن عصيانهم على الله ورسوله هو منتهى السخف والضلال والجرأة ؛ لأنهم أعجز من أن يستطيعوا الانتصار على الله، وأنهم مخدوعون إذا قاسوا وقائع الحياة الدنيا على الآخرة واغترّوا بقوّتهم وكثرتهم لأن ذلك لن يغني عنهم من الله شيئا.
٥ ـ وأمرا ربانيا للنبي صلى الله عليه وسلم بإبلاغ الناس كذلك بأنه لا يدري وقت تحقيق ما يوعدون به أيطول أم يقصر. فالله لا يظهر على غيبه أحدا إلاّ ما شاء ممن ارتضى من الرسل الذين يجعلهم تحت حفظه ومراقبته للتحقق من قيامهم بمهمتهم وتبليغ رسالاته التي انتدبهم إليها، ويحيط بكل أمر من أمورهم وهو المحيط بكل أمر والمحصي لكل شيء.
تعليق على مفهوم آيات الفصل ودلالته وتلقيناته
ولقد تعددت الأقوال والروايات التي يرويها المفسرون عزوا إلى ابن عباس وعلماء التابعين في مدى الآيات الثلاث الأولى١. من ذلك أنها من جملة كلام الجن المحكي في الفصل الأول٢. ومن ذلك أنها مع بقية الفصل كلام مستقل عن الجن. وتقرير قرآني مباشر. ومن ذلك أنها عنت الإنس والجن معا. ومن ذلك أنها عنت الكفار فقط.
والمتبادر المستلهم من روح الآيات أنها مع سائر آيات الفصل الثاني كلام مستقلّ وأن المقصود بالآيات الثلاث كفار العرب. وأن هذا الفصل قد جاء تعقيبا التفاتيا للفصل السابق له. ويوثق ذلك تماثل الضمير في جمل ﴿ وألو استقاموا ﴾ و﴿ كادوا يكونون ﴾ و﴿ حتى إذا رأوا ما يوعدون ﴾ وواوات العطف المستمرة في جميع آيات الفصلين.
ولعل في الآية [ ٢٤ ] صورة لما كان في نفس زعماء الكفار من استصغار لشأن النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه لما كانوا عليه من قلّة وضعف. وقد احتوت الآية ردا عليهم منددة بسخفهم متوعدة إياهم باليوم الآخر الذي يظهر فيه القوي من الضعيف والقليل من الكثير ؛ حيث لا ينفع مال ولا بنون إلاّ من أتى الله بقلب سليم. وفي هذا كما هو المتبادر تسلية وتطمين للنبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين.
ويستلهم من الآية [ ٢٥ ] أنها جواب على تساؤل الناس عن موعد قيام القيامة ؛ حيث أمرت النبي صلى الله عليه وسلم بإعلان عدم علمه به ثم عقبت الآية [ ٢٦ ] على هذا بأن ذلك من خصائص الله الذي لا يطلع على غيبه أحدا إلاّ من ارتضى من رسول. وفي هذا تماثل لموقف حكته آيات السورة السابقة [ ١٨٦ـ ١٨٧ ] مع فرق الاستثناء هنا. على أن روح الآيات هنا تلهم أنها ليست بسبيل استثناء علم ذلك الموعد. وتكرر السؤال والجواب يدلّ على أن أفكار الناس ظلّت تشتغل بالآخرة وموعدها بين مستسلم وساخر مما هو تجاوب طبيعي لكثرة ورود الوعد والوعيد بها. وقد يدل تماثل السؤال والجواب في هذه السورة وسابقتها على صحة ترتيبها في النزول.
وآيات هذا الفصل مصدر إلهام وتلقين جليل مستمر المدى. سواء أفيما احتواه من عادة الله في اختبار الناس بنعمه وتذكيرهم بواجب شكره، أم في تنزيه النفس عن الدعاء والصلاة لغير الله في كل حال، أم في نفي أي نفع وضرر من أحد على أحد إلاّ الله، أم في التنديد بالمغترين بقوتهم وعددهم. أم في تذكير الناس بإحاطة الله بكل شيء ووجوب مراقبته وابتغاء رضائه والبعد عن موجبات سخطه وغضبه.
وتتجلى صميمية النبي صلى الله عليه وسلم الرائعة واستغراقه في مهمته في إعلانه ما جاء في الآيات [ ٢٠ ـ ٢٢ ] من أنه إنما يدعو إلى الله وحده وأنه لا يملك لأحد ضرّا ولا رشدا وأنه لن يجيره من الله أحد إذا تهاون في أداء المهمة التي انتدبه إليها كما تجلّت في سياق إعلان الآية [ ١٨٧ ] من السورة السابقة.

﴿ لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا ٢٨ ﴾
تعليق على جملة
﴿ لِيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ ﴾
وبمناسبة ورود هذه الجملة في الآية الأخيرة نقول : إن مثل هذه الجملة وما في معناها قد تكرر في مواضع كثيرة مثل ﴿ لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا ﴾ [ الكهف : ١٢ ] و﴿ وما كان له عليهم من سلطان إلا لنعلم من يؤمن بالآخرة ﴾ [ سبأ : ٢١ ] و﴿ أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ﴾ [ التوبة : ١٦ ] و﴿ وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله وليعلم المؤمنين ١٦٦ وليعلم الذين نافقوا ﴾ [ آل عمران : ١٦٦ ١٦٧ ].
ولما كان علم الله تعالى محيطا وشاملا لكل ما كان ويكون ولكلّ ماض وحاضر ومستقبل ولكلّ سرّ وعلن ولكلّ ما في صدور الناس وليس من شيء من كونه وخلقه غير معلوم عنده مما قررته آيات مكية ومدنية كثيرة جدا تغني كثرتها عن التمثيل، فمن واجب المؤمن أن يؤمن بذلك وأن يعتبر مثل هذا التعبير أسلوبيا بمعنى ( ليظهر ) و( ليتبين ) و( لينكشف ) ما هو خاف على الناس من أحداث وأفعال وصور. وهذا هو ما عليه جمهور المؤولين. وهو من المألوفات الخطابية والله تعالى أعلم.
Icon