تفسير سورة سورة الجن من كتاب البحر المحيط في التفسير
.
لمؤلفه
أبو حيان الأندلسي
.
المتوفي سنة 745 هـ
سورة الجن
هذه السورة مكية. ووجه مناسبتها لما قبلها : أنه لما حكي تمادي قوم نوح في الكفر وعكوفهم على عبادة الأصنام، وكان عليه الصلاة والسلام أول رسول إلى الأرض ؛ كما أن محمداً صلى الله عليه وسلم آخر رسول إلى الأرض، والعرب الذي هو منهم عليه الصلاة والسلام كانوا عباد أصنام كقوم نوح، حتى أنهم عبدوا أصناماً مثل أصنام أولئك في الأسماء، وكان ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من القرآن هادياً إلى الرشد، وقد سمعته العرب، وتوقف عن الإيمان به أكثرهم، أنزل الله تعالى سورة الجن إثر سورة نوح، تبكيتاً لقريش والعرب في كونهم تباطؤا عن الإيمان، إذ كانت الجن خيراً لهم وأقبل للإيمان، هذا وهم من غير جنس الرسول صلى الله عليه وسلم ؛ ومع ذلك فبنفس ما سمعوا القرآن استعظموه وآمنوا به للوقت، وعرفوا أنه ليس من نمط كلام الناس، بخلاف العرب فإنه نزل بلسانهم وعرفوا كونه معجزاً، وهم مع ذلك مكذبون له ولمن جاء به حسداً وبغياً أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده.
هذه السورة مكية. ووجه مناسبتها لما قبلها : أنه لما حكي تمادي قوم نوح في الكفر وعكوفهم على عبادة الأصنام، وكان عليه الصلاة والسلام أول رسول إلى الأرض ؛ كما أن محمداً صلى الله عليه وسلم آخر رسول إلى الأرض، والعرب الذي هو منهم عليه الصلاة والسلام كانوا عباد أصنام كقوم نوح، حتى أنهم عبدوا أصناماً مثل أصنام أولئك في الأسماء، وكان ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من القرآن هادياً إلى الرشد، وقد سمعته العرب، وتوقف عن الإيمان به أكثرهم، أنزل الله تعالى سورة الجن إثر سورة نوح، تبكيتاً لقريش والعرب في كونهم تباطؤا عن الإيمان، إذ كانت الجن خيراً لهم وأقبل للإيمان، هذا وهم من غير جنس الرسول صلى الله عليه وسلم ؛ ومع ذلك فبنفس ما سمعوا القرآن استعظموه وآمنوا به للوقت، وعرفوا أنه ليس من نمط كلام الناس، بخلاف العرب فإنه نزل بلسانهم وعرفوا كونه معجزاً، وهم مع ذلك مكذبون له ولمن جاء به حسداً وبغياً أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده.
ﰡ
ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝ
ﰀ
ﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨ
ﰁ
ﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲ
ﰂ
ﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺ
ﰃ
ﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅ
ﰄ
ﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑ
ﰅ
ﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛ
ﰆ
ﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤ
ﰇ
ﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓ
ﰈ
ﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡ
ﰉ
ﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬ
ﰊ
ﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸ
ﰋ
ﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈ
ﰌ
ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛ
ﰍ
ﭝﭞﭟﭠﭡ
ﰎ
ﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩ
ﰏ
ﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵ
ﰐ
ﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾ
ﰑ
ﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉ
ﰒ
ﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒ
ﰓ
ﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛ
ﰔ
ﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨ
ﰕ
ﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛ
ﰖ
ﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧ
ﰗ
ﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳ
ﰘ
ﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻ
ﰙ
ﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉ
ﰚ
ﰋﰌﰍﰎﰏﰐﰑﰒﰓﰔﰕﰖﰗ
ﰛ
سورة الجن
[سورة الجن (٧٢) : الآيات ١ الى ٢٨]
وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً (٥) وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً (٦) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً (٧) وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً (٨) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً (٩)
وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً (١٠) وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً (١١) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً (١٢) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً (١٣) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً (١٤)
وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً (١٥) وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ مَاءً غَدَقاً (١٦) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً (١٧) وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً (١٨) وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً (١٩)
قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً (٢٠) قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً (٢١) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (٢٢) إِلاَّ بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسالاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً (٢٣) حَتَّى إِذا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً (٢٤)
قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً (٢٥) عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً (٢٦) إِلاَّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً (٢٧) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً (٢٨)
[سورة الجن (٧٢) : الآيات ١ الى ٢٨]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً (١) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً (٢) وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً (٣) وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً (٤)وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً (٥) وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً (٦) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً (٧) وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً (٨) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً (٩)
وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً (١٠) وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً (١١) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً (١٢) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً (١٣) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً (١٤)
وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً (١٥) وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ مَاءً غَدَقاً (١٦) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً (١٧) وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً (١٨) وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً (١٩)
قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً (٢٠) قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً (٢١) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (٢٢) إِلاَّ بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسالاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً (٢٣) حَتَّى إِذا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً (٢٤)
قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً (٢٥) عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً (٢٦) إِلاَّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً (٢٧) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً (٢٨)
290
الْجَدُّ: لُغَةً الْعَظَمَةُ وَالْجَلَالُ، وَجَدَّ فِي عَيْنِي: عَظُمَ وَجَلَّ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْأَخْفَشُ: الْمُلْكُ وَالسُّلْطَانُ، وَالْجَدُّ: الْحَظُّ، وَالْجَدُّ: أَبُو الْأَبِ. الْحَرْسُ: اسْمُ جَمْعٍ، الْوَاحِدُ حَارِسٌ، كَغَيْبٍ وَاحِدُهُ غَائِبٌ، وَقَدْ جُمِعَ عَلَى أَحْرَاسٍ. قَالَ الشَّاعِرُ:
تَجَاوَزْتُ أَحْرَاسًا وَأَهْوَالَ مَعْشَرٍ كَشَاهِدٍ وَأَشْهَادٍ، وَالْحَارِسُ: الْحَافِظُ لِلشَّيْءِ يَرْقُبُهُ. الْقِدَدُ: السِّيَرُ الْمُخْتَلِفَةُ، الْوَاحِدَةُ قِدَةٌ. قَالَ الشَّاعِرُ:
وَقَالَ الْكُمَيْتُ:
تَحَرَّى الشَّيْءَ: طَلَبَهُ بِاجْتِهَادٍ وَتَوَخَّاهُ وَقَصَدَهُ. الْغَدَقُ: الْكَثِيرُ. اللُّبَدُ، جَمْعُ لِبْدَةٍ:
وَهُوَ تَرَاكُمُ بَعْضِهِ فَوْقَ بَعْضٍ، وَمِنْهُ لِبْدَةُ الْأَسَدِ. وَيُقَالُ لِلْجَرَادِ الْكَثِيرِ الْمُتَرَاكِمِ: لِبَدٌ، وَمِنْهُ اللَّبَدُ الَّذِي يفرش، يلبد صوفه: دخل بَعْضَهُ فِي بَعْضٍ.
قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً، يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً، وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً، وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً، وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً، وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً، وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ
تَجَاوَزْتُ أَحْرَاسًا وَأَهْوَالَ مَعْشَرٍ كَشَاهِدٍ وَأَشْهَادٍ، وَالْحَارِسُ: الْحَافِظُ لِلشَّيْءِ يَرْقُبُهُ. الْقِدَدُ: السِّيَرُ الْمُخْتَلِفَةُ، الْوَاحِدَةُ قِدَةٌ. قَالَ الشَّاعِرُ:
الْقَابِضُ الْبَاسِطُ الْهَادِي بِطَاعَتِهِ | فِي قنية النَّاسِ إِذْ أَهْوَاؤُهُمْ قِدَدُ |
جُمِعَتْ بِالرَّأْيِ مِنْهُمْ كُلُّ رَافِضَةٍ | إِذْ هُمْ طَرَائِقُ فِي أَهْوَائِهِمْ قِدَدُ |
وَهُوَ تَرَاكُمُ بَعْضِهِ فَوْقَ بَعْضٍ، وَمِنْهُ لِبْدَةُ الْأَسَدِ. وَيُقَالُ لِلْجَرَادِ الْكَثِيرِ الْمُتَرَاكِمِ: لِبَدٌ، وَمِنْهُ اللَّبَدُ الَّذِي يفرش، يلبد صوفه: دخل بَعْضَهُ فِي بَعْضٍ.
قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً، يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً، وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً، وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً، وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً، وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً، وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ
291
لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً، وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً، وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً، وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً، وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً، وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً، وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً، وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً، وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً.
هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ. وَوَجْهُ مُنَاسَبَتِهَا لِمَا قَبْلَهَا: أَنَّهُ لَمَّا حَكَى تَمَادِي قَوْمِ نُوحٍ فِي الْكُفْرِ وَعُكُوفِهِمْ عَلَى عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، وَكَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَوَّلَ رَسُولٍ إِلَى الْأَرْضِ كَمَا أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آخِرُ رَسُولٍ إِلَى الْأَرْضِ، وَالْعَرَبُ الَّذِي هُوَ مِنْهُمْ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانُوا عُبَّادَ أَصْنَامٍ كَقَوْمِ نُوحٍ، حَتَّى أَنَّهُمْ عَبَدُوا أَصْنَامًا مِثْلَ أَصْنَامِ أُولَئِكَ فِي الْأَسْمَاءِ، وَكَانَ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الْقُرْآنِ هَادِيًا إِلَى الرُّشْدِ، وَقَدْ سَمِعَتْهُ الْعَرَبُ، وَتَوَقَّفَ عَنِ الْإِيمَانِ بِهِ أَكْثَرُهُمْ، أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى سُورَةَ الْجِنِّ إِثْرَ سُورَةِ نُوحٍ، تَبْكِيتًا لِقُرَيْشٍ وَالْعَرَبِ فِي كونهم تباطؤا عَنِ الْإِيمَانِ، إِذْ كَانَتِ الجن خيرا لهم وَأَقْبَلَ لِلْإِيمَانِ، هَذَا وَهُمْ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَ ذَلِكَ فَبِنَفْسِ مَا سَمِعُوا الْقُرْآنِ اسْتَعْظَمُوهُ وَآمَنُوا بِهِ لِلْوَقْتِ، وَعَرَفُوا أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ نَمَطِ كَلَامِ النَّاسِ، بِخِلَافِ الْعَرَبِ فَإِنَّهُ نَزَلَ بِلِسَانِهِمْ وَعَرَفُوا كَوْنَهُ مُعْجِزًا، وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ مُكَذِّبُونَ لَهُ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حَسَدًا وَبَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: قُلْ أُوحِيَ رُبَاعِيًّا وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ وَالْعَتَكِيُّ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو، وَأَبُو أُنَاسٍ جُوَيَّةُ بن عائذ الْأَسَدِيُّ: وَحَى ثُلَاثِيًّا، يُقَالُ: وَحَى وَأَوْحَى بِمَعْنًى وَاحِدٍ. قَالَ الْعَجَّاجُ: وَحَى إِلَيْهَا الْقَرَارَ فَاسْتَقَرَّتْ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَجُوَيَّةُ، فِيمَا رُوِيَ عَنِ الْكِسَائِيِّ وَابْنِ أَبِي عَبْلَةَ أَيْضًا: أَحَى بِإِبْدَالِ الْوَاوِ هَمْزَةً، كَمَا قَالُوا فِي وَعَدَ أَعَدَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:
وَهُوَ مِنَ الْقَلْبِ الْمُطْلَقِ جَوَازُهُ فِي كُلِّ وَاوٍ مَضْمُومَةٍ. انْتَهَى. وَلَيْسَ كَمَا ذَكَرَ، بَلْ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ، وَذَلِكَ أَنَّ الْوَاوَ الْمَضْمُومَةَ قَدْ تَكُونُ أَوَّلًا وَحَشْوًا وَآخِرًا، وَلِكُلٍّ مِنْهَا أَحْكَامٌ، وَفِي بَعْضِهَا خِلَافٍ وَتَفْصِيلٍ مَذْكُورٍ فِي النَّحْوِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقَدْ أَطْلَقَهُ الْمَازِنِيُّ فِي الْمَكْسُورِ أَيْضًا، كِإِشَاحٍ وَإِسَادَةٍ وَإِعَاءِ أَخِيهِ. انْتَهَى، وَهَذَا تَكْثِيرٌ وَتَبَجُّحٌ. وَكَانَ يَذْكُرُ هَذَا فِي وِعاءِ أَخِيهِ «١» فِي سُورَةِ يُوسُفَ. وَعَنِ الْمَازِنِيِّ فِي ذَلِكَ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: الْقِيَاسُ كَمَا قَالَ، وَالْآخَرُ: قَصْرُ ذَلِكَ عَلَى السَّمَاعِ.
هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ. وَوَجْهُ مُنَاسَبَتِهَا لِمَا قَبْلَهَا: أَنَّهُ لَمَّا حَكَى تَمَادِي قَوْمِ نُوحٍ فِي الْكُفْرِ وَعُكُوفِهِمْ عَلَى عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، وَكَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَوَّلَ رَسُولٍ إِلَى الْأَرْضِ كَمَا أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آخِرُ رَسُولٍ إِلَى الْأَرْضِ، وَالْعَرَبُ الَّذِي هُوَ مِنْهُمْ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانُوا عُبَّادَ أَصْنَامٍ كَقَوْمِ نُوحٍ، حَتَّى أَنَّهُمْ عَبَدُوا أَصْنَامًا مِثْلَ أَصْنَامِ أُولَئِكَ فِي الْأَسْمَاءِ، وَكَانَ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الْقُرْآنِ هَادِيًا إِلَى الرُّشْدِ، وَقَدْ سَمِعَتْهُ الْعَرَبُ، وَتَوَقَّفَ عَنِ الْإِيمَانِ بِهِ أَكْثَرُهُمْ، أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى سُورَةَ الْجِنِّ إِثْرَ سُورَةِ نُوحٍ، تَبْكِيتًا لِقُرَيْشٍ وَالْعَرَبِ فِي كونهم تباطؤا عَنِ الْإِيمَانِ، إِذْ كَانَتِ الجن خيرا لهم وَأَقْبَلَ لِلْإِيمَانِ، هَذَا وَهُمْ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَ ذَلِكَ فَبِنَفْسِ مَا سَمِعُوا الْقُرْآنِ اسْتَعْظَمُوهُ وَآمَنُوا بِهِ لِلْوَقْتِ، وَعَرَفُوا أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ نَمَطِ كَلَامِ النَّاسِ، بِخِلَافِ الْعَرَبِ فَإِنَّهُ نَزَلَ بِلِسَانِهِمْ وَعَرَفُوا كَوْنَهُ مُعْجِزًا، وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ مُكَذِّبُونَ لَهُ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حَسَدًا وَبَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: قُلْ أُوحِيَ رُبَاعِيًّا وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ وَالْعَتَكِيُّ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو، وَأَبُو أُنَاسٍ جُوَيَّةُ بن عائذ الْأَسَدِيُّ: وَحَى ثُلَاثِيًّا، يُقَالُ: وَحَى وَأَوْحَى بِمَعْنًى وَاحِدٍ. قَالَ الْعَجَّاجُ: وَحَى إِلَيْهَا الْقَرَارَ فَاسْتَقَرَّتْ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَجُوَيَّةُ، فِيمَا رُوِيَ عَنِ الْكِسَائِيِّ وَابْنِ أَبِي عَبْلَةَ أَيْضًا: أَحَى بِإِبْدَالِ الْوَاوِ هَمْزَةً، كَمَا قَالُوا فِي وَعَدَ أَعَدَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:
وَهُوَ مِنَ الْقَلْبِ الْمُطْلَقِ جَوَازُهُ فِي كُلِّ وَاوٍ مَضْمُومَةٍ. انْتَهَى. وَلَيْسَ كَمَا ذَكَرَ، بَلْ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ، وَذَلِكَ أَنَّ الْوَاوَ الْمَضْمُومَةَ قَدْ تَكُونُ أَوَّلًا وَحَشْوًا وَآخِرًا، وَلِكُلٍّ مِنْهَا أَحْكَامٌ، وَفِي بَعْضِهَا خِلَافٍ وَتَفْصِيلٍ مَذْكُورٍ فِي النَّحْوِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقَدْ أَطْلَقَهُ الْمَازِنِيُّ فِي الْمَكْسُورِ أَيْضًا، كِإِشَاحٍ وَإِسَادَةٍ وَإِعَاءِ أَخِيهِ. انْتَهَى، وَهَذَا تَكْثِيرٌ وَتَبَجُّحٌ. وَكَانَ يَذْكُرُ هَذَا فِي وِعاءِ أَخِيهِ «١» فِي سُورَةِ يُوسُفَ. وَعَنِ الْمَازِنِيِّ فِي ذَلِكَ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: الْقِيَاسُ كَمَا قَالَ، وَالْآخَرُ: قَصْرُ ذَلِكَ عَلَى السَّمَاعِ.
(١) سورة يوسف: ١٢/ ٧٦.
292
وأَنَّهُ اسْتَمَعَ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ أَيْ اسْتِمَاعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّ هَذَا الِاسْتِمَاعَ هُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْأَحْقَافِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ «١»، وَهِيَ قِصَّةٌ وَاحِدَةٌ. وَقِيلَ: قِصَّتَانِ، وَالْجِنُّ الَّذِينَ أَتَوْهُ بِمَكَّةَ جِنُّ نَصِيبِينَ، وَالَّذِينَ أَتَوْهُ بِنَخْلَةَ جِنُّ نَيْنَوَى، وَالسُّورَةُ الَّتِي اسْتَمَعُوهَا، قَالَ عِكْرِمَةُ: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ «٢». وَقِيلَ: سُورَةُ الرَّحْمَنِ. وَلَمْ تَتَعَرَّضِ الْآيَةُ، لَا هُنَا وَلَا فِي سُورَةِ الْأَحْقَافِ، إِلَى أَنَّهُ رَآهُمْ وَكَلَّمَهُمْ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَيَظْهَرُ مِنَ
الْحَدِيثِ «أَنَّ ذَلِكَ كَانَ مَرَّتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا: فِي مَبْدَأِ مَبْعَثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ فِي الْوَقْتِ الَّذِي أَخْبَرَ فِيهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ لَيْلَةَ الْجِنِّ، وَقَدْ كَانُوا فَقَدُوهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَالْتَمَسُوهُ فِي الْأَوْدِيَةِ وَالشِّعَابِ فَلَمْ يَجِدُوهُ. فَلَمَّا أَصْبَحَ، إِذَا هُوَ جَاءٍ مِنْ قِبَلِ حِرَاءٍ، وَفِيهِ أَتَانِي دَاعِي الْجِنِّ، فَذَهَبْتُ مَعَهُ وَقَرَأْتُ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ، فَانْطَلَقَ بِنَا وَأَرَانَا آثَارَهُمْ وَآثَارَ نَارِهِمْ. وَالْمَرَّةُ الْأُخْرَى: كَانَ مَعَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَقَدِ اسْتَنْدَبَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من يَقُومُ مَعَهُ إِلَى أَنْ يَتْلُوَ الْقُرْآنَ عَلَى الْجِنِّ، فَلَمْ يَقُمْ أَحَدٌ غَيْرُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، فَذَهَبَ مَعَهُ إِلَى الْحَجُونِ عِنْدَ الشِّعْبِ، فَخَطَّ عَلَيْهِ خَطًّا وَقَالَ: لَا تُجَاوِزْهُ. فَانْحَدَرَ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْثَالُ الْحَجَرِ يَجُرُّونَ الْحِجَارَةَ بِأَقْدَامِهِمْ يَمْشُونَ يَقْرَعُونَ فِي دُفُوفِهِمْ كَمَا تَقْرَعُ النِّسْوَةُ فِي دُفُوفِهِنَّ حَتَّى غَشَوْهُ فَلَا أَرَاهُ فَقُمْتُ فَأَوْمَأَ إِلَيَّ بِيَدِهِ أَنِ اجْلِسْ فَتَلَا الْقُرْآنَ فَلَمْ يَزَلْ صَوْتُهُ يَرْتَفِعُ وَاخْتَفَوْا فِي الْأَرْضِ حَتَّى مَا أَرَاهُمْ».
الْحَدِيثِ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمَا قِصَّتَانِ، اخْتِلَافُهُمْ فِي الْعَدَدِ، فَقِيلَ: سَبْعَةٌ، وَقِيلَ:
تِسْعَةٌ، وَعَنْ زِرٍّ: كَانُوا ثَلَاثَةً مِنْ أَهْلِ حَرَّانَ، وَأَرْبَعَةً مِنْ أَهْلِ نَصِيبِينَ، قَرْيَةٌ بِالْيَمَنِ غَيْرُ الْقَرْيَةِ الَّتِي بِالْعِرَاقِ. وَعَنْ عِكْرِمَةَ: كَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا مِنْ جَزِيرَةِ الْمُوصِلِ، وَأَيْنَ سَبْعَةٌ مِنَ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا؟
فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً: أَيْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ لَمَّا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ، وَوَصَفُوا قُرْآنًا بِقَوْلِهِمْ عَجَباً وَصْفًا بِالْمَصْدَرِ عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ، أَيْ هُوَ عَجَبٌ فِي نَفْسِهِ لِفَصَاحَةِ كَلَامِهِ، وَحُسْنِ مَبَانِيهِ، وَدِقَّةِ مَعَانِيهِ، وَغَرَابَةِ أُسْلُوبِهِ، وَبَلَاغَةِ مَوَاعِظِهِ، وَكَوْنِهِ مُبَايِنًا لِسَائِرِ الْكُتُبِ. وَالْعَجَبُ مَا خَرَجَ عَنْ أَحَدِ أَشْكَالِهِ وَنَظَائِرِهِ. يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ: أَيْ يَدْعُو إِلَى الصَّوَابِ. وَقِيلَ: إِلَى التَّوْحِيدِ وَالْإِيمَانِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: الرُّشْدِ بِضَمِّ الرَّاءِ وَسُكُونِ الشِّينِ وَعِيسَى: بِضَمِّهِمَا وَعَنْهُ أَيْضًا: فَتْحُهُمَا. فَآمَنَّا بِهِ: أَيْ بِالْقُرْآنِ. وَلَمَّا كان
الْحَدِيثِ «أَنَّ ذَلِكَ كَانَ مَرَّتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا: فِي مَبْدَأِ مَبْعَثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ فِي الْوَقْتِ الَّذِي أَخْبَرَ فِيهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ لَيْلَةَ الْجِنِّ، وَقَدْ كَانُوا فَقَدُوهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَالْتَمَسُوهُ فِي الْأَوْدِيَةِ وَالشِّعَابِ فَلَمْ يَجِدُوهُ. فَلَمَّا أَصْبَحَ، إِذَا هُوَ جَاءٍ مِنْ قِبَلِ حِرَاءٍ، وَفِيهِ أَتَانِي دَاعِي الْجِنِّ، فَذَهَبْتُ مَعَهُ وَقَرَأْتُ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ، فَانْطَلَقَ بِنَا وَأَرَانَا آثَارَهُمْ وَآثَارَ نَارِهِمْ. وَالْمَرَّةُ الْأُخْرَى: كَانَ مَعَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَقَدِ اسْتَنْدَبَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من يَقُومُ مَعَهُ إِلَى أَنْ يَتْلُوَ الْقُرْآنَ عَلَى الْجِنِّ، فَلَمْ يَقُمْ أَحَدٌ غَيْرُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، فَذَهَبَ مَعَهُ إِلَى الْحَجُونِ عِنْدَ الشِّعْبِ، فَخَطَّ عَلَيْهِ خَطًّا وَقَالَ: لَا تُجَاوِزْهُ. فَانْحَدَرَ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْثَالُ الْحَجَرِ يَجُرُّونَ الْحِجَارَةَ بِأَقْدَامِهِمْ يَمْشُونَ يَقْرَعُونَ فِي دُفُوفِهِمْ كَمَا تَقْرَعُ النِّسْوَةُ فِي دُفُوفِهِنَّ حَتَّى غَشَوْهُ فَلَا أَرَاهُ فَقُمْتُ فَأَوْمَأَ إِلَيَّ بِيَدِهِ أَنِ اجْلِسْ فَتَلَا الْقُرْآنَ فَلَمْ يَزَلْ صَوْتُهُ يَرْتَفِعُ وَاخْتَفَوْا فِي الْأَرْضِ حَتَّى مَا أَرَاهُمْ».
الْحَدِيثِ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمَا قِصَّتَانِ، اخْتِلَافُهُمْ فِي الْعَدَدِ، فَقِيلَ: سَبْعَةٌ، وَقِيلَ:
تِسْعَةٌ، وَعَنْ زِرٍّ: كَانُوا ثَلَاثَةً مِنْ أَهْلِ حَرَّانَ، وَأَرْبَعَةً مِنْ أَهْلِ نَصِيبِينَ، قَرْيَةٌ بِالْيَمَنِ غَيْرُ الْقَرْيَةِ الَّتِي بِالْعِرَاقِ. وَعَنْ عِكْرِمَةَ: كَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا مِنْ جَزِيرَةِ الْمُوصِلِ، وَأَيْنَ سَبْعَةٌ مِنَ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا؟
فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً: أَيْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ لَمَّا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ، وَوَصَفُوا قُرْآنًا بِقَوْلِهِمْ عَجَباً وَصْفًا بِالْمَصْدَرِ عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ، أَيْ هُوَ عَجَبٌ فِي نَفْسِهِ لِفَصَاحَةِ كَلَامِهِ، وَحُسْنِ مَبَانِيهِ، وَدِقَّةِ مَعَانِيهِ، وَغَرَابَةِ أُسْلُوبِهِ، وَبَلَاغَةِ مَوَاعِظِهِ، وَكَوْنِهِ مُبَايِنًا لِسَائِرِ الْكُتُبِ. وَالْعَجَبُ مَا خَرَجَ عَنْ أَحَدِ أَشْكَالِهِ وَنَظَائِرِهِ. يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ: أَيْ يَدْعُو إِلَى الصَّوَابِ. وَقِيلَ: إِلَى التَّوْحِيدِ وَالْإِيمَانِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: الرُّشْدِ بِضَمِّ الرَّاءِ وَسُكُونِ الشِّينِ وَعِيسَى: بِضَمِّهِمَا وَعَنْهُ أَيْضًا: فَتْحُهُمَا. فَآمَنَّا بِهِ: أَيْ بِالْقُرْآنِ. وَلَمَّا كان
(١) سورة الأحقاف: ٤٦/ ٢٩.
(٢) سورة العلق: ٩٦/ ١.
(٢) سورة العلق: ٩٦/ ١.
293
الْإِيمَانُ بِهِ مُتَضَمِّنًا الْإِيمَانَ بِاللَّهِ وَبِوَحْدَانِيَّتِهِ وَبَرَاءَةٍ مِنَ الشِّرْكِ قَالُوا: وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً.
وَقَرَأَ الْحَرَمِيَّانِ وَالْأَبَوَانِ: بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ مِنْ قَوْلِهِ: وَأَنَّهُ تَعالى وَمَا بَعْدَهُ، وَهِيَ اثْنَتَا عَشْرَةَ آيَةً آخِرُهَا وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَبَاقِي السَّبْعَةِ: بِالْكَسْرِ. فَأَمَّا الْكَسْرُ فَوَاضِحٌ لِأَنَّهَا مَعْطُوفَاتٌ عَلَى قَوْلِهِ: إِنَّا سَمِعْنا، فَهِيَ دَاخِلَةٌ فِي مَعْمُولِ الْقَوْلِ. وَأَمَّا الْفَتْحُ، فَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: هُوَ عَلَى أُوحِيَ، فَهُوَ كُلُّهُ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ. انْتَهَى. وَهَذَا لَا يَصِحُّ، لِأَنَّ مِنَ الْمَعْطُوفَاتِ مَا لَا يَصِحُّ دُخُولُهُ تَحْتَ أُوحِيَ، وَهُوَ كُلُّ مَا كَانَ فِيهِ ضَمِيرُ الْمُتَكَلِّمِ، كَقَوْلِهِ: وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُلَائِمُ أُوحِيَ إِلَيَّ، أَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ، وَكَذَلِكَ بَاقِيهَا؟ وَخَرَجَتْ قِرَاءَةُ الْفَتْحِ عَلَى أَنَّ تِلْكَ كُلَّهَا مَعْطُوفَةٌ عَلَى الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ فِي بِهِ مِنْ قَوْلِهِ: فَآمَنَّا بِهِ: أَيْ وَبِأَنَّهُ، وَكَذَلِكَ بَاقِيهَا، وَهَذَا جَائِزٌ عَلَى مَذْهَبِ الْكُوفِيِّينَ، وَهُوَ الصَّحِيحُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ احْتِجَاجُنَا عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ «١». وَقَالَ مَكِّيٌّ: هُوَ أَجْوَدُ فِي أَنَّ مِنْهُ فِي غَيْرِهَا لِكَثْرَةِ حَذْفُ حَرْفِ الْجَرِّ مَعَ أَنَّ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: وَجْهُهُ أَنْ يَكُونَ مَحْمُولًا عَلَى آمَنَّا بِهِ، لِأَنَّهُ مَعْنَاهُ:
صَدَّقْنَاهُ وَعَلِمْنَاهُ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: فَآمَنَّا بِهِ أَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا وَسَبَقَهُ إِلَى نَحْوِهِ الْفَرَّاءُ قَالَ:
فُتِحَتْ أَنَّ لِوُقُوعِ الْإِيمَانِ عَلَيْهَا، وَأَنْتَ تَجِدُ الْإِيمَانَ يَحْسُنُ فِي بَعْضِ مَا فُتِحَ دُونَ بَعْضٍ، فَلَا يَمْنَعُكَ ذَلِكَ مِنْ إِمْضَائِهِنَّ عَلَى الْفَتْحِ، فَإِنَّهُ يَحْسُنُ فِيهِ مَا يُوجِبُ فَتْحَ أَنَّ نَحْوُ: صَدَّقْنَا وَشَهِدْنَا.
وَأَشَارَ الْفَرَّاءُ إِلَى أَنَّ بَعْضَ مَا فُتِحَ لَا يُنَاسِبُ تَسْلِيطَ آمَنَّا عَلَيْهِ، نَحْوُ قَوْلِهِ: وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً، وَتَبِعَهُمَا الزَّمَخْشَرِيُّ فَقَالَ: وَمَنْ فَتَحَ كُلَّهُنَّ فعَطْفًا عَلَى مَحَلِّ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ فِي آمَنَّا بِهِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: صَدَّقْنَاهُ وَصَدَّقْنَا أَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا، وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا، وَكَذَلِكَ الْبَوَاقِي. انْتَهَى. وَلَمْ يَتَفَطَّنْ لِمَا تَفَطَّنَ لَهُ الْفَرَّاءُ مِنْ أَنَّ بَعْضَهَا لَا يَحْسُنُ أَنْ يَعْمَلَ فِيهِ آمَنَّا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: جَدُّ رَبِّنا، بِفَتْحِ الْجِيمِ وَرَفْعِ الدَّالِ، مُضَافًا إِلَى رَبِّنَا: أَيْ عَظَّمَتُهُ، قَالَهُ الْجُمْهُورُ. وَقَالَ أَنَسٌ وَالْحَسَنُ: غِنَاهُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ:
ذِكْرُهُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَدْرُهُ وَأَمْرُهُ. وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ: جَدٌّ مُنَوَّنًا، رَبُّنَا مَرْفُوعَ الْبَاءِ، كَأَنَّهُ قَالَ:
عَظِيمٌ هُوَ رَبُّنَا، فَرَبُّنَا بَدَلٌ، وَالْجَدُّ فِي اللُّغَةِ الْعَظِيمُ. وَقَرَأَ حُمَيْدُ بْنُ قَيْسٍ: جَدٌّ بِضَمِّ الْجِيمِ مُضَافًا وَمَعْنَاهُ الْعَظِيمُ، حَكَاهُ سِيبَوَيْهِ، وَهُوَ مِنْ إِضَافَةِ الصِّفَةِ إِلَى الْمَوْصُوفِ، والمعنى:
وَقَرَأَ الْحَرَمِيَّانِ وَالْأَبَوَانِ: بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ مِنْ قَوْلِهِ: وَأَنَّهُ تَعالى وَمَا بَعْدَهُ، وَهِيَ اثْنَتَا عَشْرَةَ آيَةً آخِرُهَا وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَبَاقِي السَّبْعَةِ: بِالْكَسْرِ. فَأَمَّا الْكَسْرُ فَوَاضِحٌ لِأَنَّهَا مَعْطُوفَاتٌ عَلَى قَوْلِهِ: إِنَّا سَمِعْنا، فَهِيَ دَاخِلَةٌ فِي مَعْمُولِ الْقَوْلِ. وَأَمَّا الْفَتْحُ، فَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: هُوَ عَلَى أُوحِيَ، فَهُوَ كُلُّهُ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ. انْتَهَى. وَهَذَا لَا يَصِحُّ، لِأَنَّ مِنَ الْمَعْطُوفَاتِ مَا لَا يَصِحُّ دُخُولُهُ تَحْتَ أُوحِيَ، وَهُوَ كُلُّ مَا كَانَ فِيهِ ضَمِيرُ الْمُتَكَلِّمِ، كَقَوْلِهِ: وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُلَائِمُ أُوحِيَ إِلَيَّ، أَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ، وَكَذَلِكَ بَاقِيهَا؟ وَخَرَجَتْ قِرَاءَةُ الْفَتْحِ عَلَى أَنَّ تِلْكَ كُلَّهَا مَعْطُوفَةٌ عَلَى الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ فِي بِهِ مِنْ قَوْلِهِ: فَآمَنَّا بِهِ: أَيْ وَبِأَنَّهُ، وَكَذَلِكَ بَاقِيهَا، وَهَذَا جَائِزٌ عَلَى مَذْهَبِ الْكُوفِيِّينَ، وَهُوَ الصَّحِيحُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ احْتِجَاجُنَا عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ «١». وَقَالَ مَكِّيٌّ: هُوَ أَجْوَدُ فِي أَنَّ مِنْهُ فِي غَيْرِهَا لِكَثْرَةِ حَذْفُ حَرْفِ الْجَرِّ مَعَ أَنَّ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: وَجْهُهُ أَنْ يَكُونَ مَحْمُولًا عَلَى آمَنَّا بِهِ، لِأَنَّهُ مَعْنَاهُ:
صَدَّقْنَاهُ وَعَلِمْنَاهُ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: فَآمَنَّا بِهِ أَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا وَسَبَقَهُ إِلَى نَحْوِهِ الْفَرَّاءُ قَالَ:
فُتِحَتْ أَنَّ لِوُقُوعِ الْإِيمَانِ عَلَيْهَا، وَأَنْتَ تَجِدُ الْإِيمَانَ يَحْسُنُ فِي بَعْضِ مَا فُتِحَ دُونَ بَعْضٍ، فَلَا يَمْنَعُكَ ذَلِكَ مِنْ إِمْضَائِهِنَّ عَلَى الْفَتْحِ، فَإِنَّهُ يَحْسُنُ فِيهِ مَا يُوجِبُ فَتْحَ أَنَّ نَحْوُ: صَدَّقْنَا وَشَهِدْنَا.
وَأَشَارَ الْفَرَّاءُ إِلَى أَنَّ بَعْضَ مَا فُتِحَ لَا يُنَاسِبُ تَسْلِيطَ آمَنَّا عَلَيْهِ، نَحْوُ قَوْلِهِ: وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً، وَتَبِعَهُمَا الزَّمَخْشَرِيُّ فَقَالَ: وَمَنْ فَتَحَ كُلَّهُنَّ فعَطْفًا عَلَى مَحَلِّ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ فِي آمَنَّا بِهِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: صَدَّقْنَاهُ وَصَدَّقْنَا أَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا، وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا، وَكَذَلِكَ الْبَوَاقِي. انْتَهَى. وَلَمْ يَتَفَطَّنْ لِمَا تَفَطَّنَ لَهُ الْفَرَّاءُ مِنْ أَنَّ بَعْضَهَا لَا يَحْسُنُ أَنْ يَعْمَلَ فِيهِ آمَنَّا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: جَدُّ رَبِّنا، بِفَتْحِ الْجِيمِ وَرَفْعِ الدَّالِ، مُضَافًا إِلَى رَبِّنَا: أَيْ عَظَّمَتُهُ، قَالَهُ الْجُمْهُورُ. وَقَالَ أَنَسٌ وَالْحَسَنُ: غِنَاهُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ:
ذِكْرُهُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَدْرُهُ وَأَمْرُهُ. وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ: جَدٌّ مُنَوَّنًا، رَبُّنَا مَرْفُوعَ الْبَاءِ، كَأَنَّهُ قَالَ:
عَظِيمٌ هُوَ رَبُّنَا، فَرَبُّنَا بَدَلٌ، وَالْجَدُّ فِي اللُّغَةِ الْعَظِيمُ. وَقَرَأَ حُمَيْدُ بْنُ قَيْسٍ: جَدٌّ بِضَمِّ الْجِيمِ مُضَافًا وَمَعْنَاهُ الْعَظِيمُ، حَكَاهُ سِيبَوَيْهِ، وَهُوَ مِنْ إِضَافَةِ الصِّفَةِ إِلَى الْمَوْصُوفِ، والمعنى:
(١) سورة البقرة: ٢/ ٢١٧.
294
تَعَالَى رَبُّنَا الْعَظِيمُ. وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ: جَدًّا رَبُّنَا، بِفَتْحِ الْجِيمِ وَالدَّالِ مُنَوَّنًا، وَرَفَعَ رَبُّنَا وَانْتَصَبَ جَدًّا عَلَى التَّمْيِيزِ الْمَنْقُولِ مِنَ الْفَاعِلِ، أَصْلُهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا. وَقَرَأَ قَتَادَةُ وَعِكْرِمَةُ أَيْضًا:
جِدًّا بِكَسْرِ الْجِيمِ وَالتَّنْوِينِ نَصْبًا، رَبُّنَا رُفِعَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: نَصَبَ جِدًّا عَلَى الْحَالِ، وَمَعْنَاهُ: تَعَالَى حَقِيقَةً وَمُتَمِكِّنًا. وَقَالَ غَيْرُهُ: هُوَ صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: تَعَالَيَا جِدًّا، وَرَبُّنَا مَرْفُوعٌ بتَعَالَى. وَقَرَأَ ابْنُ السميفع: جَدَّيْ رَبِّنَا، أَيْ جَدْوَاهُ وَنَفْعُهُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ:
يَقُولُ سَفِيهُنا: هُوَ إِبْلِيسُ. وَقِيلَ: هُوَ اسْمُ جِنْسٍ لِكُلِّ سَفِيهٍ، وَإِبْلِيسُ مُقَدَّمُ السُّفَهَاءِ.
وَالشَّطَطُ: التَّعَدِّي وَتَجَاوُزُ الْجِدِّ. قَالَ الْأَعْشَى:
وَيُقَالُ: أَشَطَّ فِي السَّوْمِ إِذَا أَبْعَدَ فِيهِ، أَيْ قَوْلًا هُوَ فِي نَفْسِهِ شَطَطٌ، وَهُوَ نِسْبَةُ الصَّاحِبَةِ وَالْوَلَدِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَأَنَّا ظَنَنَّا الْآيَةِ: أَيْ كُنَّا حَسَّنَّا الظَّنَّ بِالْإِنْسِ وَالْجِنِّ، وَاعْتَقَدْنَا أن أحدا لا يجترىء عَلَى أَنْ يَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ فَيَنْسِبَ إِلَيْهِ الصَّاحِبَةَ وَالْوَلَدَ، فَاعْتَقَدْنَا صِحَّةَ مَا أَغْوَانَا بِهِ إِبْلِيسُ وَمَرَدَتُهُ حَتَّى سَمِعْنَا الْقُرْآنَ فَتَبَيَّنَّا كَذِبَهُمْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: أَنْ لَنْ تَقُولَ مُضَارِعُ قَالَ وَالْحَسَنُ وَالْجَحْدَرِيُّ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرَةَ وَيَعْقُوبُ وَابْنُ مِقْسَمٍ: تَقَوَّلَ مُضَارِعُ تَتَقَوَّلُ، حُذِفَتْ إِحْدَى التَّاءَيْنِ وَانْتَصَبَ كَذِباً فِي قِرَاءَةِ الجمهور بتقول، لِأَنَّ الْكَذِبَ نَوْعٌ مِنَ الْقَوْلِ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ قَوْلًا كَذِبًا، أَيْ مَكْذُوبًا فِيهِ.
وَفِي قِرَاءَةِ الشَّاذِّ على أنه مصدر لتقول، لِأَنَّهُ هُوَ الْكَذِبُ، فَصَارَ كقعدت جُلُوسًا.
وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ. رَوَى الْجُمْهُورُ أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ إِذَا أَرَادَ الْمَبِيتَ أَوِ الْحُلُولَ فِي وَادٍ نَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا عَزِيزَ هَذَا الْوَادِي إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ السُّفَهَاءِ الَّذِينَ فِي طَاعَتِكَ، فَيَعْتَقِدُ بِذَلِكَ أَنَّ الْجِنِّيَّ الَّذِي بِالْوَادِي يَمْنَعُهُ وَيَحْمِيهِ. فَرُوِيَ أَنَّ الْجِنَّ كَانَتْ تَقُولُ عِنْدَ ذَلِكَ:
لَا نَمْلِكُ لَكُمْ وَلَا لِأَنْفُسِنَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا. قَالَ مُقَاتِلٌ: أَوَّلُ مَنْ تَعَوَّذَ بِالْجِنِّ قَوْمٌ مِنَ الْيَمَنِ، ثُمَّ بَنُو حَنِيفَةَ، ثُمَّ فَشَا ذَلِكَ فِي الْعَرَبِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ الْمَرْفُوعَ فِي فَزادُوهُمْ عَائِدٌ عَلَى رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ، إِذْ هُمُ الْمُحَدَّثُ عَنْهُمْ، وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَالنَّخَعِيِّ وَعُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ. فَزادُوهُمْ أَيِ الْإِنْسُ، رَهَقاً: أَيْ جَرَاءَةً وَانْتِخَاءً وُطُغْيَانًا وَغِشْيَانَ الْمَحَارِمِ وَإِعْجَابًا بِحَيْثُ قَالُوا: سُدْنَا الْإِنْسَ وَالْجِنَّ، وَفَسَّرَ قَوْمٌ الرَّهَقَ بِالْإِثْمِ. وَأَنْشَدَ الطَّبَرِيُّ فِي ذَلِكَ بَيْتَ الْأَعْشَى:
جِدًّا بِكَسْرِ الْجِيمِ وَالتَّنْوِينِ نَصْبًا، رَبُّنَا رُفِعَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: نَصَبَ جِدًّا عَلَى الْحَالِ، وَمَعْنَاهُ: تَعَالَى حَقِيقَةً وَمُتَمِكِّنًا. وَقَالَ غَيْرُهُ: هُوَ صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: تَعَالَيَا جِدًّا، وَرَبُّنَا مَرْفُوعٌ بتَعَالَى. وَقَرَأَ ابْنُ السميفع: جَدَّيْ رَبِّنَا، أَيْ جَدْوَاهُ وَنَفْعُهُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ:
يَقُولُ سَفِيهُنا: هُوَ إِبْلِيسُ. وَقِيلَ: هُوَ اسْمُ جِنْسٍ لِكُلِّ سَفِيهٍ، وَإِبْلِيسُ مُقَدَّمُ السُّفَهَاءِ.
وَالشَّطَطُ: التَّعَدِّي وَتَجَاوُزُ الْجِدِّ. قَالَ الْأَعْشَى:
أَيَنْتَهُونَ وَلَنْ ينهى ذوو شَطَطٍ | كَالطَّعْنِ يَذْهَبُ فِيهِ الزَّيْتُ وَالْفُتُلُ |
وَفِي قِرَاءَةِ الشَّاذِّ على أنه مصدر لتقول، لِأَنَّهُ هُوَ الْكَذِبُ، فَصَارَ كقعدت جُلُوسًا.
وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ. رَوَى الْجُمْهُورُ أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ إِذَا أَرَادَ الْمَبِيتَ أَوِ الْحُلُولَ فِي وَادٍ نَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا عَزِيزَ هَذَا الْوَادِي إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ السُّفَهَاءِ الَّذِينَ فِي طَاعَتِكَ، فَيَعْتَقِدُ بِذَلِكَ أَنَّ الْجِنِّيَّ الَّذِي بِالْوَادِي يَمْنَعُهُ وَيَحْمِيهِ. فَرُوِيَ أَنَّ الْجِنَّ كَانَتْ تَقُولُ عِنْدَ ذَلِكَ:
لَا نَمْلِكُ لَكُمْ وَلَا لِأَنْفُسِنَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا. قَالَ مُقَاتِلٌ: أَوَّلُ مَنْ تَعَوَّذَ بِالْجِنِّ قَوْمٌ مِنَ الْيَمَنِ، ثُمَّ بَنُو حَنِيفَةَ، ثُمَّ فَشَا ذَلِكَ فِي الْعَرَبِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ الْمَرْفُوعَ فِي فَزادُوهُمْ عَائِدٌ عَلَى رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ، إِذْ هُمُ الْمُحَدَّثُ عَنْهُمْ، وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَالنَّخَعِيِّ وَعُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ. فَزادُوهُمْ أَيِ الْإِنْسُ، رَهَقاً: أَيْ جَرَاءَةً وَانْتِخَاءً وُطُغْيَانًا وَغِشْيَانَ الْمَحَارِمِ وَإِعْجَابًا بِحَيْثُ قَالُوا: سُدْنَا الْإِنْسَ وَالْجِنَّ، وَفَسَّرَ قَوْمٌ الرَّهَقَ بِالْإِثْمِ. وَأَنْشَدَ الطَّبَرِيُّ فِي ذَلِكَ بَيْتَ الْأَعْشَى: