تفسير سورة الشرح

السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير
تفسير سورة سورة الشرح من كتاب السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير .
لمؤلفه الشربيني . المتوفي سنة 977 هـ
مكية، وهي ثمان آيات، وتسع وعشرون كلمة، ومائة وثلاثة أحرف.
﴿ بسم الله ﴾ الظاهر الباطن الملك العلام ﴿ الرحمن ﴾ الذي عمّ المخلوقين بالإنعام ﴿ الرحيم ﴾ الذي خص أولياءه بدار السلام.

وقوله تعالى :﴿ ألم نشرح ﴾ استفهام تقرير، أي : شرحنا بما يليق بعظمتنا ﴿ لك ﴾ يا أشرف الخلق ﴿ صدرك ﴾ بالنبوّة وغيرها حتى وسع مناجاتنا ودعوة الخلق، أو فسحناه بما أودعنا فيه من الحكم والعلوم وأزلنا عنه الضيق والحرج الذي كان يكون معه العمى والجهل. وعن الحسن : ملئ حكمة وعلماً.
وقيل : إنه إشارة إلى ما روي أنّ جبريل عليه السلام أتى النبي صلى الله عليه وسلم في صباه أو في يوم الميثاق فاستخرج قلبه فغسله ثم ملأه إيماناً وعلماً.
فإن قيل : لم قال تعالى صدرك ولم يقل قلبك ؟ أجيب : بأن محل الوسوسة هو الصدر كما قال تعالى :﴿ يوسوس في صدور الناس ﴾ [ الناس : ٥ ] وأبدلها بدواعي الخير فلذلك خص الشرح بالصدر دون القلب. و قال محمد بن علي الترمذي : القلب محل العقل والمعرفة، والشيطان يجيء إلى الصدر الذي هو حصن القلب، فإذا وجد مسلكاً أغار فيه وثبت جنده فيه وبث فيه الهموم والغموم والحرص فيضيق القلب حينئذ ولا يجد للطاعة لذة ولا للإسلام حلاوة، فإذا طرد العدوّ في الابتداء حصل الأمن وانشرح الصدر.
فإن قيل : لم قال تعالى :﴿ ألم نشرح لك صدرك ﴾ ولم يقل : ألم نشرح صدرك ؟ أجيب : بوجهين :
أحدهما : كأنه تعالى يقول : لام بلام، فأنت إنما تفعل جميع الطاعة لأجلي، وأنا أيضاً جميع ما أفعله لأجلك.
ثانيهما : أنّ فيه تنبيهاً على أنّ منافع الرسالة عائدة إليك لأجلك لا لأجلنا.
واختلف في قوله تعالى :﴿ ووضعنا ﴾، أي : بما لنا من العظمة ﴿ عنك وزرك ﴾ فقال الحسن ومجاهد : حططنا عنك
الذي سلف منك في الجاهلية وهو قوله تعالى :﴿ ليغفر لك الله ما تقدّم من ذنبك وما تأخر ﴾ [ الفتح : ٢ ] وقال الحسين بن الفضل : يعني الخطأ والسهو. وقيل : ذنوب أمتك، وأضافها إليه لاشتغال قلبه بها.
﴿ الذي أنقض ﴾، أي : أثقل ﴿ ظهرك ﴾ قال أبو عبيدة : خففنا عنك أعباء النبوّة والقيام بها حتى لا تثقل عليك. وقيل : كان في الابتداء يثقل عليه الوحي حتى يكاد يرمي نفسه من شاهق إلى أن جاءه جبريل عليه السلام، وأزال عنه ما كان يخاف من تغير العقل. وقيل : عصمناك من احتمال الوزر، وحفظناك قبل النبوّة في الأربعين من الأدناس، حتى نزل عليك الوحي وأنت مطهر.
﴿ ورفعنا ﴾، أي : بما لنا من القدرة التامّة ﴿ لك ذكرك ﴾ روى الضحاك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : يقول الله عز وجل : لا ذكرت إلا ذكرت معي في الأذان والإقامة والتشهد، ويوم الجمعة على المنابر، ويوم الفطر، ويوم الأضحى، ويوم عرفة، وأيام التشريق، وعند الجمار، وعلى الصفا والمروة، وفي خطبة النكاح، ومشارق الأرض ومغاربها.
ولو أنّ رجلاً عبد الله تعالى، وصدّق بالجنة والنار، وكل شيء ولم يشهد أنّ محمداً رسول الله لم ينتفع بشيء، وكان كافراً وقيل : أعلينا ذكرك فذكرناك في الكتب المنزلة على الأنبياء قبلك، وأمرناهم بالبشارة بك ولا دين إلا ودينك يظهر عليه.
وقيل : رفعنا ذكرك عند الملائكة في السماء وفي الأرض عند المؤمنين، ونرفع في الآخرة ذكرك بما نعطيك من المقام المحمود وكرائم الدرجات. وقال الضحاك : لا تقبل صلاة إلا به، ولا تجوز خطبة إلا به. وقال مجاهد : يعني التأذين. وفيه يقول حسان بن ثابت :
أغرّ عليه للنبوّة خاتم من الله مشهور يلوح ويشهد
وضم الإله اسم النبيّ إلى اسمه إذا قال في الخمس المؤذن أشهد
وشق له من اسمه ليجله فذو العرش محمود وهذا محمد
وقيل : رفع ذكره بأخذ ميثاقه على النبيين وإلزامهم الإيمان به والإقرار بفضله. وقيل : عام في كل ما ذكر، وهذا أولى وكم من موضع في القرآن يذكر فيه النبيّ صلى الله عليه وسلم من ذلك قوله تعالى :﴿ والله ورسوله أحق أن يرضوه ﴾ [ التوبة : ٦٢ ]. وقوله تعالى :﴿ ومن يطيع الله ورسوله فقد فاز ﴾ [ الأحزاب : ٧١ ]. وقوله تعالى :﴿ وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول ﴾ [ المائدة : ٩٢ ].
ولما كان المشركون يعيرونه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بالفقر والضيقة حتى سبق إلى وهمه أنهم رغبوا عن الإسلام لافتقار أهله واحتقارهم، ذكره ما أنعم الله به عليه من جلائل النعم، ثم وعده اليسر والرخاء بعد الشدّة فقال تعالى :﴿ فإن مع العسر ﴾، أي : ضيق الصدر والوزر المنقض للظهر وضلال القوم وإيذائهم ﴿ يسراً ﴾، أي : كالشرح والوضع والتوفيق للاهتداء والطاعة فلا تيأس من روح الله إذا عراك ما يهمك، فإن مع العسر الذي أنتم فيه يسراً. فإن قيل : إنّ مع للصحبة فما معنى اصطحاب العسر واليسر ؟ أجيب : بأن الله تعالى أراد أن يصيبهم بيسر بعد العسر الذي كانوا فيه بزمان قريب، فقرب اليسر المترقب حتى جعله كالمقارن للعسر زيادة في التسلية وتقوية القلوب.
وقوله تعالى :﴿ إنّ مع العسر ويسراً ﴾ استئناف وعد الله تعالى بأن العسر متبوع بيسر آخر كثواب الآخرة، كقولك : للصائم فرحة، ثم فرحة، أي : فرحة عند الإفطار وفرحة عند لقاء الرب، ويجوز أن يراد باليسرين ما تيسر من الفتوح في أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم وما تيسر لهم أيام الخلفاء وقيل : تكرير.
فإن قيل : ما معنى قول ابن عباس رضي الله عنه وابن مسعود رضي الله عنهما : لن يغلب عسر يسرين، وقد روي مرفوعاً أنه صلى الله عليه وسلم «خرج ذات يوم وهو يضحك ويقول : لن يغلب عسر يسرين » أجيب : بأن هذا حمل على الظاهر وبناء على قوّة الرجاء، وأنّ موعد الله لا يحمل إلا على أوفى ما يحتمله اللفظ وأبلغه، والقول عنه أنه يحتمل أن تكون الجملة الثانية تكريراً للأولى كما كرر في قوله تعالى :﴿ ويل يومئذ للمكذبين ﴾ [ المرسلات : ١٥ ] لتقرير معناها في النفوس، وتمكينها في القلوب، وكما تكرر المفرد في قولك : زيد زيد. وأن تكون الأولى عدة بأن العسر مردف بيسر لا محالة، والثانية عدة مستأنفة بأن العسر متبوع بيسر فهما يسران على تقدير الاستئناف.
وإنما كان العسر واحدا لأنه لا يخلو إما أن يكون تعريفه للعهد، وهو العسر الذي كانوا فيه فهو هو، لأنّ حكمه حكم زيد في قولك : إنّ مع زيد مالاً إنّ مع زيد مالاً، وإما أن يكون للجنس الذي يعلمه كل أحد فهو هو أيضاً.
وأما اليسر فمنكر متناول لبعض الجنس، فإذا كان الكلام الثاني مستأنفاً غير مكرر فقد تناول بعضاً غير البعض الأوّل بغير إشكال، أو بأن لن يغلب عسر الدنيا اليسر الذي وعد الله المؤمنين فيها واليسر الذي وعدهم في الآخرة إنما يغلب أحدهما وهو يسر الدنيا فأما يسر الآخرة فدائم غير زائل، أي : لا يجتمعان في الغلبة كقوله صلى الله عليه وسلم «شهرا عيد لا ينقصان »، أي : لا يجتمعان في النقصان. فإن قيل : فما معنى التنكير ؟ أجيب : بأنه للتفخيم، كأنه قيل : إنّ مع العسر يسراً عظيماً وأي يسر.
روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«لو كان العسر في جحر ضب لتبعه اليسر حتى يخرجه ». وللطبراني عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«لو كان العسر في جحر لدخل اليسر حتى يخرجه ». ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم الآية ».
ولما عدد تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم نعمه السابقة ووعده الآنفة حثه على الشكر والاجتهاد في العبادة بقوله تعالى :﴿ فإذا فرغت ﴾ قال ابن عباس رضي الله عنهما : فرغت من صلاتك المكتوبة ﴿ فانصب ﴾، أي : انصب في الدعاء. وقال ابن مسعود رضي الله عنه : فإذا فرغت من الفرائض فانصب في قيام الليل. وقال الشعبيّ : إذا فرغت من التشهد فادع لدنياك وآخرتك. وقال الحسن وزيد بن أسلم : إذا فرغت من جهاد عدوّك فانصب في عبادة ربك وصل. وقال ابن حيان عن الكلبيّ : إذا فرغت من تبليغ الرسالة فانصب ﴿ استغفر لذنبك وللمؤمنين ﴾ [ محمد : ١٩ ]. قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : إني أكره أن أرى أحدكم فارغاً لا في عمل الدنيا ولا في عمل الآخرة.
﴿ وإلى ربك ﴾، أي : المحسن إليك بفضائل النعم خصوصاً بما ذكر في هاتين السورتين ﴿ فارغب ﴾، أي : اجعل رغبتك إليه خصوصاً، ولا تسأل إلا فضله متوكلاً عليه.
وقيل : تضرع إليه راغباً في الجنة راهباً من النار عصمنا الله تعالى وأحبابنا منها بمحمد صلى الله عليه وسلم وآله.
Icon