بسم الله الرحمن الرحيم
تفسير سورة التينمقدمة وتمهيد
١- وتسمى –أيضا- سورة " والتين " وعدد آياتها ثماني آيات، والصحيح أنها مكية.
وقد روي ذلك عن ابن عباس وغيره، ويؤيد كونها مكية، القسم بمكة في قوله –تعالى- :[ وهذا البلد الأمين ]، وعن قتادة أنها مدنية، وهو قول لا دليل عليه.
وكان نزولها بعد سورة " البروج "، وقبل سورة " لإيلاف قريش ".
وقد اشتملت هذه السورة الكريمة، على التنبيه بأن الله –تعالى- قد خلق الإنسان في أحسن تقويم، فعليه أن يكون شاكرا لخالقه، مخلصا له العبادة والطاعة.
ﰡ
[سورة التين (٩٥) : الآيات ١ الى ٨]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (١) وَطُورِ سِينِينَ (٢) وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (٣) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (٤)ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ (٥) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (٦) فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (٧) أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ (٨)
اتفق المفسرون على أن المراد بطور سينين: الجبل الذي كلم الله- تعالى- عليه موسى- عليه السلام- وسينين، وسيناء، وسينا، اسم للبقعة التي فيها هذا الجبل، بإضافة «طور» إلى ما بعده، من إضافة الموصوف إلى الصفة.
قال الإمام الشوكانى: «وطور سينين» هو الجبل الذي كلم الله عليه موسى، اسمه الطور. ومعنى سينين: المبارك الحسن.. وقال مجاهد: سينين كل جبل فيه شجر مثمر، فهو سينين وسيناء. وقال الأخفش: طور: جبل. وسينين شجر، واحدته سينه، ولم ينصرف سينين كما لم ينصرف سيناء، لأنه جعل اسما للبقعة.. «١».
وأقسم- سبحانه- به، لأنه من البقاع المباركة، وأعظم بركة حلت به ووقعت فيه، تكليم الله- تعالى-، لنبيه موسى- عليه السلام-.
كما اتفقوا- أيضا- على أن المراد بالبلد الأمين: مكة المكرمة، وسمى بالأمين لأن من دخله كان آمنا، وقد حرمها- تعالى- على جميع خلقه، وحرم شجرها وحيوانها، وفي
إلا أن خلافهم في المراد بقوله- تعالى-: وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ، وقد ذكر الإمام القرطبي هذا الخلاف فقال ما ملخصه: قوله: وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ: قال ابن عباس وغيره: هو تينكم الذي تأكلون، وزيتونكم الذي تعصرون منه الزيت. قال- تعالى-:
وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ وهي شجرة الزيتون.
وقال أبو ذر: أهدى للنبي ﷺ سلة تين، فقال: «كلوا» وأكل منها. ثم قال: «لو قلت إن فاكهة نزلت من الجنة، لقلت هذه... ».
وعن معاذ: أنه استاك بقضيب زيتون، وقال: سمعت النبي ﷺ يقول: «نعم السواك الزيتون من الشجرة المباركة»...
وهذا هو الرأى الذي تطمئن إليه النفس لأنه هو المتبادر من اللفظ وهناك أقوال أخرى رأينا أن نضرب عنها صفحا لضعفها وتهافتها.
ثم قال الإمام القرطبي: وهذا القول هو أصح الأقوال، لأنه الحقيقة، ولا يعدل عن الحقيقة إلى المجاز إلا بدليل. وإنما أقسم بالتين لأنه كان ستر آدم في الجنة، لقوله- تعالى-: يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وكان ورق التين، ولأنه كثير المنافع.
وأقسم بالزيتون لأنه الشجرة المباركة، قال- تعالى-: يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ... وفيه منافع كثيرة... «١».
وقال الإمام ابن جرير بعد أن ساق جملة من الأقوال في المقصود بالتين والزيتون:
والصواب من القول في ذلك عندنا، قول من قال: التين: هو التين الذي يؤكل. والزيتون:
هو الزيتون الذي يعصر منه الزيت، لأن ذلك هو المعروف عند العرب، ولا يعرف جبل يسمى تينا، ولا جبل يقال له زيتون. إلا أن يقول قائل: المراد من الكلام القسم بمنابت التين، ومنابت الزيتون، فيكون ذلك مذهبا، وإن لم يكن على صحة ذلك أنه كذلك، دلالة في ظاهر التنزيل... «٢».
(٢) راجع تفسير ابن جرير ج ٣٠ ص ١٥٣.
وجملة: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ.... وما عطف عليه جواب القسم.
أى: وحق التين الذي هو أحسن الثمار، صورة وطعما وفائدة، وحق الزيتون الذي يكفى الناس حوائج طعامهم وإضاءتهم، وحق هذا البلد الأمين، وهو مكة المكرمة، وحق طور سنين الذي كلم الله- تعالى- عليه نبيه موسى تكليما... وحق هذه الأشياء... لقد خلقنا الإنسان في أعدل قامة، وأجمل صورة، وأحسن هيئة، ومنحناه بعد ذلك ما لم نمنحه لغيره، من بيان فصيح، ومن عقل راجح، ومن علم واسع، ومن إرادة وقدرة على تحقيق ما يبتغيه في هذه الحياة، بإذننا ومشيئتنا.
والتقويم في الأصل: تصيير الشيء على الصورة التي ينبغي أن يكون عليها في التعديل والتركيب. تقول: قومت الشيء تقويما، إذا جعلته على أحسن الوجوه التي ينبغي أن يكون عليها... في التعديل والتركيب. تقول: قومت الشيء تقويما، إذا جعلته على أحسن الوجوه التي ينبغي أن يكون عليها... وهذا الحسن يشمل الظاهر والباطن للإنسان...
والمراد بالإنسان هنا: جنسه. أى: لقد خلقنا- بقدرتنا وحكمتنا- جنس الإنسان في أكمل صورة، وأحكم عقل...
وقوله- تعالى-: ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ معطوف على ما قبله وداخل في حيز القسم. وضمير الغائب يعود إلى الإنسان...
وحقيقة الرد: إرجاع الشيء إلى مكانه السابق، والمراد به هنا: تصيير الإنسان على حالة غير الحالة التي كان عليها، وأسفل: أفعل تفضيل، أى: أشد سفالة مما كان يتوقع.
وللمفسرين في هذه الآية الكريمة اتجاهات منها: أن المراد بالرد هنا: الرد إلى الكبر والضعف، كما قال- تعالى-: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ، ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً، ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً، يَخْلُقُ ما يَشاءُ، وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ «١».
وعلى هذا الرأى يكون المردودون إلى أسفل سافلين، أى: إلى أرذل العمر، هم بعض أفراد جنس الإنسان، لأنه من المشاهد أن بعض الناس هم الذين يعيشون تلك الفترة الطويلة
وقد رجح ابن جرير هذا الرأى فقال: «وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصحة، وأشبهها بتأويل الآية، قول من قال معناه: ثم رددناه إلى أرذل العمر. إلى عمر الخرفى الذين ذهبت عقولهم من الهرم والكبر، فهو في أسفل من سفل في إدبار العمر، وذهاب العقل... » «٢».
ومنها: أن المراد بالرد هنا: الرد إلى النار، والمعنى: لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم، ثم رددناه إلى أقبح صورة، وأخس هيئة... حيث ألقينا به في أسفل سافلين، أى: في النار، بسبب استحبابه العمى على الهدى، والكفر على الإيمان...
وقد رجح هذا الرأى ابن كثير فقال: قوله: ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ أى: إلى النار... أى: ثم بعد هذا الحسن والنضارة، مصيره إلى النار، إن لم يطع الله- تعالى- ويتبع الرسل. ولهذا قال: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ... «٣».
وعلى هذا الرأى- أيضا-، يكون المردودون إلى «أسفل سافلين» أى: إلى النار، هم بعض أفراد جنس الإنسان، وهم الكفار، والفاسقون عن أمره- تعالى-.
ومنها: أن المراد بالرد إلى أسفل سافلين هنا: الانحراف والارتداد عن الفطرة التي فطر الله- تعالى- الناس عليها، بأن يعبد الإنسان مخلوقا مثله، ويترك عبادة خالقه، ويطيع نفسه وشهواته وهواه... ويترك طاعة ربه- عز وجل-.
وقد فصل الأستاذ الإمام هذا المعنى فقال ما ملخصه: «أقسم- سبحانه- أنه قوم الإنسان أحسن تقويم، وركبه أحسن تركيب، وأكد- سبحانه- ذلك بالقسم، لأن الناس بسبب غفلتهم عما كرمهم الله به، صاروا كأنهم ظنوا أنفسهم كسائر أنواع العجماوات، يفعلون كما تفعل، لا يمنعهم حياء ولا تردهم حشمة. فانحطت بذلك نفوسهم عن مقامها، الذي كان لها بمقتضى الفطرة... فهذا قوله: ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ، أى: صيرناه أسفل من كثير من الحيوانات التي كانت أسفل منه، لأن الحيوان المفترس- مثلا- إنما يصدر في عمله عن فطرته التي فطر عليها، لم ينزل عن مقامه، ولم ينحط عن منزلته في الوجود.
أما الإنسان فإنه بإهماله عقله، وجهله بما ينبغي أن يعمله لتوفير سعادته وسعادة إخوانه،
(٢) تفسير ابن جرير ج ٣٠ ص ١٥٧.
(٣) تفسير ابن كثير ج ٧ ص ٤٥٧.
والذي يتأمل الرأى الثاني والثالث يرى أن بينهما تلازما، لأن الانحراف عن الفطرة السوية يؤدى إلى الدخول في النار وبئس القرار، وهذان الرأيان أولى بالقبول، لأن الاستثناء في قوله- تعالى- بعد ذلك: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ يؤيد ذلك، إذ المعنى عليها: لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم، ثم رددناه إلى النار بسبب انحرافه عن الفطرة، وإيثاره الغي على الرشد، والكفر على الإيمان...
إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وساروا على مقتضى فطرتهم، فأخلصوا لله- تعالى- العبادة والطاعة... فلهم أجر غير مقطوع عنهم أو غير ممنون به عليهم، بل هم قد اكتسبوا هذا الأجر الدائم العظيم، بسبب إيمانهم وعملهم الصالح.
قال الآلوسى ما ملخصه: قوله: ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ، «ثم» هنا للتراخي الزمانى أو الرتبى، والرد يجوز أن يكون بمعنى الجعل، فينصب مفعولين أصلهما المبتدأ والخبر.
فأسفل مفعول ثان، والمعنى: ثم جعلناه من أهل النار، الذين هم أقبح، وأسفل من كل سافل... ويجوز أن يكون الرد بمعناه المعروف، وأسفل منصوب بنزع الخافض.
أى: رددناه إلى أسفل الأمكنة السافلة وهو جهنم...
وقوله: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ استثناء متصل من ضمير «رددناه» العائد على الإنسان، فإنه في معنى الجمع، فالمؤمنون لا يردون أسفل سافلين يوم القيامة، بل يزدادون بهجة إلى بهجتهم. وحسنا على حسنهم... » «٢».
و «ما» في قوله- سبحانه-: فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ اسم استفهام مبتدأ، وخبره جملة «يكذبك». والخطاب للإنسان الذين خلقه الله- تعالى- في أحسن تقويم، ففي الكلام التفات من الغيبة إلى الخطاب. والاستفهام للإنكار والتعجيب من هذا الإنسان...
والمعنى: فأى شيء يحملك- أيها الإنسان- على التكذيب بالدين وبالبعث وبالجزاء، بعد أن خلقناك في أحسن تقويم، وبعد أن أقمنا لك الأدلة على أن دين الإسلام هو الدين الحق، وعلى أن رسولنا صادق فيما يبلغك عن ربه- عز وجل-؟
فالمقصود بقوله- تعالى-: يُكَذِّبُكَ: يجعلك مكذبا، أى: لا عذر لك في التكذيب
(٢) تفسير الآلوسى ج ٣٠ ص ١٧٦.
إن كل عاقل يجب عليه أن يصدقك ولا يكذبك، ولا يعرض عنك.
والاستفهام في قوله- تعالى-: أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ للتقرير: إذ الجملة الكريمة تحقيق لما ذكر من خلق الإنسان في أحسن تقويم، ثم رده إلى أسفل سافلين.
فكأنه- تعالى- يقول: إن الذي فعل ذلك كله هو أحكم الحاكمين خلقا وإيجادا. وصنعا وتدبيرا، وقضاء وتقديرا، فيجب على كل عاقل أن يخلص له العبادة والطاعة، وأن يتبع رسوله ﷺ في كل ما جاء به من عند ربه- عز وجل-.
وقد روى الإمام الترمذي عن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«من قرأ منكم وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ... ثم انتهى إلى قوله- تعالى- أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ فليقل: بلى، وأنا على ذلك من الشاهدين» «١».
نسأل الله- تعالى- أن يجعلنا جميعا من عباده الصالحين.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
بسم الله الرّحمن الرّحيم
تفسير سورة العلقمقدمة وتمهيد
١- هذه السورة الكريمة تسمى سورة «العلق»، وتسمى سورة «اقرأ» وعدد آياتها تسع عشرة آية في المصحف الكوفي، وفي الشامي ثماني عشرة آية، وفي الحجازي عشرون آية.
وصدر هذه السورة الكريمة يعتبر أول ما نزل من قرآن على النبي صلى الله عليه وسلم.
٢- ومن أغراضها: التنويه بشأن القراءة والكتابة، والعلم والتعلم، والتهديد لكل من يقف في وجه دعوة الإسلام التي جاء بها النبي ﷺ من عند ربه- عز وجل- وإعلام النبي ﷺ بأن الله- تعالى- مطلع على ما يبيته له أعداؤه من مكر وحقد، وأنه- سبحانه- قامعهم وناصره عليهم، وأمره ﷺ بأن يمضى في طريقه، دون أن يلتفت إلى مكرهم أو سفاهاتهم.