تفسير سورة العاديات

تفسير البغوي
تفسير سورة سورة العاديات من كتاب معالم التنزيل المعروف بـتفسير البغوي .
لمؤلفه البغوي . المتوفي سنة 516 هـ

محمد [بن] عبد الله ثنا الحسن بن سفيان ثنا علي بن حجر ثنا يزيد بن هارون ثنا اليمان بن المغيرة ثنا عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ تعدل نصف القرآن، وقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (١) تَعْدِلُ ثُلْثَ القرآن، وقُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (١) [الإخلاص: ١] تَعْدِلُ رُبْعَ الْقُرْآنِ».
سُورَةُ الْعَادِيَاتِ
مكية وهي إحدى عشرة آية
[سورة العاديات (١٠٠) : الآيات ١ الى ٤]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَالْعادِياتِ ضَبْحاً (١) فَالْمُورِياتِ قَدْحاً (٢) فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً (٣) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً (٤)
وَالْعادِياتِ ضَبْحاً (١)، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٌ وَمُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَالْحَسَنُ وَالْكَلْبِيُّ وقتادة ومقاتل وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَغَيْرُهُمْ: هِيَ الْخَيْلُ العادية في سبيل الله تَضْبَحُ، وَالضَّبْحُ صَوْتُ أَجْوَافِهَا إِذَا عَدَتْ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَلَيْسَ شيء من الحيوانات يضبح غَيْرُ الْفَرَسِ وَالْكَلْبِ وَالثَّعْلَبِ، وَإِنَّمَا تَضْبَحُ هَذِهِ الْحَيَوَانَاتُ إِذَا تَغَيَّرَ حَالُهَا مِنْ تَعَبٍ أَوْ فَزَعٍ وهو من قول العرب: ضَبَحَتْهُ النَّارُ إِذَا غَيَّرَتْ لَوْنَهُ. وَقَوْلُهُ:
ضَبْحاً نُصِبَ عَلَى الْمَصْدَرِ، مَجَازُهُ: وَالْعَادِيَّاتُ تَضْبَحُ ضَبْحًا.
وَقَالَ عَلِيٌّ: هِيَ الْإِبِلُ فِي الْحَجِّ تَعْدُو مِنْ عَرَفَةَ إِلَى الْمُزْدَلِفَةِ وَمِنَ الْمُزْدَلِفَةِ إِلَى مِنًى، وَقَالَ: كَانَتْ أَوَّلُ غَزْوَةٍ فِي الْإِسْلَامِ بَدْرًا، وَمَا كَانَ مَعَنَا إِلَّا فَرَسَانِ فَرَسٌ لِلزُّبَيْرِ وَفَرَسٌ لِلْمِقْدَادِ بْنِ الْأَسْوَدِ، فَكَيْفَ تَكُونُ الْخَيْلُ الْعَادِيَاتُ؟ [١] وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ وَالسُّدَّيُّ. وَقَالَ بَعْضُ مَنْ قَالَ: هِيَ الْإِبِلُ قَوْلُهُ: ضَبْحاً يَعْنِي ضِبَاحًا تَمُدُّ أَعْنَاقَهَا فِي السَّيْرِ.
فَالْمُورِياتِ قَدْحاً (٢)، قَالَ عِكْرِمَةُ وَعَطَاءٌ وَالضَّحَّاكُ ومقاتل والكلبي: هي الخيل تواري النَّارَ بِحَوَافِرِهَا إِذَا سَارَتْ فِي الْحِجَارَةِ، يَعْنِي وَالْقَادِحَاتِ قَدْحًا يَقْدَحْنَ بِحَوَافِرِهِنَّ. وَقَالَ قَتَادَةُ: هِيَ الْخَيْلُ تُهَيِّجُ الْحَرْبَ وَنَارَ الْعَدَاوَةِ بَيْنَ فُرْسَانِهَا.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: هِيَ الْخَيْلُ تَغْزُو فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ تأوي بالليل فَيُوَرُّونَ نَارَهُمْ وَيَصْنَعُونَ طَعَامَهُمْ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: هِيَ مَكْرُ الرِّجَالِ، يَعْنِي رِجَالَ الْحَرْبِ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ إِذَا أَرَادَ الرَّجُلُ أَنْ يَمْكُرَ بِصَاحِبِهِ: أَمَا وَاللَّهِ لِأَقْدَحَنَّ لَكَ ثُمَّ لْأُوَرِّيَنَّ لَكَ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: هِيَ النيران بجمع [٢].
فيها أحاديث أخرى، وبخاصة سورة الإخلاص، فقد ورد في فضلها أحاديث متفق عليها، وستأتي إن شاء الله، والله أعلم. وانظر «الجامع لأحكام القرآن» ٦٤٣٤ بتخريجي.
(١) قد اختصر المصنّف هذا الأثر أخلّ بمعناه، فقول علي: «كانت أول غزوة... » رد فيها على ابن عباس. انظر «الدر» ٦/
(٢) في المخطوط وط «تجتمع» والمثبت أقرب، وأن مراد القرظي ما يوقده الحجيج يوم المزدلفة من النار.
فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً (٣)، هِيَ الْخَيْلُ تُغِيرُ بِفُرْسَانِهَا عَلَى الْعَدُوِّ عِنْدَ الصَّبَاحِ، هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ.
وَقَالَ الْقُرَظِيُّ: هِيَ الْإِبِلُ تَدْفَعُ بِرُكْبَانِهَا يَوْمَ النَّحْرِ مِنْ جَمْعٍ إِلَى مِنًى، وَالسُّنَّةُ أَنْ لَا تَدْفَعُ حَتَّى تُصْبِحَ، وَالْإِغَارَةُ سُرْعَةُ السَّيْرِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: أَشْرَقَ ثَبِيرٌ كَيْمَا نُغِيرُ.
فَأَثَرْنَ بِهِ، أَيْ هَيَّجْنَ بمكان سيرها كِنَايَةٌ عَنْ غَيْرِ مَذْكُورٍ لِأَنَّ الْمَعْنَى مَفْهُومٌ، نَقْعاً، غُبَارًا وَالنَّقْعُ الغبار.
[سورة العاديات (١٠٠) : الآيات ٥ الى ١١]
فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً (٥) إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (٦) وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ (٧) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (٨) أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (٩)
وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ (١٠) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (١١)
فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً (٥)، أَيْ دَخَلْنَ بِهِ وَسَطَ جَمْعِ الْعَدُوِّ، وَهُمُ الْكَتِيبَةُ يُقَالُ: وَسَطْتُ الْقَوْمَ بِالتَّخْفِيفِ، وَوَسَّطْتُهُمْ بِالتَّشْدِيدِ وَتَوَسَّطُّهُمْ بِالتَّشْدِيدِ كُلُّهَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ. قَالَ الْقُرَظِيُّ: هِيَ الْإِبِلُ تَوَسَّطُ بِالْقَوْمِ يَعْنِي: جَمْعَ منى، أَقْسَمَ اللَّهُ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ.
إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (٦). قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: لَكَنُودٌ لِكَفُورٌ جَحُودٌ لِنِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ الْكَلْبِيُّ: هُوَ بِلِسَانِ مُضَرَ وَرَبِيعَةَ الْكَفُورُ، وَبِلِسَانِ كِنْدَةَ وَحَضْرَمَوْتَ الْعَاصِي.
وَقَالَ الْحَسَنُ: هُوَ الَّذِي يَعُدُّ الْمَصَائِبَ وَيَنْسَى النِّعَمَ. وَقَالَ عَطَاءٌ: هُوَ الَّذِي لَا يُعْطِي فِي النَّائِبَةِ مَعَ قَوْمِهِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ هُوَ قَلِيلُ الْخَيْرِ، وَالْأَرْضُ الْكَنُودُ الَّتِي لَا تُنْبِتُ شَيْئًا.
وَقَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ: الْكَنُودُ الَّذِي أَنْسَتْهُ الْخَصْلَةُ الْوَاحِدَةُ مِنَ الْإِسَاءَةِ الْخِصَالَ الْكَثِيرَةَ مِنَ الْإِحْسَانِ [والشكور الَّذِي أَنْسَتْهُ الْخَصْلَةُ الْوَاحِدَةُ مِنَ الْإِحْسَانِ الْخِصَالَ الْكَثِيرَةَ مِنَ الْإِسَاءَةِ] [١].
وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ (٧)، قَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى كَوْنِهِ كَنُودًا لَشَاهِدٌ. وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: الْهَاءُ رَاجِعَةٌ إِلَى الْإِنْسَانِ أَيْ إِنَّهُ شَاهِدٌ عَلَى نَفْسِهِ بِمَا يَصْنَعُ.
وَإِنَّهُ، يَعْنِي الْإِنْسَانَ، لِحُبِّ الْخَيْرِ، أَيْ لِحُبٍّ الْمَالِ، لَشَدِيدٌ أَيْ لَبَخِيلٌ، أَيْ إِنَّهُ مِنْ أَجْلِ حُبِّ الْمَالِ لَبَخِيلٌ. يُقَالُ لِلْبَخِيلِ: شَدِيدٌ وَمُتَشَدِّدٌ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَقَوِيٌّ أَيْ شَدِيدٌ الْحُبِّ لِلْخَيْرِ، أَيِ المال.
أَفَلا يَعْلَمُ، هَذَا الْإِنْسَانُ، إِذا بُعْثِرَ، أُثِيرَ وَأُخْرِجَ، مَا فِي الْقُبُورِ مِنَ الْمَوْتَى.
وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ (١٠)، أَيْ مُيِّزَ وَأُبْرِزَ مَا فِيهَا مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ.
إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ، جَمَعَ الْكِنَايَةَ لأن الإنسان اسم الجنس، يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ، عَالِمٌ، قَالَ الزَّجَّاجُ: اللَّهَ خَبِيرٌ بِهِمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَفِي غَيْرِهِ وَلَكِنَّ الْمَعْنَى أَنَّهُ يُجَازِيهِمْ عَلَى كُفْرِهِمْ فِي ذلك اليوم.
٦٥٢ والقرطبي ٢٠/ ١٤٥.
(١) سقط من المخطوط.
Icon