تفسير سورة الجن

أيسر التفاسير للجزائري
تفسير سورة سورة الجن من كتاب أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير المعروف بـأيسر التفاسير للجزائري .
لمؤلفه أبو بكر الجزائري . المتوفي سنة 1439 هـ

عَجَباً (١) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً (٢) وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَداً (٣) وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللهِ شَطَطاً (٤) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللهِ كَذِباً (٥) وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً (٦) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ أَحَداً (٧)
شرح الكلمات:
أنه استمع: أي إلى قراءتي.
نفر من الجن: أي عدد من الجن ما بين الثلاثة والعشرة.
قالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا: أي لبعضهم بعضاً قرآنا عجبا أي يتعجب منه لفصاحته وغزارة معانيه.
يهدي إلى الرشد: أي الصواب في المعتقد والقول والعمل.
وأنه تعالى جد ربنا: أي تنزه جلال ربنا وعظمته عما نسب إليه.
ما اتخذ صاحبة ولا ولدا: أي لم صاحبة ولم يكن له ولد.
سفيهنا: أي جاهلنا.
شططا: أي غلوا في الكذب بوصفه الله تعالى بالصاحبة والولد.
على الله كذبا: حتى تبين لنا أنهم يكذبون على الله بنسبة الزوجة والولد إليه.
يعوذون: أي يستعيذون.
فزادوهم رهقا: أي إثما وطغيانا.
أن لن يبعث الله أحدا: أي لن يبعث رسولا إلى خلقه.
معنى الآيات:
قوله تعالى ﴿قُلْ أُوحِيَ١ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ ٢مِنَ الْجِنِّ﴾ يأمر تعالى رسوله محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يقول معلنا
١ أصل أوحي ووحي فقلبت الواو همزة كما قلبت في وإذا الرسل أقتت والأصل وقتت، وهو جائز في كل واو مضمومة نحو ورخ وأرخ.
٢ يرى ابن إسحق أن هذا اللقاء بالجن كان عند عودة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الطائف، ولا مانع من حصول الخبرين مرة عند عودته من الطائف وتكون هذه الأولى، والثانية هي المذكورة في التفسير.
446
للناس مؤمنهم وكافرهم أنه قد أوحى الله تعالى إليه نبأ مفاده أن نفرا من الجن ما بين الثلاثة إلى العشرة قد استمعوا إلى قراءته القرآن وذلك ببطن نخلة والرسول يصلي بأصحابه صلاة الفجر وكان الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عامدا مع أصحابه إلى سوق عكاظ. وكان يومئذ قد حيل بين الشياطين وخبر السماء حيث أرسلت عليهم الشهب فراجع الشياطين بعضهم بعضا فانتهوا إلى أن شيئا حدث لا محالة فانطلقوا يضربون في مشارق الأرض ومغاربها يتعرفون إلى هذا الحدث الجلل الذي منعت الشياطين بسببه من السماء فتوجه نفر منهم إلى تهامة فوجدوا الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي الصبح بأصحابه فاستمعوا إلى قراءته في١صلاته فرجعوا إلى قومهم من الجن فقالوا ﴿إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً﴾ فأنزل الله تعالى هذه السورة "سورة الجن" مفتتحة بقوله ﴿قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ٢ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ﴾ أي أعلن للناس يا رسولنا أن الله قد أوحى إليك خبرا مفاده أن نفرا من الجن قد استمعوا إلى قراءتك فرجعوا إلى قومهم وقالوا لهم ﴿إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً﴾ أي يتعجب من فصاحته وغزارة معانيه. يهدي إلى الرشد٣ والصواب في العقيدة والقول والعمل ﴿فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً﴾ وفي هذا تعريض بسخف البشر الذين عاش الرسول بينهم احدى عشرة سنة يقرأ عليهم القرآن بمكة وهو مكذبون به كارهون له مصرون على الشرك والجن بمجرد أن سمعوه آمنوا به وحملوا رسالته إلى قومهم وهاهم يدعون بدعاية الإسلام ويقولون ﴿فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ٤ رَبِّنَا﴾ أي وآمنا بأنه تعالى أمر ربنا وسلطانه ما اتخذ صاحبة ولا ولدا وحاشاه وإنما نسب إليه ذلك المفترون. ﴿وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللهِ شَطَطاً﴾ هذا من قول الجن واصلوا حديثهم قائلين وأنه كان يقول جاهلونا على الله شططا أي غلوا في الكذب بوصفهم الله تعالى بالصاحبة والولد تقليدا للمشركين واليهود والنصارى ﴿وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللهِ كَذِباً﴾ أي وقالوا لقومهم وإنا كنا نظن أن الإنس والجن لا يكذبون على الله ولا يقولون عليه إلا الصدق وقد علمنا الآن أنهم يكذبون على الله ويقولون عليه ما لم يقله وينسبون إليه ما هو منه براء. وقالوا {وَأَنَّهُ كَانَ ٥رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ
١ ما ذكر في التفسير من شأن استماع الجن قراءة الرسول وما أوحى الله تعالى به إلى رسوله في شأن هذه الحادثة هو في مسلم والترمذي.
٢ جملة استمع خبر إن والاسم هو الضمير الشأن والجملة في محل نائب فاعل لأوحي.
٣ الرشد بضم الراء وإسكان الشين والرشد بفتح الراء والشين معاً هما الخير والصواب والهدى.
٤ الجد بفتح الجيم: العظمة والجلال ومنه قول أنس كان الرجل إذا حفظ البقرة وآل عمران جد في عيوننا: أي عظم وجل وأنه تعالى: قرأ نافع بكسر الهمزة عطفاً على قولهم إنا سمعنا قرآنا وقرأ حفص بفتح الهمزة على تقدير آمنا بأنه تعالى جد ربنا.
٥ يجوز فتح أنه وكسرها فمن فتحها جعلها من كلام الجن راداً لها إلى قوله أنه استمع ومن كسرها جعلها مبتدأ في قول الله تعالى.
447
يَعُوذُونَ ١بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} يخبرون بخبر عجيب وهو أنه كان رجال من الناس من العرب وغيرهم إذا نزلوا منزلا مخوفا في واد أو شعب يستعيذون برجال من الجن كأن يقول الرجل أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه فزاد الإنس الجن بهذا اللجأ إليهم والاحتماء بهم رهقا٢ أي إثما وطغيانا. إذ ما كانوا يطمعون أن الإنس تعظمهم هذا التعظيم حتى تستجير بهم. وأنهم ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث الله أحدا أي وقالوا مخبرين قومهم وأنهم أي الإنس ظنوا كما ظننتم أنتم أيها الجن أن لن يبعث الله أحدا رسولا ينذر الناس عذاب الله ويعلمهم ما يكملهم ويسعدهم في الدنيا والآخرة.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
١- تقرير النبوة المحمدية وأن محمدا رسول للثقلين الإنس والجن معاً.
٢- بيان علو شأن القرآن وكماله حيث شهدت الجن له بأنه عجب فوق مستوى كلام الخلق.
٣- تقرير التوحيد والتنديد بالشرك.
٤- تقرير أن الإنس كالجن قد يكذبون على الله وما كان لهم ذلك.
٥- حرمة الاستعانة بالجن والاستعاذة بهم لأن ذلك كالعبادة لهم.
وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً (٨) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَصَداً (٩) وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً (١٠) وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَداً (١١) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً (١٢) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخَافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً (١٣)
١ قال مقاتل أول من تعوذ بالجن قوم من اليمن من بني حنيفة ثم فشا في العرب فلما جاء الإسلام عاذوا بالله وتركوهم.
٢ الرهق الخطيئة والإثم وغشيان المحارم، وباستعاذة الإنس بالجن يحصل الإثم والخطيئة.
448
وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً (١٤) وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً (١٥)
شرح الكلمات:
وأنا لمسنا السماء: أي طلبنا خبرها كما جرت بذلك عادتنا.
حرساً شديداً: أي حراسا وحفظة من الملائكة يحفظونها بشدة وقوة.
وشهبا: أي نجوما يرمى بها الشياطين أو يؤخذ منها شهاب فيرمى به.
مقاعد للسمع: أي من أجل أن نسمع ما يحدث وما يكون في الكون.
شهابا رصداً: أي أرصد وأعد لرمي الشياطين وإبعادهم عن السمع.
رشدا: أي خيراً وصلاحاً.
كنا طرائق قددا: أي مذاهب مختلفة إذا الطرائق جمع طريقة، والقدر جمع قدة وهي الضروب والأجناس المختلفة.
ولن نعجزه هربا: أي لا نفوته هاربين في الأرض أو في السماء.
لما سمعنا الهدى: أي القرآن الداعي إلى الهدى المخالف للضلال.
بخسا ولا رهقا: أي نقصا من حسناته ولا إثما يحال عليه ويحاسب به.
ومنا القاسطون: أي الجائرون عن قصد السبيل وهو الإسلام.
تحروا رشدا: أي تعمدوا الرشد فطلبوه بعناية فحصلوا عليه.
فكانوا لجهنم حطبا: أي وقوداً تتقد بهم يوم القيامة.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في ما قالته الجن بعد سماعها القرآن الكريم. وهو ما أخبر تعالى به عنهم في قوله ﴿وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ﴾ أي طلبناها كعادتنا ﴿فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً﴾ أي١ ملائكة أقوياء يحرسونها وشهبا نارية يرمى بها كل مسترق للسمع منا. وقالوا: ﴿وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا﴾ أي من السماء ﴿مَقَاعِدَ﴾ أي أماكن معينة لهم ﴿لِلسَّمْعِ٢﴾ أي لأجل الاستماع من ملائكة
١ الشهب جمع شهاب ككتاب وكتب وهو ما يؤخذ من الكواكب النارية فيرمى به الجن. والحرس جمع حارس ولم يقل شديدين نحو قولنا السلف الصالح بدل الصالحين. وجمع الحرس أحراس كسلف وأسلاف.
٢ الذين كانوا يسترقون السمع هم مردة الجن وشياطينهم. ومما ينبغي أن يعلم هنا أن الجن هم أولاد الجان المخلوق من مارج من نار وأن الشياطين هم أولاد إبليس وأن من فسق عن أمر الله تعالى وتمرد على شرعه فخبث واشتد خبثه يصبح شيطاناً ويلحق بالشياطين الذين لا خير فيهم البتة.
449
السماء. ﴿فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَصَداً﴾ أي أرصد له خاصة فيرمى به فيحرقه أو يخبله، وقالوا ﴿وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً﴾ أقول عجبا لهؤلاء المؤمنين من الجن كيف تأدبوا معه الله فلم ينسبوا إليه الشر ونسبوا إليه الخير فقالوا ﴿أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ﴾ ولو أساءوا الأدب مثلنا لقالوا أشر أراده الله بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا أي خيرا وصلاحا قالوا هذا لما وجدوا السماء قد ملئت حرسا شديدا وشهبا وهو تفكير سديد ناتج عن وعي وإدراك سليم. وهذا التغير في السماء الذي وجدوه سببه أن الله تعالى لما نبأ رسوله محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأخذ يوحي إليه حمى السماء حتى لا يسترق الشياطين السمع ويشوشوا على الناس فيصرفوهم عن الإيمان والدخول في الإسلام وهو الرشد الذي أراد الله لعباده وقالوا ﴿وَإِنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ﴾ أي المؤمنون المستقيمون على الإيمان والطاعة ﴿وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ﴾ ضعف إيمان وقلة طاعة، ﴿كُنَّا طَرَائِقَ قِدَداً﴾ أي مذاهب١ وأهواء مختلفة. ﴿وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللهَ فِي الْأَرْضِ﴾ أي إن أراد بنا سوءا ومكروها ولن نعجزه هربا إن طلبنا ما في الأرض أو في السماء. ﴿وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ﴾ أي بالقرآن الذي هو هدى الله يهدي به من يشاء من عباده ﴿فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخَافُ بَخْساً﴾ أي نقصا من حسناته يوم القيامة ﴿وَلا رَهَقاً﴾ أي إثما يضاف إلى سيئآته ويعاقب به وهو لم يرتكبه في الدنيا. وقالوا ﴿وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ﴾ أي الجائرون عن قصد السبيل وهو الإسلام. فمن أسلم أي انقاد لله تعالى بطاعته وخلص من الشرك به فهؤلاء تحروا الرشد٢ وفازوا به، ﴿وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً﴾ توقد بهم وتستعر عليهم وعلى الكافرين الجائرين أمثالهم.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
١- وجود تجانس بين الجن والملائكة لقرب مادتي الخلق من بعضها إذ الملائكة خلقوا من مادة النور، والجن من مادة النار، ولذا يرونهم ويسمعون كلامهم ويفهمونه.
٢- من الجن أدباء صالحون مؤمنون مسلمون أصحاب لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
٣- ذم الطرق والأهواء والاختلافات.
٤- الإشادة بالعدل وتحري الحق والخير.
١ كان منهم اليهودي والنصراني والمجوسي، ولما جاء الإسلام أصبح منهم المسلم وأصبح من المسلمين قدرية ومرجئة وخوارج ورافضة وشيعة لأنهم تابعون للناس في معتقداتهم وأقوالهم وأعمالهم.
٢ تحروا رشدا أي قصدوا طريق الحق وتوخوه، ومنه تحرى القبلة للصلاة. أي طلبها بعناية وقصد للحصول عليها.
450
وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً (١٦) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً (١٧) وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللهِ أَحَداً (١٨) وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً (١٩) قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً (٢٠) قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً (٢١) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (٢٢) إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللهِ وَرِسَالاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ٢٣) حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً (٢٤)
شرح الكلمات:
على الطريقة: أي الإسلام.
ماء غدقا: أي مالا كثيرا وخيرات كبيرة.
لنفتنهم فيه: أي نختبرهم أيشكرون أم يكفرون.
عن ذكر ربه: أي القرآن وشرائعه وأحكامه.
عذابا صعدا: أي شاقا.
فلا تدعوا: أي فيها مع الله أحدا.
عبد لله يدعوه: أي محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدعوا الله ببطن نخلة.
عليه لبدا: أي في ركوب بعضهم بعضا تزاحما لأجل أن يسمعوا قراءته.
ضرا ولا رشدا: أي غيا ولا خيرا.
ملتحدا: أي ملتجأ ألجأ إليه فأحفظ نفسي.
إلا بلاغا: أي لا أملك إلا البلاغ إليكم.
وأقل عددا: أي أعوانا المسلمون أم الكافرون.
451
معنى الآيات:
قوله تعالى ﴿وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ﴾ أي وأوحى إلي أن لو استقام هؤلاء المشركون من كفار قريش استقاموا على الإيمان والتوحيد والطاعة لله ولرسوله –وهم يشكون القحط- ﴿لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً١﴾ فتكثر أموالهم وتتسع أرزاقهم، ﴿لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ﴾ أي لنخبرهم في ذلك الخير الكثير أيشكرون أم يكفرون؟ ثم إن شكروا زادهم، وإن كفروا سلبهم وعذبهم. وقوله تعالى ﴿وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ﴾ أي القرآن وما يدعوا إليه من الإيمان وصالح الأعمال ولم يتخل عن الشرك وسوء الأفعال ﴿يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً٢﴾ أي ندخله في عذاب شاق في الدنيا بالذل والمهانة والفقر والرذيلة والنذالة. وفي الآخرة في جهنم حيث السموم والحميم، والضريع والزقوم. وقوله ﴿وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ٣ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللهِ أَحَداً﴾ أي ومما أوحي إلي أن المساجد لله فإذا دخلتموها للعبادة فلا تدعوا فيها مع الله أحدا إذ كيف البيت له وأنت فيه وتدعوا معه غيره زيادة على أن الشرك محرم وصاحبه في النار فإنه من غير الأدب أن يكون المرء في بيت كريم ويدعو معه غيره من فقراء الخلق أو أغنيائهم وقوله ﴿وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً﴾ أي وأوحي إلي أنه لما قام عبد الله ورسوله محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدعوا ربه في الصلاة ببطن نخلة كاد الجن أن يكونوا عليه لبدا أي٤ كالشيء المتلبد بعضه فوق بعض. وقوله ﴿قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً﴾ هذا إجابة لقريش عندما قالوا له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لقد جئت بأمر عظيم وقد عاديت الناس كلهم فارجع عن هذا فنحن نجيرك أي نحفظك فأمر أن يقول لهم إنما أدعوا ربي أي أعبده إلهاًَ واحداً ولا أشرك به أحدا. وأن يقول أيضا إني لا أملك لكم يا معشر قريش الكافرين ضرا ولا رشدا أي ضلالا ولا هداية إنما ذلك لله وحده يضل من يشاء ويهدي من يشاء وأمر أن يقول لهم أيضا إني لن يجيرني من الله أحد أن أنا عصيته وأطعتكم، ولن أجد من دونه أي من غيره ملتحدا٥ أي ملتجأ التجأ إليه. وقوله إلا بلاغاً من الله ورسالاته أي لا أملك لكم ضراً ولا رشداً إلا بلاغا من الله
١ غدقاً أي واسعاً كبيراً، يقال غدقت العين تغدق فهي غدقة إذا كثر ماؤها. وهذا الوعد الإلهي المشروط هو عام في الناس أجمعين وفي كل زمان ومكان وهو كقوله. ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولما استقام السلف الصالح حصل لهم هذا الموعود كاملا.
٢ روى عن ابن عباس أن العذاب الصعد جبل في جهنم يكلفون صعوده وكلما وضعوا أيديهم عليه ذابت. وهو ضرب من أنواع العذاب في دار الشقاء.
٣ جائز أن يكون المراد بالمساجد أعضاء السجود السبعة لحديث إذا سجد العبد سجد معه سبعة آراب أي أعضاء ويقوى هذا الجواز قول عطاء: مساجدك أعضاؤك التي أمرت أن تسجد عليها فلا تذللها لغير خالقها. وما في التفسير أولى بالآية.
٤ اللبد جمع لبدة بكسر اللام وسكون الباء كقربة وقرب وهي ما تلبد بعضه على بعض ومنه لبدة الأسد وهي الشعر المتراكم في رقبته.
٥ شاهده قول الشاعر:
يالهف نفسي ولهفي غير مجدية
عني وما من قضاء الله ملتحد
452
ورسالته فإني أبلغكم عنه ما أمرني به وأرشدكم إلى ما أرسلني به من الهدى والخير والفوز وقوله ﴿وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً﴾ أي يخبر تعالى موعداً أن من يعصي الله بالشرك به وبرسوله بتكذيبه وعدم اتباعه فيما جاء به فإن له جزاء شركه وعصيانه نار جهنم خالدين فيها أبدا. وقوله ﴿حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً﴾ أي فإن استمروا على شركهم وتكذيبهم حتى إذا رأوا ما يوعدون من عذاب يوم القيامة فسيعلمون عندئذ من أضعف ناصراً أي من ناصره ضعيف أو قوي، ومن أقل عدداً من أعوانه المؤمنون محمد وأصحابه أم هم المشركون المكذبون.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
١- الاستقامة على منهج الله تعالى القائم على الإيمان والطاعة لله ورسوله يفضي بسالكه إلى الخير الكثير والسعادة الكاملة في الدنيا والآخرة.
٢- المال فتنة وقل من ينجح فيها قال عمر رضي الله عنه أينما يكون الماء يكون المال وأينما يكون المال تكون الفتنة.
٣- حرمة دعاء غير الله في المساجد وفي غيرها إلا أنها في المساجد أشد قبحا.
٤- الخير والغير والهدى والضلال لا يملكها إلا الله فليطلب ذلك منه لا من غيره.
٥- معصية الله والرسول موجبة لعذاب الدنيا والآخرة.
قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً (٢٥) عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً (٢٦) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً (٢٧) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً (٢٨)
453
شرح الكلمات:
قل إن أدري: أي قل ما أدري.
ما توعدون: أي من العذاب.
أمدا: أي غاية وأجلا لا يعلمه إلا هو.
فلا يظهر: أي لا يطلع.
من ارتضى من رسول: أي فإنه يطلعه.
رصدا: أي ملائكة يحفظونه حتى يبلغه مع الوحي الذي يبلغه لكافة الناس.
ليعلم: أي الله علم ظهور أن الرسل قد بلغوا رسالات ربهم.
أحصى كل شيء عددا: أي أحصى عدد كل شيء.
معنى الآيات:
قوله تعالى ﴿قُلْ إِنْ أَدْرِي﴾ أمر تعالى رسوله أن يقول للمشركين المطالبين بالعذاب استخفافا وعناداً أو تكذيباً أمره أن يقول لهم ما أدري أقريب ما وعدكم ربكم به من العذاب بحيث يحل بكم عاجلا أم يجعل له ربي١ أمدا أي غاية وأجلا بعيدا يعلمه هو ولا يعلمه غيره. عالم الغيب٢ إذ هو عالم الغيب٣ وحده فلا يظهر على غيبه أي لا يطلع على غيبه أحدا من عباده إلا من ارتضى من رسول أي رضيه أن يبلغ عنه فإنه يطلعه مع الاحتياط الكافي حتى لا يتسرب الخبر الغيب إلى الناس ﴿فَإِنَّهُ يَسْلُكُ٤ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ﴾ الرسول المرتضى ومن خلفه رصداً من الملائكة ثم يطلعه ضمن الوحي الذي يوحي إليه. وذلك ليعلم الرسول٥ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن الرسل قبله قد بلغت رسالات ربها لما أحاطها تعالى به من العناية حتى انه إذا جاءه الوحي كان معه أربعة ملائكة يحمونه من الشياطين حتى لا يسمعوا خبر السماء فيبلغوه أولياءهم من الإنس، فتكون فتنة في الناس وقوله ﴿وَأَحَاطَ﴾
١ قرأ نافع ربي بفتح الياء، وقرأ حفص ربي بإسكان الباء ممدودة.
٢ عالم نعت لربي. والغيب: ما غاب عن العبادة، ومعنى عالم الغيب أي العليم بكل ما هو غائب عن أعين الناس كالملائكة والجن وما سيحدث من أحداث في الكون.
٣ قالت العلماء لما تمدح الله تعالى بعلم الغيب واستأثر به دون خلقه كان فيه دليل على أنه لا يعلم الغيب أحد سواه، ثم استثنى من ارتضاه من الرسل فأودعهم ما شاء من غيبه بطريق الوحي إليهم، وجعله معجزة لهم ودلالة صادقة على نبوئتهم وليس المنجم ومن ضاهاه ممن يضرب بالحصى وينظر في الكتب ويزجر بالطير ممن ارتضاه من رسول يطلعه على ما يشاء من غيبه بل هو كافر بالله مفتر عليه لحدسه وتخمينه وكذبه.
٤ فإنه يسلك الخ يعني ملائكة يحفظونه من أن يقرب منه شيطان في صورة الملك فيحفظ الوحي من استراق الشيطان والإلقاء إلى الكهنة.
٥ معنى الآية: ليعلم أي محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن الرسل قبله قد أبلغوا الرسالة كما أبلغ هو الرسالة. وفي الكلام حذف تقديره أخبرناه بحفظنا الوحي ليعلم أن الرسل قبله كانوا على مثل حالته من التبليغ.
454
أي الله جل جلاله ﴿بِمَا لَدَيْهِمْ﴾ أي بما لدى الملائكة والرسل علما ﴿وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً﴾ ١ أي وأحصى عدد كل شيء فلا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
١-استئثار الله تعالى بعلم الغيب فلا يعلم الغيب إلا الله.
٢-قد يطلع الله تعالى من ارتضى أن يطلعه من الرسل على غيب خاص ويتم ذلك بعد حماية كاملة من الشياطين كيلا ينقلوه إلى أوليائهم فيفتنوا به الناس.
٣- بيان إحاطة علم الله بكل شيء واحصائه تعالى لكل شيء عدّا.
١ عدداً منصوب على الحال أو على المصدر أي أحصى وعد كل شيء عددا.
455
Icon