هي ثمان وعشرون آية وهي مكية. قال القرطبي : في قول الجميع. وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال : نزلت سورة الجن بمكة. وأخرج ابن مردويه عن عائشة وابن الزبير مثله.
ﰡ
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: فِي قَوْلِ الْجَمِيعِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الضُّرَيْسِ وَالنَّحَّاسُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَتْ سُورَةُ الْجِنِّ بمكة. وأخرج ابن مردويه عن عائشة وابن الزبير مثله.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الجن (٧٢) : الآيات ١ الى ١٣]بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً (١) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً (٢) وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً (٣) وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً (٤)وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً (٥) وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً (٦) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً (٧) وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً (٨) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً (٩)
وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً (١٠) وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً (١١) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً (١٢) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً (١٣)
قَوْلُهُ: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ قَرَأَ الْجُمْهُورُ: أُوحِيَ رباعيا. وقرأ ابن أبي عبلة وأبو إياس والعتكي عن أبي عمرو أحي ثُلَاثِيًّا، وَهُمَا لُغَتَانِ. وَاخْتُلِفَ هَلْ رَآهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْ لَمْ يَرَهُمْ؟ فَظَاهِرُ الْقُرْآنِ أَنَّهُ لَمْ يَرَهُمْ لِأَنَّ الْمَعْنَى: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِأُمَّتِكَ أُوحِيَ إِلَيَّ عَلَى لِسَانِ جِبْرِيلَ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ «١» وَيُؤَيِّدُ هَذَا مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَا قَرَأَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْجِنِّ، وَمَا رَآهُمْ. قَالَ عِكْرِمَةُ: وَالسُّورَةُ الَّتِي كَانَ يَقْرَؤُهَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هِيَ: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ «٢» وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَحْقَافِ ذِكْرُ مَا يُفِيدُ زِيَادَةً فِي هَذَا. قَوْلُهُ: أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ هَذَا هُوَ الْقَائِمُ مَقَامَ الْفَاعِلِ، وَلِهَذَا فُتِحَتْ أَنَّ، وَالضَّمِيرُ لِلشَّأْنِ.
وَعِنْدَ الْكُوفِيِّينَ وَالْأَخْفَشِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْقَائِمُ مَقَامَ الْفَاعِلِ الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ، وَالنَّفَرُ: اسْمٌ لِلْجَمَاعَةِ مَا بَيْنَ الثَّلَاثَةِ إِلَى الْعَشَرَةِ. قَالَ الضَّحَّاكُ: وَالْجِنُّ وَلَدُ الْجَانِّ وَلَيْسُوا شَيَاطِينَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: إِنَّهُمْ وَلَدُ إِبْلِيسَ. قِيلَ: هُمْ أَجْسَامٌ عَاقِلَةٌ خَفِيَّةٌ تَغْلِبُ عَلَيْهِمُ النَّارِيَّةُ وَالْهَوَائِيَّةُ، وَقِيلَ: نَوْعٌ مِنَ الْأَرْوَاحِ الْمُجَرَّدَةِ، وَقِيلَ: هِيَ النُّفُوسُ الْبَشَرِيَّةُ الْمُفَارِقَةُ لأبدانها.
(٢). العلق: ١.
وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ «١» وَقَوْلُ الْجِنِّ فِيمَا سَيَأْتِي فِي هَذِهِ السُّورَةِ:
أَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً
وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، فَقَالَ الْحَسَنُ: يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لَا يَدْخُلُونَهَا وَإِنْ صُرِفُوا عَنِ النَّارِ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِقَوْلِهِ فِي سُورَةِ الرَّحْمَنِ: لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ «٢» وَفِي سُورَةِ الرَّحْمَنِ آيَاتٌ غَيْرُ هَذِهِ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، فَرَاجِعْهَا، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الْحَقَّ أَنَّهُ لَمْ يُرْسِلِ اللَّهُ إِلَيْهِمْ رُسُلًا مِنْهُمْ، بَلِ الرُّسُلُ جَمِيعًا من الإنس، وإن أشعر قوله: لَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ
بِخِلَافِ هَذَا، فَهُوَ مَدْفُوعُ الظَّاهِرِ بِآيَاتٍ كَثِيرَةٍ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ دَالَّةٍ عَلَى أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يُرْسِلِ الرُّسُلَ إِلَّا مِنْ بَنِي آدَمَ، وَهَذِهِ الْأَبْحَاثُ الْكَلَامُ فِيهَا يَطُولُ، وَالْمُرَادُ الْإِشَارَةُ بِأَخْصَرِ عِبَارَةٍ. فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً أَيْ:
قَالُوا لِقَوْمِهِمْ لَمَّا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ، أَيْ: سَمِعْنَا كَلَامًا مَقْرُوءًا عَجَبًا فِي فَصَاحَتِهِ وَبَلَاغَتِهِ، وَقِيلَ: عَجَبًا فِي مَوَاعِظِهِ، وَقِيلَ: فِي بَرَكَتِهِ، وَعَجَبًا مَصْدَرٌ وُصِفَ بِهِ لِلْمُبَالَغَةِ، أَوْ عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ، أَيْ: ذَا عَجَبٍ، أَوِ الْمَصْدَرِ بِمَعْنَى اسْمِ الْفَاعِلِ، أَيْ: مُعْجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ أَيْ: إِلَى مَرَاشِدِ الْأُمُورِ، وَهِيَ الْحَقُّ وَالصَّوَابُ، وَقِيلَ: إِلَى مَعْرِفَةِ اللَّهِ، وَالْجُمْلَةُ صِفَةٌ أُخْرَى لِلْقُرْآنِ فَآمَنَّا بِهِ أَيْ: صَدَّقْنَا بِهِ بِأَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً مِنْ خَلْقِهُ، وَلَا نَتَّخِذُ مَعَهُ إِلَهًا آخَرَ لِأَنَّهُ الْمُتَفَرِّدُ بِالرُّبُوبِيَّةِ، وَفِي هَذَا تَوْبِيخٌ لِلْكُفَّارِ مِنْ بَنِي آدَمَ حَيْثُ آمَنَتِ الْجِنُّ بِسَمَاعِ الْقُرْآنِ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَانْتَفَعُوا بِسَمَاعِ آيَاتٍ يَسِيرَةٍ مِنْهُ، وَأَدْرَكُوا بِعُقُولِهِمْ أَنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ، وَآمَنُوا بِهِ، وَلَمْ يَنْتَفِعْ كُفَّارُ الْإِنْسِ لَا سِيَّمَا رُؤَسَاؤُهُمْ وَعُظَمَاؤُهُمْ بِسَمَاعِهِ مَرَّاتٍ مُتَعَدِّدَةً وَتِلَاوَتِهِ عَلَيْهِمْ فِي أَوْقَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ مَعَ كَوْنِ الرَّسُولِ مِنْهُمْ يَتْلُوهُ عَلَيْهِمْ بِلِسَانِهِمْ، لَا جَرَمَ صَرَعَهُمُ اللَّهُ أَذَلَّ مَصْرَعٍ، وَقَتَلَهُمْ أَقْبَحَ مَقْتَلٍ، وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا قرأ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَابْنُ عَامِرٍ وَحَفْصٌ وَعَلْقَمَةُ وَيَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ وَالْأَعْمَشُ وَخَلَفٌ وَالسُّلَمِيُّ وَأَنَّهُ تَعالى بِفَتْحِ أَنَّ، وَكَذَا قَرَءُوا فِيمَا بَعْدَهَا مِمَّا هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَيْهَا، وَذَلِكَ أَحَدَ عَشَرَ مَوْضِعًا إِلَى قَوْلِهِ: وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْكَسْرِ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ كُلِّهَا إِلَّا فِي قَوْلِهِ: وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَإِنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى الْفَتْحِ، أَمَّا مَنْ قَرَأَ بِالْفَتْحِ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ، فَعَلَى الْعَطْفِ عَلَى مَحَلِّ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ فِي فَآمَنَّا بِهِ كَأَنَّهُ قِيلَ: فَصَدَّقْنَاهُ وَصَدَّقْنَا أَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا إِلَخْ، وَأَمَّا مَنْ قَرَأَ بِالْكَسْرِ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ فعلى العطف على إنا سمعنا، أي: فَقَالُوا: إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا، وَقَالُوا: إِنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا إِلَى آخِرِهِ. وَاخْتَارَ أَبُو حَاتِمٍ وَأَبُو عُبَيْدٍ قِرَاءَةَ الْكَسْرِ لِأَنَّهُ كُلَّهُ مِنْ كَلَامِ الْجِنِّ، وَمِمَّا هُوَ مَحْكِيٌّ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: «فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا». وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَشُعْبَةُ بِالْفَتْحِ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ، وَهِيَ:
وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ قَالَا: لِأَنَّهُ مِنَ الْوَحْيِ، وَكَسَرَا مَا بَقِيَ لِأَنَّهُ مِنْ كَلَامِ الْجِنِّ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ بِالْفَتْحِ لِأَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: «أَنَّهُ اسْتَمَعَ». وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَشَيْبَةُ وَزِرُّ بْنُ حُبَيْشٍ وَأَبُو بَكْرٍ وَالْمُفَضَّلُ عَنْ عَاصِمٍ بالكسر
(٢). الرّحمن: ٥٦.
الْعَظَمَةُ وَالْجَلَالُ، يُقَالُ: جَدَّ فِي عَيْنِي: أي عظم، فالمعنى: ارتفعت عَظَمَةُ رَبِّنَا وَجَلَالُهُ، وَبِهِ قَالَ عِكْرِمَةُ وَمُجَاهِدٌ. وَقَالَ الْحَسَنُ: الْمُرَادُ تَعَالَى غِنَاهُ، وَمِنْهُ قِيلَ لِلْحَظِّ: جَدٌّ، وَرَجُلٌ مَجْدُودٌ، أَيْ: مَحْظُوظٌ، وَفِي الْحَدِيثِ: «وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ»، قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ وَالْخَلِيلُ: أَيْ لَا يَنْفَعُ ذَا الْغِنَى مِنْكَ الْغِنَى، أَيْ:
إِنَّمَا تَنْفَعُهُ الطاعة، وقال القرظيّ وَالضَّحَّاكُ: جَدُّهُ: آلَاؤُهُ وَنِعَمُهُ عَلَى خَلْقِهِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْأَخْفَشُ:
مُلْكُهُ وَسُلْطَانُهُ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: أَمْرُهُ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا أَيْ: تَعَالَى رَبُّنَا، وَقِيلَ: جَدُّهُ قُدْرَتُهُ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ وَابْنُهُ جَعْفَرٌ الصَّادِقُ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: لَيْسَ لِلَّهِ جَدٌّ، وَإِنَّمَا قَالَتْهُ الْجِنُّ لِلْجَهَالَةِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: جَدُّ بِفَتْحِ الْجِيمِ، وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ وَأَبُو حيوة ومحمد بن السّميقع بِكَسْرِ الْجِيمِ، وَهُوَ ضِدُّ الْهَزْلِ، وَقَرَأَ أَبُو الأشهب: جدا رَبِّنَا أَيْ: جَدْوَاهُ وَمَنْفَعَتُهُ. وَرُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ أَيْضًا أَنَّهُ قَرَأَ بِتَنْوِينِ جَدُّ وَرَفْعِ رَبِّنَا عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ جَدُّ. مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً هَذَا بَيَانٌ لِتَعَالِي جَدِّهِ سُبْحَانَهُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: تَعَالَى جَلَالُ رَبِّنَا وَعَظَمَتُهُ عَنْ أَنْ يَتَّخِذَ صَاحِبَةً أَوْ وَلَدًا، وَكَأَنَّ الْجِنَّ نَبَّهُوا بِهَذَا عَلَى خَطَأِ الْكُفَّارِ الَّذِينَ يَنْسُبُونَ إِلَى اللَّهِ الصَّاحِبَةَ وَالْوَلَدَ، وَنَزَّهُوا اللَّهَ سُبْحَانَهُ عَنْهُمَا وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً الضَّمِيرُ فِي أَنَّهُ لِلْحَدِيثِ أَوِ الْأَمْرِ، وَ «سَفِيهُنَا» يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْمَ كَانَ، وَ «يَقُولُ» الْخَبَرُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ «سَفِيهُنَا» فَاعِلَ يَقُولُ: وَالْجُمْلَةُ خَبَرُ كَانَ، وَاسْمُهَا ضَمِيرٌ يَرْجِعُ إِلَى الْحَدِيثِ أَوِ الْأَمْرِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ كَانَ زَائِدَةً، وَمُرَادُهُمْ بِسَفِيهِهِمْ: عُصَاتُهُمْ وَمُشْرِكُوهُمْ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَابْنُ جُرَيْجٍ وَقَتَادَةُ: أَرَادُوا بِهِ إِبْلِيسَ، وَالشَّطَطُ: الْغُلُوُّ فِي الْكُفْرِ. وَقَالَ أَبُو مَالِكٍ: الْجَوْرُ، وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: الْكَذِبُ، وَأَصْلُهُ الْبُعْدُ عَنِ الْقَصْدِ وَمُجَاوَزَةُ الْحَدِّ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
بِأَيَّةِ حَالٍ حُكِّمُوا فِيكَ فَاشْتَطُّوا | وَمَا ذَاكَ إِلَّا حَيْثُ يَمَّمَكَ الْوَخْطُ «١» |
لَا شَيْءَ يَنْفَعُنِي مِنْ دُونِ رُؤْيَتِهَا | هَلْ يَشْتَفِي عَاشِقٌ مَا لَمْ يُصِبْ رَهَقَا |
طلبنا خبرها كَمَا بِهِ جَرَتْ عَادَتُنَا فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً مِنَ الْمَلَائِكَةِ يَحْرُسُونَهَا عَنِ اسْتِرَاقِ السَّمْعِ، وَالْحَرَسُ: جمع حارس، وشَدِيداً صفة لحرسا، أَيْ: قَوِيًّا وَشُهُباً جَمْعُ: شِهَابٍ، وَهُوَ الشُّعْلَةُ الْمُقْتَبَسَةُ مِنْ نَارِ الْكَوْكَبِ، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ في تفسير قوله: وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ وَمَحَلُّ قَوْلِهِ:
مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً النَّصْبُ عَلَى أَنَّهُ ثَانِي مَفْعُولَيْ وَجَدْنَا لِأَنَّهُ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُتَعَدِّيًا إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ، فَيَكُونُ مَحَلُّ الْجُمْلَةِ النَّصْبُ عَلَى الْحَالِ بِتَقْدِيرِ قَدْ، وَحَرَسًا مَنْصُوبٌ عَلَى التَّمْيِيزِ، وَوَصْفُهُ بِالْمُفْرِدِ اعْتِبَارًا بِاللَّفْظِ، كَمَا يُقَالُ السَّلَفُ الصَّالِحُ، أَيِ: الصَّالِحِينَ وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ أَيْ: وَأَنَّا كُنَّا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَبْلَ هَذَا نَقْعُدُ مِنَ السَّمَاءِ مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ، أَيْ: مَوَاضِعَ نَقْعُدُ فِي مِثْلِهَا لِاسْتِمَاعِ الْأَخْبَارِ مِنَ السماء، و «للسمع» متعلق بنقعد، أي: لأجل السمع، أو بمضمر هو صفة لمقاعد، أَيْ: مَقَاعِدَ كَائِنَةً لِلسَّمْعِ، وَالْمَقَاعِدُ: جَمْعُ مَقْعَدٍ، اسم كان، وَذَلِكَ أَنَّ مَرَدَةَ الْجِنِّ كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ لِيَسْمَعُوا مِنَ الْمَلَائِكَةِ أَخْبَارَ السَّمَاءِ فَيُلْقُونَهَا إِلَى الْكَهَنَةِ، فَحَرَسَهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِبَعْثِهِ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالشُّهُبِ الْمُحْرِقَةِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ:
فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً أَيْ: أُرْصِدَ لَهُ لِيُرْمَى بِهِ، أَوْ لِأَجْلِهِ لِمَنْعِهِ مِنَ السَّمَاعِ، وَقَوْلُهُ:
الْآنَ هُوَ ظَرْفٌ لِلْحَالِ، وَاسْتُعِيرَ لِلِاسْتِقْبَالِ، وَانْتِصَابُ «رَصَدًا» عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لِ «شِهَابًا»، أَوْ مَفْعُولٌ لَهُ، وَهُوَ مُفْرَدٌ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْمَ جَمْعٍ كالحرس.
وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها الْآيَةَ، قَالَ: غُلِّظَتْ وَشُدِّدَ أَمْرُهَا حِينَ بُعِثَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: إِنَّ الرَّجْمَ قَدْ كَانَ قَبْلَ مَبْعَثِهِ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِثْلُهُ فِي شِدَّةِ الْحِرَاسَةِ بَعْدَ مَبْعَثِهِ، وَكَانُوا يَسْتَرِقُونَ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ، فَلَمَّا بُعِثَ مُنِعُوا مِنْ ذَلِكَ أَصْلًا. وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ سَابُورَ: لَمْ تَكُنِ السَّمَاءُ تُحْرَسُ فِي الْفَتْرَةِ بَيْنَ عِيسَى وَمُحَمَّدٍ، فَلَمَّا بُعِثَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُرِسَتِ السَّمَاءُ، وَرُمِيَتِ الشَّيَاطِينُ بِالشُّهُبِ، وَمُنِعَتْ مِنَ الدُّنُوِّ إِلَى السَّمَاءِ. وَقَالَ نَافِعُ بْنُ جُبَيْرٍ: كَانَتِ الشَّيَاطِينُ فِي الْفَتْرَةِ تَسْمَعُ فَلَا تُرْمَى، فَلَمَّا بُعِثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رُمِيَتْ بِالشُّهُبِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْبَحْثُ عَنْ هَذَا وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً أَيْ: لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِأَهْلِ الْأَرْضِ بِسَبَبِ هَذِهِ الْحِرَاسَةِ لِلسَّمَاءِ، أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا، أَيْ: خَيْرًا. قَالَ ابْنُ زَيْدٍ:
قَالَ إِبْلِيسُ: لَا نَدْرِي أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا الْمَنْعِ أَنْ يُنْزِلَ عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ عَذَابًا، أَوْ يُرْسِلُ إِلَيْهِمْ رَسُولًا، وَارْتِفَاعُ أَشَرٌّ عَلَى الِاشْتِغَالِ، أَوْ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَخَبَرُهُ مَا بَعْدَهُ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَالْجُمْلَةُ سَادَّةٌ مَسَدَّ مَفْعُولَيْ نَدْرِي، وَالْأَوْلَى أَنَّ هَذَا مِنْ قَوْلِ الْجِنِّ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَلَيْسَ مِنْ قَوْلِ إِبْلِيسَ كَمَا قَالَ ابْنُ زَيْدٍ وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ أَيْ: قَالَ بَعْضٌ لِبَعْضٍ لَمَّا دَعَوْا أَصْحَابَهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَأَنَّا كُنَّا قَبْلَ اسْتِمَاعِ الْقُرْآنِ مِنَّا الْمَوْصُوفُونَ بِالصَّلَاحِ، وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ أَيْ: قَوْمٌ دُونَ ذَلِكَ، أَيْ: دُونَ الْمَوْصُوفِينَ بِالصَّلَاحِ، وَقِيلَ: أَرَادَ بِ «الصَّالِحُونَ» الْمُؤْمِنِينَ، وَبِمَنْ هُمْ دُونَ ذَلِكَ الْكَافِرِينَ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَمَعْنَى كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً أَيْ:
جَمَاعَاتٍ مُتَفَرِّقَةً وَأَصْنَافًا مُخْتَلِفَةً، وَالْقِدَةُ: الْقِطْعَةُ مِنَ الشَّيْءِ، وَصَارَ الْقَوْمُ قِدَدًا إِذَا تَفَرَّقَتْ أَحْوَالُهُمْ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
الْقَابِضُ الْبَاسِطُ الْهَادِي لِطَاعَتِهِ | فِي فِتْنَةِ النَّاسِ إِذْ أَهْوَاؤُهُمْ قِدَدُ |
لَمْ تَبْلُغِ الْعَيْنُ كُلَّ نَهْمَتِهَا | يَوْمَ تَمْشِي الْجِيَادُ بِالْقِدَدِ |
وَلَقَدْ قُلْتُ وَزَيْدٌ حَاسِرٌ | يَوْمَ وَلَّتْ خَيْلُ عَمْرٍو قِدَدًا |
لَا يَخَافُ نَقْصًا فِي عَمَلِهِ وَثَوَابِهِ، وَلَا ظُلْمًا وَمَكْرُوهًا يغشاه، والبخس: النقصان، والرهق: العدوان والطغيان، وَالْمَعْنَى: لَا يَخَافُ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ حَسَنَاتِهِ وَلَا أَنْ يُزَادَ فِي سَيِّئَاتِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَحْقِيقُ الرَّهَقِ قَرِيبًا.
قَرَأَ الْجُمْهُورُ: بَخْساً بِسُكُونِ الْخَاءِ، وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ بِفَتْحِهَا. وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ وَالْأَعْمَشُ فَلَا يَخَفْ جَزْمًا عَلَى جَوَابِ الشَّرْطِ، وَلَا وَجْهَ لِهَذَا بَعْدَ دُخُولِ الْفَاءِ، وَالتَّقْدِيرُ: فَهُوَ لَا يَخَافُ، وَالْأَمْرُ ظَاهِرٌ.
وَقَدْ أَخْرَجَ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُمْ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: انْطَلَقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ عَامِدِينَ إِلَى سُوقِ عُكَاظٍ، وَقَدْ حِيلَ بَيْنَ الشَّيَاطِينِ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ، وَأُرْسِلَتْ عَلَيْهِمُ الشُّهُبُ، فَرَجَعَتِ الشَّيَاطِينُ إِلَى قَوْمِهِمْ، فَقَالُوا: مَا لَكُمْ؟ فَقَالُوا: حِيلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ وَأُرْسِلَتْ عَلَيْنَا الشُّهُبُ، قَالُوا: مَا حَالَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ إِلَّا شَيْءٌ حَدَثَ، فَاضْرِبُوا مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا لِتَعْرِفُوا مَا هَذَا الْأَمْرُ الَّذِي حَالَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ، فَانْصَرَفَ أُولَئِكَ الَّذِينَ تَوَجَّهُوا نَحْوَ تِهَامَةَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِنَخْلَةَ عَامِدِينَ إِلَى سُوقِ عُكَاظٍ، وَهُوَ يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ صَلَاةَ الفجر، فلما سمعوا القرآن استمعوا له، فقالوا: هَذَا وَاللَّهِ الَّذِي حَالَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ خَبَرِ السماء، فهنالك رَجَعُوا إِلَى قَوْمِهِمْ فَقالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ وَإِنَّمَا أُوحِيَ إِلَيْهِ قَوْلُ الْجِنِّ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ قَالَ: كَانُوا مِنْ جِنِّ نَصِيبِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا قَالَ: آلَاؤُهُ وَعَظَمَتُهُ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي الْآيَةِ قَالَ: أَمْرُهُ وَقُدْرَتُهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالدَّيْلَمِيُّ، قَالَ السُّيُوطِيُّ: بِسَنَدٍ وَاهٍ، عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ مَرْفُوعًا فِي قَوْلِهِ: وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا قَالَ: إِبْلِيسُ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْعُقَيْلِيُّ فِي الضُّعَفَاءِ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَأَبُو الشَّيْخِ فِي الْعَظَمَةِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَابْنُ عساكر عن كردم بْنِ أَبِي السَّائِبِ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: خَرَجْتُ مَعَ أَبِي إِلَى الْمَدِينَةِ فِي حَاجَةٍ، وَذَلِكَ أَوَّلُ مَا ذُكِرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ، فَآوَانَا الْمَبِيتُ إِلَى رَاعِي غَنَمٍ، فَلَمَّا انْتَصَفَ اللَّيْلُ جَاءَ ذِئْبٌ فَأَخَذَ حَمَلًا مِنَ الْغَنَمِ، فَوَثَبَ الرَّاعِي فَقَالَ: يَا عَامِرَ الْوَادِي أَنَا جَارُكَ، فَنَادَى مُنَادٍ: يَا سَرْحَانُ أَرْسِلْهُ، فَأَتَى الْحَمَلُ يَشْتَدُّ حَتَّى دَخَلَ فِي الْغَنَمِ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ بِمَكَّةَ: وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ الْآيَةُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فَزادُوهُمْ رَهَقاً قَالَ: إِثْمًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ قَالَ: كَانَ الْقَوْمُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا نَزَلُوا بِالْوَادِي قَالُوا: نَعُوذُ بِسَيِّدِ هَذَا الْوَادِي مِنْ شَرِّ مَا فِيهِ، فَلَا يَكُونُ بِشَيْءٍ أَشَدَّ وَلَعًا منهم بهم، فذلك قَوْلُهُ: فَزادُوهُمْ رَهَقاً. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وأحمد وعبد ابن حُمَيْدٍ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، وَالنِّسَائِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَأَبُو نُعَيْمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَتِ الشَّيَاطِينُ لَهُمْ مَقَاعِدُ فِي السَّمَاءِ يَسْمَعُونَ فِيهَا الْوَحْيَ، فَإِذَا سَمِعُوا الْكَلِمَةَ زَادُوا فِيهَا تِسْعًا، فَأَمَّا
بأية حال حكموا فيك فاشتطوا | وما ذاك إلاّ حيث يممك الوخط |
لا شيء ينفعني من دون رؤيتها | هل يشتفي عاشق ما لم يصب رهقاً |
وقد اختلفوا هل كانت الشياطين ترمى بالشهب قبل المبعث أم لا ؟ فقال قوم : لم يكن ذلك. وحكى الواحدي عن معمر قال : قلت للزهري : أكان يرمى بالنجوم في الجاهلية ؟ قال : نعم، قلت : أفرأيت قوله :﴿ وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا ﴾ الآية، قال : غلظت وشدد أمرها حين بعث محمد صلى الله عليه وسلم. قال ابن قتيبة : إن الرجم قد كان قبل مبعثه، ولكنه لم يكن مثله في شدّة الحراسة بعد مبعثه، وكانوا يسترقون في بعض الأحوال، فلما بعث منعوا من ذلك أصلاً. وقال عبد الملك بن سابور : لم تكن السماء تحرس في الفترة بين عيسى ومحمد، فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم حرست السماء ورميت الشياطين بالشهب، ومنعت من الدنوّ إلى السماء. وقال نافع بن جبير : كانت الشياطين في الفترة تسمع فلا ترمى، فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رميت بالشهب، وقد تقدّم البحث عن هذا.
القابض الباسط الهادي لطاعته *** في فتنة الناس إذ أهواؤهم قدد
والمعنى : كنا ذوي طرائق قدداً، أو كانت طرائقنا طرائق قدداً، أو كنا مثل طرائق قدداً ومن هذا قول لبيد :
لم تبلغ العين كل نهمتها *** يوم تمشي الجياد بالقدد
وقوله أيضاً :
ولقد قلت وزيد حاسر *** يوم ولت خيل عمرو قدداً
قال السديّ والضحاك : أدياناً مختلفة، وقال قتادة : أهواء متباينة. وقال سعيد بن المسيب : كانوا مسلمين ويهود ونصارى ومجوس وكذا قال مجاهد. قال الحسن : الجنّ أمثالكم قدرية ومرجئة ورافضة وشيعة، وكذا قال السديّ.
منّا المسلم، ومنّا المشرك، وكُنَّا طَرائِقَ قِدَداً أَهْوَاءً شَتَّى. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً قَالَ: لَا يَخَافُ نَقْصًا من حسناته، ولا زيادة في سيئاته.
[سورة الجن (٧٢) : الآيات ١٤ الى ٢٨]
وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً (١٤) وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً (١٥) وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ مَاءً غَدَقاً (١٦) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً (١٧) وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً (١٨)
وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً (١٩) قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً (٢٠) قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً (٢١) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (٢٢) إِلاَّ بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسالاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً (٢٣)
حَتَّى إِذا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً (٢٤) قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً (٢٥) عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً (٢٦) إِلاَّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً (٢٧) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً (٢٨)
قَوْلُهُ: وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ هُمُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ أَيِ: الْجَائِرُونَ الظَّالِمُونَ الَّذِينَ حَادُوا عَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ، وَمَالُوا إِلَى طَرِيقِ الْبَاطِلِ، يُقَالُ: قَسَطَ إِذَا جَارَ، وَأَقْسَطَ إِذَا عَدَلَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً أَيْ: قَصَدُوا طَرِيقَ الْحَقِّ. قَالَ الْفَرَّاءُ: أمّوا الهدى أَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً
أَيْ: وَقُودًا لِلنَّارِ توقد بهم كما توقد بكفرة الإنس وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ هَذَا لَيْسَ مِنْ قَوْلِ الْجِنِّ بَلْ هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ وَالْمَعْنَى: وَأُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّ الشَّأْنَ لَوِ اسْتَقَامَ الْجِنُّ أَوِ الْإِنْسُ أَوْ كِلَاهُمَا عَلَى الطَّرِيقَةِ، وَهِيَ طَرِيقَةُ الْإِسْلَامِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الْقُرَّاءَ اتَّفَقُوا عَلَى فَتْحِ «أَنَّ» هاهنا. قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: وَالْفَتْحُ هُنَا عَلَى إِضْمَارِ يَمِينٍ تَأْوِيلُهَا: وَاللَّهِ أَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطريقة كما يقال في الكلام: والله أن قمت لقمت، وو الله لَوْ قُمْتَ لَقُمْتُ، كَمَا فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ:
أما والله أن لو كنت حرّا | وما بِالْحُرِّ أَنْتَ وَلَا الْعَتِيقِ |
وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً- وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ «٢» وَقَوْلُهُ: اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً- يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً- وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ «٣» الْآيَةَ. وَقِيلَ الْمَعْنَى: وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامَ أَبُوهُمْ عَلَى عِبَادَتِهِ، وَسَجَدَ لِآدَمَ، وَلَمْ يَكْفُرْ، وَتَبِعَهُ وَلَدُهُ عَلَى الْإِسْلَامِ لَأَنْعَمْنَا عَلَيْهِمْ، وَاخْتَارَ هَذَا الزَّجَّاجُ. وَالْمَاءُ الْغَدَقُ: هُوَ الْكَثِيرُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ أَيْ: لِنَخْتَبِرَهُمْ فَنَعْلَمَ كَيْفَ شُكْرُهُمْ عَلَى تِلْكَ النِّعَمِ.
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: الْمَعْنَى وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ الَّتِي هُمْ عَلَيْهَا مِنَ الْكُفْرِ فَكَانُوا كُلُّهُمْ كُفَّارًا لَأَوْسَعْنَا أَرْزَاقَهُمْ مَكْرًا بِهِمْ وَاسْتِدْرَاجًا حَتَّى يُفْتَنُوا بِهَا فَنُعَذِّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَبِهِ قَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ وَابْنُهُ عَبْدُ الرّحمن والثّمالي ويمان بن رباب وَابْنُ كَيْسَانَ وَأَبُو مِجْلَزٍ، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ «٤» وَقَوْلُهُ: وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ «٥» الْآيَةَ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً أَيْ: وَمَنْ يُعْرِضْ عَنِ الْقُرْآنِ، أَوْ عَنِ الْعِبَادَةِ، أَوْ عَنِ الْمَوْعِظَةِ، أَوْ عَنْ جَمِيعِ ذَلِكَ يَسْلُكْهُ، أَيْ:
يُدْخِلْهُ عَذَابًا صَعَدًا، أَيْ: شَاقًّا صَعْبًا. قَرَأَ الْجُمْهُورُ نَسْلُكُهُ بِالنُّونِ مَفْتُوحَةً. وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ وَأَبُو عَمْرٍو فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ، وَاخْتَارَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ أَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو حَاتِمٍ لِقَوْلِهِ: عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ وَلَمْ يَقُلْ عَنْ ذِكْرِنَا. وَقَرَأَ مُسْلِمُ بْنُ جُنْدُبٍ وَطَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ وَالْأَعْرَجُ بِضَمِّ النُّونِ وَكَسْرِ اللَّامِ، مِنْ أَسْلَكَهُ، وَقِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ مِنْ سَلَكَهُ. وَالصَّعَدُ فِي اللغة: المشقة، تقول: تصعّدني الْأَمْرُ: إِذَا شَقَّ عَلَيْكَ، وَهُوَ مَصْدَرُ صَعِدَ، يُقَالُ: صَعِدَ صَعْدًا وَصُعُودًا، فَوَصَفَ بِهِ الْعَذَابَ مُبَالَغَةً لِأَنَّهُ يَتَصَعَّدُ الْمُعَذَّبَ، أَيْ: يَعْلُوهُ وَيَغْلِبُهُ فَلَا يُطِيقُهُ.
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: الصَّعَدُ مَصْدَرٌ، أَيْ: عَذَابًا ذَا صَعَدٍ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: الصَّعَدُ: هُوَ صَخْرَةٌ مَلْسَاءُ فِي جَهَنَّمَ يُكَلَّفُ صُعُودَهَا، فَإِذَا انْتَهَى إِلَى أَعْلَاهَا حَدَرَ إِلَى جَهَنَّمَ، كما في قوله: سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً «٦» والصعود:
العقبة الكؤود وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ قَدْ قَدَّمَنَا اتِّفَاقَ الْقُرَّاءِ هُنَا عَلَى الْفَتْحِ فَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى أَنَّهُ اسْتَمَعَ، أَيْ:
وَأُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّ الْمَسَاجِدَ مُخْتَصَّةٌ بِاللَّهِ. وَقَالَ الْخَلِيلُ: التَّقْدِيرُ وَلِأَنَّ الْمَسَاجِدَ. وَالْمَسَاجِدُ: الْمَوَاضِعُ الَّتِي بُنِيَتْ لِلصَّلَاةِ فِيهَا. قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: قَالَتِ الْجِنَّ: كَيْفَ لَنَا أَنْ نأتي المساجد، ونشهد معك الصلاة، ونحن ناؤون عَنْكَ؟ فَنَزَلَتْ. وَقَالَ الْحَسَنُ: أَرَادَ بِهَا كُلَّ الْبِقَاعِ لِأَنَّ الْأَرْضَ كُلَّهَا مَسْجِدٌ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَطَلْقُ بْنُ حَبِيبٍ: أَرَادَ بِالْمَسَاجِدِ الْأَعْضَاءَ الَّتِي يَسْجُدُ عَلَيْهَا الْعَبْدُ، وَهِيَ الْقَدَمَانِ والركبتان واليدان والجبهة،
(٢). الطلاق: ٢- ٣.
(٣). نوح: ١٠- ١٢.
(٤). الأنعام: ٤٤.
(٥). الزخرف: ٣٣.
(٦). المدثر: ١٧. [.....]
الَّذِي يُفْرَشُ لِتَرَاكُمِ صُوفِهِ، وَكُلُّ شَيْءٍ أَلْصَقْتَهُ إِلْصَاقًا شَدِيدًا فَقَدْ لَبَّدْتَهُ، وَيُقَالُ لِلشَّعَرِ الَّذِي عَلَى ظَهْرِ الْأَسَدِ:
لُبْدَةٌ، وَجَمْعُهَا لُبَدٌ، وَيُقَالُ لِلْجَرَادِ الْكَثِيرِ: لُبَدٌ وَيُطْلَقُ اللُّبَدُ بِضَمِّ اللَّامِ وَفَتْحِ الْبَاءِ عَلَى الشَّيْءِ الدَّائِمِ، وَمِنْهُ قِيلَ لِنَسْرِ لُقْمَانَ لُبَدٌ لِطُولِ بَقَائِهِ، وَهُوَ الْمَقْصُودُ بِقَوْلِ النَّابِغَةِ:
أَخْنَى عَلَيْهَا الَّذِي أخنى على لبد «٣»
قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي أَيْ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَأَعْبُدُهُ وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً مِنْ خَلْقِهِ.
قَرَأَ الْجُمْهُورُ: قَالَ وَقَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ «قُلْ» عَلَى الْأَمْرِ. وَسَبَبُ نُزُولِهَا إِنَّ كُفَّارَ قُرَيْشٍ قَالُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّكَ جِئْتَ بِأَمْرٍ عَظِيمٍ، وَقَدْ عَادَيْتَ النَّاسَ كُلَّهُمْ، فَارْجِعْ عَنْ هَذَا فَنَحْنُ نُجِيرُكَ قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً أَيْ: لَا أَقْدِرُ أَنْ أَدْفَعَ عَنْكُمْ ضَرًّا، وَلَا أَسُوقُ إِلَيْكُمْ خَيْرًا، وَقِيلَ: الضُّرُّ: الْكُفْرُ، وَالرَّشَدُ: الْهُدَى، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِوُقُوعِ النَّكِرَتَيْنِ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، فَهُمَا يَعُمَّانِ كُلَّ ضَرَرٍ وَكُلَّ رَشَدٍ فِي الدُّنْيَا وَالدِّينِ قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ أَيْ: لَا يَدْفَعُ عَنِّي أَحَدٌ عَذَابَهُ إِنْ أَنْزَلَهُ بِي وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً أَيْ: مَلْجَأً وَمَعْدِلًا وحرزا، والملتحد معناه في اللغة: الممال أي: موضعا أميل إليه. قال قتادة:
مولى. وقال السدّي: حرزا، وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: مَدْخَلًا فِي الْأَرْضِ مِثْلَ السِّرْبِ، وقيل: مذهبا ومسلكا،
(٢). البلد: ٦.
(٣). وصدره: أضحت خلاء وأضحى أهلها احتملوا.
يَا لَهَفَ نفسي ولهفي غَيْرَ مُجْدِيَةٍ | عَنِّي وَمَا مِنْ قَضَاءِ اللَّهِ مُلْتَحَدُ |
وَرِسالاتِهِ مَعْطُوفٌ عَلَى بَلَاغًا، أَيْ: إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَإِلَّا رِسَالَاتِهِ الَّتِي أَرْسَلَنِي بِهَا إِلَيْكُمْ، أَوْ إِلَّا أَنْ أُبَلِّغَ عَنِ اللَّهِ وَأَعْمَلَ بِرِسَالَاتِهِ، فَآخُذَ نَفْسِي بِمَا آمُرُ بِهِ غَيْرِي. وَقِيلَ: الرِّسَالَاتُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الِاسْمِ الشَّرِيفِ، أَيْ: إِلَّا بَلَاغًا عَنِ اللَّهِ وَعَنْ رِسَالَاتِهِ، كَذَا قَالَ أَبُو حَيَّانَ وَرَجَّحَهُ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فِي الْأَمْرِ بِالتَّوْحِيدِ لِأَنَّ السِّيَاقَ فِيهِ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِكَسْرِ إِنَّ عَلَى أَنَّهَا جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ. وَقُرِئَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ لِأَنَّ مَا بَعْدَ فَاءِ الْجَزَاءِ مَوْضِعُ ابْتِدَاءٍ، وَالتَّقْدِيرُ: فَجَزَاؤُهُ أَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ، أَوْ: فَحُكْمُهُ أَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ، وَانْتِصَابُ خالِدِينَ فِيها عَلَى الْحَالِ، أَيْ: فِي النَّارِ أَوْ فِي جَهَنَّمَ، وَالْجَمْعُ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى مِنْ كَمَا أَنَّ التَّوْحِيدَ فِي قَوْلِهِ: فَإِنَّ لَهُ بِاعْتِبَارِ لَفْظِهَا، وَقَوْلُهُ: أَبَداً تَأْكِيدٌ لِمَعْنَى الْخُلُودِ، أَيْ: خَالِدِينَ فِيهَا بِلَا نِهَايَةٍ حَتَّى إِذا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ يَعْنِي مِنَ الْعَذَابِ فِي الدُّنْيَا أَوْ فِي الْآخِرَةِ. وَالْمَعْنَى: لَا يَزَالُونَ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْإِصْرَارِ عَلَى الْكُفْرِ وَعَدَاوَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ حَتَّى إِذَا رَأَوُا الَّذِي يُوعَدُونَ بِهِ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً أَيْ: مَنْ هُوَ أَضْعَفُ جُنْدًا يَنْتَصِرُ بِهِ وَأَقَلُّ عَدَدًا، أَهُمْ أَمِ الْمُؤْمِنُونَ؟ قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَيْ: مَا أَدْرِي أَقَرِيبٌ حُصُولُ مَا تُوعَدُونَ مِنَ الْعَذَابِ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً أَيْ: غَايَةً وَمُدَّةً، أَمَرَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنَّ يَقُولَ لَهُمْ هَذَا الْقَوْلَ لِمَا قَالُوا لَهُ: مَتَى يَكُونُ هَذَا الَّذِي تُوعِدُنَا بِهِ؟ قَالَ عَطَاءٌ: يُرِيدُ أَنَّهُ لَا يَعْرِفُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ، وَالْمَعْنَى أَنَّ عِلْمَ وَقْتِ الْعَذَابِ عِلْمُ غَيْبٍ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ رَبِّي بِإِسْكَانِ الْيَاءِ. وَقَرَأَ الْحَرَمِيَّانِ وأبو عمرو بفتحها.
ومَنْ في مَنْ أَضْعَفُ موصولة، وأضعف خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: هُوَ أَضْعَفُ، وَالْجُمْلَةُ صِلَةُ الْمَوْصُولِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ اسْتِفْهَامِيَّةً مُرْتَفِعَةً على الابتداء، وأضعف: خَبَرُهَا. وَالْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ سَادَّةٌ مَسَدَّ مَفْعُولَيْ «أَدْرِي»، وَقَوْلُهُ: أَقَرِيبٌ خَبَرٌ مُقَدَّمٌ وَما تُوعَدُونَ مُبْتَدَأٌ مُؤَخَّرٌ عالِمُ الْغَيْبِ قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ «رَبِّي»، أَوْ بَيَانٌ لَهُ، أَوْ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ مُقَرِّرَةٌ لِمَا قَبْلَهَا مِنْ عَدَمِ الدِّرَايَةِ. وَقُرِئَ بِالنَّصْبِ عَلَى الْمَدْحِ. وَقَرَأَ السَّرِيُّ «عَلِمَ الْغَيْبَ» بِصِيغَةِ الْفِعْلِ وَنَصْبِ الْغَيْبِ، وَالْفَاءُ فِي فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً لِتَرْتِيبِ عَدَمِ الْإِظْهَارِ عَلَى تَفَرُّدِهِ بِعِلْمِ الْغَيْبِ، أَيْ: لَا يُطْلِعُ عَلَى الْغَيْبِ الَّذِي يَعْلَمُهُ، وَهُوَ مَا غَابَ عَنِ الْعِبَادِ، أَحَدًا مِنْهُمْ، ثُمَّ اسْتَثْنَى فَقَالَ: إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ أَيْ: إِلَّا مَنِ اصْطَفَاهُ مِنَ الرُّسُلِ، أَوْ مَنِ ارْتَضَاهُ مِنْهُمْ لِإِظْهَارِهِ عَلَى بَعْضِ غَيْبِهِ لِيَكُونَ ذلك دالّا
الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يُطْلِعُهُ عَلَى بَعْضِ غَيْبِهِ، وَهُوَ مَا يَتَعَلَّقُ بِرِسَالَتِهِ كَالْمُعْجِزَةِ وَأَحْكَامِ التَّكَالِيفِ وَجَزَاءِ الْأَعْمَالِ وَمَا يُبَيِّنُهُ مِنْ أَحْوَالِ الْآخِرَةِ، لَا مَا لَا يَتَعَلَّقُ بِرِسَالَتِهِ مِنَ الْغُيُوبِ، كَوَقْتِ قِيَامِ السَّاعَةِ وَنَحْوِهِ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنِ ادَّعَى أَنَّ النُّجُومَ تَدُلُّهُ عَلَى مَا يَكُونُ مِنْ حَادِثٍ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا فِي الْقُرْآنِ. قَالَ فِي الْكَشَّافِ: وَفِي هَذَا إِبْطَالٌ لِلْكَرَامَاتِ لِأَنَّ الَّذِينَ تُضَافُ إِلَيْهِمْ وَإِنْ كَانُوا أَوْلِيَاءَ مُرْتَضِينَ فَلَيْسُوا بِرُسُلٍ، وَقَدْ خَصَّ اللَّهُ الرُّسُلَ مِنْ بَيْنِ الْمُرْتَضِينَ بِالِاطِّلَاعِ عَلَى الْغَيْبِ، وَإِبْطَالٍ لِلْكِهَانَةِ وَالتَّنْجِيمِ لِأَنَّ أَصْحَابَهُمَا أَبْعَدُ شَيْءٍ مِنَ الِارْتِضَاءِ، وَأَدْخَلُهُ فِي السُّخْطِ. قَالَ الرَّازِيُّ: وَعِنْدِي لَا دَلَالَةَ فِي الْآيَةِ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا قَالُوهُ إِذْ لَا صِيغَةَ عُمُومٍ فِي غَيْبِهِ، فَتُحْمَلُ عَلَى غَيْبٍ وَاحِدٍ وَهُوَ وَقْتُ الْقِيَامَةِ لِأَنَّهُ وَاقِعٌ بَعْدِ قَوْلِهِ: أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ الْآيَةَ. فَإِنْ قِيلَ: فَمَا مَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ حِينَئِذٍ؟ قُلْنَا: لَعَلَّهُ إِذَا قَرُبَتِ الْقِيَامَةُ يُظْهِرُهُ، وَكَيْفَ لا؟ وقد قال: يَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا «١» فَتَعْلَمُ الْمَلَائِكَةُ حِينَئِذٍ قِيَامَ الْقِيَامَةِ، أَوْ هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، أَيْ: مَنِ ارْتَضَاهُ مِنْ رَسُولٍ يَجْعَلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ، وَمَنْ خَلْفِهِ حَفَظَةً يَحْفَظُونَهُ مِنْ شَرِّ مَرَدَةِ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ لَا يُطْلِعُ أَحَدًا عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْمُغَيَّبَاتِ أَنَّهُ ثَبَتَ كَمَا يُقَارِبُ التَّوَاتُرَ أَنَّ شِقًّا وَسَطِيحًا كَانَا كَاهِنَيْنِ، وَقَدْ عَرَفَا بِحَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ ظُهُورِهِ، وَكَانَا مَشْهُورَيْنِ بِهَذَا الْعِلْمِ عِنْدَ الْعَرَبِ حَتَّى رَجَعَ إِلَيْهِمَا كِسْرَى. فَثَبَتَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ يُطْلِعُ غَيْرَ الرُّسُلِ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْمُغَيَّبَاتِ، وَأَيْضًا أَطْبَقَ أَهْلُ الْمِلَلِ عَلَى أَنَّ مُعَبِّرَ الرُّؤْيَا يُخْبِرُ عَنْ أُمُورٍ مُسْتَقْبَلَةٍ، وَيَكُونُ صَادِقًا فِيهَا، وَأَيْضًا قَدْ نَقَلَ السُّلْطَانُ سِنْجَرُ بْنُ مَلِكِ شَاهْ كَاهِنَةً مِنْ بَغْدَادَ إِلَى خُرَاسَانَ، وَسَأَلَهَا عَنْ أُمُورٍ مُسْتَقْبَلَةٍ، فَأَخْبَرَتْهُ بِهَا، فَوَقَعَتْ عَلَى وَفْقِ كَلَامِهَا. قَالَ: وَأَخْبَرَنِي نَاسٌ مُحَقِّقُونَ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ وَالْحِكْمَةِ أَنَّهَا أَخْبَرَتْ عَنْ أُمُورٍ غَائِبَةٍ بِالتَّفْصِيلِ، فَكَانَتْ عَلَى وَفْقِ خَبَرِهَا. وَبَالَغَ أَبُو الْبَرَكَاتِ فِي كِتَابِ «التَّعْبِيرِ» فِي شَرْحِ حَالِهَا وَقَالَ: فَحَصَّتَ عَنْ حَالِهَا ثَلَاثِينَ سَنَةً، فَتَحَقَّقَتْ أَنَّهَا كَانَتْ تُخْبِرُ عَنِ الْمُغَيَّبَاتِ إِخْبَارًا مُطَابِقًا. وَأَيْضًا فَإِنَّا نُشَاهِدُ ذَلِكَ فِي أَصْحَابِ الْإِلْهَامَاتِ الصَّادِقَةِ، وَقَدْ يُوجَدُ ذَلِكَ فِي السَّحَرَةِ أَيْضًا، وَقَدْ نَرَى الْأَحْكَامَ النُّجُومِيَّةَ مُطَابَقَةً وَإِنْ كَانَتْ قد تتخلف، وَلَوْ قُلْنَا:
إِنَّ الْقُرْآنَ يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ هَذِهِ الْأُمُورِ الْمَحْسُوسَةِ لِتَطَرَّقَ الطَّعْنُ إِلَى الْقُرْآنِ، فَيَكُونُ التَّأْوِيلُ مَا ذَكَرْنَا، انْتَهَى كَلَامُهُ.
قُلْتُ: أَمَّا قَوْلُهُ: إِذْ لَا صِيغَةَ عُمُومٍ فِي غَيْبِهِ، فَبَاطِلٌ، فَإِنَّ إِضَافَةَ الْمَصْدَرِ وَاسْمِ الْجِنْسِ من صيغ العموم
وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّ شَقًّا وَسَطِيحًا إِلَخْ، فَقَدْ كَانَا فِي زَمَنٍ تَسْتَرِقُ فِيهِ الشَّيَاطِينُ السَّمْعَ، وَيُلْقُونَ مَا يَسْمَعُونَهُ إِلَى الْكُهَّانِ، فَيَخْلِطُونَ الصِّدْقَ بِالْكَذِبِ، كَمَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ. وَفِي قَوْلِهِ: إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ «١» وَنَحْوِهَا مِنَ الْآيَاتِ، فَبَابُ الْكِهَانَةِ قَدْ وَرَدَ بَيَانُهُ فِي هَذِهِ الشَّرِيعَةِ، وَأَنَّهُ كَانَ طَرِيقًا لِبَعْضِ الْغَيْبِ بِوَاسِطَةِ اسْتِرَاقِ الشَّيَاطِينِ حَتَّى مُنِعُوا ذلك بالبعثة المحمدية. وقالوا: أَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً- وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً «٢» فَبَابُ الْكِهَانَةِ فِي الْوَقْتِ الَّذِي كَانَتْ فِيهِ مَخْصُوصٌ بِأَدِلَّتِهِ، فَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ مَا يُخَصَّصُ بِهِ هَذَا الْعُمُومُ، فَلَا يَرُدُّ مَا زَعَمَهُ مِنْ إِيرَادِ الْكِهَانَةِ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ. وَأَمَّا حَدِيثُ الْمَرْأَةِ الَّذِي أَوْرَدَهُ فَحَدِيثُ خُرَافَةٍ، وَلَوْ سَلَّمَ وُقُوعَ شَيْءٍ مِمَّا حَكَاهُ عَنْهَا مِنَ الْأَخْبَارِ لَكَانَ مِنْ بَابِ مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: «إِنَّ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ مُحَدَّثِينَ وَإِنَّ مِنْهُمْ عُمَرَ»، فَيَكُونُ كَالتَّخْصِيصِ لِعُمُومِ هَذِهِ الْآيَةِ لا انقضاء لَهَا، وَأَمَّا مَا اجْتَرَأَ بِهِ عَلَى اللَّهِ وَعَلَى كِتَابِهِ مِنْ قَوْلِهِ فِي آخِرِ كَلَامِهِ فَلَوْ قُلْنَا: إِنَّ الْقُرْآنَ يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ هَذِهِ الْأُمُورِ الْمَحْسُوسَةِ لِتَطَرَّقَ الطَّعْنُ إِلَى الْقُرْآنِ، فَيُقَالُ لَهُ:
مَا هَذِهِ بِأَوَّلِ زَلَّةٍ مِنْ زَلَّاتِكَ، وَسَقْطَةٍ مِنْ سَقَطَاتِكَ، وَكَمْ لَهَا لَدَيْكَ مِنْ أَشْبَاهٍ وَنَظَائِرَ، نَبَضَ بِهَا عِرْقُ فَلْسَفَتِكَ، وَرَكَضَ بِهَا الشَّيْطَانُ الَّذِي صَارَ يَتَخَبَّطُكَ فِي مَبَاحِثِ تَفْسِيرِكَ، يَا عَجَبًا لَكَ أَيَكُونُ مَا بَلَغَكَ مِنْ خَبَرِ هَذِهِ الْمَرْأَةِ وَنَحْوِهِ مُوجِبًا لِتَطَرُّقِ الطَّعْنِ إِلَى الْقُرْآنِ؟! وَمَا أَحْسَنَ مَا قَالَهُ بَعْضُ أُدَبَاءِ عَصْرِنَا:
وَإِذَا رَامَتِ الذُّبَابَةُ لِلشَّمْ | سِ غِطَاءً مَدَّتْ عَلَيْهَا جَنَاحًا |
مَهَبُّ رِيَاحٍ سَدَّهُ بِجَنَاحِ | وَقَابَلَ بِالْمِصْبَاحِ ضَوْءَ صَبَاحِ |
وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ هَذَا مَا لَا يَخْفَى عَلَى عَارِفٍ بِالسُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ، فَمِنْ ذَلِكَ مَا صَحَّ أَنَّهُ قَامَ مَقَامًا أَخْبَرَ فِيهِ بِمَا سَيَكُونُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَا تَرَكَ شَيْئًا مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالْفِتَنِ وَنَحْوِهَا، حَفِظَ ذَلِكَ مَنْ حَفِظَهُ، وَنَسِيَهُ مَنْ نَسِيَهُ، وَكَذَلِكَ مَا ثَبَتَ مِنْ أَنَّ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ كَانَ قَدْ أَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا يَحْدُثُ مِنَ الْفِتَنِ بَعْدَهُ، حَتَّى سَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ أَكَابِرُ الصَّحَابَةِ وَرَجَعُوا إِلَيْهِ. وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ وَغَيْرِهِ «أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ سَأَلَهُ عَنِ الْفِتْنَةِ الَّتِي تَمُوجُ كَمَوْجِ الْبَحْرِ، فَقَالَ: إِنَّ بَيْنَكَ وَبَيْنَهَا بَابًا، فَقَالَ عُمَرُ: هَلْ يُفْتَحُ أَوْ يُكْسَرُ؟ فَقَالَ: بَلْ يُكْسَرُ، فَعَلِمَ عُمَرُ أَنَّهُ الْبَابُ، وَأَنَّ كَسْرَهُ قَتْلُهُ» كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْمَعْرُوفِ أَنَّهُ قِيلَ لِحُذَيْفَةَ: هَلْ كَانَ عُمَرُ يَعْلَمُ ذلك؟ فقال: نعم كان يَعْلَمُ أَنَّ دُونَ غَدٍ اللَّيْلَةَ. وَكَذَلِكَ مَا ثَبَتَ مِنْ إِخْبَارِهِ لِأَبِي ذَرٍّ بِمَا يَحْدُثُ
(٢). الجن: ٨- ٩.
وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَلَا مَانِعَ مِنْ أَنَّ يَخْتَصَّ بَعْضُ صُلَحَاءِ هَذِهِ الْأُمَّةِ بِشَيْءٍ مِنْ أَخْبَارِ الْغَيْبِ الَّتِي أَظْهَرُهَا اللَّهُ لِرَسُولِهِ، وَأَظْهَرَهَا رَسُولُهُ لِبَعْضِ أُمَّتِهِ وَأَظْهَرَهَا هَذَا الْبَعْضُ مِنَ الْأُمَّةِ لِمَنْ بَعْدَهُمْ، فَتَكُونُ كَرَامَاتُ الصَّالِحِينَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ، وَالْكُلُّ مِنَ الْفَيْضِ الرَّبَّانِيِّ بِوَاسِطَةِ الْجَنَابِ النَّبَوِيِّ.
ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ يَحْفَظُ ذَلِكَ الْغَيْبَ الَّذِي يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرَّسُولُ فَقَالَ: فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً وَالْجُمْلَةُ تَقْرِيرٌ لِلْإِظْهَارِ الْمُسْتَفَادِ مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يَجْعَلُ سُبْحَانَهُ بَيْنَ يَدَيِ الرَّسُولِ وَمِنْ خَلْفِهِ حَرَسًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ يَحْرُسُونَهُ مِنْ تَعَرُّضِ الشَّيَاطِينِ لِمَا أَظْهَرُهُ عَلَيْهِ مِنَ الْغَيْبِ، أَوْ يَجْعَلُ بَيْنَ يَدَيِ الْوَحْيِ وَخَلْفَهُ حَرَسًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ يَحُوطُونَهُ مِنْ أَنْ تَسْتَرِقَهُ الشَّيَاطِينُ، فَتُلْقِيَهُ إِلَى الْكَهَنَةِ، وَالْمُرَادُ مِنْ جَمِيعِ الْجَوَانِبِ.
قَالَ الضَّحَّاكُ: مَا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا إِلَّا وَمَعَهُ مَلَائِكَةٌ يَحْفَظُونَهُ مِنَ الشَّيَاطِينِ أَنْ يَتَشَبَّهُوا بِصُورَةِ الْمَلَكِ، فَإِذَا جَاءَهُ شَيْطَانٌ فِي صُورَةِ الْمَلَكِ قَالُوا: هَذَا شَيْطَانٌ فَاحْذَرْهُ، وَإِنَّ جَاءَهُ الْمَلَكُ قَالُوا: هَذَا رَسُولُ رَبِّكَ. قَالَ ابْنُ زَيْدٍ:
رَصَداً أَيْ: حَفَظَةً يَحْفَظُونَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَمَامِهِ وَوَرَائِهِ مِنَ الْجِنِّ وَالشَّيَاطِينِ. قَالَ قَتَادَةُ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: هُمْ أَرْبَعَةٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ حَفَظَةٌ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْمُرَادُ جِبْرِيلُ. قَالَ فِي الصِّحَاحِ: الرَّصَدُ: الْقَوْمُ يَرْصُدُونَ كالحرس، يستوي فيه الواحد والجمع والمذكر وَالْمُؤَنَّثُ، وَالرَّصَدُ لِلشَّيْءِ: الرَّاقِبُ لَهُ، يُقَالُ: رَصَدَهُ يَرْصُدُهُ رَصَدًا وَرَصْدًا وَالتَّرَصُّدُ: التَّرَقُّبُ، وَالْمَرْصَدُ: مَوْضِعُ الرَّصْدِ لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ اللَّامُ مُتَعَلِّقٌ بِيَسْلُكُ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْعِلْمُ الْمُتَعَلِّقُ بالإبلاغ الموجود بالفعل، وَأَنْ هِيَ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَاسْمُهَا ضَمِيرُ الشَّأْنِ، وَالْخَبَرُ الْجُمْلَةُ، وَالرِّسَالَاتُ: عِبَارَةٌ عَنِ الْغَيْبِ الَّذِي أُرِيدَ إِظْهَارُهُ لِمَنِ ارْتَضَاهُ اللَّهُ مِنْ رَسُولٍ، وَضَمِيرُ «أَبْلَغُوا» يَعُودُ إِلَى الرَّصْدِ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَمُقَاتِلٌ: لِيَعْلَمَ مُحَمَّدٌ أَنَّ الرُّسُلَ قَبْلَهُ قَدْ أَبْلَغُوا الرِّسَالَةَ كَمَا بَلَّغَ هُوَ الرِّسَالَةَ، وَفِيهِ حَذْفٌ تَتَعَلَّقُ بِهِ اللَّامُ، أَيْ: أَخْبَرْنَاهُ بِحِفْظِنَا الْوَحْيَ لِيَعْلَمَ أَنَّ الرُّسُلَ قَبْلَهُ كَانُوا عَلَى حَالَتِهِ مِنَ التَّبْلِيغِ. وَقِيلَ: لِيَعْلَمَ مُحَمَّدٌ أَنَّ جِبْرِيلَ وَمَنْ مَعَهُ قَدْ أَبْلَغُوا إِلَيْهِ رِسَالَاتِ رَبِّهِ، قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ. وَقِيلَ:
لِيَعْلَمَ الرُّسُلُ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ قَدْ بَلَّغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ. وَقِيلَ: لِيَعْلَمَ إِبْلِيسُ أَنَّ الرُّسُلَ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ مِنْ غَيْرِ تَخْلِيطٍ. وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: أَيْ لِيَعْلَمَ الْجِنُّ أَنَّ الرُّسُلَ قَدْ أَبْلَغُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ، وَلَمْ يَكُونُوا هُمُ الْمُبْلِغِينَ بِاسْتِرَاقِ السَّمْعِ عَلَيْهِمْ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لِيَعْلَمَ مَنْ كَذَّبَ الرُّسُلَ أَنَّ الرُّسُلَ قَدْ بَلَّغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ «لِيَعْلَمَ» بِفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَحَمِيدٌ وَيَعْقُوبُ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ بِضَمِّهَا عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، أَيْ: لِيَعْلَمَ النَّاسُ أَنَّ الرُّسُلَ قَدْ أَبْلَغُوا. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: لِيَعْلَمَ اللَّهُ أَنَّ رُسُلَهُ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِهِ، أَيْ: لِيَعْلَمَ ذَلِكَ عَنْ مُشَاهَدَةٍ كَمَا عَلِمَهُ غَيْبًا. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ وَالزُّهْرِيُّ بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ اللَّامِ وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ أَيْ: بِمَا عِنْدَهُ الرَّصْدُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، أَوْ بِمَا عِنْدَ الرُّسُلِ الْمُبَلِّغِينَ لِرِسَالَاتِهِ، وَالْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنْ فَاعِلِ يَسْلُكُ بِإِضْمَارِ قَدْ، أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّهُ تَعَالَى قَدْ أَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ من الأحوال. قال سعيد ابن جُبَيْرٍ: لِيَعْلَمَ أَنَّ رَبَّهُمْ قَدْ أَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ فَبَلَّغُوا رِسَالَاتِهِ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً مِنْ جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي كَانَتْ وَالَّتِي سَتَكُونُ، وهو معطوف على أحاط، وعددا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُنْتَصِبًا عَلَى التَّمْيِيزِ مُحَوَّلًا من المفعول
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْقاسِطُونَ الْعَادِلُونَ عَنِ الْحَقِّ. وأخرج ابن جرير عنه في قوله: وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ قَالَ: أَقَامُوا مَا أَمَرُوا بِهِ لَأَسْقَيْناهُمْ مَاءً غَدَقاً قَالَ: مَعِينًا.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ السدّي قال: قال عمر: وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ مَاءً غَدَقاً لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ قَالَ: حَيْثُمَا كَانَ الْمَاءُ كَانَ الْمَالُ، وَحَيْثُمَا كَانَ الْمَالُ كَانَتِ الْفِتْنَةُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ قَالَ: لِنَبْتَلِيَهُمْ بِهِ. وَفِي قَوْلِهِ: وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً قال: مشقّة مِنَ الْعَذَابِ يُصَعَّدُ فِيهَا. وَأَخْرَجَ هَنَّادٌ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً قَالَ: جَبَلًا فِي جَهَنَّمَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ أَيْضًا عَذاباً صَعَداً قَالَ: لَا رَاحَةَ فِيهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ قَالَ: لَمْ يَكُنْ يَوْمَ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي الْأَرْضِ مَسْجِدٌ إِلَّا مَسْجِدَ الْحَرَامِ، وَمَسْجِدُ إِيلِيَّاءَ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الدَّلَائِلِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: «خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ إِلَى نَوَاحِي مَكَّةَ فَخَطَّ لِي خَطًّا، وَقَالَ: لَا تُحْدِثَنَّ شَيْئًا حَتَّى آتِيَكَ» ثُمَّ قَالَ: «لَا يَهُولَنَّكَ شيء تَرَاهُ» فَتَقَدَّمَ شَيْئًا ثُمَّ جَلَسَ فَإِذَا رِجَالٌ سُودٌ كَأَنَّهُمْ رِجَالُ الزُّطِّ، وَكَانُوا كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: «لَمَّا سَمِعُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتْلُو الْقُرْآنَ كَادُوا يَرْكَبُونَهُ مِنَ الْحِرْصِ لِمَا سَمِعُوهُ، وَدَنَوْا مِنْهُ فَلَمْ يَعْلَمْ بِهِمْ حَتَّى أَتَاهُ الرَّسُولُ، فَجَعَلَ يُقْرِئُهُ: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالضِّيَاءُ فِي الْمُخْتَارَةِ، عَنْهُ أَيْضًا فِي الْآيَةِ قَالَ: «لَمَّا أَتَى الجنّ إلى رسول الله وَهُوَ يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ يَرْكَعُونَ بِرُكُوعِهِ وَيَسْجُدُونَ بِسُجُودِهِ، فَعَجِبُوا مِنْ طَوَاعِيَةِ أَصْحَابِهِ، فَقَالُوا لِقَوْمِهِمْ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ أَيْضًا لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ أَيْ: يَدْعُو اللَّهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً قَالَ: أَعْوَانًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ أَيْضًا فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً- إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ قال: أعلم الله الرسل من الغيب الوحي، وأظهرهم عليه، ممّا أوحى إليهم مِنْ غَيْبِهِ، وَمَا يَحْكُمُ اللَّهُ، فَإِنَّهُ لَا يَعْلَمُ ذَلِكَ غَيْرُهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ أَيْضًا رَصَداً قَالَ: هِيَ مُعَقِّبَاتٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ يَحْفَظُونَ رَسُولَ اللَّهِ مِنَ الشياطين حتى يبيّن الَّذِي أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ بِهِ، وَذَلِكَ حَتَّى يَقُولَ أَهْلُ الشِّرْكِ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ. وَأَخْرَجَ ابن مردويه عنه أيضا قال: ما أنزل اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِ آيَةً مِنَ الْقُرْآنِ إِلَّا وَمَعَهَا أَرْبَعَةٌ مِنْ الْمَلَائِكَةِ يَحْفَظُونَهَا حَتَّى يُؤَدُّوهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَرَأَ: عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً- إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً يَعْنِي الْمَلَائِكَةَ الْأَرْبَعَةَ لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ.
وأخرج ابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل عن ابن مسعود قال :«خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة إلى نواحي مكة، فخط لي خطاً. وقال :«لا تحدثن شيئًا حتى آتيك، ثم قال : لا يهولنك شيئًا تراه»، فتقدم شيئًا، ثم جلس فإذا رجال سود كأنهم رجال الزطّ، وكانوا كما قال الله تعالى :﴿ كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً ﴾». وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس في الآية قال :«لما سمعوا النبي صلى الله عليه وسلم يتلو القرآن كادوا يركبونه من الحرص لما سمعوه، ودنوا منه فلم يعلم بهم حتى أتاه الرسول، فجعل يقرئه :﴿ قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ استمع نَفَرٌ مّنَ الجن ﴾». وأخرج عبد بن حميد والترمذي وصححه، وابن جرير والحاكم وصححه، وابن مردويه والضياء في المختارة عنه أيضاً في الآية قال :«لما أتى الجنّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يصلي بأصحابه يركعون بركوعه ويسجدون بسجوده، فعجبوا من طواعية أصحابه، فقالوا لقومهم : لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبداً». وأخرج ابن المنذر عنه أيضاً :﴿ لَّمَا قَامَ عَبْدُ الله يَدْعُوهُ ﴾ أي يدعو الله. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه ﴿ كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً ﴾ قال : أعواناً. وأخرج ابن المنذر وابن مردويه عنه أيضاً :﴿ فَلاَ يُظْهِرُ على غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاَّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ ﴾ قال : أعلم الله الرسول من الغيب الوحي وأظهره عليه مما أوحى إليه من غيبه وما يحكم الله فإنه لا يعلم ذلك غيره. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عنه أيضاً :﴿ رَصَداً ﴾ قال : هي معقبات من الملائكة يحفظون رسول الله من الشياطين حتى تبين الذي أرسل إليهم به، وذلك حتى يقول أهل الشرك : قد أبلغوا رسالات ربهم. وأخرج ابن مردويه عنه أيضاً قال : ما أنزل الله على نبيه آية من القرآن إلاّ ومعها أربعة من الملائكة يحفظونها، حتى يؤدّوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قرأ :﴿ عالم الغيب فَلاَ يُظْهِرُ على غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاَّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً ﴾ يعني : الملائكة الأربعة ﴿ لّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُواْ رسالات رَبّهِمْ ﴾ ا هـ.
قال الرازي : وعندي لا دلالة في الآية على شيء مما قالوه إذ لا صيغة عموم في غيبه، فتحمل على غيب واحد، وهو وقت القيامة لأنه واقع بعد قوله :﴿ أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ ﴾ الآية. فإن قيل : فما معنى الاستثناء حينئذٍ ؟ قلنا : لعله إذا قربت القيامة يظهره، وكيف لا ؟ وقد قال :﴿ ويَوْمَ تَشَقَّقُ السماء بالغمام وَنُزّلَ الملائكة تَنزِيلاً ﴾ [ الفرقان : ٢٥ ] فتعلم الملائكة حينئذٍ قيام القيامة، أو هو استثناء منقطع : أي من ارتضاه من رسول يجعل من بين يديه ومن خلفه حفظة يحفظونه من شرّ مردة الجنّ والإنس. ويدلّ على أنه ليس المراد به لا يطلع أحداً على شيء من المغيبات أنه ثبت، كما يقارب التواتر أن شقاً وسطيحاً كانا كاهنين وقد عرّفا بحديث النبيّ صلى الله عليه وسلم قبل ظهوره، وكانا مشهورين بهذا العلم عند العرب حتى رجع إليهما كسرى. فثبت أن الله تعالى قد يطلع غير الرسل على شيء من المغيبات، وأيضاً أطبق أهل الملل على أن معبر الرؤيا يخبر عن أمور مستقبلة، ويكون صادقاً فيها، وأيضاً قد نقل السلطان سنجر بن ملك شاه كاهنة من بغداد إلى خراسان وسألها عن أمور مستقبلة فأخبرته بها، فوقعت على وفق كلامها. قال : وأخبرني ناس محققون في علم الكلام والحكمة أنها أخبرت عن أمور غائبة بالتفصيل، فكانت على وفق خبرها. وبالغ أبو البركات في كتاب التعبير في شرح حالها وقال : فحصت عن حالها ثلاثين سنة، فتحققت أنها كانت تخبر عن المغيبات إخباراً مطابقاً. وأيضاً فإنا نشاهد ذلك في أصحاب الإلهامات الصادقة، وقد يوجد ذلك في السحرة أيضاً، وقد نرى الأحكام النجومية مطابقة وإن كانت قد تتخلف، ولو قلنا إن القرآن يدل على خلاف هذه الأمور المحسوسة لتطرّق الطعن إلى القرآن فيكون التأويل ما ذكرنا، انتهى كلامه.
قلت : أما قوله إذ لا صيغة عموم في غيبه فباطل، فإن إضافة المصدر واسم الجنس من صيغ العموم كما صرّح به أئمة الأصول وغيرهم. وأما قوله : أو هو استثناء منقطع فمجرّد دعوى يأباه النظم القرآني. وأما قوله : إن شقاً وسطيحاً الخ، فقد كانا في زمن تسترق فيه الشياطين السمع ويلقون ما يسمعونه إلى الكهان، فيخلطون الصدق بالكذب، كما ثبت في الحديث الصحيح. وفي قوله :﴿ إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الخطفة ﴾ [ الصافات : ١٠ ] ونحوها من الآيات، فباب الكهانة قد ورد بيانه في هذه الشريعة، وأنه كان طريقاً لبعض الغيب بواسطة استراق الشياطين حتى منعوا ذلك بالبعثة المحمدية. وقالوا :﴿ وأَنَاْ لَمَسْنَا السماء فوجدناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مقاعد لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الآن يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً ﴾ [ الجن : ٨. ٩ ] فباب الكهانة في الوقت الذي كانت فيه مخصوص بأدلته، فهو من جملة ما يخصص به هذا العموم، فلا يرد ما زعمه من إيراد الكهانة على هذه الآية. وأما حديث المرأة الذي أورده فحديث خرافة، ولو سلم وقوع شيء مما حكاه عنها من الأخبار لكان من باب ما ورد في الحديث «إن في هذه الأمة محدّثين، وإن منهم عمر» فيكون كالتخصيص لعموم هذه الآية لا انقضاء لها، وأما ما اجترأ به على الله وعلى كتابه من قوله في آخر كلامه. فلو قلنا : إن القرآن يدلّ على خلاف هذه الأمور المحسوسة لتطرق الطعن إلى القرآن، فيقال له : ما هذه بأوّل زلة من زلاتك، وسقطة من سقطاتك، وكم لها لديك من أشباه ونظائر نبض بها عرق فلسفتك، وركض بها الشيطان الذي صار يتخبطك في مباحث تفسيرك، يا عجباً لك أيكون ما بلغك من خبر هذه المرأة ونحوه موجباً لتطرّق الطعن إلى القرآن، وما أحسن ما قاله بعض أدباء عصرنا :
وإذا رامت الذبابة للشمـ | س غطاء مدّت عليها جناحا |
وقلت من أبيات :
مهب رياح سدّه بجناح | وقابل بالمصباح ضوء صباح |
أما والله أن لو كنت حرّا | ولا بالحرّ أنت ولا العتيق |
وأخرج ابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل عن ابن مسعود قال :«خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة إلى نواحي مكة، فخط لي خطاً. وقال :«لا تحدثن شيئًا حتى آتيك، ثم قال : لا يهولنك شيئًا تراه»، فتقدم شيئًا، ثم جلس فإذا رجال سود كأنهم رجال الزطّ، وكانوا كما قال الله تعالى :﴿ كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً ﴾». وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس في الآية قال :«لما سمعوا النبي صلى الله عليه وسلم يتلو القرآن كادوا يركبونه من الحرص لما سمعوه، ودنوا منه فلم يعلم بهم حتى أتاه الرسول، فجعل يقرئه :﴿ قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ استمع نَفَرٌ مّنَ الجن ﴾». وأخرج عبد بن حميد والترمذي وصححه، وابن جرير والحاكم وصححه، وابن مردويه والضياء في المختارة عنه أيضاً في الآية قال :«لما أتى الجنّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يصلي بأصحابه يركعون بركوعه ويسجدون بسجوده، فعجبوا من طواعية أصحابه، فقالوا لقومهم : لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبداً». وأخرج ابن المنذر عنه أيضاً :﴿ لَّمَا قَامَ عَبْدُ الله يَدْعُوهُ ﴾ أي يدعو الله. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه ﴿ كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً ﴾ قال : أعواناً. وأخرج ابن المنذر وابن مردويه عنه أيضاً :﴿ فَلاَ يُظْهِرُ على غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاَّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ ﴾ قال : أعلم الله الرسول من الغيب الوحي وأظهره عليه مما أوحى إليه من غيبه وما يحكم الله فإنه لا يعلم ذلك غيره. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عنه أيضاً :﴿ رَصَداً ﴾ قال : هي معقبات من الملائكة يحفظون رسول الله من الشياطين حتى تبين الذي أرسل إليهم به، وذلك حتى يقول أهل الشرك : قد أبلغوا رسالات ربهم. وأخرج ابن مردويه عنه أيضاً قال : ما أنزل الله على نبيه آية من القرآن إلاّ ومعها أربعة من الملائكة يحفظونها، حتى يؤدّوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قرأ :﴿ عالم الغيب فَلاَ يُظْهِرُ على غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاَّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً ﴾ يعني : الملائكة الأربعة ﴿ لّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُواْ رسالات رَبّهِمْ ﴾ ا هـ.
قال الرازي : وعندي لا دلالة في الآية على شيء مما قالوه إذ لا صيغة عموم في غيبه، فتحمل على غيب واحد، وهو وقت القيامة لأنه واقع بعد قوله :﴿ أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ ﴾ الآية. فإن قيل : فما معنى الاستثناء حينئذٍ ؟ قلنا : لعله إذا قربت القيامة يظهره، وكيف لا ؟ وقد قال :﴿ ويَوْمَ تَشَقَّقُ السماء بالغمام وَنُزّلَ الملائكة تَنزِيلاً ﴾ [ الفرقان : ٢٥ ] فتعلم الملائكة حينئذٍ قيام القيامة، أو هو استثناء منقطع : أي من ارتضاه من رسول يجعل من بين يديه ومن خلفه حفظة يحفظونه من شرّ مردة الجنّ والإنس. ويدلّ على أنه ليس المراد به لا يطلع أحداً على شيء من المغيبات أنه ثبت، كما يقارب التواتر أن شقاً وسطيحاً كانا كاهنين وقد عرّفا بحديث النبيّ صلى الله عليه وسلم قبل ظهوره، وكانا مشهورين بهذا العلم عند العرب حتى رجع إليهما كسرى. فثبت أن الله تعالى قد يطلع غير الرسل على شيء من المغيبات، وأيضاً أطبق أهل الملل على أن معبر الرؤيا يخبر عن أمور مستقبلة، ويكون صادقاً فيها، وأيضاً قد نقل السلطان سنجر بن ملك شاه كاهنة من بغداد إلى خراسان وسألها عن أمور مستقبلة فأخبرته بها، فوقعت على وفق كلامها. قال : وأخبرني ناس محققون في علم الكلام والحكمة أنها أخبرت عن أمور غائبة بالتفصيل، فكانت على وفق خبرها. وبالغ أبو البركات في كتاب التعبير في شرح حالها وقال : فحصت عن حالها ثلاثين سنة، فتحققت أنها كانت تخبر عن المغيبات إخباراً مطابقاً. وأيضاً فإنا نشاهد ذلك في أصحاب الإلهامات الصادقة، وقد يوجد ذلك في السحرة أيضاً، وقد نرى الأحكام النجومية مطابقة وإن كانت قد تتخلف، ولو قلنا إن القرآن يدل على خلاف هذه الأمور المحسوسة لتطرّق الطعن إلى القرآن فيكون التأويل ما ذكرنا، انتهى كلامه.
قلت : أما قوله إذ لا صيغة عموم في غيبه فباطل، فإن إضافة المصدر واسم الجنس من صيغ العموم كما صرّح به أئمة الأصول وغيرهم. وأما قوله : أو هو استثناء منقطع فمجرّد دعوى يأباه النظم القرآني. وأما قوله : إن شقاً وسطيحاً الخ، فقد كانا في زمن تسترق فيه الشياطين السمع ويلقون ما يسمعونه إلى الكهان، فيخلطون الصدق بالكذب، كما ثبت في الحديث الصحيح. وفي قوله :﴿ إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الخطفة ﴾ [ الصافات : ١٠ ] ونحوها من الآيات، فباب الكهانة قد ورد بيانه في هذه الشريعة، وأنه كان طريقاً لبعض الغيب بواسطة استراق الشياطين حتى منعوا ذلك بالبعثة المحمدية. وقالوا :﴿ وأَنَاْ لَمَسْنَا السماء فوجدناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مقاعد لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الآن يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً ﴾ [ الجن : ٨. ٩ ] فباب الكهانة في الوقت الذي كانت فيه مخصوص بأدلته، فهو من جملة ما يخصص به هذا العموم، فلا يرد ما زعمه من إيراد الكهانة على هذه الآية. وأما حديث المرأة الذي أورده فحديث خرافة، ولو سلم وقوع شيء مما حكاه عنها من الأخبار لكان من باب ما ورد في الحديث «إن في هذه الأمة محدّثين، وإن منهم عمر» فيكون كالتخصيص لعموم هذه الآية لا انقضاء لها، وأما ما اجترأ به على الله وعلى كتابه من قوله في آخر كلامه. فلو قلنا : إن القرآن يدلّ على خلاف هذه الأمور المحسوسة لتطرق الطعن إلى القرآن، فيقال له : ما هذه بأوّل زلة من زلاتك، وسقطة من سقطاتك، وكم لها لديك من أشباه ونظائر نبض بها عرق فلسفتك، وركض بها الشيطان الذي صار يتخبطك في مباحث تفسيرك، يا عجباً لك أيكون ما بلغك من خبر هذه المرأة ونحوه موجباً لتطرّق الطعن إلى القرآن، وما أحسن ما قاله بعض أدباء عصرنا :
وإذا رامت الذبابة للشمـ | س غطاء مدّت عليها جناحا |
وقلت من أبيات :
مهب رياح سدّه بجناح | وقابل بالمصباح ضوء صباح |
قرأ الجمهور :«نَسْلُكْهُ » بالنون مفتوحة. وقرأ الكوفيون وأبو عمرو في رواية عنه بالياء التحتية، واختار هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم لقوله :﴿ عَن ذِكْرِ رَبّهِ ﴾ ولم يقل «عن ذكرنا ». وقرأ مسلم بن جندب وطلحة بن مصرّف والأعرج بضم النون وكسر اللام من أسلكه، وقراءة الجمهور من سلكه. والصعد في اللغة المشقة، تقول تصعد بي الأمر : إذا شقّ عليك، وهو مصدر صعد، يقال : صعد صعداً وصعوداً، فوصف به العذاب مبالغة، لأنه يتصعد المعذب : أي يعلوه ويغلبه فلا يطيقه. قال أبو عبيد : الصعد مصدر : أي عذاباً ذا صعد. وقال عكرمة : الصعد هو صخرة ملساء في جهنم يكلف صعودها، فإذا انتهى إلى أعلاها حدر إلى جهنم، كما في قوله :﴿ سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً ﴾ [ المدثر : ١٧ ] والصعود : العقبة الكئود.
وأخرج ابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل عن ابن مسعود قال :«خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة إلى نواحي مكة، فخط لي خطاً. وقال :«لا تحدثن شيئًا حتى آتيك، ثم قال : لا يهولنك شيئًا تراه»، فتقدم شيئًا، ثم جلس فإذا رجال سود كأنهم رجال الزطّ، وكانوا كما قال الله تعالى :﴿ كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً ﴾». وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس في الآية قال :«لما سمعوا النبي صلى الله عليه وسلم يتلو القرآن كادوا يركبونه من الحرص لما سمعوه، ودنوا منه فلم يعلم بهم حتى أتاه الرسول، فجعل يقرئه :﴿ قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ استمع نَفَرٌ مّنَ الجن ﴾». وأخرج عبد بن حميد والترمذي وصححه، وابن جرير والحاكم وصححه، وابن مردويه والضياء في المختارة عنه أيضاً في الآية قال :«لما أتى الجنّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يصلي بأصحابه يركعون بركوعه ويسجدون بسجوده، فعجبوا من طواعية أصحابه، فقالوا لقومهم : لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبداً». وأخرج ابن المنذر عنه أيضاً :﴿ لَّمَا قَامَ عَبْدُ الله يَدْعُوهُ ﴾ أي يدعو الله. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه ﴿ كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً ﴾ قال : أعواناً. وأخرج ابن المنذر وابن مردويه عنه أيضاً :﴿ فَلاَ يُظْهِرُ على غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاَّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ ﴾ قال : أعلم الله الرسول من الغيب الوحي وأظهره عليه مما أوحى إليه من غيبه وما يحكم الله فإنه لا يعلم ذلك غيره. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عنه أيضاً :﴿ رَصَداً ﴾ قال : هي معقبات من الملائكة يحفظون رسول الله من الشياطين حتى تبين الذي أرسل إليهم به، وذلك حتى يقول أهل الشرك : قد أبلغوا رسالات ربهم. وأخرج ابن مردويه عنه أيضاً قال : ما أنزل الله على نبيه آية من القرآن إلاّ ومعها أربعة من الملائكة يحفظونها، حتى يؤدّوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قرأ :﴿ عالم الغيب فَلاَ يُظْهِرُ على غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاَّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً ﴾ يعني : الملائكة الأربعة ﴿ لّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُواْ رسالات رَبّهِمْ ﴾ ا هـ.
قال الرازي : وعندي لا دلالة في الآية على شيء مما قالوه إذ لا صيغة عموم في غيبه، فتحمل على غيب واحد، وهو وقت القيامة لأنه واقع بعد قوله :﴿ أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ ﴾ الآية. فإن قيل : فما معنى الاستثناء حينئذٍ ؟ قلنا : لعله إذا قربت القيامة يظهره، وكيف لا ؟ وقد قال :﴿ ويَوْمَ تَشَقَّقُ السماء بالغمام وَنُزّلَ الملائكة تَنزِيلاً ﴾ [ الفرقان : ٢٥ ] فتعلم الملائكة حينئذٍ قيام القيامة، أو هو استثناء منقطع : أي من ارتضاه من رسول يجعل من بين يديه ومن خلفه حفظة يحفظونه من شرّ مردة الجنّ والإنس. ويدلّ على أنه ليس المراد به لا يطلع أحداً على شيء من المغيبات أنه ثبت، كما يقارب التواتر أن شقاً وسطيحاً كانا كاهنين وقد عرّفا بحديث النبيّ صلى الله عليه وسلم قبل ظهوره، وكانا مشهورين بهذا العلم عند العرب حتى رجع إليهما كسرى. فثبت أن الله تعالى قد يطلع غير الرسل على شيء من المغيبات، وأيضاً أطبق أهل الملل على أن معبر الرؤيا يخبر عن أمور مستقبلة، ويكون صادقاً فيها، وأيضاً قد نقل السلطان سنجر بن ملك شاه كاهنة من بغداد إلى خراسان وسألها عن أمور مستقبلة فأخبرته بها، فوقعت على وفق كلامها. قال : وأخبرني ناس محققون في علم الكلام والحكمة أنها أخبرت عن أمور غائبة بالتفصيل، فكانت على وفق خبرها. وبالغ أبو البركات في كتاب التعبير في شرح حالها وقال : فحصت عن حالها ثلاثين سنة، فتحققت أنها كانت تخبر عن المغيبات إخباراً مطابقاً. وأيضاً فإنا نشاهد ذلك في أصحاب الإلهامات الصادقة، وقد يوجد ذلك في السحرة أيضاً، وقد نرى الأحكام النجومية مطابقة وإن كانت قد تتخلف، ولو قلنا إن القرآن يدل على خلاف هذه الأمور المحسوسة لتطرّق الطعن إلى القرآن فيكون التأويل ما ذكرنا، انتهى كلامه.
قلت : أما قوله إذ لا صيغة عموم في غيبه فباطل، فإن إضافة المصدر واسم الجنس من صيغ العموم كما صرّح به أئمة الأصول وغيرهم. وأما قوله : أو هو استثناء منقطع فمجرّد دعوى يأباه النظم القرآني. وأما قوله : إن شقاً وسطيحاً الخ، فقد كانا في زمن تسترق فيه الشياطين السمع ويلقون ما يسمعونه إلى الكهان، فيخلطون الصدق بالكذب، كما ثبت في الحديث الصحيح. وفي قوله :﴿ إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الخطفة ﴾ [ الصافات : ١٠ ] ونحوها من الآيات، فباب الكهانة قد ورد بيانه في هذه الشريعة، وأنه كان طريقاً لبعض الغيب بواسطة استراق الشياطين حتى منعوا ذلك بالبعثة المحمدية. وقالوا :﴿ وأَنَاْ لَمَسْنَا السماء فوجدناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مقاعد لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الآن يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً ﴾ [ الجن : ٨. ٩ ] فباب الكهانة في الوقت الذي كانت فيه مخصوص بأدلته، فهو من جملة ما يخصص به هذا العموم، فلا يرد ما زعمه من إيراد الكهانة على هذه الآية. وأما حديث المرأة الذي أورده فحديث خرافة، ولو سلم وقوع شيء مما حكاه عنها من الأخبار لكان من باب ما ورد في الحديث «إن في هذه الأمة محدّثين، وإن منهم عمر» فيكون كالتخصيص لعموم هذه الآية لا انقضاء لها، وأما ما اجترأ به على الله وعلى كتابه من قوله في آخر كلامه. فلو قلنا : إن القرآن يدلّ على خلاف هذه الأمور المحسوسة لتطرق الطعن إلى القرآن، فيقال له : ما هذه بأوّل زلة من زلاتك، وسقطة من سقطاتك، وكم لها لديك من أشباه ونظائر نبض بها عرق فلسفتك، وركض بها الشيطان الذي صار يتخبطك في مباحث تفسيرك، يا عجباً لك أيكون ما بلغك من خبر هذه المرأة ونحوه موجباً لتطرّق الطعن إلى القرآن، وما أحسن ما قاله بعض أدباء عصرنا :
وإذا رامت الذبابة للشمـ | س غطاء مدّت عليها جناحا |
وقلت من أبيات :
مهب رياح سدّه بجناح | وقابل بالمصباح ضوء صباح |
وأخرج ابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل عن ابن مسعود قال :«خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة إلى نواحي مكة، فخط لي خطاً. وقال :«لا تحدثن شيئًا حتى آتيك، ثم قال : لا يهولنك شيئًا تراه»، فتقدم شيئًا، ثم جلس فإذا رجال سود كأنهم رجال الزطّ، وكانوا كما قال الله تعالى :﴿ كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً ﴾». وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس في الآية قال :«لما سمعوا النبي صلى الله عليه وسلم يتلو القرآن كادوا يركبونه من الحرص لما سمعوه، ودنوا منه فلم يعلم بهم حتى أتاه الرسول، فجعل يقرئه :﴿ قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ استمع نَفَرٌ مّنَ الجن ﴾». وأخرج عبد بن حميد والترمذي وصححه، وابن جرير والحاكم وصححه، وابن مردويه والضياء في المختارة عنه أيضاً في الآية قال :«لما أتى الجنّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يصلي بأصحابه يركعون بركوعه ويسجدون بسجوده، فعجبوا من طواعية أصحابه، فقالوا لقومهم : لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبداً». وأخرج ابن المنذر عنه أيضاً :﴿ لَّمَا قَامَ عَبْدُ الله يَدْعُوهُ ﴾ أي يدعو الله. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه ﴿ كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً ﴾ قال : أعواناً. وأخرج ابن المنذر وابن مردويه عنه أيضاً :﴿ فَلاَ يُظْهِرُ على غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاَّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ ﴾ قال : أعلم الله الرسول من الغيب الوحي وأظهره عليه مما أوحى إليه من غيبه وما يحكم الله فإنه لا يعلم ذلك غيره. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عنه أيضاً :﴿ رَصَداً ﴾ قال : هي معقبات من الملائكة يحفظون رسول الله من الشياطين حتى تبين الذي أرسل إليهم به، وذلك حتى يقول أهل الشرك : قد أبلغوا رسالات ربهم. وأخرج ابن مردويه عنه أيضاً قال : ما أنزل الله على نبيه آية من القرآن إلاّ ومعها أربعة من الملائكة يحفظونها، حتى يؤدّوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قرأ :﴿ عالم الغيب فَلاَ يُظْهِرُ على غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاَّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً ﴾ يعني : الملائكة الأربعة ﴿ لّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُواْ رسالات رَبّهِمْ ﴾ ا هـ.
قال الرازي : وعندي لا دلالة في الآية على شيء مما قالوه إذ لا صيغة عموم في غيبه، فتحمل على غيب واحد، وهو وقت القيامة لأنه واقع بعد قوله :﴿ أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ ﴾ الآية. فإن قيل : فما معنى الاستثناء حينئذٍ ؟ قلنا : لعله إذا قربت القيامة يظهره، وكيف لا ؟ وقد قال :﴿ ويَوْمَ تَشَقَّقُ السماء بالغمام وَنُزّلَ الملائكة تَنزِيلاً ﴾ [ الفرقان : ٢٥ ] فتعلم الملائكة حينئذٍ قيام القيامة، أو هو استثناء منقطع : أي من ارتضاه من رسول يجعل من بين يديه ومن خلفه حفظة يحفظونه من شرّ مردة الجنّ والإنس. ويدلّ على أنه ليس المراد به لا يطلع أحداً على شيء من المغيبات أنه ثبت، كما يقارب التواتر أن شقاً وسطيحاً كانا كاهنين وقد عرّفا بحديث النبيّ صلى الله عليه وسلم قبل ظهوره، وكانا مشهورين بهذا العلم عند العرب حتى رجع إليهما كسرى. فثبت أن الله تعالى قد يطلع غير الرسل على شيء من المغيبات، وأيضاً أطبق أهل الملل على أن معبر الرؤيا يخبر عن أمور مستقبلة، ويكون صادقاً فيها، وأيضاً قد نقل السلطان سنجر بن ملك شاه كاهنة من بغداد إلى خراسان وسألها عن أمور مستقبلة فأخبرته بها، فوقعت على وفق كلامها. قال : وأخبرني ناس محققون في علم الكلام والحكمة أنها أخبرت عن أمور غائبة بالتفصيل، فكانت على وفق خبرها. وبالغ أبو البركات في كتاب التعبير في شرح حالها وقال : فحصت عن حالها ثلاثين سنة، فتحققت أنها كانت تخبر عن المغيبات إخباراً مطابقاً. وأيضاً فإنا نشاهد ذلك في أصحاب الإلهامات الصادقة، وقد يوجد ذلك في السحرة أيضاً، وقد نرى الأحكام النجومية مطابقة وإن كانت قد تتخلف، ولو قلنا إن القرآن يدل على خلاف هذه الأمور المحسوسة لتطرّق الطعن إلى القرآن فيكون التأويل ما ذكرنا، انتهى كلامه.
قلت : أما قوله إذ لا صيغة عموم في غيبه فباطل، فإن إضافة المصدر واسم الجنس من صيغ العموم كما صرّح به أئمة الأصول وغيرهم. وأما قوله : أو هو استثناء منقطع فمجرّد دعوى يأباه النظم القرآني. وأما قوله : إن شقاً وسطيحاً الخ، فقد كانا في زمن تسترق فيه الشياطين السمع ويلقون ما يسمعونه إلى الكهان، فيخلطون الصدق بالكذب، كما ثبت في الحديث الصحيح. وفي قوله :﴿ إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الخطفة ﴾ [ الصافات : ١٠ ] ونحوها من الآيات، فباب الكهانة قد ورد بيانه في هذه الشريعة، وأنه كان طريقاً لبعض الغيب بواسطة استراق الشياطين حتى منعوا ذلك بالبعثة المحمدية. وقالوا :﴿ وأَنَاْ لَمَسْنَا السماء فوجدناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مقاعد لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الآن يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً ﴾ [ الجن : ٨. ٩ ] فباب الكهانة في الوقت الذي كانت فيه مخصوص بأدلته، فهو من جملة ما يخصص به هذا العموم، فلا يرد ما زعمه من إيراد الكهانة على هذه الآية. وأما حديث المرأة الذي أورده فحديث خرافة، ولو سلم وقوع شيء مما حكاه عنها من الأخبار لكان من باب ما ورد في الحديث «إن في هذه الأمة محدّثين، وإن منهم عمر» فيكون كالتخصيص لعموم هذه الآية لا انقضاء لها، وأما ما اجترأ به على الله وعلى كتابه من قوله في آخر كلامه. فلو قلنا : إن القرآن يدلّ على خلاف هذه الأمور المحسوسة لتطرق الطعن إلى القرآن، فيقال له : ما هذه بأوّل زلة من زلاتك، وسقطة من سقطاتك، وكم لها لديك من أشباه ونظائر نبض بها عرق فلسفتك، وركض بها الشيطان الذي صار يتخبطك في مباحث تفسيرك، يا عجباً لك أيكون ما بلغك من خبر هذه المرأة ونحوه موجباً لتطرّق الطعن إلى القرآن، وما أحسن ما قاله بعض أدباء عصرنا :
وإذا رامت الذبابة للشمـ | س غطاء مدّت عليها جناحا |
وقلت من أبيات :
مهب رياح سدّه بجناح | وقابل بالمصباح ضوء صباح |
أخنى عليها الذي أخنى على لبد ***. . .
وأخرج ابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل عن ابن مسعود قال :«خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة إلى نواحي مكة، فخط لي خطاً. وقال :«لا تحدثن شيئًا حتى آتيك، ثم قال : لا يهولنك شيئًا تراه»، فتقدم شيئًا، ثم جلس فإذا رجال سود كأنهم رجال الزطّ، وكانوا كما قال الله تعالى :﴿ كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً ﴾». وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس في الآية قال :«لما سمعوا النبي صلى الله عليه وسلم يتلو القرآن كادوا يركبونه من الحرص لما سمعوه، ودنوا منه فلم يعلم بهم حتى أتاه الرسول، فجعل يقرئه :﴿ قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ استمع نَفَرٌ مّنَ الجن ﴾». وأخرج عبد بن حميد والترمذي وصححه، وابن جرير والحاكم وصححه، وابن مردويه والضياء في المختارة عنه أيضاً في الآية قال :«لما أتى الجنّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يصلي بأصحابه يركعون بركوعه ويسجدون بسجوده، فعجبوا من طواعية أصحابه، فقالوا لقومهم : لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبداً». وأخرج ابن المنذر عنه أيضاً :﴿ لَّمَا قَامَ عَبْدُ الله يَدْعُوهُ ﴾ أي يدعو الله. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه ﴿ كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً ﴾ قال : أعواناً. وأخرج ابن المنذر وابن مردويه عنه أيضاً :﴿ فَلاَ يُظْهِرُ على غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاَّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ ﴾ قال : أعلم الله الرسول من الغيب الوحي وأظهره عليه مما أوحى إليه من غيبه وما يحكم الله فإنه لا يعلم ذلك غيره. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عنه أيضاً :﴿ رَصَداً ﴾ قال : هي معقبات من الملائكة يحفظون رسول الله من الشياطين حتى تبين الذي أرسل إليهم به، وذلك حتى يقول أهل الشرك : قد أبلغوا رسالات ربهم. وأخرج ابن مردويه عنه أيضاً قال : ما أنزل الله على نبيه آية من القرآن إلاّ ومعها أربعة من الملائكة يحفظونها، حتى يؤدّوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قرأ :﴿ عالم الغيب فَلاَ يُظْهِرُ على غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاَّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً ﴾ يعني : الملائكة الأربعة ﴿ لّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُواْ رسالات رَبّهِمْ ﴾ ا هـ.
قال الرازي : وعندي لا دلالة في الآية على شيء مما قالوه إذ لا صيغة عموم في غيبه، فتحمل على غيب واحد، وهو وقت القيامة لأنه واقع بعد قوله :﴿ أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ ﴾ الآية. فإن قيل : فما معنى الاستثناء حينئذٍ ؟ قلنا : لعله إذا قربت القيامة يظهره، وكيف لا ؟ وقد قال :﴿ ويَوْمَ تَشَقَّقُ السماء بالغمام وَنُزّلَ الملائكة تَنزِيلاً ﴾ [ الفرقان : ٢٥ ] فتعلم الملائكة حينئذٍ قيام القيامة، أو هو استثناء منقطع : أي من ارتضاه من رسول يجعل من بين يديه ومن خلفه حفظة يحفظونه من شرّ مردة الجنّ والإنس. ويدلّ على أنه ليس المراد به لا يطلع أحداً على شيء من المغيبات أنه ثبت، كما يقارب التواتر أن شقاً وسطيحاً كانا كاهنين وقد عرّفا بحديث النبيّ صلى الله عليه وسلم قبل ظهوره، وكانا مشهورين بهذا العلم عند العرب حتى رجع إليهما كسرى. فثبت أن الله تعالى قد يطلع غير الرسل على شيء من المغيبات، وأيضاً أطبق أهل الملل على أن معبر الرؤيا يخبر عن أمور مستقبلة، ويكون صادقاً فيها، وأيضاً قد نقل السلطان سنجر بن ملك شاه كاهنة من بغداد إلى خراسان وسألها عن أمور مستقبلة فأخبرته بها، فوقعت على وفق كلامها. قال : وأخبرني ناس محققون في علم الكلام والحكمة أنها أخبرت عن أمور غائبة بالتفصيل، فكانت على وفق خبرها. وبالغ أبو البركات في كتاب التعبير في شرح حالها وقال : فحصت عن حالها ثلاثين سنة، فتحققت أنها كانت تخبر عن المغيبات إخباراً مطابقاً. وأيضاً فإنا نشاهد ذلك في أصحاب الإلهامات الصادقة، وقد يوجد ذلك في السحرة أيضاً، وقد نرى الأحكام النجومية مطابقة وإن كانت قد تتخلف، ولو قلنا إن القرآن يدل على خلاف هذه الأمور المحسوسة لتطرّق الطعن إلى القرآن فيكون التأويل ما ذكرنا، انتهى كلامه.
قلت : أما قوله إذ لا صيغة عموم في غيبه فباطل، فإن إضافة المصدر واسم الجنس من صيغ العموم كما صرّح به أئمة الأصول وغيرهم. وأما قوله : أو هو استثناء منقطع فمجرّد دعوى يأباه النظم القرآني. وأما قوله : إن شقاً وسطيحاً الخ، فقد كانا في زمن تسترق فيه الشياطين السمع ويلقون ما يسمعونه إلى الكهان، فيخلطون الصدق بالكذب، كما ثبت في الحديث الصحيح. وفي قوله :﴿ إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الخطفة ﴾ [ الصافات : ١٠ ] ونحوها من الآيات، فباب الكهانة قد ورد بيانه في هذه الشريعة، وأنه كان طريقاً لبعض الغيب بواسطة استراق الشياطين حتى منعوا ذلك بالبعثة المحمدية. وقالوا :﴿ وأَنَاْ لَمَسْنَا السماء فوجدناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مقاعد لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الآن يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً ﴾ [ الجن : ٨. ٩ ] فباب الكهانة في الوقت الذي كانت فيه مخصوص بأدلته، فهو من جملة ما يخصص به هذا العموم، فلا يرد ما زعمه من إيراد الكهانة على هذه الآية. وأما حديث المرأة الذي أورده فحديث خرافة، ولو سلم وقوع شيء مما حكاه عنها من الأخبار لكان من باب ما ورد في الحديث «إن في هذه الأمة محدّثين، وإن منهم عمر» فيكون كالتخصيص لعموم هذه الآية لا انقضاء لها، وأما ما اجترأ به على الله وعلى كتابه من قوله في آخر كلامه. فلو قلنا : إن القرآن يدلّ على خلاف هذه الأمور المحسوسة لتطرق الطعن إلى القرآن، فيقال له : ما هذه بأوّل زلة من زلاتك، وسقطة من سقطاتك، وكم لها لديك من أشباه ونظائر نبض بها عرق فلسفتك، وركض بها الشيطان الذي صار يتخبطك في مباحث تفسيرك، يا عجباً لك أيكون ما بلغك من خبر هذه المرأة ونحوه موجباً لتطرّق الطعن إلى القرآن، وما أحسن ما قاله بعض أدباء عصرنا :
وإذا رامت الذبابة للشمـ | س غطاء مدّت عليها جناحا |
وقلت من أبيات :
مهب رياح سدّه بجناح | وقابل بالمصباح ضوء صباح |
وأخرج ابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل عن ابن مسعود قال :«خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة إلى نواحي مكة، فخط لي خطاً. وقال :«لا تحدثن شيئًا حتى آتيك، ثم قال : لا يهولنك شيئًا تراه»، فتقدم شيئًا، ثم جلس فإذا رجال سود كأنهم رجال الزطّ، وكانوا كما قال الله تعالى :﴿ كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً ﴾». وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس في الآية قال :«لما سمعوا النبي صلى الله عليه وسلم يتلو القرآن كادوا يركبونه من الحرص لما سمعوه، ودنوا منه فلم يعلم بهم حتى أتاه الرسول، فجعل يقرئه :﴿ قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ استمع نَفَرٌ مّنَ الجن ﴾». وأخرج عبد بن حميد والترمذي وصححه، وابن جرير والحاكم وصححه، وابن مردويه والضياء في المختارة عنه أيضاً في الآية قال :«لما أتى الجنّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يصلي بأصحابه يركعون بركوعه ويسجدون بسجوده، فعجبوا من طواعية أصحابه، فقالوا لقومهم : لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبداً». وأخرج ابن المنذر عنه أيضاً :﴿ لَّمَا قَامَ عَبْدُ الله يَدْعُوهُ ﴾ أي يدعو الله. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه ﴿ كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً ﴾ قال : أعواناً. وأخرج ابن المنذر وابن مردويه عنه أيضاً :﴿ فَلاَ يُظْهِرُ على غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاَّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ ﴾ قال : أعلم الله الرسول من الغيب الوحي وأظهره عليه مما أوحى إليه من غيبه وما يحكم الله فإنه لا يعلم ذلك غيره. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عنه أيضاً :﴿ رَصَداً ﴾ قال : هي معقبات من الملائكة يحفظون رسول الله من الشياطين حتى تبين الذي أرسل إليهم به، وذلك حتى يقول أهل الشرك : قد أبلغوا رسالات ربهم. وأخرج ابن مردويه عنه أيضاً قال : ما أنزل الله على نبيه آية من القرآن إلاّ ومعها أربعة من الملائكة يحفظونها، حتى يؤدّوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قرأ :﴿ عالم الغيب فَلاَ يُظْهِرُ على غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاَّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً ﴾ يعني : الملائكة الأربعة ﴿ لّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُواْ رسالات رَبّهِمْ ﴾ ا هـ.
قال الرازي : وعندي لا دلالة في الآية على شيء مما قالوه إذ لا صيغة عموم في غيبه، فتحمل على غيب واحد، وهو وقت القيامة لأنه واقع بعد قوله :﴿ أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ ﴾ الآية. فإن قيل : فما معنى الاستثناء حينئذٍ ؟ قلنا : لعله إذا قربت القيامة يظهره، وكيف لا ؟ وقد قال :﴿ ويَوْمَ تَشَقَّقُ السماء بالغمام وَنُزّلَ الملائكة تَنزِيلاً ﴾ [ الفرقان : ٢٥ ] فتعلم الملائكة حينئذٍ قيام القيامة، أو هو استثناء منقطع : أي من ارتضاه من رسول يجعل من بين يديه ومن خلفه حفظة يحفظونه من شرّ مردة الجنّ والإنس. ويدلّ على أنه ليس المراد به لا يطلع أحداً على شيء من المغيبات أنه ثبت، كما يقارب التواتر أن شقاً وسطيحاً كانا كاهنين وقد عرّفا بحديث النبيّ صلى الله عليه وسلم قبل ظهوره، وكانا مشهورين بهذا العلم عند العرب حتى رجع إليهما كسرى. فثبت أن الله تعالى قد يطلع غير الرسل على شيء من المغيبات، وأيضاً أطبق أهل الملل على أن معبر الرؤيا يخبر عن أمور مستقبلة، ويكون صادقاً فيها، وأيضاً قد نقل السلطان سنجر بن ملك شاه كاهنة من بغداد إلى خراسان وسألها عن أمور مستقبلة فأخبرته بها، فوقعت على وفق كلامها. قال : وأخبرني ناس محققون في علم الكلام والحكمة أنها أخبرت عن أمور غائبة بالتفصيل، فكانت على وفق خبرها. وبالغ أبو البركات في كتاب التعبير في شرح حالها وقال : فحصت عن حالها ثلاثين سنة، فتحققت أنها كانت تخبر عن المغيبات إخباراً مطابقاً. وأيضاً فإنا نشاهد ذلك في أصحاب الإلهامات الصادقة، وقد يوجد ذلك في السحرة أيضاً، وقد نرى الأحكام النجومية مطابقة وإن كانت قد تتخلف، ولو قلنا إن القرآن يدل على خلاف هذه الأمور المحسوسة لتطرّق الطعن إلى القرآن فيكون التأويل ما ذكرنا، انتهى كلامه.
قلت : أما قوله إذ لا صيغة عموم في غيبه فباطل، فإن إضافة المصدر واسم الجنس من صيغ العموم كما صرّح به أئمة الأصول وغيرهم. وأما قوله : أو هو استثناء منقطع فمجرّد دعوى يأباه النظم القرآني. وأما قوله : إن شقاً وسطيحاً الخ، فقد كانا في زمن تسترق فيه الشياطين السمع ويلقون ما يسمعونه إلى الكهان، فيخلطون الصدق بالكذب، كما ثبت في الحديث الصحيح. وفي قوله :﴿ إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الخطفة ﴾ [ الصافات : ١٠ ] ونحوها من الآيات، فباب الكهانة قد ورد بيانه في هذه الشريعة، وأنه كان طريقاً لبعض الغيب بواسطة استراق الشياطين حتى منعوا ذلك بالبعثة المحمدية. وقالوا :﴿ وأَنَاْ لَمَسْنَا السماء فوجدناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مقاعد لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الآن يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً ﴾ [ الجن : ٨. ٩ ] فباب الكهانة في الوقت الذي كانت فيه مخصوص بأدلته، فهو من جملة ما يخصص به هذا العموم، فلا يرد ما زعمه من إيراد الكهانة على هذه الآية. وأما حديث المرأة الذي أورده فحديث خرافة، ولو سلم وقوع شيء مما حكاه عنها من الأخبار لكان من باب ما ورد في الحديث «إن في هذه الأمة محدّثين، وإن منهم عمر» فيكون كالتخصيص لعموم هذه الآية لا انقضاء لها، وأما ما اجترأ به على الله وعلى كتابه من قوله في آخر كلامه. فلو قلنا : إن القرآن يدلّ على خلاف هذه الأمور المحسوسة لتطرق الطعن إلى القرآن، فيقال له : ما هذه بأوّل زلة من زلاتك، وسقطة من سقطاتك، وكم لها لديك من أشباه ونظائر نبض بها عرق فلسفتك، وركض بها الشيطان الذي صار يتخبطك في مباحث تفسيرك، يا عجباً لك أيكون ما بلغك من خبر هذه المرأة ونحوه موجباً لتطرّق الطعن إلى القرآن، وما أحسن ما قاله بعض أدباء عصرنا :
وإذا رامت الذبابة للشمـ | س غطاء مدّت عليها جناحا |
وقلت من أبيات :
مهب رياح سدّه بجناح | وقابل بالمصباح ضوء صباح |
وأخرج ابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل عن ابن مسعود قال :«خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة إلى نواحي مكة، فخط لي خطاً. وقال :«لا تحدثن شيئًا حتى آتيك، ثم قال : لا يهولنك شيئًا تراه»، فتقدم شيئًا، ثم جلس فإذا رجال سود كأنهم رجال الزطّ، وكانوا كما قال الله تعالى :﴿ كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً ﴾». وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس في الآية قال :«لما سمعوا النبي صلى الله عليه وسلم يتلو القرآن كادوا يركبونه من الحرص لما سمعوه، ودنوا منه فلم يعلم بهم حتى أتاه الرسول، فجعل يقرئه :﴿ قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ استمع نَفَرٌ مّنَ الجن ﴾». وأخرج عبد بن حميد والترمذي وصححه، وابن جرير والحاكم وصححه، وابن مردويه والضياء في المختارة عنه أيضاً في الآية قال :«لما أتى الجنّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يصلي بأصحابه يركعون بركوعه ويسجدون بسجوده، فعجبوا من طواعية أصحابه، فقالوا لقومهم : لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبداً». وأخرج ابن المنذر عنه أيضاً :﴿ لَّمَا قَامَ عَبْدُ الله يَدْعُوهُ ﴾ أي يدعو الله. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه ﴿ كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً ﴾ قال : أعواناً. وأخرج ابن المنذر وابن مردويه عنه أيضاً :﴿ فَلاَ يُظْهِرُ على غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاَّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ ﴾ قال : أعلم الله الرسول من الغيب الوحي وأظهره عليه مما أوحى إليه من غيبه وما يحكم الله فإنه لا يعلم ذلك غيره. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عنه أيضاً :﴿ رَصَداً ﴾ قال : هي معقبات من الملائكة يحفظون رسول الله من الشياطين حتى تبين الذي أرسل إليهم به، وذلك حتى يقول أهل الشرك : قد أبلغوا رسالات ربهم. وأخرج ابن مردويه عنه أيضاً قال : ما أنزل الله على نبيه آية من القرآن إلاّ ومعها أربعة من الملائكة يحفظونها، حتى يؤدّوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قرأ :﴿ عالم الغيب فَلاَ يُظْهِرُ على غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاَّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً ﴾ يعني : الملائكة الأربعة ﴿ لّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُواْ رسالات رَبّهِمْ ﴾ ا هـ.
قال الرازي : وعندي لا دلالة في الآية على شيء مما قالوه إذ لا صيغة عموم في غيبه، فتحمل على غيب واحد، وهو وقت القيامة لأنه واقع بعد قوله :﴿ أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ ﴾ الآية. فإن قيل : فما معنى الاستثناء حينئذٍ ؟ قلنا : لعله إذا قربت القيامة يظهره، وكيف لا ؟ وقد قال :﴿ ويَوْمَ تَشَقَّقُ السماء بالغمام وَنُزّلَ الملائكة تَنزِيلاً ﴾ [ الفرقان : ٢٥ ] فتعلم الملائكة حينئذٍ قيام القيامة، أو هو استثناء منقطع : أي من ارتضاه من رسول يجعل من بين يديه ومن خلفه حفظة يحفظونه من شرّ مردة الجنّ والإنس. ويدلّ على أنه ليس المراد به لا يطلع أحداً على شيء من المغيبات أنه ثبت، كما يقارب التواتر أن شقاً وسطيحاً كانا كاهنين وقد عرّفا بحديث النبيّ صلى الله عليه وسلم قبل ظهوره، وكانا مشهورين بهذا العلم عند العرب حتى رجع إليهما كسرى. فثبت أن الله تعالى قد يطلع غير الرسل على شيء من المغيبات، وأيضاً أطبق أهل الملل على أن معبر الرؤيا يخبر عن أمور مستقبلة، ويكون صادقاً فيها، وأيضاً قد نقل السلطان سنجر بن ملك شاه كاهنة من بغداد إلى خراسان وسألها عن أمور مستقبلة فأخبرته بها، فوقعت على وفق كلامها. قال : وأخبرني ناس محققون في علم الكلام والحكمة أنها أخبرت عن أمور غائبة بالتفصيل، فكانت على وفق خبرها. وبالغ أبو البركات في كتاب التعبير في شرح حالها وقال : فحصت عن حالها ثلاثين سنة، فتحققت أنها كانت تخبر عن المغيبات إخباراً مطابقاً. وأيضاً فإنا نشاهد ذلك في أصحاب الإلهامات الصادقة، وقد يوجد ذلك في السحرة أيضاً، وقد نرى الأحكام النجومية مطابقة وإن كانت قد تتخلف، ولو قلنا إن القرآن يدل على خلاف هذه الأمور المحسوسة لتطرّق الطعن إلى القرآن فيكون التأويل ما ذكرنا، انتهى كلامه.
قلت : أما قوله إذ لا صيغة عموم في غيبه فباطل، فإن إضافة المصدر واسم الجنس من صيغ العموم كما صرّح به أئمة الأصول وغيرهم. وأما قوله : أو هو استثناء منقطع فمجرّد دعوى يأباه النظم القرآني. وأما قوله : إن شقاً وسطيحاً الخ، فقد كانا في زمن تسترق فيه الشياطين السمع ويلقون ما يسمعونه إلى الكهان، فيخلطون الصدق بالكذب، كما ثبت في الحديث الصحيح. وفي قوله :﴿ إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الخطفة ﴾ [ الصافات : ١٠ ] ونحوها من الآيات، فباب الكهانة قد ورد بيانه في هذه الشريعة، وأنه كان طريقاً لبعض الغيب بواسطة استراق الشياطين حتى منعوا ذلك بالبعثة المحمدية. وقالوا :﴿ وأَنَاْ لَمَسْنَا السماء فوجدناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مقاعد لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الآن يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً ﴾ [ الجن : ٨. ٩ ] فباب الكهانة في الوقت الذي كانت فيه مخصوص بأدلته، فهو من جملة ما يخصص به هذا العموم، فلا يرد ما زعمه من إيراد الكهانة على هذه الآية. وأما حديث المرأة الذي أورده فحديث خرافة، ولو سلم وقوع شيء مما حكاه عنها من الأخبار لكان من باب ما ورد في الحديث «إن في هذه الأمة محدّثين، وإن منهم عمر» فيكون كالتخصيص لعموم هذه الآية لا انقضاء لها، وأما ما اجترأ به على الله وعلى كتابه من قوله في آخر كلامه. فلو قلنا : إن القرآن يدلّ على خلاف هذه الأمور المحسوسة لتطرق الطعن إلى القرآن، فيقال له : ما هذه بأوّل زلة من زلاتك، وسقطة من سقطاتك، وكم لها لديك من أشباه ونظائر نبض بها عرق فلسفتك، وركض بها الشيطان الذي صار يتخبطك في مباحث تفسيرك، يا عجباً لك أيكون ما بلغك من خبر هذه المرأة ونحوه موجباً لتطرّق الطعن إلى القرآن، وما أحسن ما قاله بعض أدباء عصرنا :
وإذا رامت الذبابة للشمـ | س غطاء مدّت عليها جناحا |
وقلت من أبيات :
مهب رياح سدّه بجناح | وقابل بالمصباح ضوء صباح |
يا لهف نفسي ولهفاً غير مجدية | عني وما من قضاء الله ملتحد |
وأخرج ابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل عن ابن مسعود قال :«خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة إلى نواحي مكة، فخط لي خطاً. وقال :«لا تحدثن شيئًا حتى آتيك، ثم قال : لا يهولنك شيئًا تراه»، فتقدم شيئًا، ثم جلس فإذا رجال سود كأنهم رجال الزطّ، وكانوا كما قال الله تعالى :﴿ كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً ﴾». وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس في الآية قال :«لما سمعوا النبي صلى الله عليه وسلم يتلو القرآن كادوا يركبونه من الحرص لما سمعوه، ودنوا منه فلم يعلم بهم حتى أتاه الرسول، فجعل يقرئه :﴿ قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ استمع نَفَرٌ مّنَ الجن ﴾». وأخرج عبد بن حميد والترمذي وصححه، وابن جرير والحاكم وصححه، وابن مردويه والضياء في المختارة عنه أيضاً في الآية قال :«لما أتى الجنّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يصلي بأصحابه يركعون بركوعه ويسجدون بسجوده، فعجبوا من طواعية أصحابه، فقالوا لقومهم : لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبداً». وأخرج ابن المنذر عنه أيضاً :﴿ لَّمَا قَامَ عَبْدُ الله يَدْعُوهُ ﴾ أي يدعو الله. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه ﴿ كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً ﴾ قال : أعواناً. وأخرج ابن المنذر وابن مردويه عنه أيضاً :﴿ فَلاَ يُظْهِرُ على غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاَّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ ﴾ قال : أعلم الله الرسول من الغيب الوحي وأظهره عليه مما أوحى إليه من غيبه وما يحكم الله فإنه لا يعلم ذلك غيره. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عنه أيضاً :﴿ رَصَداً ﴾ قال : هي معقبات من الملائكة يحفظون رسول الله من الشياطين حتى تبين الذي أرسل إليهم به، وذلك حتى يقول أهل الشرك : قد أبلغوا رسالات ربهم. وأخرج ابن مردويه عنه أيضاً قال : ما أنزل الله على نبيه آية من القرآن إلاّ ومعها أربعة من الملائكة يحفظونها، حتى يؤدّوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قرأ :﴿ عالم الغيب فَلاَ يُظْهِرُ على غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاَّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً ﴾ يعني : الملائكة الأربعة ﴿ لّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُواْ رسالات رَبّهِمْ ﴾ ا هـ.
قال الرازي : وعندي لا دلالة في الآية على شيء مما قالوه إذ لا صيغة عموم في غيبه، فتحمل على غيب واحد، وهو وقت القيامة لأنه واقع بعد قوله :﴿ أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ ﴾ الآية. فإن قيل : فما معنى الاستثناء حينئذٍ ؟ قلنا : لعله إذا قربت القيامة يظهره، وكيف لا ؟ وقد قال :﴿ ويَوْمَ تَشَقَّقُ السماء بالغمام وَنُزّلَ الملائكة تَنزِيلاً ﴾ [ الفرقان : ٢٥ ] فتعلم الملائكة حينئذٍ قيام القيامة، أو هو استثناء منقطع : أي من ارتضاه من رسول يجعل من بين يديه ومن خلفه حفظة يحفظونه من شرّ مردة الجنّ والإنس. ويدلّ على أنه ليس المراد به لا يطلع أحداً على شيء من المغيبات أنه ثبت، كما يقارب التواتر أن شقاً وسطيحاً كانا كاهنين وقد عرّفا بحديث النبيّ صلى الله عليه وسلم قبل ظهوره، وكانا مشهورين بهذا العلم عند العرب حتى رجع إليهما كسرى. فثبت أن الله تعالى قد يطلع غير الرسل على شيء من المغيبات، وأيضاً أطبق أهل الملل على أن معبر الرؤيا يخبر عن أمور مستقبلة، ويكون صادقاً فيها، وأيضاً قد نقل السلطان سنجر بن ملك شاه كاهنة من بغداد إلى خراسان وسألها عن أمور مستقبلة فأخبرته بها، فوقعت على وفق كلامها. قال : وأخبرني ناس محققون في علم الكلام والحكمة أنها أخبرت عن أمور غائبة بالتفصيل، فكانت على وفق خبرها. وبالغ أبو البركات في كتاب التعبير في شرح حالها وقال : فحصت عن حالها ثلاثين سنة، فتحققت أنها كانت تخبر عن المغيبات إخباراً مطابقاً. وأيضاً فإنا نشاهد ذلك في أصحاب الإلهامات الصادقة، وقد يوجد ذلك في السحرة أيضاً، وقد نرى الأحكام النجومية مطابقة وإن كانت قد تتخلف، ولو قلنا إن القرآن يدل على خلاف هذه الأمور المحسوسة لتطرّق الطعن إلى القرآن فيكون التأويل ما ذكرنا، انتهى كلامه.
قلت : أما قوله إذ لا صيغة عموم في غيبه فباطل، فإن إضافة المصدر واسم الجنس من صيغ العموم كما صرّح به أئمة الأصول وغيرهم. وأما قوله : أو هو استثناء منقطع فمجرّد دعوى يأباه النظم القرآني. وأما قوله : إن شقاً وسطيحاً الخ، فقد كانا في زمن تسترق فيه الشياطين السمع ويلقون ما يسمعونه إلى الكهان، فيخلطون الصدق بالكذب، كما ثبت في الحديث الصحيح. وفي قوله :﴿ إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الخطفة ﴾ [ الصافات : ١٠ ] ونحوها من الآيات، فباب الكهانة قد ورد بيانه في هذه الشريعة، وأنه كان طريقاً لبعض الغيب بواسطة استراق الشياطين حتى منعوا ذلك بالبعثة المحمدية. وقالوا :﴿ وأَنَاْ لَمَسْنَا السماء فوجدناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مقاعد لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الآن يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً ﴾ [ الجن : ٨. ٩ ] فباب الكهانة في الوقت الذي كانت فيه مخصوص بأدلته، فهو من جملة ما يخصص به هذا العموم، فلا يرد ما زعمه من إيراد الكهانة على هذه الآية. وأما حديث المرأة الذي أورده فحديث خرافة، ولو سلم وقوع شيء مما حكاه عنها من الأخبار لكان من باب ما ورد في الحديث «إن في هذه الأمة محدّثين، وإن منهم عمر» فيكون كالتخصيص لعموم هذه الآية لا انقضاء لها، وأما ما اجترأ به على الله وعلى كتابه من قوله في آخر كلامه. فلو قلنا : إن القرآن يدلّ على خلاف هذه الأمور المحسوسة لتطرق الطعن إلى القرآن، فيقال له : ما هذه بأوّل زلة من زلاتك، وسقطة من سقطاتك، وكم لها لديك من أشباه ونظائر نبض بها عرق فلسفتك، وركض بها الشيطان الذي صار يتخبطك في مباحث تفسيرك، يا عجباً لك أيكون ما بلغك من خبر هذه المرأة ونحوه موجباً لتطرّق الطعن إلى القرآن، وما أحسن ما قاله بعض أدباء عصرنا :
وإذا رامت الذبابة للشمـ | س غطاء مدّت عليها جناحا |
وقلت من أبيات :
مهب رياح سدّه بجناح | وقابل بالمصباح ضوء صباح |
وأخرج ابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل عن ابن مسعود قال :«خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة إلى نواحي مكة، فخط لي خطاً. وقال :«لا تحدثن شيئًا حتى آتيك، ثم قال : لا يهولنك شيئًا تراه»، فتقدم شيئًا، ثم جلس فإذا رجال سود كأنهم رجال الزطّ، وكانوا كما قال الله تعالى :﴿ كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً ﴾». وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس في الآية قال :«لما سمعوا النبي صلى الله عليه وسلم يتلو القرآن كادوا يركبونه من الحرص لما سمعوه، ودنوا منه فلم يعلم بهم حتى أتاه الرسول، فجعل يقرئه :﴿ قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ استمع نَفَرٌ مّنَ الجن ﴾». وأخرج عبد بن حميد والترمذي وصححه، وابن جرير والحاكم وصححه، وابن مردويه والضياء في المختارة عنه أيضاً في الآية قال :«لما أتى الجنّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يصلي بأصحابه يركعون بركوعه ويسجدون بسجوده، فعجبوا من طواعية أصحابه، فقالوا لقومهم : لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبداً». وأخرج ابن المنذر عنه أيضاً :﴿ لَّمَا قَامَ عَبْدُ الله يَدْعُوهُ ﴾ أي يدعو الله. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه ﴿ كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً ﴾ قال : أعواناً. وأخرج ابن المنذر وابن مردويه عنه أيضاً :﴿ فَلاَ يُظْهِرُ على غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاَّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ ﴾ قال : أعلم الله الرسول من الغيب الوحي وأظهره عليه مما أوحى إليه من غيبه وما يحكم الله فإنه لا يعلم ذلك غيره. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عنه أيضاً :﴿ رَصَداً ﴾ قال : هي معقبات من الملائكة يحفظون رسول الله من الشياطين حتى تبين الذي أرسل إليهم به، وذلك حتى يقول أهل الشرك : قد أبلغوا رسالات ربهم. وأخرج ابن مردويه عنه أيضاً قال : ما أنزل الله على نبيه آية من القرآن إلاّ ومعها أربعة من الملائكة يحفظونها، حتى يؤدّوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قرأ :﴿ عالم الغيب فَلاَ يُظْهِرُ على غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاَّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً ﴾ يعني : الملائكة الأربعة ﴿ لّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُواْ رسالات رَبّهِمْ ﴾ ا هـ.
قال الرازي : وعندي لا دلالة في الآية على شيء مما قالوه إذ لا صيغة عموم في غيبه، فتحمل على غيب واحد، وهو وقت القيامة لأنه واقع بعد قوله :﴿ أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ ﴾ الآية. فإن قيل : فما معنى الاستثناء حينئذٍ ؟ قلنا : لعله إذا قربت القيامة يظهره، وكيف لا ؟ وقد قال :﴿ ويَوْمَ تَشَقَّقُ السماء بالغمام وَنُزّلَ الملائكة تَنزِيلاً ﴾ [ الفرقان : ٢٥ ] فتعلم الملائكة حينئذٍ قيام القيامة، أو هو استثناء منقطع : أي من ارتضاه من رسول يجعل من بين يديه ومن خلفه حفظة يحفظونه من شرّ مردة الجنّ والإنس. ويدلّ على أنه ليس المراد به لا يطلع أحداً على شيء من المغيبات أنه ثبت، كما يقارب التواتر أن شقاً وسطيحاً كانا كاهنين وقد عرّفا بحديث النبيّ صلى الله عليه وسلم قبل ظهوره، وكانا مشهورين بهذا العلم عند العرب حتى رجع إليهما كسرى. فثبت أن الله تعالى قد يطلع غير الرسل على شيء من المغيبات، وأيضاً أطبق أهل الملل على أن معبر الرؤيا يخبر عن أمور مستقبلة، ويكون صادقاً فيها، وأيضاً قد نقل السلطان سنجر بن ملك شاه كاهنة من بغداد إلى خراسان وسألها عن أمور مستقبلة فأخبرته بها، فوقعت على وفق كلامها. قال : وأخبرني ناس محققون في علم الكلام والحكمة أنها أخبرت عن أمور غائبة بالتفصيل، فكانت على وفق خبرها. وبالغ أبو البركات في كتاب التعبير في شرح حالها وقال : فحصت عن حالها ثلاثين سنة، فتحققت أنها كانت تخبر عن المغيبات إخباراً مطابقاً. وأيضاً فإنا نشاهد ذلك في أصحاب الإلهامات الصادقة، وقد يوجد ذلك في السحرة أيضاً، وقد نرى الأحكام النجومية مطابقة وإن كانت قد تتخلف، ولو قلنا إن القرآن يدل على خلاف هذه الأمور المحسوسة لتطرّق الطعن إلى القرآن فيكون التأويل ما ذكرنا، انتهى كلامه.
قلت : أما قوله إذ لا صيغة عموم في غيبه فباطل، فإن إضافة المصدر واسم الجنس من صيغ العموم كما صرّح به أئمة الأصول وغيرهم. وأما قوله : أو هو استثناء منقطع فمجرّد دعوى يأباه النظم القرآني. وأما قوله : إن شقاً وسطيحاً الخ، فقد كانا في زمن تسترق فيه الشياطين السمع ويلقون ما يسمعونه إلى الكهان، فيخلطون الصدق بالكذب، كما ثبت في الحديث الصحيح. وفي قوله :﴿ إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الخطفة ﴾ [ الصافات : ١٠ ] ونحوها من الآيات، فباب الكهانة قد ورد بيانه في هذه الشريعة، وأنه كان طريقاً لبعض الغيب بواسطة استراق الشياطين حتى منعوا ذلك بالبعثة المحمدية. وقالوا :﴿ وأَنَاْ لَمَسْنَا السماء فوجدناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مقاعد لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الآن يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً ﴾ [ الجن : ٨. ٩ ] فباب الكهانة في الوقت الذي كانت فيه مخصوص بأدلته، فهو من جملة ما يخصص به هذا العموم، فلا يرد ما زعمه من إيراد الكهانة على هذه الآية. وأما حديث المرأة الذي أورده فحديث خرافة، ولو سلم وقوع شيء مما حكاه عنها من الأخبار لكان من باب ما ورد في الحديث «إن في هذه الأمة محدّثين، وإن منهم عمر» فيكون كالتخصيص لعموم هذه الآية لا انقضاء لها، وأما ما اجترأ به على الله وعلى كتابه من قوله في آخر كلامه. فلو قلنا : إن القرآن يدلّ على خلاف هذه الأمور المحسوسة لتطرق الطعن إلى القرآن، فيقال له : ما هذه بأوّل زلة من زلاتك، وسقطة من سقطاتك، وكم لها لديك من أشباه ونظائر نبض بها عرق فلسفتك، وركض بها الشيطان الذي صار يتخبطك في مباحث تفسيرك، يا عجباً لك أيكون ما بلغك من خبر هذه المرأة ونحوه موجباً لتطرّق الطعن إلى القرآن، وما أحسن ما قاله بعض أدباء عصرنا :
وإذا رامت الذبابة للشمـ | س غطاء مدّت عليها جناحا |
وقلت من أبيات :
مهب رياح سدّه بجناح | وقابل بالمصباح ضوء صباح |
وأخرج ابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل عن ابن مسعود قال :«خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة إلى نواحي مكة، فخط لي خطاً. وقال :«لا تحدثن شيئًا حتى آتيك، ثم قال : لا يهولنك شيئًا تراه»، فتقدم شيئًا، ثم جلس فإذا رجال سود كأنهم رجال الزطّ، وكانوا كما قال الله تعالى :﴿ كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً ﴾». وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس في الآية قال :«لما سمعوا النبي صلى الله عليه وسلم يتلو القرآن كادوا يركبونه من الحرص لما سمعوه، ودنوا منه فلم يعلم بهم حتى أتاه الرسول، فجعل يقرئه :﴿ قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ استمع نَفَرٌ مّنَ الجن ﴾». وأخرج عبد بن حميد والترمذي وصححه، وابن جرير والحاكم وصححه، وابن مردويه والضياء في المختارة عنه أيضاً في الآية قال :«لما أتى الجنّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يصلي بأصحابه يركعون بركوعه ويسجدون بسجوده، فعجبوا من طواعية أصحابه، فقالوا لقومهم : لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبداً». وأخرج ابن المنذر عنه أيضاً :﴿ لَّمَا قَامَ عَبْدُ الله يَدْعُوهُ ﴾ أي يدعو الله. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه ﴿ كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً ﴾ قال : أعواناً. وأخرج ابن المنذر وابن مردويه عنه أيضاً :﴿ فَلاَ يُظْهِرُ على غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاَّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ ﴾ قال : أعلم الله الرسول من الغيب الوحي وأظهره عليه مما أوحى إليه من غيبه وما يحكم الله فإنه لا يعلم ذلك غيره. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عنه أيضاً :﴿ رَصَداً ﴾ قال : هي معقبات من الملائكة يحفظون رسول الله من الشياطين حتى تبين الذي أرسل إليهم به، وذلك حتى يقول أهل الشرك : قد أبلغوا رسالات ربهم. وأخرج ابن مردويه عنه أيضاً قال : ما أنزل الله على نبيه آية من القرآن إلاّ ومعها أربعة من الملائكة يحفظونها، حتى يؤدّوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قرأ :﴿ عالم الغيب فَلاَ يُظْهِرُ على غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاَّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً ﴾ يعني : الملائكة الأربعة ﴿ لّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُواْ رسالات رَبّهِمْ ﴾ ا هـ.
قال الرازي : وعندي لا دلالة في الآية على شيء مما قالوه إذ لا صيغة عموم في غيبه، فتحمل على غيب واحد، وهو وقت القيامة لأنه واقع بعد قوله :﴿ أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ ﴾ الآية. فإن قيل : فما معنى الاستثناء حينئذٍ ؟ قلنا : لعله إذا قربت القيامة يظهره، وكيف لا ؟ وقد قال :﴿ ويَوْمَ تَشَقَّقُ السماء بالغمام وَنُزّلَ الملائكة تَنزِيلاً ﴾ [ الفرقان : ٢٥ ] فتعلم الملائكة حينئذٍ قيام القيامة، أو هو استثناء منقطع : أي من ارتضاه من رسول يجعل من بين يديه ومن خلفه حفظة يحفظونه من شرّ مردة الجنّ والإنس. ويدلّ على أنه ليس المراد به لا يطلع أحداً على شيء من المغيبات أنه ثبت، كما يقارب التواتر أن شقاً وسطيحاً كانا كاهنين وقد عرّفا بحديث النبيّ صلى الله عليه وسلم قبل ظهوره، وكانا مشهورين بهذا العلم عند العرب حتى رجع إليهما كسرى. فثبت أن الله تعالى قد يطلع غير الرسل على شيء من المغيبات، وأيضاً أطبق أهل الملل على أن معبر الرؤيا يخبر عن أمور مستقبلة، ويكون صادقاً فيها، وأيضاً قد نقل السلطان سنجر بن ملك شاه كاهنة من بغداد إلى خراسان وسألها عن أمور مستقبلة فأخبرته بها، فوقعت على وفق كلامها. قال : وأخبرني ناس محققون في علم الكلام والحكمة أنها أخبرت عن أمور غائبة بالتفصيل، فكانت على وفق خبرها. وبالغ أبو البركات في كتاب التعبير في شرح حالها وقال : فحصت عن حالها ثلاثين سنة، فتحققت أنها كانت تخبر عن المغيبات إخباراً مطابقاً. وأيضاً فإنا نشاهد ذلك في أصحاب الإلهامات الصادقة، وقد يوجد ذلك في السحرة أيضاً، وقد نرى الأحكام النجومية مطابقة وإن كانت قد تتخلف، ولو قلنا إن القرآن يدل على خلاف هذه الأمور المحسوسة لتطرّق الطعن إلى القرآن فيكون التأويل ما ذكرنا، انتهى كلامه.
قلت : أما قوله إذ لا صيغة عموم في غيبه فباطل، فإن إضافة المصدر واسم الجنس من صيغ العموم كما صرّح به أئمة الأصول وغيرهم. وأما قوله : أو هو استثناء منقطع فمجرّد دعوى يأباه النظم القرآني. وأما قوله : إن شقاً وسطيحاً الخ، فقد كانا في زمن تسترق فيه الشياطين السمع ويلقون ما يسمعونه إلى الكهان، فيخلطون الصدق بالكذب، كما ثبت في الحديث الصحيح. وفي قوله :﴿ إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الخطفة ﴾ [ الصافات : ١٠ ] ونحوها من الآيات، فباب الكهانة قد ورد بيانه في هذه الشريعة، وأنه كان طريقاً لبعض الغيب بواسطة استراق الشياطين حتى منعوا ذلك بالبعثة المحمدية. وقالوا :﴿ وأَنَاْ لَمَسْنَا السماء فوجدناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مقاعد لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الآن يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً ﴾ [ الجن : ٨. ٩ ] فباب الكهانة في الوقت الذي كانت فيه مخصوص بأدلته، فهو من جملة ما يخصص به هذا العموم، فلا يرد ما زعمه من إيراد الكهانة على هذه الآية. وأما حديث المرأة الذي أورده فحديث خرافة، ولو سلم وقوع شيء مما حكاه عنها من الأخبار لكان من باب ما ورد في الحديث «إن في هذه الأمة محدّثين، وإن منهم عمر» فيكون كالتخصيص لعموم هذه الآية لا انقضاء لها، وأما ما اجترأ به على الله وعلى كتابه من قوله في آخر كلامه. فلو قلنا : إن القرآن يدلّ على خلاف هذه الأمور المحسوسة لتطرق الطعن إلى القرآن، فيقال له : ما هذه بأوّل زلة من زلاتك، وسقطة من سقطاتك، وكم لها لديك من أشباه ونظائر نبض بها عرق فلسفتك، وركض بها الشيطان الذي صار يتخبطك في مباحث تفسيرك، يا عجباً لك أيكون ما بلغك من خبر هذه المرأة ونحوه موجباً لتطرّق الطعن إلى القرآن، وما أحسن ما قاله بعض أدباء عصرنا :
وإذا رامت الذبابة للشمـ | س غطاء مدّت عليها جناحا |
وقلت من أبيات :
مهب رياح سدّه بجناح | وقابل بالمصباح ضوء صباح |
وأخرج ابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل عن ابن مسعود قال :«خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة إلى نواحي مكة، فخط لي خطاً. وقال :«لا تحدثن شيئًا حتى آتيك، ثم قال : لا يهولنك شيئًا تراه»، فتقدم شيئًا، ثم جلس فإذا رجال سود كأنهم رجال الزطّ، وكانوا كما قال الله تعالى :﴿ كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً ﴾». وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس في الآية قال :«لما سمعوا النبي صلى الله عليه وسلم يتلو القرآن كادوا يركبونه من الحرص لما سمعوه، ودنوا منه فلم يعلم بهم حتى أتاه الرسول، فجعل يقرئه :﴿ قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ استمع نَفَرٌ مّنَ الجن ﴾». وأخرج عبد بن حميد والترمذي وصححه، وابن جرير والحاكم وصححه، وابن مردويه والضياء في المختارة عنه أيضاً في الآية قال :«لما أتى الجنّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يصلي بأصحابه يركعون بركوعه ويسجدون بسجوده، فعجبوا من طواعية أصحابه، فقالوا لقومهم : لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبداً». وأخرج ابن المنذر عنه أيضاً :﴿ لَّمَا قَامَ عَبْدُ الله يَدْعُوهُ ﴾ أي يدعو الله. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه ﴿ كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً ﴾ قال : أعواناً. وأخرج ابن المنذر وابن مردويه عنه أيضاً :﴿ فَلاَ يُظْهِرُ على غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاَّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ ﴾ قال : أعلم الله الرسول من الغيب الوحي وأظهره عليه مما أوحى إليه من غيبه وما يحكم الله فإنه لا يعلم ذلك غيره. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عنه أيضاً :﴿ رَصَداً ﴾ قال : هي معقبات من الملائكة يحفظون رسول الله من الشياطين حتى تبين الذي أرسل إليهم به، وذلك حتى يقول أهل الشرك : قد أبلغوا رسالات ربهم. وأخرج ابن مردويه عنه أيضاً قال : ما أنزل الله على نبيه آية من القرآن إلاّ ومعها أربعة من الملائكة يحفظونها، حتى يؤدّوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قرأ :﴿ عالم الغيب فَلاَ يُظْهِرُ على غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاَّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً ﴾ يعني : الملائكة الأربعة ﴿ لّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُواْ رسالات رَبّهِمْ ﴾ ا هـ.
قال الرازي : وعندي لا دلالة في الآية على شيء مما قالوه إذ لا صيغة عموم في غيبه، فتحمل على غيب واحد، وهو وقت القيامة لأنه واقع بعد قوله :﴿ أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ ﴾ الآية. فإن قيل : فما معنى الاستثناء حينئذٍ ؟ قلنا : لعله إذا قربت القيامة يظهره، وكيف لا ؟ وقد قال :﴿ ويَوْمَ تَشَقَّقُ السماء بالغمام وَنُزّلَ الملائكة تَنزِيلاً ﴾ [ الفرقان : ٢٥ ] فتعلم الملائكة حينئذٍ قيام القيامة، أو هو استثناء منقطع : أي من ارتضاه من رسول يجعل من بين يديه ومن خلفه حفظة يحفظونه من شرّ مردة الجنّ والإنس. ويدلّ على أنه ليس المراد به لا يطلع أحداً على شيء من المغيبات أنه ثبت، كما يقارب التواتر أن شقاً وسطيحاً كانا كاهنين وقد عرّفا بحديث النبيّ صلى الله عليه وسلم قبل ظهوره، وكانا مشهورين بهذا العلم عند العرب حتى رجع إليهما كسرى. فثبت أن الله تعالى قد يطلع غير الرسل على شيء من المغيبات، وأيضاً أطبق أهل الملل على أن معبر الرؤيا يخبر عن أمور مستقبلة، ويكون صادقاً فيها، وأيضاً قد نقل السلطان سنجر بن ملك شاه كاهنة من بغداد إلى خراسان وسألها عن أمور مستقبلة فأخبرته بها، فوقعت على وفق كلامها. قال : وأخبرني ناس محققون في علم الكلام والحكمة أنها أخبرت عن أمور غائبة بالتفصيل، فكانت على وفق خبرها. وبالغ أبو البركات في كتاب التعبير في شرح حالها وقال : فحصت عن حالها ثلاثين سنة، فتحققت أنها كانت تخبر عن المغيبات إخباراً مطابقاً. وأيضاً فإنا نشاهد ذلك في أصحاب الإلهامات الصادقة، وقد يوجد ذلك في السحرة أيضاً، وقد نرى الأحكام النجومية مطابقة وإن كانت قد تتخلف، ولو قلنا إن القرآن يدل على خلاف هذه الأمور المحسوسة لتطرّق الطعن إلى القرآن فيكون التأويل ما ذكرنا، انتهى كلامه.
قلت : أما قوله إذ لا صيغة عموم في غيبه فباطل، فإن إضافة المصدر واسم الجنس من صيغ العموم كما صرّح به أئمة الأصول وغيرهم. وأما قوله : أو هو استثناء منقطع فمجرّد دعوى يأباه النظم القرآني. وأما قوله : إن شقاً وسطيحاً الخ، فقد كانا في زمن تسترق فيه الشياطين السمع ويلقون ما يسمعونه إلى الكهان، فيخلطون الصدق بالكذب، كما ثبت في الحديث الصحيح. وفي قوله :﴿ إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الخطفة ﴾ [ الصافات : ١٠ ] ونحوها من الآيات، فباب الكهانة قد ورد بيانه في هذه الشريعة، وأنه كان طريقاً لبعض الغيب بواسطة استراق الشياطين حتى منعوا ذلك بالبعثة المحمدية. وقالوا :﴿ وأَنَاْ لَمَسْنَا السماء فوجدناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مقاعد لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الآن يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً ﴾ [ الجن : ٨. ٩ ] فباب الكهانة في الوقت الذي كانت فيه مخصوص بأدلته، فهو من جملة ما يخصص به هذا العموم، فلا يرد ما زعمه من إيراد الكهانة على هذه الآية. وأما حديث المرأة الذي أورده فحديث خرافة، ولو سلم وقوع شيء مما حكاه عنها من الأخبار لكان من باب ما ورد في الحديث «إن في هذه الأمة محدّثين، وإن منهم عمر» فيكون كالتخصيص لعموم هذه الآية لا انقضاء لها، وأما ما اجترأ به على الله وعلى كتابه من قوله في آخر كلامه. فلو قلنا : إن القرآن يدلّ على خلاف هذه الأمور المحسوسة لتطرق الطعن إلى القرآن، فيقال له : ما هذه بأوّل زلة من زلاتك، وسقطة من سقطاتك، وكم لها لديك من أشباه ونظائر نبض بها عرق فلسفتك، وركض بها الشيطان الذي صار يتخبطك في مباحث تفسيرك، يا عجباً لك أيكون ما بلغك من خبر هذه المرأة ونحوه موجباً لتطرّق الطعن إلى القرآن، وما أحسن ما قاله بعض أدباء عصرنا :
وإذا رامت الذبابة للشمـ | س غطاء مدّت عليها جناحا |
وقلت من أبيات :
مهب رياح سدّه بجناح | وقابل بالمصباح ضوء صباح |
وأخرج ابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل عن ابن مسعود قال :«خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة إلى نواحي مكة، فخط لي خطاً. وقال :«لا تحدثن شيئًا حتى آتيك، ثم قال : لا يهولنك شيئًا تراه»، فتقدم شيئًا، ثم جلس فإذا رجال سود كأنهم رجال الزطّ، وكانوا كما قال الله تعالى :﴿ كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً ﴾». وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس في الآية قال :«لما سمعوا النبي صلى الله عليه وسلم يتلو القرآن كادوا يركبونه من الحرص لما سمعوه، ودنوا منه فلم يعلم بهم حتى أتاه الرسول، فجعل يقرئه :﴿ قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ استمع نَفَرٌ مّنَ الجن ﴾». وأخرج عبد بن حميد والترمذي وصححه، وابن جرير والحاكم وصححه، وابن مردويه والضياء في المختارة عنه أيضاً في الآية قال :«لما أتى الجنّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يصلي بأصحابه يركعون بركوعه ويسجدون بسجوده، فعجبوا من طواعية أصحابه، فقالوا لقومهم : لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبداً». وأخرج ابن المنذر عنه أيضاً :﴿ لَّمَا قَامَ عَبْدُ الله يَدْعُوهُ ﴾ أي يدعو الله. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه ﴿ كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً ﴾ قال : أعواناً. وأخرج ابن المنذر وابن مردويه عنه أيضاً :﴿ فَلاَ يُظْهِرُ على غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاَّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ ﴾ قال : أعلم الله الرسول من الغيب الوحي وأظهره عليه مما أوحى إليه من غيبه وما يحكم الله فإنه لا يعلم ذلك غيره. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عنه أيضاً :﴿ رَصَداً ﴾ قال : هي معقبات من الملائكة يحفظون رسول الله من الشياطين حتى تبين الذي أرسل إليهم به، وذلك حتى يقول أهل الشرك : قد أبلغوا رسالات ربهم. وأخرج ابن مردويه عنه أيضاً قال : ما أنزل الله على نبيه آية من القرآن إلاّ ومعها أربعة من الملائكة يحفظونها، حتى يؤدّوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قرأ :﴿ عالم الغيب فَلاَ يُظْهِرُ على غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاَّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً ﴾ يعني : الملائكة الأربعة ﴿ لّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُواْ رسالات رَبّهِمْ ﴾ ا هـ.
قال الرازي : وعندي لا دلالة في الآية على شيء مما قالوه إذ لا صيغة عموم في غيبه، فتحمل على غيب واحد، وهو وقت القيامة لأنه واقع بعد قوله :﴿ أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ ﴾ الآية. فإن قيل : فما معنى الاستثناء حينئذٍ ؟ قلنا : لعله إذا قربت القيامة يظهره، وكيف لا ؟ وقد قال :﴿ ويَوْمَ تَشَقَّقُ السماء بالغمام وَنُزّلَ الملائكة تَنزِيلاً ﴾ [ الفرقان : ٢٥ ] فتعلم الملائكة حينئذٍ قيام القيامة، أو هو استثناء منقطع : أي من ارتضاه من رسول يجعل من بين يديه ومن خلفه حفظة يحفظونه من شرّ مردة الجنّ والإنس. ويدلّ على أنه ليس المراد به لا يطلع أحداً على شيء من المغيبات أنه ثبت، كما يقارب التواتر أن شقاً وسطيحاً كانا كاهنين وقد عرّفا بحديث النبيّ صلى الله عليه وسلم قبل ظهوره، وكانا مشهورين بهذا العلم عند العرب حتى رجع إليهما كسرى. فثبت أن الله تعالى قد يطلع غير الرسل على شيء من المغيبات، وأيضاً أطبق أهل الملل على أن معبر الرؤيا يخبر عن أمور مستقبلة، ويكون صادقاً فيها، وأيضاً قد نقل السلطان سنجر بن ملك شاه كاهنة من بغداد إلى خراسان وسألها عن أمور مستقبلة فأخبرته بها، فوقعت على وفق كلامها. قال : وأخبرني ناس محققون في علم الكلام والحكمة أنها أخبرت عن أمور غائبة بالتفصيل، فكانت على وفق خبرها. وبالغ أبو البركات في كتاب التعبير في شرح حالها وقال : فحصت عن حالها ثلاثين سنة، فتحققت أنها كانت تخبر عن المغيبات إخباراً مطابقاً. وأيضاً فإنا نشاهد ذلك في أصحاب الإلهامات الصادقة، وقد يوجد ذلك في السحرة أيضاً، وقد نرى الأحكام النجومية مطابقة وإن كانت قد تتخلف، ولو قلنا إن القرآن يدل على خلاف هذه الأمور المحسوسة لتطرّق الطعن إلى القرآن فيكون التأويل ما ذكرنا، انتهى كلامه.
قلت : أما قوله إذ لا صيغة عموم في غيبه فباطل، فإن إضافة المصدر واسم الجنس من صيغ العموم كما صرّح به أئمة الأصول وغيرهم. وأما قوله : أو هو استثناء منقطع فمجرّد دعوى يأباه النظم القرآني. وأما قوله : إن شقاً وسطيحاً الخ، فقد كانا في زمن تسترق فيه الشياطين السمع ويلقون ما يسمعونه إلى الكهان، فيخلطون الصدق بالكذب، كما ثبت في الحديث الصحيح. وفي قوله :﴿ إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الخطفة ﴾ [ الصافات : ١٠ ] ونحوها من الآيات، فباب الكهانة قد ورد بيانه في هذه الشريعة، وأنه كان طريقاً لبعض الغيب بواسطة استراق الشياطين حتى منعوا ذلك بالبعثة المحمدية. وقالوا :﴿ وأَنَاْ لَمَسْنَا السماء فوجدناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مقاعد لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الآن يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً ﴾ [ الجن : ٨. ٩ ] فباب الكهانة في الوقت الذي كانت فيه مخصوص بأدلته، فهو من جملة ما يخصص به هذا العموم، فلا يرد ما زعمه من إيراد الكهانة على هذه الآية. وأما حديث المرأة الذي أورده فحديث خرافة، ولو سلم وقوع شيء مما حكاه عنها من الأخبار لكان من باب ما ورد في الحديث «إن في هذه الأمة محدّثين، وإن منهم عمر» فيكون كالتخصيص لعموم هذه الآية لا انقضاء لها، وأما ما اجترأ به على الله وعلى كتابه من قوله في آخر كلامه. فلو قلنا : إن القرآن يدلّ على خلاف هذه الأمور المحسوسة لتطرق الطعن إلى القرآن، فيقال له : ما هذه بأوّل زلة من زلاتك، وسقطة من سقطاتك، وكم لها لديك من أشباه ونظائر نبض بها عرق فلسفتك، وركض بها الشيطان الذي صار يتخبطك في مباحث تفسيرك، يا عجباً لك أيكون ما بلغك من خبر هذه المرأة ونحوه موجباً لتطرّق الطعن إلى القرآن، وما أحسن ما قاله بعض أدباء عصرنا :
وإذا رامت الذبابة للشمـ | س غطاء مدّت عليها جناحا |
وقلت من أبيات :
مهب رياح سدّه بجناح | وقابل بالمصباح ضوء صباح |
وأخرج ابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل عن ابن مسعود قال :«خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة إلى نواحي مكة، فخط لي خطاً. وقال :«لا تحدثن شيئًا حتى آتيك، ثم قال : لا يهولنك شيئًا تراه»، فتقدم شيئًا، ثم جلس فإذا رجال سود كأنهم رجال الزطّ، وكانوا كما قال الله تعالى :﴿ كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً ﴾». وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس في الآية قال :«لما سمعوا النبي صلى الله عليه وسلم يتلو القرآن كادوا يركبونه من الحرص لما سمعوه، ودنوا منه فلم يعلم بهم حتى أتاه الرسول، فجعل يقرئه :﴿ قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ استمع نَفَرٌ مّنَ الجن ﴾». وأخرج عبد بن حميد والترمذي وصححه، وابن جرير والحاكم وصححه، وابن مردويه والضياء في المختارة عنه أيضاً في الآية قال :«لما أتى الجنّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يصلي بأصحابه يركعون بركوعه ويسجدون بسجوده، فعجبوا من طواعية أصحابه، فقالوا لقومهم : لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبداً». وأخرج ابن المنذر عنه أيضاً :﴿ لَّمَا قَامَ عَبْدُ الله يَدْعُوهُ ﴾ أي يدعو الله. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه ﴿ كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً ﴾ قال : أعواناً. وأخرج ابن المنذر وابن مردويه عنه أيضاً :﴿ فَلاَ يُظْهِرُ على غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاَّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ ﴾ قال : أعلم الله الرسول من الغيب الوحي وأظهره عليه مما أوحى إليه من غيبه وما يحكم الله فإنه لا يعلم ذلك غيره. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عنه أيضاً :﴿ رَصَداً ﴾ قال : هي معقبات من الملائكة يحفظون رسول الله من الشياطين حتى تبين الذي أرسل إليهم به، وذلك حتى يقول أهل الشرك : قد أبلغوا رسالات ربهم. وأخرج ابن مردويه عنه أيضاً قال : ما أنزل الله على نبيه آية من القرآن إلاّ ومعها أربعة من الملائكة يحفظونها، حتى يؤدّوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قرأ :﴿ عالم الغيب فَلاَ يُظْهِرُ على غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاَّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً ﴾ يعني : الملائكة الأربعة ﴿ لّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُواْ رسالات رَبّهِمْ ﴾ ا هـ.
قال الرازي : وعندي لا دلالة في الآية على شيء مما قالوه إذ لا صيغة عموم في غيبه، فتحمل على غيب واحد، وهو وقت القيامة لأنه واقع بعد قوله :﴿ أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ ﴾ الآية. فإن قيل : فما معنى الاستثناء حينئذٍ ؟ قلنا : لعله إذا قربت القيامة يظهره، وكيف لا ؟ وقد قال :﴿ ويَوْمَ تَشَقَّقُ السماء بالغمام وَنُزّلَ الملائكة تَنزِيلاً ﴾ [ الفرقان : ٢٥ ] فتعلم الملائكة حينئذٍ قيام القيامة، أو هو استثناء منقطع : أي من ارتضاه من رسول يجعل من بين يديه ومن خلفه حفظة يحفظونه من شرّ مردة الجنّ والإنس. ويدلّ على أنه ليس المراد به لا يطلع أحداً على شيء من المغيبات أنه ثبت، كما يقارب التواتر أن شقاً وسطيحاً كانا كاهنين وقد عرّفا بحديث النبيّ صلى الله عليه وسلم قبل ظهوره، وكانا مشهورين بهذا العلم عند العرب حتى رجع إليهما كسرى. فثبت أن الله تعالى قد يطلع غير الرسل على شيء من المغيبات، وأيضاً أطبق أهل الملل على أن معبر الرؤيا يخبر عن أمور مستقبلة، ويكون صادقاً فيها، وأيضاً قد نقل السلطان سنجر بن ملك شاه كاهنة من بغداد إلى خراسان وسألها عن أمور مستقبلة فأخبرته بها، فوقعت على وفق كلامها. قال : وأخبرني ناس محققون في علم الكلام والحكمة أنها أخبرت عن أمور غائبة بالتفصيل، فكانت على وفق خبرها. وبالغ أبو البركات في كتاب التعبير في شرح حالها وقال : فحصت عن حالها ثلاثين سنة، فتحققت أنها كانت تخبر عن المغيبات إخباراً مطابقاً. وأيضاً فإنا نشاهد ذلك في أصحاب الإلهامات الصادقة، وقد يوجد ذلك في السحرة أيضاً، وقد نرى الأحكام النجومية مطابقة وإن كانت قد تتخلف، ولو قلنا إن القرآن يدل على خلاف هذه الأمور المحسوسة لتطرّق الطعن إلى القرآن فيكون التأويل ما ذكرنا، انتهى كلامه.
قلت : أما قوله إذ لا صيغة عموم في غيبه فباطل، فإن إضافة المصدر واسم الجنس من صيغ العموم كما صرّح به أئمة الأصول وغيرهم. وأما قوله : أو هو استثناء منقطع فمجرّد دعوى يأباه النظم القرآني. وأما قوله : إن شقاً وسطيحاً الخ، فقد كانا في زمن تسترق فيه الشياطين السمع ويلقون ما يسمعونه إلى الكهان، فيخلطون الصدق بالكذب، كما ثبت في الحديث الصحيح. وفي قوله :﴿ إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الخطفة ﴾ [ الصافات : ١٠ ] ونحوها من الآيات، فباب الكهانة قد ورد بيانه في هذه الشريعة، وأنه كان طريقاً لبعض الغيب بواسطة استراق الشياطين حتى منعوا ذلك بالبعثة المحمدية. وقالوا :﴿ وأَنَاْ لَمَسْنَا السماء فوجدناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مقاعد لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الآن يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً ﴾ [ الجن : ٨. ٩ ] فباب الكهانة في الوقت الذي كانت فيه مخصوص بأدلته، فهو من جملة ما يخصص به هذا العموم، فلا يرد ما زعمه من إيراد الكهانة على هذه الآية. وأما حديث المرأة الذي أورده فحديث خرافة، ولو سلم وقوع شيء مما حكاه عنها من الأخبار لكان من باب ما ورد في الحديث «إن في هذه الأمة محدّثين، وإن منهم عمر» فيكون كالتخصيص لعموم هذه الآية لا انقضاء لها، وأما ما اجترأ به على الله وعلى كتابه من قوله في آخر كلامه. فلو قلنا : إن القرآن يدلّ على خلاف هذه الأمور المحسوسة لتطرق الطعن إلى القرآن، فيقال له : ما هذه بأوّل زلة من زلاتك، وسقطة من سقطاتك، وكم لها لديك من أشباه ونظائر نبض بها عرق فلسفتك، وركض بها الشيطان الذي صار يتخبطك في مباحث تفسيرك، يا عجباً لك أيكون ما بلغك من خبر هذه المرأة ونحوه موجباً لتطرّق الطعن إلى القرآن، وما أحسن ما قاله بعض أدباء عصرنا :
وإذا رامت الذبابة للشمـ | س غطاء مدّت عليها جناحا |
وقلت من أبيات :
مهب رياح سدّه بجناح | وقابل بالمصباح ضوء صباح |
وأخرج ابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل عن ابن مسعود قال :«خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة إلى نواحي مكة، فخط لي خطاً. وقال :«لا تحدثن شيئًا حتى آتيك، ثم قال : لا يهولنك شيئًا تراه»، فتقدم شيئًا، ثم جلس فإذا رجال سود كأنهم رجال الزطّ، وكانوا كما قال الله تعالى :﴿ كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً ﴾». وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس في الآية قال :«لما سمعوا النبي صلى الله عليه وسلم يتلو القرآن كادوا يركبونه من الحرص لما سمعوه، ودنوا منه فلم يعلم بهم حتى أتاه الرسول، فجعل يقرئه :﴿ قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ استمع نَفَرٌ مّنَ الجن ﴾». وأخرج عبد بن حميد والترمذي وصححه، وابن جرير والحاكم وصححه، وابن مردويه والضياء في المختارة عنه أيضاً في الآية قال :«لما أتى الجنّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يصلي بأصحابه يركعون بركوعه ويسجدون بسجوده، فعجبوا من طواعية أصحابه، فقالوا لقومهم : لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبداً». وأخرج ابن المنذر عنه أيضاً :﴿ لَّمَا قَامَ عَبْدُ الله يَدْعُوهُ ﴾ أي يدعو الله. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه ﴿ كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً ﴾ قال : أعواناً. وأخرج ابن المنذر وابن مردويه عنه أيضاً :﴿ فَلاَ يُظْهِرُ على غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاَّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ ﴾ قال : أعلم الله الرسول من الغيب الوحي وأظهره عليه مما أوحى إليه من غيبه وما يحكم الله فإنه لا يعلم ذلك غيره. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عنه أيضاً :﴿ رَصَداً ﴾ قال : هي معقبات من الملائكة يحفظون رسول الله من الشياطين حتى تبين الذي أرسل إليهم به، وذلك حتى يقول أهل الشرك : قد أبلغوا رسالات ربهم. وأخرج ابن مردويه عنه أيضاً قال : ما أنزل الله على نبيه آية من القرآن إلاّ ومعها أربعة من الملائكة يحفظونها، حتى يؤدّوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قرأ :﴿ عالم الغيب فَلاَ يُظْهِرُ على غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاَّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً ﴾ يعني : الملائكة الأربعة ﴿ لّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُواْ رسالات رَبّهِمْ ﴾ ا هـ.
قال الرازي : وعندي لا دلالة في الآية على شيء مما قالوه إذ لا صيغة عموم في غيبه، فتحمل على غيب واحد، وهو وقت القيامة لأنه واقع بعد قوله :﴿ أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ ﴾ الآية. فإن قيل : فما معنى الاستثناء حينئذٍ ؟ قلنا : لعله إذا قربت القيامة يظهره، وكيف لا ؟ وقد قال :﴿ ويَوْمَ تَشَقَّقُ السماء بالغمام وَنُزّلَ الملائكة تَنزِيلاً ﴾ [ الفرقان : ٢٥ ] فتعلم الملائكة حينئذٍ قيام القيامة، أو هو استثناء منقطع : أي من ارتضاه من رسول يجعل من بين يديه ومن خلفه حفظة يحفظونه من شرّ مردة الجنّ والإنس. ويدلّ على أنه ليس المراد به لا يطلع أحداً على شيء من المغيبات أنه ثبت، كما يقارب التواتر أن شقاً وسطيحاً كانا كاهنين وقد عرّفا بحديث النبيّ صلى الله عليه وسلم قبل ظهوره، وكانا مشهورين بهذا العلم عند العرب حتى رجع إليهما كسرى. فثبت أن الله تعالى قد يطلع غير الرسل على شيء من المغيبات، وأيضاً أطبق أهل الملل على أن معبر الرؤيا يخبر عن أمور مستقبلة، ويكون صادقاً فيها، وأيضاً قد نقل السلطان سنجر بن ملك شاه كاهنة من بغداد إلى خراسان وسألها عن أمور مستقبلة فأخبرته بها، فوقعت على وفق كلامها. قال : وأخبرني ناس محققون في علم الكلام والحكمة أنها أخبرت عن أمور غائبة بالتفصيل، فكانت على وفق خبرها. وبالغ أبو البركات في كتاب التعبير في شرح حالها وقال : فحصت عن حالها ثلاثين سنة، فتحققت أنها كانت تخبر عن المغيبات إخباراً مطابقاً. وأيضاً فإنا نشاهد ذلك في أصحاب الإلهامات الصادقة، وقد يوجد ذلك في السحرة أيضاً، وقد نرى الأحكام النجومية مطابقة وإن كانت قد تتخلف، ولو قلنا إن القرآن يدل على خلاف هذه الأمور المحسوسة لتطرّق الطعن إلى القرآن فيكون التأويل ما ذكرنا، انتهى كلامه.
قلت : أما قوله إذ لا صيغة عموم في غيبه فباطل، فإن إضافة المصدر واسم الجنس من صيغ العموم كما صرّح به أئمة الأصول وغيرهم. وأما قوله : أو هو استثناء منقطع فمجرّد دعوى يأباه النظم القرآني. وأما قوله : إن شقاً وسطيحاً الخ، فقد كانا في زمن تسترق فيه الشياطين السمع ويلقون ما يسمعونه إلى الكهان، فيخلطون الصدق بالكذب، كما ثبت في الحديث الصحيح. وفي قوله :﴿ إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الخطفة ﴾ [ الصافات : ١٠ ] ونحوها من الآيات، فباب الكهانة قد ورد بيانه في هذه الشريعة، وأنه كان طريقاً لبعض الغيب بواسطة استراق الشياطين حتى منعوا ذلك بالبعثة المحمدية. وقالوا :﴿ وأَنَاْ لَمَسْنَا السماء فوجدناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مقاعد لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الآن يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً ﴾ [ الجن : ٨. ٩ ] فباب الكهانة في الوقت الذي كانت فيه مخصوص بأدلته، فهو من جملة ما يخصص به هذا العموم، فلا يرد ما زعمه من إيراد الكهانة على هذه الآية. وأما حديث المرأة الذي أورده فحديث خرافة، ولو سلم وقوع شيء مما حكاه عنها من الأخبار لكان من باب ما ورد في الحديث «إن في هذه الأمة محدّثين، وإن منهم عمر» فيكون كالتخصيص لعموم هذه الآية لا انقضاء لها، وأما ما اجترأ به على الله وعلى كتابه من قوله في آخر كلامه. فلو قلنا : إن القرآن يدلّ على خلاف هذه الأمور المحسوسة لتطرق الطعن إلى القرآن، فيقال له : ما هذه بأوّل زلة من زلاتك، وسقطة من سقطاتك، وكم لها لديك من أشباه ونظائر نبض بها عرق فلسفتك، وركض بها الشيطان الذي صار يتخبطك في مباحث تفسيرك، يا عجباً لك أيكون ما بلغك من خبر هذه المرأة ونحوه موجباً لتطرّق الطعن إلى القرآن، وما أحسن ما قاله بعض أدباء عصرنا :
وإذا رامت الذبابة للشمـ | س غطاء مدّت عليها جناحا |
وقلت من أبيات :
مهب رياح سدّه بجناح | وقابل بالمصباح ضوء صباح |