تفسير سورة الفاتحة

التحرير والتنوير
تفسير سورة سورة الفاتحة من كتاب تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد المعروف بـالتحرير والتنوير .
لمؤلفه ابن عاشور . المتوفي سنة 1393 هـ
سورة الفاتحة من السور ذات الأسماء الكثيرة : أنهاها صاحب الإتقان إلى نيف وعشرين بين ألقاب وصفات جرت على ألسنة القراء من عهد السلف، ولم يثبت في السنة الصحيحة والمأثور من أسمائها إلا فاتحة الكتاب، والسبع المثاني، وأم القرآن، أو أم الكتاب، فلنقتصر على بيان هذه الأسماء الثلاثة.
فأما تسميتها فاتحة الكتاب فقد ثبتت في السنة في أحاديث كثيرة منها قول النبي صلى الله عليه وسلم لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب، وفاتحة مشتقة من الفتح وهو إزالة حاجز عن مكان مقصود ولُوجه فصيغتها تقتضي أن موصوفها شيء يزيل حاجزا، وليس مستعملا في حقيقته بل مستعملا في معنى أول الشيء تشبيها للأول بالفاتح لأن الفاتح للباب هو أول من يدخل، فقيل الفاتحة في الأصل مصدر بمعنى الفتح كالكاذبة بمعنى الكذب، والباقية بمعنى البقاء في قوله تعالى ﴿ فهل ترى لهم من باقية ﴾ وكذلك الطاغية في قوله تعالى :﴿ فأما ثمود فأهلكوا بالطاغية ﴾ في قول ابن عباس أي بطغيانهم.
والخاطئة بمعنى الخطأ والحاقة بمعنى الحق. وإنما سمي أول الشيء بالفاتحة إما تسمية للمفعول بالمصدر الآتي على وزن فاعلة لآن الفتح يتعلق بأول أجزاء الفعل ففيه يظهر مبدأ المصدر، وإما على اعتبار الفاتحة اسم فاعل ثم جعلت اسما لأول الشيء ؛ إذ بذلك الأول يتعلق الفتح بالمجموع فهو كالباعث على الفتح، فالأصل فاتح الكتاب، وأدخلت عليه هاء التأنيث دلالة على النقل من الوصفية إلى الاسمية أي إلى معاملة الصفة معاملة الاسم في الدلالة على ذات معينة لا على ذي وصف، مثل الغائبة في قوله تعالى ﴿ وما من غائبة في السماء والأرض إلا في كتاب مبين ﴾ ومثل العافية والعاقبة.
قال التفتزاني في شرح الكشاف : ولعدم اختصاص الفاتحة والخاتمة بالسورة ونحوها كانت التاء للنقل من الوصفية إلى الاسمية وليست لتأنيث الموصوف في الأصل، لأنهم يقولون فاتحة وخاتمة دائما لا في خصوص جريانه على موصوف مؤنث كالسورة والقطعة، وذلك كقولهم فلان خاتمة العلماء، وكقول الحريري في المقامة الأولى أدتني خاتمة المطاف، وهدتني فاتحة الألطاف. وأيا ما كان ففاتحة وصف وصف به مبدأ القرآن وعومل معاملة الأسماء الجنسية، ثم أضيف إلى الكتاب ثم صار هذا المركب علما بالغلبة على هذه السورة.
ومعنى فتحها الكتاب أنها جعلت أول القرآن لمن يريد أن يقرأ القرآن من أوله فتكون فاتحة بالجعل النبوي في ترتيب السور، وقيل لأنها أول ما نزل وهو ضعيف لما ثبت في الصحيح واستفاض أن أول ما أنزل سورة ﴿ اقرأ باسم ربك ﴾ وهذا مما لا ينبغي أن يتردد فيه. فالذي نجزم به أن سورة الفاتحة بعد أن نزلت أمر الله رسوله أن يجعلها أول ما يقرأ في تلاوته.
وإضافة سورة إلى فاتحة الكتاب في قولهم سورة فاتحة الكتاب من إضافة العام إلى الخاص باعتبار فاتحة الكتاب علما على المقدار المخصوص من الآيات من الحمد لله إلى الضالين، بخلاف إضافة سورة إلى ما أضيفت إليه في بقية سور القرآن فإنها على حذف مضاف أي سورة ذكر كذا، وإضافة العام إلى الخاص وردت في كلام العرب مثل قولهم شجر الأراك ويوم الأحد وعلم الفقه، ونراها قبيحة لو قال قائل : إنسان زيد، وذلك باد لمن له أدنى ذوق إلا أن علماء العربية لم يفصحوا عن وجه الفرق بين ما هو مقبول من هذه الإضافة وبين ما هو قبيح فكان حقا أن أبين وجهه : وذلك ان إضافة العام إلى الخاص تحسن إذا كان المضاف والمضاف إليه اسمي جنس وأولهما أعم من الثاني، فهنالك يجوز التوسع بإضافة الأعم إلى الأخص إضافة مقصودا منها الاختصار، ثم تكسبها غلبة الاستعمال قبولا نحو قولهم شجر الأراك، عوضا أن يقولوا : الشجر الذي هو الأراك، ويوم الأحد عوضا عن أن يقولوا : يوم هو الأحد. وقد يكون ذلك جائزا غير مقبول لأنه لم يشع في الاستعمال كما لو قلت حيوان الإنسان ؛ فأما إذا كان المتضايفان غير اسم جنس فالإضافة في مثله ممتنعة فلا يقال : إنسان زيد. ولهذا جعل قول الناس شهر رمضان علما على الشهر المعروف بناءا على أن لفظ رمضان خاص بالشهر المعروف لا يحتمل معنى آخر، فتعين أن يكون ذكر كلمة شهر معه قبيحا لعدم الفائدة منه لولا أنه شاع حتى صار مجموع المركب الإضافي علما على ذلك الشهر.
ويصح عندي أن تكون إضافة السورة إلى فاتحة الكتاب من إضافة الموصوف إلى الصفة، كقولهم : مسجد الجامع، وعشاء الآخرة، أي سورة موصوفة بأنها فاتحة الكتاب فتكون الإضافة بيانية، ولم يجعلوا لها اسما استغناء بالوصف، كما يقول المؤلفون مقدمة أو باب بلا ترجمة ثم يقولون باب جامع مثلا، ثم يضيفونه فيقولون : باب جامع الصلاة.
وأما إضافة فاتحة إلى الكتاب فإضافة حقيقية باعتبار أن المراد من الكتاب بقيته عدا السورة المسماة الفاتحة، كما نقول : خطبة التأليف، وديباجة التقليد.
وأما تسميتها أم القرآن وأم الكتاب فقد ثبتت في السنة، من ذلك ما في صحيح البخاري في كتاب الطب أن أبا سعيد الخدري رقى ملدوغا فجعل يقرأ عليه بأم القرآن، وفي الحديث قصة، ووجه تسميتها أم القرآن أن الأم يطلق على أصل الشيء ومنشئه، وفي الحديث الصحيح قال النبي صلى الله عليه وسلم : كل صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج أي منقوصة مخدوجة. وقد ذكروا لتسمية الفاتحة أم القرآن وجوها ثلاثة :
أحدها أنها مبدؤه ومفتتحه فكأنها أصله ومنشؤه، يعني أن افتتاحه الذي هو وجود أول أجزاء القرآن قد ظهر فيها فجعلت كالأم للولد في أنها الأصل والمنشأ فيكون أم القرآن تشبيها بالأم التي هي منشأ الولد لمشابهتها بالمنشأ من حيث ابتداء الظهور والوجود.
الثاني أنها تشتمل محتوياتها على أنواع مقاصد القرآن وهي ثلاثة أنواع : الثناء على الله ثناء جامعا لوصفه بجميع المحامد وتنزيهه من جميع النقائص، ولإثبات تفرده بالإلهية وإثبات البعث والجزاء وذلك من قوله ﴿ الحمد لله ﴾ إلى قوله ﴿ ملك يوم الدين ﴾، والأوامر والنواهي من قوله ﴿ إياك نعبد ﴾ والوعد والوعيد من قوله ﴿ صراط الذين ﴾ إلى آخرها، فهذه هي أنواع مقاصد القرآن كله، وغيرها تكملات لها لأن القصد من القرآن إبلاغ مقاصده الأصلية وهي صلاح الدارين وذلك يحصل بالأوامر والنواهي، ولما توقفت الأوامر والنواهي على معرفة الآمر وأنه الله الواجب وجوده خالق الخلق لزم تحقيق معنى الصفات، ولما توقف تمام الامتثال على الرجاء في الثواب والخوف من العقاب لزم تحقق الوعد والوعيد. والفاتحة مشتملة على هاته الأنواع فإن قوله ﴿ الحمد لله ﴾ إلى قوله ﴿ يوم الدين ﴾ حمد وثناء، وقوله ﴿ إياك نعبد ﴾ إلى قوله ﴿ المستقيم ﴾ من نوع الأوامر والنواهي، وقوله صراط الذين إلى آخرها من نوع الوعد والوعيد مع أن ذكر المغضوب عليهم والضالين يشير أيضا إلى نوع قصص القرآن، وقد يؤيد هذا الوجه بما ورد في الصحيح في ﴿ قل هو الله أحد ﴾ أنها تعدل ثلث القرآن لأن ألفاظها كلها ثناء على الله تعالى.
الثالث أنها تشتمل معانيها على جملة معاني القرآن من الحكم النظرية والأحكام العملية فإن معاني القرآن إما علوم تقصد معرفتها وإما أحكام يقصد منها العمل بها، فالعلوم كالتوحيد والصفات والنبوءات والمواعظ والأمثال والحكم والقصص، إما عمل الجوارح وهو العبادات والمعاملات، وإما عمل القلوب أي العقول وهو تهذيب الأخلاق وآداب الشريعة، وكلها تشتمل عليها معاني الفاتحة بدلالة المطابقة أو التضمن أو الالتزام :
ف﴿ الحمد لله ﴾ يشمل سائر صفات الكمال التي استحق الله لأجلها حصر الحمد له تعالى بناء على ما تدل عليه جملة ﴿ الحمد لله ﴾ من اختصاص جنس الحمد به تعالى واستحقاقه لذلك الاختصاص كما سيأتي و﴿ رب العالمين ﴾ يشمل سائر صفات الأفعال والتكوين عند من أثبتها.
و﴿ الرحمن الرحيم ﴾ يشمل أصول التشريع الراجعة للرحمة بالمكلفين، و﴿ ملك يوم الدين ﴾ يشمل أحوال القيامة.
و﴿ إياك نعبد ﴾ يجمع معنى الديانة والشريعة. و﴿ إياك نستعين ﴾ يجمع معنى الإخلاص لله في الأعمال. قال عز الدين بن عبد السلام في كتابه حل الرموز ومفاتيح الكنوز : الطريقة إلى الله لها ظاهر أي عمل ظاهر أي بدني وباطن أي عمل قلبي فظاهرها الشريعة وباطنها الحقيقة، والمراد من الشريعة والحقيقة إقامة العبودية على الوجه المراد من المكلف. ويجمع الشريعة والحقيقة كلمتان هما قوله ﴿ إياك نعبد وإياك نستعين ﴾ ﴿ فإياك نعبد ﴾ شريعة ﴿ وإياك نستعين ﴾ حقيقة، اهـ.
و﴿ اهدنا الصراط المستقيم ﴾ يشمل الأحوال الإنسانية وأحكامها من عبادات ومعاملات وآداب، و﴿ صراط الذين أنعمت عليهم ﴾ يشير إلى أحوال الأمم والأفراد الماضية الفاضلة.
وقوله ﴿ غير المغضوب عليهم ولا الضالين ﴾ يشمل سائر قصص الأمم الضالة ويشير إلى تفاصيل ضلالاتهم المحكية عنهم في القرآن، فلا جرم يحصل من معاني الفاتحة-تصريحا وتضمنا-علم إجمالي بما حواه القرآن من الأغراض. وذلك يدعو نفس قارئها إلى تطلب التفصيل على حسب التمكن والقابلية. ولأجل هذا فرضت قراءة الفاتحة في كل ركعة من الصلاة حرصا على التذكر لما في مطاويها.
وأما تسميتها السبع المثاني فهي تسمية ثبتت بالسنة، ففي صحيح البخاري عن أبي سعيد ابن المعلى١ أن رسول الله قال الحمد لله رب العالمين هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته ووجه تسميتها بذلك أنها سبع آيات باتفاق القراء والمفسرين ولم يشذ عن ذلك إلا الحسن البصري فقال هي ثمان آيات، وإلا الحسين٢ الجعفي فقال هي ست آيات، وقال بعض الناس تسع آيات ويتعين حينئذ كون البسملة ليست من الفاتحة لتكون سبع آيات ومن عد البسملة أدمج آيتين. وأما وصفها بالمثاني فهو مفاعل جمع مثنى بضم الميم وتشديد النون، أو مثنى مخفف مثنى، أو مثنى بفتح الميم مخفف مثني كمعنى مخفف معني. ويجوز تأنيث الجميع كما نبه عليه السيد الجرجاني في شرح الكشاف. وكل ذلك مشتق من التثنية وهي ضم ثان إلى أول.
ووجه الوصف به أن تلك الآيات تثنى في كل ركعة كذا في الكشاف. قيل وهو مأثور عن عمر بن الخطاب، وهو مستقيم لأن معناه أنها تضم إليها السورة في كل ركعة، ولعل التسمية بذلك كانت في أول فرض الصلاة فإن الصلوات فرضت ركعتين ثم أقرت صلاة السفر وأطيلت صلاة الحضر كذا ثبت في حديث عائشة في الصحيح وقيل العكس، وقيل لأنها تثنى في الصلاة أي تكرر فتكون التثنية بمعنى التكرير بناء على ما شاع عند العرب من استعمال المثنى في مطلق المكرر نحو ﴿ ثم ارجع البصر كرتين ﴾ وقولهم لبيك وسعديك، وعليه فيكون المراد بالمثاني هنا مثل المراد بالمثاني في قوله تعالى ﴿ كتابا متشابها مثاني ﴾ أي مكرر القصص والأغراض. وقيل سميت المثاني لأنها ثنيت في النزول فنزلت بمكة ثم نزلت في المدينة وهذا قول بعيد جدا وتكرر النزول لا يعتبر قائله، وقد اتفق على أنها مكية فأي معنى لإعادة نزولها بالمدينة.
وهذه السورة وضعت في أول السور لأنها تنزل منها منزل ديباجة الخطبة أو الكتاب، مع ما تضمنته من أصول مقاصد القرآن كما علمت آنفا وذلك شأن الديباجة من براعة الاستهلال. وهذه السورة مكية باتفاق الجمهور، وقال كثير إنها أول سورة نزلت، والصحيح أنه نزل قبلها ﴿ اقرأ باسم ربك ﴾ وسورة المدثر ثم الفاتحة، وقيل نزل قبلها أيضا ﴿ ن~ والقلم ﴾ وسورة المزمل، وقال بعضهم هي أول سور
١ هو الحارث بن نفيع ( مصغرا) الزرقي – بضم ففتح – الأنصاري المتوفى سنة ٧٤ وتمام الحديث عن ابن سعيد بن المعلى قال: كنت أصلي في المسجد فدعاني رسول الله فلم أجبه فقلت يا رسول الله إني كنت أصلي فقال ألم يقل الله استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم. ثم قال ألا أعلمك سورة هي أعظم السور في القرآن قبل أن تخرج من المسجد، ثم أخذ بيدي فلما أراد أن يخرج قلت له ألم تقل لأعلمنك سورة هي عظم سورة في القرآن فقال الحمد لله رب العالمين ألخ. -.
٢ ستأتي ترجمته قريبا.-.

[سُورَة الْفَاتِحَة (١) : الْآيَات ١ الى ٧]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (١)
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٢) الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٣) مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (٤) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (٥)
اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (٦) صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ (٧)
الْكَلَام على الْبَسْمَلَة
[١] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (١).
الْبَسْمَلَةُ اسْمٌ لِكَلِمَةِ بَاسِمِ اللَّهِ، صِيغَ هَذَا الِاسْمُ عَلَى مَادَّةٍ مُؤَلَّفَةٍ مِنْ حُرُوفِ الْكَلِمَتَيْنِ بَاسْمِ وَالله عَلَى طَرِيقَةٍ تُسَمَّى النَّحْتُ، وَهُوَ صَوْغُ فِعْلِ مُضِيٍّ عَلَى زِنَةِ فَعْلَلَ مُؤَلَّفَةٍ مَادَّتُهُ مِنْ حُرُوفِ جُمْلَةٍ أَوْ حُرُوفِ مُرَكَّبٍ إِضَافِيٍّ، مِمَّا يَنْطِقُ بِهِ النَّاسُ اخْتِصَارًا عَنْ ذِكْرِ الْجُمْلَةِ كُلِّهَا لِقَصْدِ التَّخْفِيفِ لِكَثْرَةِ دَوَرَانِ ذَلِكَ عَلَى الْأَلْسِنَةِ. وَقَدِ اسْتَعْمَلَ الْعَرَبُ النَّحْتَ فِي النَّسَبِ إِلَى الْجُمْلَةِ أَوِ الْمُرَكَّبِ إِذَا كَانَ فِي النَّسَبِ إِلَى صَدْرِ ذَلِكَ أَوْ إِلَى عَجُزِهِ الْتِبَاسٌ، كَمَا قَالُوا فِي النِّسْبَةِ إِلَى عَبْدِ شَمْسٍ عَبْشَمِيٌّ خَشْيَةَ الِالْتِبَاسِ بِالنَّسَبِ إِلَى عَبْدٍ أَوْ إِلَى شَمْسٍ، وَفِي النِّسْبَةِ إِلَى عَبْدِ الدَّارِ عَبْدَرِيٌّ كَذَلِك وَإِلَى حضر موت حَضْرَمِيٌّ قَالَ سِيبَوَيْهِ فِي بَابِ الْإِضَافَةِ (أَيِ النَّسَبِ) إِلَى الْمُضَافِ مِنَ الْأَسْمَاءِ: «وَقَدْ يَجْعَلُونَ لِلنَّسَبِ فِي الْإِضَافَةِ اسْمًا بِمَنْزِلَةِ جَعْفَرِيٍّ وَيَجْعَلُونَ فِيهِ مِنْ حُرُوفِ الْأَوَّلِ وَالْآخِرِ وَلَا يُخْرِجُونَهُ مِنْ حُرُوفِهِمَا لِيُعْرَفَ» اهـ، فَجَاءَ مَنْ خَلْفَهُمْ مِنْ مُوَلَّدِيِ الْعَرَبِ وَاسْتَعْمَلُوا هَذِهِ الطَّرِيقَةَ فِي حِكَايَةِ الْجُمَلِ الَّتِي يَكْثُرُ دَوَرَانُهَا فِي الْأَلْسِنَةِ لِقَصْدِ الِاخْتِصَارِ، وَذَلِكَ مِنْ صَدْرِ الْإِسْلَامِ فَصَارَتِ الطَّرِيقَةُ عَرَبِيَّةً. قَالَ الرَّاعِي:
قَوْمٌ عَلَى الْإِسْلَامِ لمّا يمنعوا مَا عونهم وَيُضَيِّعُوا التَّهْلِيلَا
أَيْ لَمْ يَتْرُكُوا قَوْلَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ:
لَقَدْ بَسْمَلَتْ لَيْلَى غَدَاةَ لَقِيتُهَا أَلَا حَبَّذَا ذَاكَ الْحَبِيبُ الْمُبَسْمِلُ
أَيْ قَالَتْ بِسْمِ اللَّهِ فَرَقًا مِنْهُ، فَأَصْلُ بَسْمَلَ قَالَ بِسْمِ اللَّهِ ثُمَّ أَطْلَقَهُ الْمُوَلَّدُونَ عَلَى قَوْلِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، اكْتِفَاءً وَاعْتِمَادًا عَلَى الشُّهْرَةِ وَإِنْ كَانَ هَذَا الْمَنْحُوتُ خَلِيًّا مِنَ الْحَاءِ وَالرَّاءِ اللَّذَيْنِ هُمَا من حُرُوف الرحمان الرَّحِيمِ، فَشَاعَ قَوْلُهُمْ بَسْمَلَ فِي مَعْنَى قَالَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَاشْتُقَّ مِنْ فَعْلِ بَسْمَلَ مَصْدَرٌ هُوَ الْبَسْمَلَةُ كَمَا اشْتُقَّ مِنْ هَلَّلَ مَصْدَرٌ هُوَ الْهَيْلَلَةُ وَهُوَ مَصْدَرٌ قِيَاسِيٌّ لِفَعْلَلَ. وَاشْتُقَّ مِنْهُ اسْمُ فَاعِلٍ فِي بَيْتِ عُمَرَ بْنِ أَبِي
رَبِيعَةَ وَلَمْ يُسْمَعِ اشْتِقَاقُ اسْمِ مَفْعُولٍ.
وَرَأَيْتُ فِي «شَرْحِ ابْنِ هَارُونَ التُّونُسِيِّ عَلَى مُخْتَصَرِ ابْنِ الْحَاجِبِ» (١) فِي بَابِ الْأَذَانِ عَنِ الْمُطَرِّزُُِ
_________
(١) رقم ١٠٥٢٠ بالمكتبة الصادقية (العبدلية) بتونس.
137
فِي كِتَابِ «الْيَوَاقِيتِ» : الْأَفْعَالُ الَّتِي نُحِتَتْ مِنْ أَسْمَائِهَا سَبْعَةٌ: بَسْمَلَ فِي بِسْمِ اللَّهِ، وَسَبْحَلَ فِي سُبْحَانَ اللَّهِ، وَحَيْعَلَ فِي حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، وَحَوْقَلَ فِي لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، وَحَمْدَلَ فِي الْحَمْدُ لِلَّهِ، وَهَلَّلَ فِي لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَجَيْعَلَ إِذَا قَالَ: جُعِلْتُ فدَاك، وَزَاد الطّبقلة فِي أَطَالَ اللَّهُ بَقَاءَكَ، وَالدَّمْعَزَةَ فِي أَدَامَ اللَّهُ عِزَّكَ.
وَلَمَّا كَانَ كثير من أيمة الدِّينِ قَائِلًا بِأَنَّهَا آيَةٌ مِنْ أَوَائِلِ جَمِيعِ السُّوَرِ غَيْرَ بَرَاءَةَ أَوْ بَعْضِ السُّوَرِ تَعَيَّنَ عَلَى الْمُفَسِّرِ أَنْ يُفَسِّرَ مَعْنَاهَا وَحُكْمَهَا وَمَوْقِعَهَا عِنْدَ مَنْ عَدُّوهَا آيَةً مِنْ بَعْضِ السُّوَرِ. وَيَنْحَصِرُ الْكَلَامُ عَلَيْهَا فِي ثَلَاثَةِ مَبَاحِثَ. الْأَوَّلُ: فِي بَيَانِ أَهِيَ آيَةٌ مِنْ أَوَائِلِ السُّوَرِ أَمْ لَا؟. الثَّانِي: فِي حُكْمِ الِابْتِدَاءِ بِهَا عِنْدَ الْقِرَاءَةِ. الثَّالِثُ فِي تَفْسِيرِ مَعْنَاهَا الْمُخْتَصِّ بِهَا.
فَأَمَّا الْمَبْحَثُ الْأَوَّلُ فَهُوَ أَنْ لَا خِلَافَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي أَنْ لَفْظَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ هُوَ لَفْظٌ قُرْآنِيٌّ لِأَنَّهُ جُزْءُ آيَةٍ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [النَّمْل: ٣٠] كَمَا أَنَّهُمْ لَمْ يَخْتَلِفُوا فِي أَنَّ الِافْتِتَاحَ بِالتَّسْمِيَةِ فِي الْأُمُورِ الْمُهِمَّةِ ذَوَاتِ الْبَالِ وَرَدَ فِي الْإِسْلَامِ،
وَرُوِيَ فِيهِ حَدِيثُ: «كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَا يُبْدَأُ فِيهِ بِسْمَ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فَهُوَ أَقْطَعُ»
لَمْ يَرْوِهِ أَصْحَابُ «السُّنَنِ» وَلَا «الْمُسْتَدْرَكَاتِ»، وَقَدْ وُصِفَ بِأَنَّهُ حَسَنٌ، وَقَالَ الْجُمْهُورُ إِنَّ الْبَسْمَلَةَ رَسَمَهَا الَّذِينَ كَتَبُوا الْمَصَاحِفَ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ مَا عَدَا سُورَةِ بَرَاءَةَ، كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ مُحَادَثَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَعَ عُثْمَانَ، وَقَدْ مَضَتْ فِي الْمُقَدِّمَةِ الثَّامِنَةِ، وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِي أَنَّهَا كُتِبَتْ فِي الْمُصْحَفِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ وَذَلِكَ لَيْسَ مَوْضِعَ فَصْلِ السُّورَةِ عَمَّا قَبْلَهَا، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الْبَسْمَلَةَ هَلْ هِيَ آيَةٌ مِنْ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ وَمِنْ أَوَائِلِ السُّوَرِ غَيْرِ بَرَاءَةَ، بِمَعْنَى أَنَّ الِاخْتِلَافَ بَيْنَهُمْ لَيْسَ فِي كَوْنِهَا قُرْآنًا، وَلَكِنَّهُ فِي تَكَرُّرِ قُرْآنِيَّتِهَا كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ ابْنُ رُشْدٍ الْحَفِيدُ فِي «الْبِدَايَةِ»، فَذَهَبَ مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَفُقَهَاءُ الْمَدِينَةِ وَالشَّامِ وَالْبَصْرَةِ- وَقِيلَ بِاسْتِثْنَاءِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو ابْن شِهَابٍ مِنْ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ- إِلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ بِآيَةٍ مِنْ أَوَائِلِ السُّوَرِ لَكِنَّهَا جُزْءُ آيَةٍ مِنْ سُورَةِ النَّمْلِ، وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَفُقَهَاءُ مَكَّةَ وَالْكُوفَةِ غَيْرَ أَبِي حَنِيفَةَ، إِلَى أَنَّهَا آيَةٌ فِي
أَوَّلِ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ خَاصَّةً، وَذَهَبَ عَبْدُ الله بن الْمُبَارك وَالشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ وَهُوَ الْأَصَحُّ عَنْهُ إِلَى أَنَّهَا آيَةٌ مِنْ كُلِّ سُورَةٍ. وَلَمْ يُنْقُلْ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ مِنْ فُقَهَاءِ الْكُوفَةِ فِيهَا شَيْءٌ، وَأَخَذَ مِنْهُ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنَ السُّوَرِ عِنْدَهُ فَعَدَّهُ فِي الَّذِينَ قَالُوا بِعَدَمِ
138
جُزْئِيَّتِهَا مِنَ السُّوَرِ وَهُوَ الصَّحِيحُ عَنْهُ. قَالَ عَبْدُ الْحَكِيمِ لِأَنَّهُ قَالَ بِعَدَمِ الْجَهْرِ بِهَا مَعَ الْفَاتِحَةِ فِي الصَّلَاةِ الْجَهْرِيَّةِ وَكَرِهَ قِرَاءَتَهَا فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ الْمَوْصُولَةِ بِالْفَاتِحَةِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ. وَأَزِيدُ فَأَقُولُ إِنَّهُ لَمْ يَرَ الِاقْتِصَارَ عَلَيْهَا فِي الصَّلَاةِ مُجْزِئًا عَنِ الْقِرَاءَةِ.
أَمَّا حُجَّةُ مَذْهَبِ مَالِكٍ وَمَنْ وَافَقَهُ فَلَهُمْ فِيهَا مَسَالِكُ: أَحَدُهَا مِنْ طَرِيقِ النَّظَرِ، وَالثَّانِي مِنْ طَرِيقِ الْأَثَرِ، وَالثَّالِثُ مِنْ طَرِيقِ الذَّوْقِ الْعَرَبِيِّ.
فَأَمَّا الْمَسْلَكُ الْأَوَّلُ: فَلِلْمَالِكِيَّةِ فِيهِ مَقَالَةٌ فَائِقَةٌ لِلْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيِّ وَتَابَعَهُ أَبُو بَكْرِ ابْن الْعَرَبِيِّ فِي «أَحْكَامِ الْقُرْآنِ» وَالْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي كِتَابِ «الْأَشْرَافِ»، قَالَ الْبَاقِلَّانِيُّ: «لَوْ كَانَتِ التَّسْمِيَةُ مِنَ الْقُرْآنِ لَكَانَ طَرِيقُ إِثْبَاتِهَا إِمَّا التَّوَاتُرَ أَوِ الْآحَادَ، وَالْأَوَّلُ:
بَاطِلٌ لِأَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ بِالتَّوَاتُرِ كَوْنُهَا مِنَ الْقُرْآنِ لَحَصَلَ الْعِلْمُ الضَّرُورِيُّ بِذَلِكَ وَلَامْتَنَعَ وُقُوعُ الْخِلَافِ فِيهِ بَيْنَ الْأُمَّةِ، وَالثَّانِي: أَيْضًا بَاطِلٌ لِأَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ لَا يُفِيدُ إِلَّا الظَّنَّ فَلَوْ جَعَلْنَاهُ طَرِيقًا إِلَى إِثْبَاتِ الْقُرْآنِ لَخَرَجَ الْقُرْآنُ عَنْ كَوْنِهِ حُجَّةً يَقِينِيَّةً، وَلَصَارَ ذَلِكَ ظَنِّيًّا، وَلَوْ جَازَ ذَلِكَ لَجَازَ ادِّعَاءُ الرَّوَافِضِ أَنَّ الْقُرْآنَ دَخَلَهُ الزِّيَادَةُ وَالنُّقْصَانُ وَالتَّغْيِيرُ وَالتَّحْرِيفُ»
اهـ وَهُوَ كَلَامٌ وَجِيهٌ وَالْأَقْيِسَةُ الِاسْتِثْنَائِيَّةُ الَّتِي طَوَاهَا فِي كَلَامِهِ وَاضِحَةٌ لِمَنْ لَهُ مُمَارَسَةٌ لِلْمَنْطِقِ وَشَرْطِيَّاتُهَا لَا تَحْتَاجُ لِلِاسْتِدْلَالِ لِأَنَّهَا بَدِيهِيَّةٌ مِنَ الشَّرِيعَةِ فَلَا حَاجَةَ إِلَى بَسْطِهَا. زَادَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ فِي «أَحْكَامِ الْقُرْآنِ» فَقَالَ: يَكْفِيكَ أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنَ الْقُرْآنِ الِاخْتِلَافُ فِيهَا، وَالْقُرْآنُ لَا يخْتَلف فه اهـ. وَزَادَ عَبْدُ الْوَهَّابِ فَقَالَ: «إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيَّنَ الْقُرْآنَ بَيَانًا وَاحِدًا مُتَسَاوِيًا وَلَمْ تَكُنْ عَادَتُهُ فِي بَيَانِهِ مُخْتَلِفَةً بِالظُّهُورِ وَالْخَفَاءِ حَتَّى يَخْتَصَّ بِهِ الْوَاحِدُ وَالِاثْنَانِ وَلِذَلِكَ قَطَعْنَا بِمَنْعِ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ مِنَ الْقُرْآنِ لَمْ يُنْقَلْ إِلَيْنَا وَأَبْطَلْنَا قَوْلَ الرَّافِضَةِ إِنَّ الْقُرْآنَ حِمْلُ جَمَلٍ عِنْدَ الْإِمَامِ الْمَعْصُومِ الْمُنْتَظَرِ فَلَوْ كَانَتِ الْبَسْمَلَةُ مِنَ الْحَمْدِ لَبَيَّنَهَا رَسُولُ اللَّهِ بَيَانًا شَافِيًا» اهـ. وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي «الْعَارِضَةِ» : إِنَّ الْقَاضِيَ أَبَا بَكْرِ بْنَ الطَّيِّبِ، لَمْ يَتَكَلَّمْ مِنَ الْفِقْهِ إِلَّا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ خَاصَّةً لِأَنَّهَا مُتَعَلِّقَةٌ بِالْأُصُولِ.
وَقَدْ عَارَضَ هَذَا الدَّلِيلَ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ فِي «الْمُسْتَصْفَى» فَقَالَ: «نَفْيُ كَوْنِ الْبَسْمَلَةِ مِنَ الْقُرْآنِ أَيْضًا إِنْ ثَبَتَ بِالتَّوَاتُرِ لَزِمَ أَنْ لَا يَبْقَى الْخِلَافُ (أَيْ وَهُوَ ظَاهِرُ الْبُطْلَانِ) وَإِنْ ثَبَتَ بِالْآحَادِ يَصِيرُ الْقُرْآنُ ظَنِّيًّا، قَالَ: وَلَا يُقَالُ: إِنَّ كَوْنَ شَيْءٍ لَيْسَ مِنَ الْقُرْآنِ عَدَمٌ وَالْعَدَمُ لَا
يَحْتَاجُ إِلَى الْإِثْبَاتِ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ بِخِلَافِ الْقَوْلِ بِأَنَّهَا مِنَ الْقُرْآنِ، لِأَنَّا نُجِيبُ بِأَنَّ هَذَا وَإِنْ كَانَ عَدَمًا
139
إِلَّا أَنَّ كَوْنَ التَّسْمِيَةِ مَكْتُوبَةً بِخَطِّ الْقُرْآنِ يُوهِنُ كَوْنَهَا لَيْسَتْ من الْقُرْآن فههنا لَا يُمْكِنُنَا الْحُكْمُ بِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنَ الْقُرْآنِ إِلَّا بِالدَّلِيلِ وَيَأْتِي الْكَلَامُ فِي أَنَّ الدَّلِيلَ مَا هُوَ، فَثَبَتَ أَنَّ الْكَلَامَ الَّذِي أَوْرَدَهُ الْقَاضِي لَازِمٌ عَلَيْهِ اهـ، وَتَبِعَهُ عَلَى ذَلِكَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ فِي «تَفْسِيرِهِ» وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ آلَ فِي اسْتِدْلَالِهِ إِلَى الْمُصَادَرَةِ إِذْ قَدْ صَارَ مَرْجِعُ اسْتِدْلَالِ الْغَزَالِيِّ وَفَخْرِ الدِّينِ إِلَى رَسْمِ الْبَسْمَلَةِ فِي الْمَصَاحِفِ، وَسَنَتَكَلَّمُ عَنْ تَحْقِيقِ ذَلِكَ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى مُدْرَكِ الشَّافِعِيِّ. وَتَعَقَّبَ ابْنُ رُشْدٍ فِي «بِدَايَةِ الْمُجْتَهِدِ» كَلَامَ الْبَاقِلَّانِيِّ وَالْغَزَالِيِّ بِكَلَامٍ غَيْرِ مُحَرَّرٍ فَلَا نُطِيلُ بِهِ.
وَأَمَّا الْمَسْلَكُ
الثَّانِي: وَهُوَ الِاسْتِدْلَالُ مِنَ الْأَثَرِ فَلَا نَجِدُ فِي صَحِيحِ السُّنَّةِ مَا يَشْهَدُ بِأَنَّ الْبَسْمَلَةَ آيَةٌ مِنْ أَوَائِلِ سُوَرِ الْقُرْآنِ وَالْأَدِلَّةُ سِتَّةٌ:
الدَّلِيلُ الْأَوَّلُ:
مَا
رَوَى مَالِكٌ فِي «الْمُوَطَّأِ» عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ عبد الرَّحْمَن عَن أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «قَالَ اللَّهُ تَعَالَى قَسَمْتُ الصَّلَاةَ نِصْفَيْنِ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي فَنِصْفُهَا لِي وَنِصْفُهَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، يَقُولُ الْعَبْدُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ، فَأَقُولُ: حَمِدَنِي عَبْدِي»
إِلَخْ، وَالْمُرَادُ فِي الصَّلَاةِ الْقِرَاءَةُ فِي الصَّلَاةِ وَوَجْهُ الدَّلِيلِ مِنْهُ أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
الثَّانِي:
حَدِيثُ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ فِي «الْمُوَطَّأ» و «الصَّحِيحَيْنِ» أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: «أَلَا أُعَلِّمُكَ سُورَةً لَمْ يَنْزِلْ فِي التَّوْرَاةِ وَلَا فِي الْإِنْجِيلِ مِثْلُهَا قَبْلَ أَنْ تَخْرُجَ مِنَ الْمَسْجِدِ» ؟
قَالَ: بَلَى، فَلَمَّا قَارَبَ الْخُرُوجَ قَالَ لَهُ: كَيْفَ تَقْرَأُ إِذَا افْتَتَحْتَ الصَّلَاةَ؟ قَالَ أُبَيٌّ فَقَرَأْتُ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ حَتَّى أَتَيْتُ عَلَى آخِرِهَا
، فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَقْرَأْ مِنْهَا الْبَسْمَلَةَ.
الثَّالِثُ:
مَا
فِي «صَحِيح مُسلم» و «سنَن أبي دَاوُد» و «سنَن النَّسَائِيِّ» عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ مِنْ طُرُقٍ كَثِيرَةٍ أَنَّهُ قَالَ: صَلَّيْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ فَكَانُوا يستفتحون بِالْحَمْد لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا يَذْكُرُونَ (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)، لَا فِي أَوَّلِ قِرَاءَةٍ وَلَا فِي آخِرِهَا.
الرَّابِعُ:
حَدِيثُ عَائِشَةَ فِي «صَحِيح مُسلم» و «سنَن أَبِي دَاوُدَ» قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ يَسْتَفْتِحُ الصَّلَاةَ بِالتَّكْبِيرِ وَالْقِرَاءَة بِالْحَمْد الله رَبِّ الْعَالَمِينَ.
الْخَامِسُ:
مَا
فِي «سُنَنِ التِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيِّ» عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيءِ وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ، فَلَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا مِنْهُمْ يَقُولُ: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)، إِذَا أَنْتَ صَلَّيْتَ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ.
140
السَّادِسُ-
وَهُوَ الْحَاسِمُ-: عَمَلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، فَإِنَّ الْمَسْجِدَ النَّبَوِيَّ مِنْ وَقْتِ نُزُولِ الْوَحْيِ إِلَى زَمَنِ مَالِكٍ صَلَّى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ وَالْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ وَالْأُمَرَاءُ وَصَلَّى وَرَاءَهُمُ الصَّحَابَةُ وَأَهْلُ الْعِلْمِ وَلَمْ يُسْمَعْ أَحَدٌ قَرَأَ (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) فِي الصَّلَاةِ الْجَهْرِيَّةِ، وَهَلْ يَقُولُ عَالِمٌ إِنَّ بَعْضَ السُّورَةِ جَهْرٌ وَبَعْضَهَا سِرٌّ، فَقَدْ حَصَلَ التَّوَاتُرُ بِأَنَّ النَّبِيءَ وَالْخُلَفَاءَ لَمْ يَجْهَرُوا بِهَا فِي الْجَهْرِيَّةِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنَ السُّورَةِ وَلَوْ جَهَرُوا بِهَا لَمَا اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهَا.
وَهُنَاكَ دَلِيلٌ آخَرُ لَمْ يَذْكُرُوهُ هُنَا وَهُوَ حَدِيثُ عَائِشَةَ فِي بَدْءِ الْوَحْيِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ مُعْتَبَرٌ مَرْفُوعا إِلَى النَّبِي، وَذَلِكَ
قَوْلُهُ: «فَفَجِئَهُ الْمَلَكُ فَقَالَ: اقْرَأْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ فَقُلْتُ مَا أَنَا بِقَارِئٍ- إِلَى أَنْ قَالَ- فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ ثُمَّ قَالَ: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ
[العلق:
١] الْحَدِيثَ. فَلَمْ يَقُلْ فَقَالَ لِي بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ، وَقَدْ ذَكَرُوا هَذَا فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْعَلَقِ وَفِي شَرْحِ حَدِيثِ بَدْءِ الْوَحْيِ.
وَأَمَّا الْمَسْلَكُ الثَّالِثُ وَهُوَ الِاسْتِدْلَالُ مِنْ طَرِيقِ الِاسْتِعْمَالِ الْعَرَبِيِّ فَيَأْتِي الْقَوْلُ فِيهِ عَلَى مُرَاعَاةِ قَوْلِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْبَسْمَلَةَ آيَةٌ مِنْ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ خَاصَّةً، وَذَلِكَ يُوجِبُ أَنْ يَتَكَرَّرَ لَفْظَانِ وَهُمَا الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ فِي كَلَامٍ غَيْرِ طَوِيلٍ لَيْسَ بَيْنَهُمَا فَصْلٌ كَثِيرٌ وَذَلِكَ مِمَّا لَا يُحْمَدُ فِي بَابِ الْبَلَاغَةِ، وَهَذَا الِاسْتِدْلَالُ نَقَلَهُ الْإِمَامُ الرَّازِيُّ فِي «تَفْسِيرِهِ»
وَأَجَابَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: إِنَّ التَّكْرَارَ لِأَجْلِ التَّأْكِيدِ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ وَإِنَّ تَأْكِيدَ كَوْنِهِ تَعَالَى رَحْمَانًا رَحِيمًا مِنْ أَعْظَمِ الْمُهِمَّاتِ. وَأَنَا أَدْفَعُ جَوَابَهُ بِأَنَّ التَّكْرَارَ وَإِنْ كَانَتْ لَهُ مَوَاقِعُ مَحْمُودَةٌ فِي الْكَلَامِ الْبَلِيغِ مِثْلَ التَّهْوِيلِ، وَمَقَامِ الرِّثَاءِ أَوِ التَّعْدِيدِ أَوِ التَّوْكِيدِ اللَّفْظِيِّ، إِلَّا أَنَّ الْفَاتِحَةَ لَا مُنَاسَبَةَ لَهَا بِأَغْرَاضِ التَّكْرِيرِ وَلَا سِيَّمَا التَّوْكِيدُ لِأَنَّهُ لَا مُنْكِرَ لِكَوْنِهِ تَعَالَى رَحْمَانًا رَحِيمًا، وَلِأَنَّ شَأْنَ التَّوْكِيدِ اللَّفْظِيِّ أَنْ يَقْتَرِنَ فِيهِ اللَّفْظَانِ بِلَا فَصْلٍ فَتَعَيَّنَ أَنَّهُ تَكْرِيرُ اللَّفْظِ فِي الْكَلَامِ لِوُجُودِ مُقْتَضَى التَّعْبِيرِ عَنْ مَدْلُولِهِ بِطَرِيقِ الِاسْمِ الظَّاهِرِ دُونَ الضَّمِيرِ، وَذَلِكَ مَشْرُوطٌ بِأَنْ يَبْعُدَ مَا بَيْنَ الْمُكَرَّرَيْنِ بُعْدًا يُقْصِيهِ عَنِ السَّمْعِ، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّهُمْ عَدُّوا فِي فَصَاحَةِ الْكَلَامِ خُلُوصَهُ مِنْ كَثْرَةِ التَّكْرَارِ، وَالْقُرْبِ بَيْنَ الرَّحْمَنِ وَالرَّحِيمِ حِينَ كُرِّرَا يَمْنَعُ ذَلِكَ.
وَأَجَابَ الْبَيْضَاوِيُّ بِأَنَّ نُكْتَةَ التَّكْرِيرِ هُنَا هِيَ تَعْلِيلُ اسْتِحْقَاقِ الْحَمْدِ، فَقَالَ السَّلَكُوتِيُّ
أَشَارَ بِهَذَا إِلَى الرَّدِّ عَلَى مَا قَالَهُ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ: إِنَّ الْبَسْمَلَةَ لَوْ كَانَتْ مِنَ الْفَاتِحَةِ لَلَزِمَ التَّكْرَارُ وَهُوَ جَوَابٌ لَا يَسْتَقِيمُ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ التَّعْلِيلُ قَاضِيًا بِذِكْرِ صِفَتَيِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ فَدَفْعُ التَّكْرِيرِ يَقْتَضِي تَجْرِيدَ الْبَسْمَلَةِ
141
الَّتِي فِي أَوَّلِ الْفَاتِحَةِ مِنْ هَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ بِأَنْ تَصِيرَ الْفَاتِحَةُ هَكَذَا: (بِسْمِ اللَّهِ الْحَمْدُ لِلَّهِ إِلَخْ).
وَأَنَا أَرَى فِي الِاسْتِدْلَالِ بِمَسْلَكِ الذَّوْقِ الْعَرَبِيِّ أَنْ يَكُونَ عَلَى مُرَاعَاةِ قَوْلِ الْقَائِلِينَ بِكَوْنِ الْبَسْمَلَةِ آيَةً مِنْ كُلِّ سُورَةٍ فَيَنْشَأُ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ أَنْ تَكُونَ فَوَاتِحُ سُوَرِ الْقُرْآنِ كُلُّهَا مُتَمَاثِلَةً وَذَلِكَ مِمَّا لَا يُحْمَدُ فِي كَلَامِ الْبُلَغَاءِ إِذِ الشَّأْنُ أَنْ يَقَعَ التَّفَنُّنُ فِي الْفَوَاتِحِ، بَلْ قَدْ عَدَّ عُلَمَاءُ الْبَلَاغَةِ أَهَمَّ مَوَاضِعِ التَّأَنُّقِ فَاتِحَةَ الْكَلَامِ وَخَاتِمَتِهِ، وَذَكَرُوا أَنَّ فَوَاتِحَ السُّوَرِ وَخَوَاتِمَهَا وَارِدَةٌ عَلَى أَحْسَنِ وُجُوهِ الْبَيَانِ وَأَكْمَلِهَا فَكَيْفَ يَسُوغُ أَنْ يُدَّعَى أَنَّ فَوَاتِحَ سُوَرِهِ جُمْلَةٌ وَاحِدَةٌ، مَعَ أَنَّ عَامَّةَ الْبُلَغَاءِ مِنَ الْخُطَبَاءِ وَالشُّعَرَاءِ وَالْكُتَّابِ يَتَنَافَسُونَ فِي تَفَنُّنِ فَوَاتِحِ مُنْشَآتِهِمْ وَيَعِيبُونَ مَنْ يَلْتَزِمُ فِي كَلَامِهِ طَرِيقَةً وَاحِدَةً فَمَا ظَنك بأبلغ كَلَام.
وَأَمَّا حُجَّةُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَمَنْ وَافَقَهُ بِأَنَّهَا آيَةٌ مِنْ سُورَة الْفَاتِحَة خَاصَّة فَأُمُورٌ كَثِيرَةٌ أَنْهَاهَا فَخْرُ الدِّينِ إِلَى سَبْعَ عَشْرَةَ حُجَّةً لَا يَكَادُ يَسْتَقِيمُ مِنْهَا بَعْدَ طَرْحِ الْمُتَدَاخِلِ وَالْخَارِجِ عَنْ مَحَلِّ النِّزَاعِ وَضَعِيفِ السَّنَدِ أَوْ وَاهِيهِ إِلَّا أَمْرَانِ: أحد هما أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ مِنْهَا مَا
رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيءَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «فَاتِحَةُ الْكِتَابِ سَبْعُ آيَاتٍ أُولَاهُنَّ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَقَوْلُ أُمِّ سَلَمَةَ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْفَاتِحَةَ وَعَدَّ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ
آيَةً. الثَّانِي: الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ مَا بَيْنَ الدِّفَّتَيْنِ كَلَامُ اللَّهِ.
وَالْجَوَابُ: أَمَّا عَنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فَهُوَ لَمْ يُخْرِجْهُ أَحَدٌ مِنْ رِجَالِ الصَّحِيحِ إِنَّمَا خَرَّجَهُ الطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ فَهُوَ نَازِلٌ عَنْ دَرَجَةِ الصَّحِيحِ فَلَا يُعَارِضُ الْأَحَادِيثَ الصَّحِيحَةَ، وَأَمَّا حَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ فَلَمْ يُخْرِجْهُ مِنْ رِجَالِ الصَّحِيحِ غَيْرُ أَبِي دَاوُدَ وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَل وَالْبَيْهَقِيّ، وصحيح بَعْضَ طُرُقِهِ وَقَدْ طَعَنَ فِيهِ الطَّحَاوِيُّ بِأَنَّهُ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ، وَلَمْ يَثْبُتْ سَمَاعُ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ مِنْ أُمِّ سَلَمَةَ، يَعْنِي أَنَّهُ مَقْطُوعٌ، عَلَى أَنَّهُ رَوَى عَنْهَا مَا يُخَالِفُهُ، عَلَى أَنَّ شيخ الْإِسْلَام زَكَرِيَّاء قَدْ صَرَّحَ فِي «حَاشِيَتِهِ عَلَى تَفْسِيرِ الْبَيْضَاوِيِّ»
بِأَنَّهُ لَمْ يُرْوَ بِاللَّفْظِ الْمَذْكُورِ وَإِنَّمَا رُوِيَ بِأَلْفَاظٍ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ بِسْمِ اللَّهِ آيَةٌ وَحْدَهَا، فَلَا يُؤْخَذُ مِنْهُ كَوْنُهَا مِنَ الْفَاتِحَةِ، عَلَى أَنَّ هَذَا يُفْضِي إِلَى إِثْبَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ بِغَيْرِ الْمُتَوَاتِرِ وَهُوَ مَا يَأْبَاهُ الْمُسْلِمُونَ.
وَأَمَّا عَنِ الْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ مَا بَيْنَ الدَّفَّتَيْنِ كَلَامُ اللَّهِ، فَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَا يَقْتَضِي إِلَّا أَنَّ الْبَسْمَلَةَ قُرْآنٌ وَهَذَا لَا نِزَاعَ فِيهِ، وَأَمَّا كَوْنُ الْمَوَاضِعِ الَّتِي رُسِمَتْ فِيهَا فِي الْمُصْحَفِ مِمَّا تَجِبُ قِرَاءَتُهَا
142
فِيهَا، فَذَلِكَ أَمْرٌ يَتْبَعُ رِوَايَةَ الْقُرَّاءِ وَأَخْبَارَ السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ فَيَعُودُ إِلَى الْأَدِلَّةِ السَّابِقَةِ.
وَهَذَا كُلُّهُ بِنَاءً عَلَى تَسْلِيمِ أَنَّ الصَّحَابَةَ لَمْ يَكْتُبُوا أَسْمَاءَ السُّوَرِ وَكَوْنَهَا مَكِّيَّةً أَوْ مَدَنِيَّةً فِي الْمُصْحَفِ وَأَنَّ ذَلِكَ مِنْ صُنْعِ الْمُتَأَخِّرِينَ وَهُوَ صَرِيحُ كَلَامِ عَبْدِ الْحَكِيمِ فِي «حَاشِيَةِ الْبَيْضَاوِيِّ»، وَأَمَّا إِذَا ثَبَتَ أَنَّ بَعْضَ السَّلَفِ كَتَبُوا ذَلِكَ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْمُفَسِّرِينَ وَالْأُصُولِيِّينَ وَالْقُرَّاءِ كَمَا فِي «لَطَائِفِ الْإِشَارَاتِ» لِلْقَسْطَلَانِيِّ وَهُوَ مُقْتَضَى كِتَابَةِ الْمُتَأَخِّرِينَ لِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ مَا كَانُوا يجرأون عَلَى الزِّيَادَةِ عَلَى مَا فَعَلَهُ السَّلَفُ فَالِاحْتِجَاجُ حِينَئِذٍ بِالْكِتَابَةِ بَاطِلٌ مِنْ أَصْلِهِ وَدَعْوَى كَوْنِ أَسْمَاءِ السُّوَرِ كُتِبَتْ بِلَوْنٍ مُخَالِفٍ لِحِبْرِ الْقُرْآنِ، يَرُدُّهُ أَنَّ الْمُشَاهَدَ فِي مَصَاحِفِ السَّلَفِ أَنَّ حِبْرَهَا بِلَوْنٍ وَاحِدٍ وَلَمْ يَكُنِ التَّلْوِينُ فَاشِيًا.
وَقَدِ احْتَجَّ بَعْضُهُمْ بِمَا
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ سُئِلَ كَيْفَ كَانَتْ قِرَاءَةُ النَّبِيءِ؟
فَقَالَ كَانَتْ مَدًّا ثُمَّ قَرَأَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يَمُدُّ بِسْمِ اللَّهِ وَيَمُدُّ بِالرَّحْمَنِ وَيَمُدُّ بِالرَّحِيمِ
، اهـ، وَلَا حُجَّةَ فِي هَذَا لِأَنَّ ضَمِيرَ قَرَأَ وَضَمِيرَ يَمُدُّ عَائِدَانِ إِلَى أَنَسٍ، وَإِنَّمَا جَاءَ بِالْبَسْمَلَةِ عَلَى وَجْهِ التَّمْثِيلِ لِكَيْفِيَّةِ الْقِرَاءَةِ لِشُهْرَةِ الْبَسْمَلَةِ.
وَحُجَّةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ وَثَانِي قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ مَا
رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: «بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ بَيْنَ أَظْهُرِنَا ذَاتَ يَوْمٍ إِذْ أَغْفَى إِغْفَاءَةً ثُمَّ رفع رَأسه مُتَبَسِّمًا فَقُلْنَا مَا أَضْحَكَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: أُنْزِلَتْ عَلَيَّ سُورَةٌ آنِفًا فَقَرَأَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ
[الْكَوْثَرَ: ١] السُّورَةَ، قَالُوا وَلِلْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ مَا بَيْنَ الدَّفَّتَيْنِ كَلَامُ اللَّهِ وَلِإِثْبَاتِ الصَّحَابَةِ إِيَّاهَا فِي الْمَصَاحِفِ مَعَ حِرْصِهِمْ عَلَى أَنْ لَا يُدْخِلُوا فِي الْقُرْآنِ مَا لَيْسَ مِنْهُ وَلِذَلِكَ لَمْ يَكْتُبُوا آمِينَ فِي الْفَاتِحَةِ.
وَالْجَوَابُ عَنِ الْحَدِيثِ أَنَّا نَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ قَرَأَ الْبَسْمَلَةَ عَلَى أَنَّهَا مِنَ السُّورَةِ بَلِ افْتَتَحَ بِهَا عِنْدَ إِرَادَةِ الْقِرَاءَةِ لِأَنَّهَا تُغْنِي عَنِ الِاسْتِعَاذَةِ إِذَا نَوَى الْمُبَسْمِلُ تَقْدِيرَ أَسْتَعِيذُ بِاسْمِ اللَّهِ وَحَذَفَ مُتَعَلِّقَ الْفِعْلِ، وَيَتَعَيَّنُ حَمْلُهُ عَلَى نَحْوِ هَذَا لِأَن رَاوِيه أنسا بْنَ مَالِكٍ جَزَمَ فِي حَدِيثِهِ الْآخَرِ أَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ رَسُولَ اللَّهِ بَسْمَلَ فِي الصَّلَاةِ. فَإِنْ أَبَوْا تَأْوِيلَهُ بِمَا تَأَوَّلْنَاهُ لَزِمَ اضْطِرَابُ أَنَسٍ فِي رِوَايَتِهِ اضْطِرَابًا يُوجِبُ سُقُوطَهَا.
وَالْحَقُّ الْبَيِّنُ فِي أَمْرِ الْبَسْمَلَةِ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ، أَنَّهَا كُتِبَتْ لِلْفَصْلِ بَيْنَ السُّوَرِ لِيَكُونَ
الْفَصْلُ مُنَاسِبًا لِابْتِدَاءِ الْمُصْحَفِ، وَلِئَلَّا يَكُونَ بِلَفْظٍ مِنْ غَيْرِ الْقُرْآنِ، وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ
143
فِي «سُنَنِهِ» وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: قُلْتُ لِعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ: «مَا حَمَلَكُمْ أَنْ عَمَدْتُمْ إِلَى بَرَاءَةَ وَهِيَ مِنَ الْمِئِينَ وَإِلَى الْأَنْفَالِ وَهِيَ مِنَ الْمَثَانِي فَجَعَلْتُمُوهُمَا فِي السَّبْعِ الطِّوَالِ وَلَمْ تكْتبُوا بَينهمَا سطرا بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ»، قَالَ عُثْمَانُ كَانَ النَّبِيءُ لَمَّا تَنْزِلُ عَلَيْهِ الْآيَاتُ فَيَدْعُو بَعْضَ مَنْ كَانَ يَكْتُبُ لَهُ وَيَقُولُ لَهُ ضَعْ هَذِهِ الْآيَةَ بِالسُّورَةِ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا كَذَا وَكَذَا، أَوْ تَنْزِلُ عَلَيْهِ الْآيَةُ وَالْآيَتَانِ فَيَقُولُ مِثْلَ ذَلِكَ، وَكَانَتِ الْأَنْفَالُ مِنْ أَوَّلِ مَا أُنْزِلُ عَلَيْهِ بِالْمَدِينَةِ، وَكَانَتْ بَرَاءَةُ مِنْ آخِرِ مَا أُنْزِلَ مِنَ الْقُرْآنِ وَكَانَتْ قِصَّتُهَا شَبِيهَةً بِقِصَّتِهَا فَقُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ وَلَمْ يُبَيِّنْ لَنَا أَنَّهَا مِنْهَا، فَظَنَنْتُ أَنَّهَا مِنْهَا، فَمِنْ هُنَاكَ وَضَعْتُهَا فِي السَّبْعِ الطِّوَالِ وَلَمْ أَكْتُبْ بَيْنَهُمَا سَطْرَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ».
وَأَرَى فِي هَذَا دَلَالَةً بَيِّنَةً عَلَى أَنَّ الْبَسْمَلَةَ لَمْ تُكْتَبْ بَيْنَ السُّوَرِ غَيْرَ الْأَنْفَالِ وَبَرَاءَةَ إِلَّا حِينَ جُمِعَ الْقُرْآنُ فِي مُصْحَفٍ وَاحِدٍ زَمَنَ عُثْمَانَ، وَأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ مَكْتُوبَةً فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ فِي الصُّحُفِ الَّتِي جَمَعَهَا زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ إِذْ كَانَتْ لِكُلِّ سُورَةٍ صَحِيفَةٌ مُفْرَدَةٌ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمُقَدِّمَةِ الثَّامِنَةِ مِنْ مُقَدِّمَاتِ هَذَا التَّفْسِيرِ.
وَعَلَى أَنَّ الْبَسْمَلَةَ مُخْتَلَفٌ فِي كَوْنِهَا آيَةً مِنْ أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ غَيْرِ بَرَاءَةَ، أَوْ آيَةً مِنْ أَوَّلِ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ فَقَطْ، أَوْ لَيْسَتْ بِآيَةٍ مِنْ أَوَّلِ شَيْءٍ مِنَ السُّوَرِ فَإِنَّ الْقُرَّاءَ اتَّفَقُوا عَلَى قِرَاءَةِ الْبَسْمَلَةِ عِنْدَ الشُّرُوعِ فِي قِرَاءَةِ سُورَةٍ مِنْ أَوَّلِهَا غَيْرِ بَرَاءَةَ. وَرَوَوْا ذَلِكَ عَمَّنْ تَلَقَّوْا، فَأَمَّا الَّذِينَ مِنْهُمْ يَرْوُونَ اجْتِهَادًا أَوْ تَقْلِيدًا أَنَّ الْبَسْمَلَةَ آيَةٌ مَنْ أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ غَيْرِ بَرَاءَةَ، فَأَمْرَهُمْ ظَاهِرٌ، وَقِرَاءَةُ الْبَسْمَلَةِ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ وَاجِبَةٌ عِنْدَهُمْ لَا مَحَالَةَ فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا، وَأَمَّا الَّذِينَ لَا يَرْوُونَ الْبَسْمَلَةَ آيَةً مِنْ أَوَائِلِ السُّوَرِ كُلِّهَا أَوْ مَا عَدَا الْفَاتِحَةَ فَإِنَّ قِرَاءَتَهُمُ الْبَسْمَلَةَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ عِنْدَ الشُّرُوعِ فِي قِرَاءَةِ سُورَةٍ غَيْرِ مَسْبُوقَةٍ بِقِرَاءَةِ سُورَةٍ قَبْلَهَا تَعَلَّلَ بِالتَّيَمُّنِ بِاقْتِفَاءِ أَثَرِ كُتَّابِ الْمُصْحَفِ، أَيْ قَصْدَ التَّشَبُّهِ فِي مُجَرَّدِ ابْتِدَاءِ فِعْلٍ تَشْبِيهًا لِابْتِدَاءِ الْقِرَاءَةِ بِابْتِدَاءِ الْكِتَابَةِ. فَتَكُونُ قِرَاءَتُهُمُ الْبَسْمَلَةَ أَمْرًا مُسْتَحَبًّا لِلتَّأَسِّي فِي الْقِرَاءَةِ بِمَا فَعَلَهُ الصَّحَابَةُ الْكَاتِبُونَ لِلْمُصْحَفِ، فَقِرَاءَةُ الْبَسْمَلَةِ عِنْدَ هَؤُلَاءِ نَظِيرُ النُّطْقِ بِالِاسْتِعَاذَةِ وَنَظِيرُ التَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ بَيْنَ بَعْضِ السُّوَرِ مِنْ آخِرِ الْمُفَصَّلِ، وَلَا يُبَسْمِلُونَ فِي قِرَاءَةِ الصَّلَاةِ الْفَرِيضَةِ، وَهَؤُلَاء إِذا قرأوا فِي صَلَاةِ الْفَرِيضَةِ تَجْرِي قِرَاءَتُهُمْ عَلَى مَا انْتَهَى إِلَيْهِ فَهْمُهُمْ مِنْ أَمْرِ الْبَسْمَلَةِ مِنِ اجْتِهَادٍ أَوْ تَقْلِيدٍ. وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُؤْخَذَ مِنْ قِرَاءَتِهِمْ قَوْلٌ لَهُمْ بِأَنَّ الْبَسْمَلَةَ آيَةٌ
144
مِنْ أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ كَمَا فَعَلَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» وَالْبَيْضَاوِيُّ.
وَاخْتَلَفُوا فِي قِرَاءَةِ الْبَسْمَلَةِ فِي غَيْرِ الشُّرُوعِ فِي قِرَاءَةِ سُورَةٍ مِنْ أَوَّلِهَا، أَيْ فِي قِرَاءَةِ الْبَسْمَلَةِ بَيْنَ السُّورَتَيْنِ.
فَوَرْشٌ عَنْ نَافِعٍ فِي أَشْهَرِ الرِّوَايَاتِ عَنْهُ وَابْنُ عَامِرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَحَمْزَةُ، وَيَعْقُوبُ، وَخَلَفٌ، لَا يُبَسْمِلُونَ بَيْنَ السُّورَتَيْنِ وَذَلِكَ يُعَلَّلُ بِأَنَّ التَّشَبُّهَ بِفِعْلِ كُتَّابِ الْمُصْحَفِ خَاصٌّ بِالِابْتِدَاءِ، وَبِحَمْلِهِمْ رَسْمَ الْبَسْمَلَةِ فِي الْمُصْحَفِ عَلَى أَنَّهُ عَلَامَةٌ عَلَى ابْتِدَاءِ السُّورَةِ لَا عَلَى الْفَصْلِ، إِذْ لَوْ كَانَتِ الْبَسْمَلَةُ عَلَامَةً عَلَى الْفَصْلِ بَيْنَ السُّورَةِ وَالَّتِي تَلِيهَا لَمَا كُتِبَتْ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ، فَكَانَ صَنِيعُهُمْ وَجِيهًا لِأَنَّهُمْ جَمَعُوا بَيْنَ مَا رَوَوْهُ عَنْ سَلَفِهِمْ وَبَيْنَ دَلِيلِ قَصْدِ التَّيَمُّنِ، وَدَلِيلُ رَأْيِهِمْ أَنَّ الْبَسْمَلَةَ لَيْسَتْ آيَةً مِنْ أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ.
وَقَالُونُ عَنْ نَافِعٍ وَابْنُ كَثِيرٍ وَعَاصِمٌ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو جَعْفَرٍ يُبَسْمِلُونَ بَيْنَ السُّورَتَيْنِ سِوَى مَا بَيْنَ الْأَنْفَالِ وَبَرَاءَةَ، وَعَدُّوهُ مِنْ سُنَّةِ الْقِرَاءَةِ، وَلَيْسَ حَظُّهُمْ فِي ذَلِكَ إِلَّا اتِّبَاعَ سَلَفِهِمْ، إِذْ لَيْسَ جَمِيعُهُمْ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ، وَلَعَلَّهُمْ طَرَدُوا قَصْدَ التَّيَمُّنِ بِمُشَابَهَةِ كُتَّابِ الْمُصْحَفِ فِي الْإِشْعَارِ بِابْتِدَاءِ السُّورَةِ وَالْإِشْعَارِ بِانْتِهَاءِ الَّتِي قَبْلَهَا.
وَاتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى تَرْكِ الْبَسْمَلَةِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ بَرَاءَةَ وَقَدْ تَبَيَّنَ وَجْهُ ذَلِكَ آنِفًا، وَوَجَّهَهُ الْأَئِمَّةُ بِوُجُوهٍ أُخَرَ تَأَتَّى فِي أَوَّلِ سُورَةِ بَرَاءَةَ، وَذَكَرَ الْجَاحِظُ فِي «الْبَيَانِ وَالتَّبْيِينِ» (١) أَنَّ مُؤَرِّجًا السَّدُوسِيَّ الْبَصْرِيَّ سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ: «أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ يَرُدُّ عَلَى الْمَظْلُومِ» فَرَجَعَ مُؤَرِّجٌ إِلَى مُصْحَفِهِ فَرَدَّ عَلَى بَرَاءَةَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَيُحْمَلُ هَذَا الَّذِي صَنَعَهُ مُؤَرِّجٌ- إِنْ صَحَّ عَنْهُ- إِنَّمَا هُوَ عَلَى التَّمْلِيحِ وَالْهَزْلِ وَلَيْسَ عَلَى الْجِدِّ.
وَفِي هَذَا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اخْتِلَافَ مَذَاهِبِ الْقُرَّاءِ فِي قِرَاءَةِ الْبَسْمَلَةِ فِي مَوَاضِعَ مِنَ الْقُرْآنِ ابْتِدَاءً وَوَصْلًا كَمَا تَقَدَّمَ لَا أَثَرَ لَهُ فِي الِاخْتِلَافِ فِي حُكْمِ قِرَاءَتِهَا فِي الصَّلَاةِ، فَإِنَّ قِرَاءَتَهَا فِي الصَّلَاةِ تَجْرِي عَلَى إِحْكَامِ النَّظَرِ فِي الْأَدِلَّة، وَلَيْسَ مَذَاهِبُ الْقُرَّاءِ بِمَعْدُودَةٍ مِنْ أَدِلَّةِ الْفِقْهِ، وَإِنَّمَا قِرَاءَاتُهُمْ رِوَايَاتٌ وَسُنَّةٌ مُتَّبَعَةٌ فِي قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ دُونَ اسْتِنَادٍ إِلَى اعْتِبَارِ أَحْكَامِ رِوَايَةِ الْقُرْآنِ مِنْ تَوَاتُرٍ وَدُونِهِ، وَلَا إِلَى وُجُوبٍ واستحباب وتخيير، فالقارىء يَقْرَأُ كَمَا رُوِيَ عَنْ مُعَلِّمِيهِ
_________
(١) صفحة ١٣٠ جُزْء ٢ طبع الرحمانية- الْقَاهِرَة.
145
وَلَا يَنْظُرُ فِي حُكْمِ مَا يَقْرَأُهُ مِنْ لُزُومِ كَوْنِهِ كَمَا قَرَأَ أَوْ عدم اللُّزُوم، فالقراء تَجْرِي أَعْمَالُهُمْ فِي صَلَاتِهِمْ عَلَى نَزَعَاتِهِمْ فِي الْفِقْهِ مِنِ اجْتِهَادٍ وَتَقْلِيدٍ، وَيُوَضَّحُ غَلَطُ مَنْ ظَنَّ أَنَّ خِلَافَ الْفُقَهَاءِ فِي إِثْبَاتِ الْبَسْمَلَةِ وَعَدَمِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى خِلَافِ الْقُرَّاءِ، كَمَا يُوَضَّحُ
تَسَامُحُ صَاحِبِ «الْكَشَّافِ» فِي عَدِّهِ مَذَاهِبَ الْقُرَّاءِ فِي نَسَقِ مَذَاهِبِ الْفُقَهَاءِ. وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ الْمُجْتَهِدُونَ لِأَجْلِ الْأَدِلَّةِ الَّتِي تَقَدَّمَ بَيَانُهَا، وَأَمَّا الْمُوَافَقَةُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ قُرَّاءِ أَمْصَارِهِمْ غَالِبًا فِي هَاتِهِ الْمَسْأَلَةِ فَسَبَبُهُ شُيُوعُ الْقَوْلِ بَيْنَ أَهْلِ ذَلِكَ الْعَصْرِ بِمَا قَالَ بِهِ فُقَهَاؤُهُ فِي الْمَسَائِلِ، أَوْ شُيُوعُ الْأَدِلَّةِ الَّتِي تَلَقَّاهَا المجتهدون من مشائخهم بَيْنَ أَهْلِ ذَلِكَ الْعَصْرِ وَلَوْ مِنْ قَبْلِ ظُهُورِ الْمُجْتَهِدِ مِثْلَ سَبْقِ نَافِعِ بْنِ أَبِي نُعَيْمٍ إِلَى عَدَمِ ذِكْرِ الْبَسْمَلَةِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَالِكٌ بِعَدَمِ جُزْئِيَّتِهَا لِأَنَّ مَالِكًا تَلَقَّى أَدِلَّةَ نَفْيِ الْجُزْئِيَّةِ عَنْ عُلَمَاءِ الْمَدِينَةِ وَعَنْهُمْ أَوْ عَنْ شُيُوخِهِمْ تَلَقَّى نَافِعُ بْنُ أَبِي نُعَيْمٍ، وَإِذْ قَدْ كُنَّا قَدْ تَقَلَّدْنَا مَذْهَبَ مَالِكٍ وَاطْمَأْنَنَّا لِمَدَارِكِهِ فِي انْتِفَاءِ كَوْنِ الْبَسْمَلَةِ آيَةً مِنْ أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ كَانَ حَقًّا عَلَيْنَا أَنْ لَا نَتَعَرَّضَ لِتَفْسِيرِهَا هُنَا وَأَنْ نُرْجِئَهُ إِلَى الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ النَّمْلِ [٣٠] : إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ غَيْرَ أَنَّنَا لَمَّا وَجَدْنَا مَنْ سَلَفَنَا مِنَ الْمُفَسِّرِينَ كُلِّهِمْ لَمْ يُهْمِلُوا الْكَلَامَ عَلَى الْبَسْمَلَةِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ اقْتَفَيْنَا أَثَرَهُمْ إِذْ صَارَ ذَلِكَ مُصْطَلَحَ الْمُفَسِّرِينَ.
وَاعْلَمْ أَنَّ مُتَعَلِّقَ الْمَجْرُورِ فِي بِسْمِ اللَّهِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ هُنَا أَقْرَأُ، وَسَبَبُ حَذْفِ مُتَعَلِّقِ الْمَجْرُورِ أَنَّ الْبَسْمَلَةَ سُنَّتْ عِنْدَ ابْتِدَاءِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ فَحُذِفَ مُتَعَلِّقُ الْمَجْرُورِ فِيهَا حَذْفًا مُلْتَزَمًا إِيجَازًا اعْتِمَادًا عَلَى الْقَرِينَةِ، وَقَدْ حَكَى الْقُرْآنُ قَوْلَ سَحَرَةِ فِرْعَوْنَ عِنْدَ شُرُوعِهِمْ فِي السِّحْرِ بِقَوْلِهِ: فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ [الشُّعَرَاء: ٤٤] وَذَكَرَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» أَنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يَقُولُونَ فِي ابْتِدَاءِ أَعْمَالِهِمْ: «بِاسْمِ اللَّاتِ بِاسْمِ الْعُزَّى» فَالْمَجْرُورُ ظَرْفُ لَغْوٍ مَعْمُولٍ لِلْفِعْلِ الْمَحْذُوفِ وَمُتَعَلِّقٍ بِهِ وَلَيْسَ ظَرْفًا مُسْتَقِرًّا مِثْلَ الظُّرُوفِ الَّتِي تَقَعُ أَخْبَارًا، وَدَلِيل الْمُتَعَلّق ينبىء عَنْهُ الْعَمَلُ الَّذِي شُرِعَ فِيهِ فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ فِعْلًا خَاصًّا مِنَ النَّوْعِ الدَّالِّ عَلَى مَعْنَى الْعَمَلِ الْمَشْرُوعِ فِيهِ دُونَ الْمُتَعَلِّقِ الْعَام مثل أبتدىء لِأَنَّ الْقَرِينَةَ الدَّالَّةَ عَلَى الْمُتَعَلِّقِ هِيَ الْفِعْلُ الْمَشْرُوعُ فِيهِ الْمَبْدُوءُ بِالْبَسْمَلَةِ فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْمُقَدَّرُ اللَّفْظَ الدَّالَّ عَلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ، وَلَا يَجْرِي (١) فِي هَذَا الْخِلَافِ الْوَاقِعِ بَيْنَ النُّحَاةِ فِي كَوْنِ مُتَعَلِّقِ الظُّرُوفِ هَلْ يُقَدَّرُ اسْمًا نَحْوَ كَائِنٍ أَوْ مُسْتَقِرٍّ أَمْ فِعْلًا نَحْوَ كَانَ أَوِ اسْتَقَرَّ لِأَنَّ ذَلِكَ الْخِلَافَ فِي الظُّرُوفِ الْوَاقِعَةِ أَخْبَارًا أَوْ أَحْوَالًا بِنَاءً عَلَى تَعَارُضِ
_________
(١) هَذَا رد على ابْن عَطِيَّة وَبَعض الْمُفَسّرين إِذا فرضوا خلاف النُّحَاة مُعْتَبرا هُنَا.
146
مُقْتَضَى تَقْدِيرِ الِاسْمِ وَهُوَ كَوْنُهُ الْأَصْلَ فِي الْأَخْبَارِ وَالْحَالِيَّةِ، وَمُقْتَضَى تَقْدِيرِ الْفِعْلِ وَهُوَ كَوْنُهُ الْأَصْلَ فِي الْعَمَلِ لِأَنَّ مَا هُنَا ظَرْفُ لَغْوٍ، وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنْ يُعَدِّيَ الْأَفْعَالَ وَيَتَعَلَّقَ بِهَا، وَلِأَنَّ مَقْصِدَ الْمُبْتَدِئِ بِالْبَسْمَلَةِ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ عَمَلِهِ ذَلِكَ مُقَارِنًا لِبَرَكَةِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى فَلِذَلِكَ نَاسَبَ أَنْ يُقَدَّرَ
مُتَعَلِّقُ الْجَارِّ لَفْظًا دَالًّا عَلَى الْفِعْلِ الْمَشْرُوعِ فِيهِ. وَهُوَ أَنْسَبُ لِتَعْمِيمِ التَّيَمُّنِ لِأَجْزَاءِ الْفِعْلِ، فَالِابْتِدَاءُ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ أَقَلُّ عُمُومًا، فَتَقْدِيرُ الْفِعْلِ الْعَامِّ يُخَصَّصُ وَتَقْدِيرُ الْفِعْلِ الْخَاصِّ يُعَمَّمُ وَهَذَا يُشْبِهُ أَنْ يُلْغَزَ بِهِ. وَهَذَا التَّقْدِيرُ مِنَ الْمُقَدَّرَاتِ الَّتِي دَلَّتْ عَلَيْهَا الْقَرَائِنُ كَقَوْلِ الدَّاعِي لِلْمُعَرِّسِ «بِالرِّفَاءِ وَالْبَنِينَ» (١) وَقَوْلِ الْمُسَافِرِ عِنْدَ حُلُولِهِ وَتَرْحَالِهِ «بِاسْمِ اللَّهِ وَالْبَرَكَاتِ» وَقَوْلِ نسَاء الْعَرَب عِنْد مَا يَزْفُفْنَ الْعَرُوسَ «بِالْيُمْنِ وَالْبَرَكَةِ وَعَلَى الطَّائِرِ الْمَيْمُونِ» وَلِذَلِكَ كَانَ تَقْدِيرُ الْفِعْلِ هَاهُنَا وَاضِحًا. وَقَدْ أُسْعِفَ هَذَا الْحَذْفُ بِفَائِدَةٍ وَهِيَ صَلُوحِيَّةُ الْبَسْمَلَةِ لِيَبْتَدِئَ بِهَا كُلُّ شَارِعٍ فِي فِعْلٍ فَلَا يَلْجَأُ إِلَى مُخَالَفَةِ لَفْظِ الْقُرْآنِ عِنْدَ اقْتِبَاسِهِ، وَالْحَذْفُ مِنْ قَبِيلِ الْإِيجَازِ لِأَنَّهُ حَذْفُ مَا قَدْ يُصَرَّحُ بِهِ فِي الْكَلَامِ، بِخِلَافِ مُتَعَلِّقَاتِ الظُّرُوفِ الْمُسْتَقِرَّةِ نَحْوَ عِنْدَكَ خَيْرٌ، فَإِنَّهُمْ لَا يُظْهِرُونَ الْمُتَعَلِّقَ فَلَا يَقُولُونَ خَيْرٌ كَائِنٌ عِنْدَكَ وَلِذَلِكَ عَدُّوا نَحْوَ قَوْلِهِ:
فَإِنَّكَ كَاللَّيْلِ الَّذِي هُوَ مُدْرِكِي
مِنَ الْمُسَاوَاةِ دُونَ الْإِيجَازِ يَعْنِي مَعَ مَا فِيهِ مِنْ حَذْفِ الْمُتَعَلِّقِ. وَإِذْ قَدْ كَانَ الْمُتَعَلِّقُ مَحْذُوفًا تَعَيَّنَ أَنْ يُقَدَّرَ فِي مَوْضِعِهِ مُتَقَدِّمًا عَلَى الْمُتَعَلِّقِ بِهِ كَمَا هُوَ أَصْلُ الْكَلَامِ إِذْ لَا قَصْدَ هُنَا لِإِفَادَةِ الْبَسْمَلَةِ الْحَصْرَ، وَدَعْوَى صَاحِبِ «الْكَشَّافِ» تَقْدِيرَهُ مُؤَخَّرًا تَعَمُّقٌ غَيْرُ مَقْبُولٍ، لَا سِيَّمَا عِنْدَ حَالَةِ الْحَذْفِ، فَالْأَنْسَبُ أَنْ يُقَدَّرَ عَلَى حَسَبِ الْأَصْلِ.
وَالْبَاءُ بَاء الملابسة والملابسة، هِيَ الْمُصَاحَبَةُ، وَهِيَ الْإِلْصَاقُ أَيْضًا فَهَذِهِ مُتَرَادِفَاتٌ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى وَهِيَ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ [الْمُؤْمِنُونَ: ٢٠] وَقَوْلِهِمْ: «بِالرِّفَاءِ وَالْبَنِينَ» وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ أَكْثَرُ مَعَانِي الْبَاءِ وَأَشْهَرُهَا، قَالَ سِيبَوَيْهِ:
الْإِلْصَاقُ لَا يُفَارِقُ الْبَاءَ وَإِلَيْهِ تَرْجِعُ تَصَارِيفُ مَعَانِيهَا وَلِذَلِكَ قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» :
«وَهَذَا الْوَجْهُ (أَيِ الْمُلَابَسَةُ) أَعْرَبُ وَأَحْسَنُ» أَيْ أَحْسَنُ مِنْ جَعْلِ الْبَاءِ لِلْآلَةِ أَيْ أَدْخَلَ فِي الْعَرَبِيَّةِ وَأَحْسَنَ لِمَا فِيهِ مِنْ زِيَادَةِ التَّبَرُّكِ بِمُلَابَسَةِ جَمِيعِ أَجْزَاءِ الْفِعْلِ لِاسْمِهِ تَعَالَى.
وَالِاسْمُ لَفْظٌ جُعِلَ دَالًّا عَلَى ذَاتٍ حِسِّيَّةٍ أَوْ مَعْنَوِيَّةٍ بِشَخْصِهَا أَوْ نَوْعِهَا، وَجَعَلَهُ أَئِمَّةُ الْبَصْرَةِ مُشْتَقًّا مِنَ السُّمُوِّ وَهُوَ الرِّفْعَةُ لِأَنَّهَا تَتَحَقَّقُ فِي إِطْلَاقَاتِ الِاسْمِ وَلَوْ بِتَأْوِيلٍ فَإِنَّ أَصْلَ
_________
(١) انْظُر: حَدِيث بِنَاء النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالسيدة عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا.
147
الِاسْمِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ هُوَ الْعِلْمُ وَلَا تُوضَعُ الْأَعْلَامُ إِلَّا لِشَيْءٍ مُهْتَمٍّ بِهِ، وَهَذَا اعْتِدَادٌ بِالْأَصْلِ وَالْغَالِبِ، وَإِلَّا فَقَدَ تُوضَعُ الْأَعْلَامُ لِغَيْرِ مَا يُهْتَمُّ بِهِ كَمَا قَالُوا فُجَّارٌ عَلَمٌ لِلْفَجَرَةِ.
فَأَصْلُ صِيغَتِهِ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ مِنَ النَّاقِصِ الْوَاوِيِّ فَهُوَ إِمَّا سِمْوٌ بِوَزْنِ حِمْلٍ، أَوْ سُمْوٌ بِوَزْنِ قُفْلٍ فَحُذِفَتِ اللَّامُ حَذْفًا لِمُجَرَّدِ التَّخْفِيفِ أَوْ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ وَلِذَلِكَ جَرَى الْإِعْرَابُ عَلَى الْحَرْفِ الْبَاقِي، لِأَنَّهُ لَوْ حُذِفَتْ لَامَهُ لِعِلَّةٍ صَرْفِيَّةٍ لَكَانَ الْإِعْرَابُ مُقَدَّرًا عَلَى الْحَرْفِ الْمَحْذُوفِ كَمَا فِي نَحْوِ قَاضٍ وَجَوَارٍ، فَلَمَّا جَرَى الْإِعْرَابُ عَلَى الْحَرْفِ الْبَاقِي الَّذِي كَانَ سَاكِنًا نَقَلُوا سُكُونَهُ لِلْمُتَحَرِّكِ وَهُوَ أَوَّلُ الْكَلِمَةِ وَجَلَبُوا هَمْزَةَ الْوَصْلِ لِلنُّطْقِ بِالسَّاكِنِ إِذِ الْعَرَبُ لَا تَسْتَحْسِنُ الِابْتِدَاءَ بِحَرْفٍ سَاكِنٍ لِابْتِنَاءِ لُغَتِهِمْ عَلَى التَّخْفِيفِ، وَقَدْ قَضَوْا بِاجْتِلَابِ الْهَمْزَةِ وَطَرًا ثَانِيًا مِنَ التَّخْفِيفِ وَهُوَ عَوْدُ الْكَلِمَةِ إِلَى الثُّلَاثِيِّ لِأَنَّ الْأَسْمَاءَ الَّتِي تَبْقَى بِالْحَذْفِ عَلَى حَرْفَيْنِ كَيَدٍ وَدَمٍ لَا تَخْلُو مِنْ ثِقَلٍ، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْهَمْزَةَ لَمْ تُجْتَلَبْ لِتَعْوِيضِ الْحَرْفِ الْمَحْذُوف وَإِلَّا لَا جتلبوها فِي يَدٍ وَدَمٍ وَغَدٍ.
وَقَدِ احْتَجُّوا عَلَى أَنَّ أَصْلَهُ كَذَلِكَ بِجَمْعِهِ عَلَى أَسْمَاءٍ بِوَزْنِ أَفْعَالٍ، فَظَهَرَتْ فِي آخِرِهِ هَمْزَةٌ وَهِيَ مُنْقَلِبَةٌ عَنِ الْوَاوِ الْمُتَطَرِّفَةِ إِثْرَ أَلِفِ الْجَمْعِ، وَبِأَنَّهُ جُمِعَ عَلَى أَسَامِي وَهُوَ جَمْعُ الْجَمْعِ بِوَزْنِ أَفَاعِيلَ بِإِدْغَامِ يَاءِ الْجَمْعِ فِي لَامِ الْكَلِمَةِ وَيَجُوزُ تَخْفِيفُهَا كَمَا فِي أَثَافِي وَأَمَانِي، وَبِأَنَّهُ صُغِّرَ عَلَى سُمَيٍّ. وَأَنَّ الْفِعْلَ مِنْهُ سَمَّيْتُ، وَهِيَ حُجَجٌ بَيِّنَةٌ عَلَى أَنَّ أَصْلَهُ مِنَ النَّاقِصِ الْوَاوِيِّ. وَبِأَنَّهُ يُقَالُ سُمًى كَهُدًى لِأَنَّهُمْ صَاغُوهُ عَلَى فِعْلٍ كَرَطُبَ فَتَنْقَلِبُ الْوَاوُ الْمُتَحَرِّكَةُ أَلِفًا إِثْرَ الْفَتْحَةِ وَأَنْشَدُوا عَلَى ذَلِكَ قَوْلَ أَبِي خَالِدٍ الْقَنَانِيِّ الرَّاجِزِ (١) :
وَاللَّهُ أَسْمَاكَ سُمًى مُبَارَكًا آثَرَكَ اللَّهُ بِهِ إِيثَارَكَا
وَقَالَ ابْنُ يَعِيشَ: لَا حُجَّةَ فِيهِ لِاحْتِمَالِ كَوْنِهِ لُغَةً مَنْ قَالَ سُمَ وَالنَّصْبُ فِيهِ نَصْبُ إِعْرَابٍ لَا نَصْبُ الْإِعْلَالِ، وَرَدَّهُ عَبْدُ الْحَكِيمِ بِأَنَّ كِتَابَتَهُ بِالْإِمَالَةِ تَدُلُّ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ.
وَعِنْدِي فِيهِ أَنَّ الْكِتَابَةَ لَا تَتَعَلَّقُ بِهَا الرِّوَايَةُ فَلَعَلَّ الَّذِينَ كَتَبُوهُ بِالْيَاءِ هُمُ الَّذِينَ ظَنُّوهُ مَقْصُورًا، عَلَى أَنَُُّ
_________
(١) القناني- بِفَتْح الْقَاف وَالنُّون مخففا- نِسْبَة إِلَى قنان بن سَلمَة من مذْحج قَالَه شَارِح «الْقَامُوس» وشارح «الشواهد الْكُبْرَى»، وَلم يذكر ابْن الْأَثِير وَلَا غَيره القنان هَذَا فِي بطُون مذْحج فَلَعَلَّهُ قد دخل بنوه فِي قَبيلَة أُخْرَى، وَلم يُوجد سَلمَة هَذَا وَإِنَّمَا الْمَوْجُود مسلية- بِالْيَاءِ- بِوَزْن مسلمة، وهم بطن من مذْحج دخلُوا فِي بني الْحَارِث بن كَعْب.
148
قِيَاسَهَا الْكِتَابَةُ بِالْأَلِفِ مُطْلَقًا لِأَنَّهُ وَاوِيٌّ إِلَّا إِذَا أُرِيدَ عَدَمُ الْتِبَاسِ الْأَلِفِ بِأَلِفِ النَّصْبِ. وَرَأْيُ الْبَصْرِيِّينَ أَرْجَحُ مِنْ نَاحِيَةِ تَصَارِيفِ هَذَا اللَّفْظِ. وَذَهَبَ الْكُوفِيُّونَ إِلَى أَنَّ أَصْلَهُ وِسْمٌ بِكَسْرِ الْوَاوِ لِأَنَّهُ مِنَ السِّمَةِ وَهِيَ الْعَلَامَةُ، فَحُذِفَتِ الْوَاوُ وَعُوِّضَتْ عَنْهَا هَمْزَةُ الْوَصْلِ لِيُبْقَى عَلَى ثَلَاثَةِ أَحْرُفٍ ثُمَّ يُتَوَسَّلُ بِذَلِكَ إِلَى تَخْفِيفِهِ فِي الْوَصْلِ، وَكَأَنَّهُمْ رَأَوْا أَنْ لَا
وَجْهَ لِاشْتِقَاقِهِ مِنَ السُّمُوِّ لِأَنَّهُ قَدْ يُسْتَعْمَلُ لِأَشْيَاءَ غَيْرِ سَامِيَةٍ وَقَدْ عَلِمْتَ وَجْهَ الْجَوَابِ، وَرَأْيُ الْكُوفِيِّينَ أَرْجَحُ مِنْ جَانِبِ الِاشْتِقَاقِ دُونَ التَّصْرِيفِ، عَلَى أَنَّ هَمْزَةَ الْوَصْلِ لَمْ يُعْهَدْ دُخُولُهَا عَلَى مَا حُذِفَ صَدْرُهُ وَرَدُّوا اسْتِدْلَالَ الْبَصْرِيِّينَ بِتَصَارِيفِهِ بِأَنَّهَا يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ التَّصَارِيفُ مِنَ الْقَلْبِ الْمَكَانِيِّ بِأَنْ يَكُونَ أَصْلُ اسْمٍ وسم، ثمَّ نقلب الْوَاوُ الَّتِي هِيَ فَاءُ الْكَلِمَةِ فَجُعِلَتْ لَامًا لِيُتَوَسَّلَ بِذَلِكَ إِلَى حَذْفِهَا وَرُدَّ فِي تَصَرُّفَاتِهِ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي حُذِفَ مِنْهُ لِأَنَّهُ تُنُوسِيَ أَصْلُهُ، وَأُجِيبَ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ هَذَا بَعِيدٌ لِأَنَّهُ خِلَافُ الْأَصْلِ وَبِأَنَّ الْقَلْبَ لَا يَلْزَمُ الْكَلِمَةَ فِي سَائِرِ تَصَارِيفِهَا وَإِلَّا لَمَا عُرِفَ أَصْلُ تِلْكَ الْكَلِمَةِ. وَقَدِ اتَّفَقَ عُلَمَاءُ اللُّغَةِ عَلَى أَنَّ التَّصَارِيفَ هِيَ الَّتِي يُعْرَفُ بِهَا الزَّائِدُ مِنَ الْأَصْلِيِّ وَالْمُنْقَلِبَ مِنْ غَيْرِهِ. وَزَعَمَ ابْنُ حَزْمٍ فِي كِتَابِ «الْمِلَلِ وَالنِّحَلِ» أَنَّ كِلَا قَوْلَيِ الْبَصْرِيِّينَ وَالْكُوفِيِّينَ فَاسِدٌ افْتَعَلَهُ النُّحَاةُ وَلَمْ يَصِحَّ عَنِ الْعَرَبِ وَأَنَّ لَفْظَ الِاسْمِ غَيْرُ مُشْتَقٍّ بَلْ هُوَ جَامِدٌ وَتَطَاوَلَ بِبَذَاءَتِهِ عَلَيْهِمْ وَهِيَ جُرْأَةٌ عَجِيبَةٌ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ [النَّحْل: ٤٣].
وَإِنَّمَا أُقْحِمَ لَفْظُ اسْمٍ مُضَافًا إِلَى عَلَمِ الْجَلَالَةِ إِذْ قِيلَ (بِسْمِ اللَّهِ) وَلَمْ يُقَلْ بِاللَّهِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ الْمَشْرُوعُ فِيهِ من شؤون أَهْلِ التَّوْحِيدِ الْمَوْسُومَةِ بِاسْمِ الْإِلَهِ الْوَاحِدِ فَلِذَلِكَ تُقْحَمُ كَلِمَةُ اسْمٍ فِي كُلِّ مَا كَانَ عَلَى هَذَا الْمَقْصِدِ كَالتَّسْمِيَةِ عَلَى النُّسُكِ قَالَ تَعَالَى:
فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ [الْأَنْعَام: ١١٨] وَقَالَ: وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ [الْأَنْعَام: ١١٩] وَكَالْأَفْعَالِ الَّتِي يُقْصَدُ بِهَا التَّيَمُّنُ وَالتَّبَرُّكُ وَحُصُولُ الْمَعُونَةِ مِثْلَ: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ [العلق: ١] فَاسْمُ اللَّهِ هُوَ الَّذِي تُمْكِنُ مُقَارَنَتُهُ لِلْأَفْعَالِ لَا ذَاتُهُ، فَفِي مِثْلِ هَذَا لَا يَحْسُنُ أَنْ يُقَالَ بِاللَّهِ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ الْمَعْنَى أَنَّهُ يَسْتَمِدُّ مِنَ اللَّهِ تَيْسِيرًا وَتَصَرُّفَا مِنْ تَصَرُّفَاتِ قُدْرَتِهِ وَلَيْسَ ذَلِكَ هُوَ الْمَقْصُودَ بِالشُّرُوعِ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ [الْوَاقِعَة:
٧٤] أَمْرٌ بِأَنْ يَقُولَ سُبْحَانَ اللَّهِ، وَقَوله: وَسَبِّحْهُ [الْإِنْسَان: ٢٦] أَمْرٌ بِتَنْزِيهِ ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ عَنِ النَّقَائِصِ، فَاسْتِعْمَالُ لَفْظِ الِاسْمِ فِي هَذَا بِمَنْزِلَةِ اسْتِعْمَالِ سِمَاتِ الْإِبِلِ عِنْدَ الْقَبَائِلِ، وَبِمَنْزِلَةِ اسْتِعْمَالِ
149
الْقَبَائِلِ شِعَارَ تَعَارُفِهِمْ (١)، وَاسْتِعْمَالِ الْجُيُوشِ شِعَارَهُمُ الْمُصْطَلَحَ عَلَيْهِ.
وَالْخُلَاصَةُ (٢) أَنَّ كُلَّ مَقَامٍ يُقْصَدُ فِيهِ التَّيَمُّنُ وَالِانْتِسَابُ إِلَى الرَّبِّ الْوَاحِدِ الْوَاجِبِ الْوُجُودِ يُعَدَّى فِيهِ الْفِعْلُ إِلَى لَفْظِ اسْمِ اللَّهِ كَقَوْلِهِ: وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها
[هود: ٤١]
وَفِي الْحَدِيثِ فِي دُعَاءِ الِاضْطِجَاعِ: «بِاسْمِكَ رَبِّي وَضَعْتُ جَنْبِي وَبِاسْمِكَ أَرْفَعُهُ»
وَكَذَلِكَ الْمَقَامُ الَّذِي يُقْصَدُ فِيهِ ذِكْرُ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ أَيْ قُلْ سُبْحَانَ اللَّهِ: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى [الْأَعْلَى: ١] وَكُلُّ مَقَامٍ يُقْصَدُ فِيهِ طَلَبُ التَّيْسِيرِ وَالْعَوْنِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى يُعَدَّى الْفِعْلُ الْمَسْئُولُ إِلَى عَلَمِ الذَّاتِ بِاعْتِبَارِ مَا لَهُ مِنْ صِفَاتِ الْخَلْقِ وَالتَّكْوِينِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَاسْجُدْ لَهُ [الْإِنْسَان: ٢٦]
وَقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ: «اللَّهُمَّ بِكَ نُصْبِحُ وَبِكَ نُمْسِي»
أَيْ بِقُدْرَتِكَ وَمَشِيئَتِكَ وَكَذَلِكَ الْمَقَامُ الَّذِي يُقْصَدُ فِيهِ تَوَجَّهُ الْفِعْلِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ أَيْ نَزِّهْ ذَاتَهُ وَحَقِيقَتَهُ عَنِ النَّقَائِصِ. فَمَعْنَى (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) أَقْرَأُ قِرَاءَةً مُلَابِسَةً لِبَرَكَةِ هَذَا الِاسْمِ الْمُبَارَكِ.
هَذَا وَقَدْ وَرَدَ فِي اسْتِعْمَالِ الْعَرَبِ تَوَسُّعَاتٍ فِي إِطْلَاقِ لَفْظِ الِاسْمِ مَرَّةً يَعْنُونَ بِهِ مَا يُرَادِفُ الْمُسَمَّى كَقَوْلِ النَّابِغَةِ:
نَبَّئْتُ زُرْعَةَ وَالسَّفَاهَةُ كَاسْمِهَا يُهْدِي إِلَيَّ غَرَائِبَ الْأَشْعَارِ
يَعْنِي أَنَّ السَّفَاهَةَ هِيَ هِيَ لَا تُعَرَّفُ لِلنَّاسِ بِأَكْثَرَ مِنِ اسْمِهَا وَهُوَ قَرِيبٌ مِنِ اسْتِعْمَالِ اسْمِ الْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً [الْبَقَرَة: ١٤٣]. أَيْ مِثْلَ ذَلِكَ الْجَعْلِ الْوَاضِحِ الشَّهِيرِ وَيُطْلِقُونَ الِاسْمَ مُقْحَمًا زَائِدًا كَمَا فِي قَوْلِ لَبِيدٍ:
إِلَى الْحَوْلِ ثُمَّ اسْمُ السَّلَامِ عَلَيْكُمَا
يَعْنِي ثُمَّ السَّلَامُ عَلَيْكُمَا وَلَيْسَ هَذَا خَاصًّا بِلَفْظِ الِاسْمِ بَلْ يَجِيءُ فِيمَا يُرَادِفُهُ مِثْلَ الْكَلِمَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى [الْفَتْح: ٢٦] وَكَذَلِكَ «لَفْظٌ» فِي قَوْلِ بَشَّارٍ هَاجِيًا:
وَكَذَاكَ، كَانَ أَبُوكَ يُؤْثَرُ بِالْهُنَى وَيَظَلُّ فِي لَفْظِ النَّدَى يَتَرَدَّدُ
وَقَدْ يُطْلَقُ الِاسْمُ وَمَا فِي مَعْنَاهُ كِنَايَةً عَنْ وُجُودِ الْمُسَمَّى، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ [الرَّعْد: ٣٣] وَالْأَمْرُ لِلتَّعْجِيزِ أَيْ أَثْبِتُوا وُجُودَهُمْ وَوَضْعَ أَسْمَاءٍ لَهُمْ.
فَهَذِهِ إِطْلَاقَاتٌ أُخْرَى لَيْسَ ذِكْرُ اسْمِ اللَّهِ فِي الْبَسْمَلَةِ مِنْ قَبِيلِهَا، وَإِنَّمَا نَبَّهْنَا عَلَيْهَا لِأَنَّ بَعْضَ الْمُفَسِّرِينَ خَلَطَ بِهَا فِيُُ
_________
(١) قَالَ النَّابِغَة:
مُسْتَشْعِرِينَ قد ألفوا فِي دِيَارهمْ دُعَاء سوع ودعميّ وَأَيوب
(٢) وَفِي الْخَبَر «كَانَ شعار الْمُسلمين يَوْم بدر أحد أحد». [.....]
150
تَفْسِيرِ الْبَسْمَلَةِ، ذَكَرْتُهَا هُنَا تَوْضِيحًا لِيَكُونَ نَظَرُكُمْ فِيهَا فَسِيحًا فَشُدُّوا بِهَا يَدًا وَلَا تَتَّبِعُوا طَرَائِقَ قِدَدًا.
وَقَدْ تَكَلَّمُوا عَلَى مَلْحَظِ تَطْوِيلِ الْبَاءِ فِي رَسْمِ الْبَسْمَلَةِ بِكَلَامٍ كُلُّهُ غَيْرُ مُقْنِعٍ، وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ الصَّحَابَةَ لَمَّا كَتَبُوا الْمُصْحَفَ طَوَّلُوهَا فِي سُورَةِ النَّمْلِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهَا مَبْدَأُ
كِتَابِ سُلَيْمَانَ فَهِيَ مِنَ الْمَحْكِيِّ، فَلَمَّا جَعَلُوهَا عَلَامَةً عَلَى فَوَاتِحِ السُّوَرِ نَقَلُوهَا بِرَسْمِهَا، وَتَطْوِيلُ الْبَاءِ فِيهَا صَالِحٌ لِاتِّخَاذِهِ قُدْوَةً فِي ابْتِدَاءِ الْغَرَضِ الْجَدِيدِ مِنَ الْكَلَامِ بِحَرْفٍ غَلِيظٍ أَوْ مُلَوَّنٍ.
وَالْكَلَامُ عَلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ وَوَصْفِهِ يَأْتِي فِي تَفْسِير قَوْلِهِ تَعَالَى: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [الْفَاتِحَة: ٢، ٣].
وَمُنَاسَبَةُ الْجَمْعِ فِي الْبَسْمَلَةِ بَيْنَ عَلَمِ الْجَلَالَةِ وَبَيْنَ صِفَتَيِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ إِنَّ الْمُسَمِّي إِذَا قَصَدَ الِاسْتِعَانَةَ بِالْمَعْبُودِ الْحَقِّ الْمَوْصُوفِ بِأَنَّهُ مُولِي النِّعَمِ كُلِّهَا جَلِيلِهَا وَدَقِيقِهَا يَذْكُرُ عَلَمَ الذَّاتِ إِشَارَةً إِلَى اسْتِحْقَاقِهِ أَنْ يُسْتَعَانَ بِهِ بِالذَّاتِ، ثُمَّ يَذْكُرُ وَصْفَ الرَّحْمَنِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الِاسْتِعَانَةَ عَلَى الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَهِيَ نِعَمٌ، وَذِكْرُ الرَّحِيمِ لِلْوُجُوهِ الَّتِي سَنَذْكُرُهَا فِي عَطْفِ صِفَةِ الرَّحِيمِ عَلَى صِفَةِ الرَّحْمَنِ.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مُحَمَّد عَبْدُه: إِنَّ النَّصَارَى كَانُوا يَبْتَدِئُونَ أَدْعِيَتَهُمْ وَنَحْوَهَا بِاسْمِ الْأَبِ وَالِابْنِ وَالرُّوحِ الْقُدُسِ إِشَارَةً إِلَى الْأَقَانِيمِ الثَّلَاثَةِ عِنْدَهُمْ، فَجَاءَتْ فَاتِحَةُ كِتَابِ الْإِسْلَامِ بِالرَّدِّ عَلَيْهِمْ مُوقِظَةً لَهُمْ بِأَنَّ الْإِلَهَ الْوَاحِدَ وَإِنْ تَعَدَّدَتْ أَسْمَاؤُهُ فَإِنَّمَا هُوَ تَعَدُّدُ الْأَوْصَافِ دُونَ تَعَدُّدِ الْمُسَمَّيَاتِ، يَعْنِي فَهُوَ رد عَلَيْهِم بتغليظ وَتَبْلِيدٍ. وَإِذَا صَحَّ أَنَّ فَوَاتِحَ النَّصَارَى وَأَدْعِيَتَهُمْ كَانَتْ تَشْتَمِلُ عَلَى ذَلِكَ- إِذِ النَّاقِلُ أَمِينٌ- فَهِيَ نُكْتَةٌ لَطِيفَةٌ.
وَعِنْدِي أَنَّ الْبَسْمَلَةَ كَانَ مَا يُرَادِفُهَا قَدْ جَرَى عَلَى أَلْسِنَةِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ عَهْدِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَهِيَ مِنْ كَلَامِ الْحَنِيفِيَّةِ، فَقَدْ حَكَى اللَّهُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ أَنَّهُ قَالَ لِأَبِيهِ: يَا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ [مَرْيَم: ٤٥]، وَقَالَ: سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا [مَرْيَم: ٤٧] وَمَعْنَى الْحَفِيِّ قَرِيبٌ مِنْ مَعْنَى الرَّحِيمِ. وَحَكَى عَنْهُ قَوْلَهُ: وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [الْبَقَرَة: ١٢٨]. وَوَرَدَ ذِكْرُ مُرَادِفِهَا فِي كِتَابِ سُلَيْمَانَ إِلَى مَلِكَةِ سَبَأٍ: إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ [النَّمْل: ٣٠، ٣١]. وَالْمَظْنُونُ أَنَّ سُلَيْمَانَ اقْتَدَى فِي افْتِتَاحِ كِتَابِهِ بِالْبَسْمَلَةِ بِسُنَّةٍ مَوْرُوثَةٍ مِنْ عَهْدِ إِبْرَاهِيمَ جَعَلَهَا إِبْرَاهِيمُ كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي وَارِثِي نُبُوَّتِهِ، وَأَن الله أَحيَاء هَذِهِ السُّنَّةَ فِي الْإِسْلَامِ فِي جُمْلَةِ مَا أَوْحَى لَهُ مِنَ الْحَنِيفِيَّةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ [الْحَج
151
: ٧٨].
[٢] الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ.
الْحَمْدُ لِلَّهِ.
الشَّأْنُ فِي الْخِطَابِ بِأَمْرٍ مُهِمٍّ لَمْ يَسْبِقْ لِلْمُخَاطَبِ بِهِ خِطَابٌ مِنْ نَوْعِهِ أَنْ يُسْتَأْنَسَ لَهُ قَبْلَ إِلْقَاءِ الْمَقْصُودِ وَأَنْ يُهَيَّأَ لِتَلَقِّيهِ، وَأَنْ يُشَوَّقَ إِلَى سَمَاعِ ذَلِكَ وَتُرَاضُ نَفْسُهُ عَلَى الِاهْتِمَامِ بِالْعَمَلِ بِهِ لِيَسْتَعِدَّ لِلتَّلَقِّي بِالتَّخَلِّي عَنْ كُلِّ مَا شَأْنُهُ أَنْ يَكُونَ عَائِقًا عَنِ الِانْتِفَاعِ بِالْهُدَى مِنْ عِنَادٍ وَمُكَابَرَةٍ أَوِ امْتِلَاءِ الْعَقْلِ بِالْأَوْهَامِ الضَّالَّةِ، فَإِنَّ النَّفْسَ لَا تَكَادُ تَنْتَفِعُ بِالْعِظَاتِ وَالنُّذُرِ، وَلَا تُشْرِقُ فِيهَا الْحِكْمَةُ وَصِحَّةُ النَّظَرِ مَا بَقِيَ يُخَالِجُهَا الْعِنَادُ وَالْبُهْتَانُ، وَتُخَامِرُ رُشْدَهَا نَزَغَاتُ الشَّيْطَانِ، فَلَمَّا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ السُّورَةُ أُولَى سُوَرِ الْكِتَابِ الْمَجِيدِ بِتَوْقِيفِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا نَبَّهَ اللَّهُ تَعَالَى قُرَّاءَ كِتَابِهِ وَفَاتِحِي مُصْحَفِهِ إِلَى أُصُولِ هَذِهِ التَّزْكِيَةِ النَّفْسِيَّةِ بِمَا لَقَّنَهُمْ أَنْ يَبْتَدِئُوا بِالْمُنَاجَاةِ الَّتِي تَضَمَّنَتْهَا سُورَةُ الْفَاتِحَةِ مِنْ قَوْلِهِ: إِيَّاكَ نَعْبُدُ إِلَى آخِرِ السُّورَةِ، فَإِنَّهَا تَضَمَّنَتْ أُصُولًا عَظِيمَةً: أَوَّلُهَا التَّخْلِيَةُ عَنِ التَّعْطِيلِ وَالشِّرْكِ بِمَا تَضَمَّنَهُ إِيَّاكَ نَعْبُدُ. الثَّانِي التَّخَلِّي عَنْ خَوَاطِرِ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ بِالتَّبَرِّي مِنَ الْحَوْلِ وَالْقُوَّةِ تِجَاهَ عَظَمَتِهِ بِمَا تَضَمَّنَهُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ. الثَّالِثُ الرَّغْبَةُ فِي التَّحَلِّي بِالرُّشْدِ وَالِاهْتِدَاءِ بِمَا تَضَمَّنَهُ اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ. الرَّابِعُ الرَّغْبَةُ فِي التَّحَلِّي بِالْأُسْوَةِ الْحَسَنَةِ بِمَا تَضَمَّنَهُ صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ. الْخَامِسُ التَّهَمُّمُ بِالسَّلَامَةِ مِنَ الضَّلَالِ الصَّرِيحِ بِمَا تَضَمَّنَهُ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ. السَّادِسُ التَّهَمُّمُ بِسَلَامَةِ تَفْكِيرِهِمْ مِنَ الِاخْتِلَاطِ بِشُبُهَاتِ الْبَاطِلِ الْمُمَوَّهِ بِصُورَةِ الْحَقِّ وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالضَّلَالِ لِأَنَّ الضَّلَالَ خَطَأُ الطَّرِيقِ الْمَقْصُودِ بِمَا تَضَمَّنَهُ وَلَا الضَّالِّينَ.
وَأَنْتَ إِذَا افْتَقَدْتَ أُصُولَ نَجَاحِ الْمُرْشِدِ فِي إِرْشَادِهِ وَالْمُسْتَرْشِدِ فِي تَلَقِّيهِ عَلَى كَثْرَتِهَا وَتَفَارِيعِهَا وَجَدْتَهَا عَاكِفَةً حَوْلَ هَذِهِ الْأَرْكَانِ السِّتَّةِ فَكُنْ فِي اسْتِقْصَائِهَا لَبِيبًا. وَعَسَى أَنْ أَزِيدَكَ مِنْ تَفْصِيلِهَا قَرِيبًا. وَإِنَّ الَّذِي لَقَّنَ أَهْلَ الْقُرْآنِ مَا فِيهِ جِمَاعُ طَرَائِقِ الرُّشْدِ بِوَجْهٍ لَا يُحِيطُ بِهِ غَيْرُ عَلَّامِ الْغُيُوبِ لَمْ يُهْمِلْ إِرْشَادَهُمْ إِلَى التَّحَلِّي بِزِينَةِ الْفَضَائِلِ وَهِيَ أَنْ يُقَدِّرُوا النِّعْمَةَ حَقَّ قَدْرِهَا بِشُكْرِ الْمُنْعِمِ بِهَا فَأَرَاهُمْ كَيْفَ يُتَوِّجُونَ مُنَاجَاتِهِمْ بِحَمْدِ وَاهِبِ الْعَقْلِ وَمَانِحِ التَّوْفِيقِ، وَلِذَلِكَ كَانَ افْتِتَاحُ كُلِّ كَلَامٍ مُهِمٍّ بِالتَّحْمِيدِ سُنَّةَ الْكِتَابِ الْمَجِيدِ.
152
فَسُورَةُ الْفَاتِحَةِ بِمَا تَقَرَّرَ مُنَزَّلَةٌ مِنَ الْقُرْآنِ مَنْزِلَةَ الدِّيبَاجَةِ لِلْكِتَابِ أَوِ الْمُقَدِّمَةِ لِلْخُطْبَةِ، وَهَذَا الْأُسْلُوبُ لَهُ شَأْنٌ عَظِيمٌ فِي صِنَاعَةِ الْأَدَبِ الْعَرَبِيِّ وَهُوَ أَعْوَنُ لِلْفَهْمِ وَأَدْعَى لِلْوَعْيِ.
وَقَدْ رَسَمَ أُسْلُوبَ الْفَاتِحَةِ لِلْمُنْشِئِينَ ثَلَاثَ قَوَاعِدَ لِلْمُقَدِّمَةِ: الْقَاعِدَةُ الْأَوْلَى إِيجَازُ الْمُقَدِّمَةِ لِئَلَّا تَمَلَّ نُفُوسُ السَّامِعِينَ بِطُولِ انْتِظَارِ الْمَقْصُودِ وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي الْفَاتِحَةِ، وَلِيَكُونَ
سُنَّةً لِلْخُطَبَاءِ فَلَا يُطِيلُوا الْمُقَدِّمَةَ كَيْ لَا يُنْسَبُوا إِلَى الْعَيِّ فَإِنَّهُ بِمِقْدَارِ مَا تُطَالُ الْمُقَدِّمَةُ يَقْصُرُ الْغَرَضُ، وَمِنْ هَذَا يَظْهَرُ وَجْهُ وَضْعِهَا قَبْلَ السُّوَرِ الطِّوَالِ مَعَ أَنَّهَا سُورَةٌ قَصِيرَةٌ. الثَّانِيَةُ أَنْ تُشِيرَ إِلَى الْغَرَضِ الْمَقْصُودِ وَهُوَ مَا يُسَمَّى بَرَاعَةَ الِاسْتِهْلَالِ لِأَن ذَلِك يهيىء السَّامِعِينَ لِسَمَاعِ تَفْصِيلِ مَا سَيَرِدُ عَلَيْهِمْ فَيَتَأَهَّبُوا لِتَلَقِّيهِ إِنْ كَانُوا مِنْ أَهْلِ التَّلَقِّي فَحَسْبُ، أَوْ لِنَقْدِهِ وَإِكْمَالِهِ إِنْ كَانُوا فِي تِلْكَ الدَّرَجَةِ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى تَمَكُّنِ الْخَطِيبِ مِنَ الْغَرَضِ وَثِقَتِهِ بِسَدَادِ رَأْيِهِ فِيهِ بِحَيْثُ يُنَبِّهُ السَّامِعِينَ لِوَعْيِهِ، وَفِيهِ سُنَّةٌ لِلْخُطَبَاءِ لِيُحِيطُوا بِأَغْرَاضِ كَلَامِهِمْ. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ اشْتِمَالِ الْفَاتِحَةِ عَلَى هَذَا عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى وَجْهِ تَسْمِيَتِهَا أُمَّ الْقُرْآنِ. الثَّالِثَةُ أَنْ تَكُونَ الْمُقَدِّمَةُ مِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ عُلَمَاءُ الْبَيَانِ عِنْدَ ذِكْرِهِمُ الْمَوَاضِعَ الَّتِي يَنْبَغِي لِلْمُتَكَلِّمِ أَنْ يَتَأَنَّقَ فِيهَا. الرَّابِعُ أَنْ تُفْتَتَحَ بِحَمْدِ اللَّهِ.
إِنَّ الْقُرْآنَ هُدًى لِلنَّاسِ وَتِبْيَانًا لِلْأَحْكَامِ الَّتِي بِهَا إِصْلَاحُ النَّاسِ فِي عَاجِلِهِمْ وَآجِلِهِمْ وَمَعَاشِهِمْ وَمَعَادِهِمْ وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ لِنُفُوسِ الْأُمَّةِ اعْتِيَادٌ بِذَلِكَ لَزِمَ أَنْ يُهَيَّأَ الْمُخَاطَبُونَ بِهَا إِلَى تَلَقِّيهَا وَيُعْرَفُ تَهَيُّؤُهَمْ بِإِظْهَارِهِمُ اسْتِعْدَادَ النُّفُوسِ بِالتَّخَلِّي عَنْ كُلِّ مَا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَعُوقَ عَنِ الِانْتِفَاعِ بِهَاتِهِ التَّعَالِيمِ النَّافِعَةِ وَذَلِكَ بِأَنْ يُجَرِّدُوا نُفُوسَهُمْ عَنِ الْعِنَادِ وَالْمُكَابَرَةِ وَعَنْ خَلْطِ مَعَارِفِهِمْ بِالْأَغْلَاطِ الْفَاقِرَةِ، فَلَا مَنَاصَ لَهَا قَبْلَ اسْتِقْبَالِ تِلْكَ الْحِكْمَةِ وَالنَّظَرِ مِنَ الِاتِّسَامِ بِمَيْسِمِ الْفَضِيلَةِ وَالتَّخْلِيَةِ عَنِ السَّفَاسِفِ الرَّذِيلَةِ.
فَالْفَاتِحَةُ تَضَمَّنَتْ مُنَاجَاةً لِلْخَالِقِ جَامِعَةً التَّنَزُّهَ عَنِ التَّعْطِيلِ وَالْإِلْحَادِ وَالدَّهْرِيَّةِ بِمَا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ: مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ، وَعَنِ الْإِشْرَاكِ بِمَا تَضَمَّنَهُ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ، وَعَنِ الْمُكَابَرَةِ وَالْعِنَادِ بِمَا تَضَمَّنَهُ اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ فَإِنَّ طَلَبَ الْهِدَايَةِ اعْتِرَافٌ بِالِاحْتِيَاجِ إِلَى الْعِلْمِ، وَوَصْفُ الصِّرَاطِ بِالْمُسْتَقِيمِ اعْتِرَافٌ بِأَنَّ مِنَ الْعِلْمِ مَا هُوَ حَقٌّ وَمِنْهُ مَا هُوَ مَشُوبٌ بِشُبَهٍ وَغَلَطٍ، وَمَنِ اعْتَرَفَ بِهَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ فَقَدْ أَعَدَّ نَفْسَهُ لِاتِّبَاعِ أَحْسَنِهِمَا، وَعَنِ الضَّلَالَاتِ الَّتِي تَعْتَرِي الْعُلُومَ الصَّحِيحَةَ وَالشَّرَائِعَ الْحَقَّةَ فَتَذْهَبُ بِفَائِدَتِهَا
153
وَتُنْزِلُ صَاحِبَهَا إِلَى دَرَكَةٍ أَقَلَّ مِمَّا وَقَفَ عِنْدَهُ الْجَاهِلُ الْبَسِيطُ، وَذَلِكَ بِمَا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ كَمَا أَجْمَلْنَاهُ قَرِيبًا، وَلِأَجْلِ هَذَا سُمِّيَتْ هَاتِهِ السُّورَةُ أُمَّ الْقُرْآنِ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَلَمَّا لُقِّنَ الْمُؤْمِنُونَ هَاتِهِ الْمُنَاجَاةَ الْبَدِيعَةَ الَّتِي لَا يَهْتَدِي إِلَى الْإِحَاطَةِ بِهَا فِي كَلَامِهِ غَيْرُ عَلَّامِ الْغُيُوبِ سُبْحَانَهُ قَدَّمَ الْحَمْدَ عَلَيْهَا لِيَضَعَهُ الْمُنَاجُونَ كَذَلِكَ فِي مُنَاجَاتِهِمْ جَرْيًا عَلَى طَرِيقَةِ بُلَغَاءِ الْعَرَبِ عِنْدَ مُخَاطَبَةِ الْعُظَمَاءِ أَنْ يَفْتَتِحُوا خِطَابَهُمْ إِيَّاهُمْ وَطِلْبَتَهُمْ بِالثَّنَاءِ وَالذِّكْرِ
الْجَمِيلِ. قَالَ أُمَيَّةُ ابْن أَبِي الصَّلْتِ يَمْدَحُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جُدْعَانَ:
أَأَذْكُرُ حَاجَتِي أَمْ قَدْ كَفَانِي حَيَاؤُكَ إِنَّ شِيمَتَكَ الْحَيَاءُ
إِذَا أَثْنَى عَلَيْكَ الْمَرْءُ يَوْمًا كَفَاهُ عَنْ تَعَرُّضِهِ الثَّنَاءُ
فَكَانَ افْتِتَاحُ الْكَلَامِ بِالتَّحْمِيدِ سُنَّةَ الْكِتَابِ الْمَجِيدِ لِكُلِّ بَلِيغٍ مُجِيدٍ، فَلَمْ يَزَلِ الْمُسْلِمُونَ مِنْ يَوْمِئِذٍ يُلَقِّبُونَ كُلَّ كَلَامِ نَفِيسٍ لَمْ يَشْتَمِلْ فِي طَالِعِهِ عَلَى الْحَمْدِ بِالْأَبْتَرِ أَخْذًا مِنْ
حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «كُلُّ أَمْرِ ذِي بَالٍ لَا يُبْدَأُ فِيهِ بِالْحَمْدِ لِلَّهِ أَوْ بِالْحَمْدِ فَهُوَ أَقْطَعُ»
(١). وَقَدْ لُقِّبَتْ خُطْبَةُ زِيَادِ ابْن أَبِي سُفْيَانَ الَّتِي خَطَبَهَا بِالْبَصْرَةِ بِالْبَتْرَاءِ لِأَنَّهُ لَمْ يَفْتَتِحْهَا بِالْحَمْدِ، وَكَانَتْ سُورَةُ الْفَاتِحَةِ لِذَلِكَ مُنَزَّلَةً مِنَ الْقُرْآنِ مَنْزِلَةَ الدِّيبَاجَةِ لِلْكِتَابِ أَوِ الْمُقَدِّمَةِ لِلْخُطْبَةِ، وَلِذَلِكَ شَأْنٌ مُهِمٌّ فِي صِنَاعَةِ الْإِنْشَاءِ فَإِنَّ تَقْدِيمَ الْمُقَدِّمَةِ بَيْنَ يَدي الْمَقْصُود أَعُود لِلْأَفْهَامِ وأدعى لوعيها.
و (الْحَمد) هُوَ الثَّنَاءُ عَلَى الْجَمِيلِ أَيِ الْوَصْفُ الْجَمِيلُ الِاخْتِيَارِيُّ فِعْلًا كَانَ كَالْكَرَمِ وَإِغَاثَةِ الْمَلْهُوفِ أَمْ غَيْرِهِ كَالشَّجَاعَةِ. وَقَدْ جَعَلُوا الثَّنَاءَ جِنْسًا لِلْحَمْدِ فَهُوَ أَعَمُّ مِنْهُ وَلَا يَكُونُ ضِدَّهُ. فَالثَّنَاءُ الذِّكْرُ بِخَيْرٍ مُطْلَقًا وَشَذَّ مَنْ قَالَ يُسْتَعْمَلُ الثَّنَاءُ فِي الذِّكْرِ مُطْلَقًا وَلَوْ بِشَرٍّ، وَنَسَبَا إِلَى ابْنِ الْقَطَّاعِ (٢) وَغَرَّهُ فِي ذَلِك مَا رَود
فِي الْحَدِيثِ وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ خَيْرًا وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ وَمَنْ أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ شَرًّا وَجَبَتْ لَهُ النَّارُ»
وَإِنَّمَا هُوَ مَجَازٌ دَعَتْ إِلَيْهِ الْمُشَاكَلَةُ اللَّفْظِيَّةُ وَالتَّعْرِيضُ بِأَنَّ مَنْ كَانَ مُتَكَلِّمًا فِي مُسْلِمٍ فَلْيَتَكَلَّمْ بِثَنَاءٍ أَوْ لِيَدَعْ، فَسَمَّى ذِكْرَهُمْ بِالشَّرِّ ثَنَاءًُُ
_________
(١) رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» بِاللَّفْظِ الأول، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» بِاللَّفْظِ الثَّانِي وَهُوَ حَدِيث حسن.
(٢) هُوَ عَليّ بن جَعْفَر السَّعْدِيّ بن سعد بن مَالك من بني تَمِيم الصّقليّ، ولد بصقلية سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعمِائَة، ورحل إِلَى الْقَاهِرَة وَتُوفِّي بهَا سنة خمس عشرَة وَقيل أَربع عشرَة وَخَمْسمِائة.
154
تَنْبِيهًا عَلَى ذَلِكَ. وَأَمَّا الَّذِي يُسْتَعْمَلُ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ فَهُوَ النِّثَاءُ بِتَقْدِيمِ النُّونِ وَهُوَ فِي الشَّرِّ أَكْثَرُ كَمَا قِيلَ.
وَأَمَّا الْمَدْحُ فَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهِ فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ الْمَدْحَ أَعَمُّ مِنَ الْحَمْدِ فَإِنَّهُ يَكُونُ عَلَى الْوَصْفِ الِاخْتِيَارِيِّ وَغَيْرِهِ. وَقَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» الْحَمْدُ وَالْمَدْحُ أَخَوَانِ فَقِيلَ أَرَادَ أَخَوَانِ فِي الِاشْتِقَاقِ الْكَبِيرِ نَحْوَ جَبَذَ وَجَذَبَ، وَإِنَّ ذَلِكَ اصْطِلَاحٌ لَهُ فِي «الْكَشَّافِ» فِي مَعْنَى أُخُوَّةٍ اللَّفْظَيْنِ لِئَلَّا يَلْزَمَ مِنْ ظَاهِرِ كَلَامِهِ أَنَّ الْمَدْحَ يُطْلَقُ عَلَى الثَّنَاءِ عَلَى الْجَمِيلِ الِاخْتِيَارِيِّ، لَكِنَّ هَذَا فَهْمٌ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ وَالَّذِي عَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ مِنْ شُرَّاحِ «الْكَشَّافِ» أَنَّهُ أَرَادَ
مِنَ الْأُخُوَّةِ هُنَا التَّرَادُفَ لِأَنَّهُ ظَاهِرُ كَلَامِهِ وَلِأَنَّهُ صَرِيحُ قَوْلِهِ فِي «الْفَائِقِ» :«الْحَمْدِ هُوَ الْمَدْحُ وَالْوَصْفُ بِالْجَمِيلِ» وَلِأَنَّهُ ذَكَرَ الذَّمَّ نَقِيضًا لِلْحَمْدِ إِذْ قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» :«وَالْحَمْدُ نَقِيضُهُ الذَّمُّ» مَعَ شُيُوعِ كَوْنِ الذَّمِّ نَقِيضًا لِلْمَدْحِ، وَعُرْفُ عُلَمَاءِ اللُّغَةِ أَنْ يُرِيدُوا مِنَ النَّقِيضِ الْمُقَابِلَ لَا مَا يُسَاوِي النَّقِيضَ حَتَّى يُجَابَ بِأَنَّهُ أَرَادَ مِنَ النَّقِيضِ مَا لَا يُجَامِعُ الْمَعْنَى وَالذَّمُّ لَا يُجَامِعُ الْحَمْدَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعْنَاهُ رَفْعَ مَعْنَى الْحَمْدِ بَلْ رَفْعَ مَعْنَى الْمَدْحِ إِلَّا أَنَّ نَفْيَ الْأَعَمِّ وَهُوَ الْمَدْحُ يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الْأَخَصِّ وَهُوَ الْحَمْدُ لِأَنَّ هَذَا لَا يَقْصِدُهُ عُلَمَاءُ اللُّغَةِ، يَعْنِي وَإِنِ اغْتُفِرَ مِثْلُهُ فِي اسْتِعْمَالِ الْعَرَبِ كَقَوْلِ زُهَيْرٍ:
وَمَنْ يَجْعَلِ الْمَعْرُوفَ فِي غَيْرِ أَهْلِهِ يَكُنْ حَمْدُهُ ذَمًّا عَلَيْهِ وَيَنْدَمِ
لِأَنَّ كَلَامَ الْعُلَمَاءِ مَبْنِيٌّ عَلَى الضَّبْطِ وَالتَّدْقِيقِ.
ثُمَّ اخْتُلِفَ فِي مُرَادِ صَاحِبِ «الْكَشَّافِ» مِنْ تَرَادُفِهِمَا هَلْ هُمَا مُتَرَادِفَانِ فِي تَقْيِيد هما بِالثَّنَاءِ عَلَى الْجَمِيلِ الِاخْتِيَارِيِّ؟ أَوْ مُتَرَادِفَانِ فِي عَدَمِ التَّقْيِيدِ بِالِاخْتِيَارِيِّ، وَعَلَى الْأَوَّلِ حَمَلَهُ السَّيِّدُ الشَّرِيفُ وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ سَعْدِ الدِّينِ. وَاسْتَدَلَّ السَّيِّدُ بِأَنَّهُ صَرَّحَ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ [الحجرات: ٧] إِذْ قَالَ: «فَإِنْ قُلْتَ فَإِنَّ الْعَرَبَ تَمْدَحُ بِالْجَمَالِ وَحُسْنِ الْوُجُوهِ وَهُوَ مَدْحٌ مَقْبُولٌ عِنْدَ النَّاسِ، قُلْتُ الَّذِي سَوَّغَ ذَلِكَ أَنَّهُمْ رَأَوْا حُسْنَ الرِّوَاءِ وَوَسَامَةَ الْمَنْظَرِ فِي الْغَالِبِ يُسْفِرُ عَنْ مَخْبَرٍ مُرْضٍ وَأَخْلَاقٍ مَحْمُودَةٍ عَلَى أَنَّ مِنْ مُحَقِّقَةِ الثِّقَاتِ وَعُلَمَاءِ الْمَعَانِي مَنْ دَفَعَ صِحَّةَ ذَلِكَ وَخَطَّأَ الْمَادِحَ بِهِ وَقَصَرَ الْمَدْحَ عَلَى النَّعْتِ بِأُمَّهَاتِ الْخَيْرِ وَهِيَ كَالْفَصَاحَةِ وَالشَّجَاعَةِ وَالْعَدْلِ وَالْعِفَّةِ وَمَا يَتَشَعَّبُ عَنْهَا» اهـ.
وَعَلَى الْمَحْمَلِ الثَّانِي وَهُوَ أَنْ يَكُونَ قَصَدَ مِنَ التَّرَادُفِ إِلْغَاءَ قَيْدِ الِاخْتِيَارِيِّ فِي كِلَيْهِمَا حَمَلَهُ الْمُحَقِّقُ عَبْدُ الْحَكِيمِ السَّلَكُوتِيُّ فِي «حَوَاشِي التَّفْسِيرِ» فَرْضًا أَوْ نَقْلًا لَا تَرْجِيحًا بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ ظَاهِرُ كَلَامِهِ فِي «الْكَشَّاف» و «الْفَائِق» إِذْ أَلْغَى قَيْدَ الِاخْتِيَارِيِّ فِي تَفْسِيرِ الْمَدْحِ بِالثَّنَاءِ عَلَى الْجَمِيلِ وَجَعَلَهُمَا مَعَ ذَلِكَ مُتَرَادِفَيْنِ.
155
وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ الْإِشْكَالُ عَنْ حَمْدِنَا اللَّهَ تَعَالَى عَلَى صِفَاتِهِ الذَّاتِيَّةِ كَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ دُونَ صِفَاتِ الْأَفْعَالِ وَإِنْ كَانَ انْدِفَاعُهُ عَلَى اخْتِيَارِ الْجُمْهُورِ أَيْضًا ظَاهِرًا فَإِنَّ مَا وَرَدَ عَلَيْهِمْ مِنْ أَنَّ مَذْهَبَهُمْ يَسْتَلْزِمُ أَنْ لَا يُحْمَدَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى صِفَاتِهِ لِأَنَّهَا ذَاتِيَّةٌ فَلَا تُوصَفُ بِالِاخْتِيَارِ إِذِ الِاخْتِيَارُ يَسْتَلْزِمُ إِمْكَانَ الِاتِّصَافِ، وَقَدْ أَجَابُوا عَنْهُ إِمَّا بِأَنَّ تِلْكَ الصِّفَاتِ الْعَلِيَّةَ نَزَلَتْ مَنْزِلَةَ الِاخْتِيَارِيَّةِ لِاسْتِقْلَالِ مَوْصُوفِهَا، وَإِمَّا بِأَنْ تَرَتُّبَ الْآثَارِ الِاخْتِيَارِيَّةِ عَلَيْهَا يَجْعَلُهَا كَالِاخْتِيَارِيَّةِ، وَإِمَّا بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالِاخْتِيَارِيَّةِ أَنْ يَكُونَ الْمَحْمُودُ فَاعِلًا بِالِاخْتِيَارِ وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمَحْمُودُ عَلَيْهِ
اخْتِيَارِيًّا.
وَعِنْدِي أَنَّ الْجَوَابَ أَنْ نَقُولَ إِنَّ شَرْطَ الِاخْتِيَارِيِّ فِي حَقِيقَةِ الْحَمْدِ عِنْدَ مُثْبِتِهِ لِإِخْرَاجِ الصِّفَاتِ غَيْرِ الِاخْتِيَارِيَّةِ لِأَنَّ غَيْرَ الِاخْتِيَارِيِّ فِينَا لَيْسَ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ إِذْ لَا تَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الْآثَارُ الْمُوجِبَةُ لِلْحَمْدِ، فَكَانَ شَرْطُ الِاخْتِيَارِ فِي حَمْدِنَا زِيَادَةً فِي تَحَقُّقِ كَمَالِ الْمَحْمُودِ، أَمَّا عَدَمُ الِاخْتِيَارِ الْمُخْتَصِّ بِالصِّفَاتِ الذَّاتِيَّةِ الْإِلَهِيَّةِ فَإِنَّهُ لَيْسَ عِبَارَةً عَنْ نَقْصٍ فِي صِفَاتِهِ وَلَكِنَّهُ كَمَالٌ نَشَأَ مِنْ وُجُوبِ الصِّفَةِ لِلذَّاتِ لِقِدَمِ الصِّفَةِ فَعَدَمُ الِاخْتِيَارِ فِي صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى زِيَادَةٌ فِي الْكَمَالِ لِأَنَّ أَمْثَالَ تِلْكَ الصِّفَاتِ فِينَا لَا تَكُونُ وَاجِبَةً لِلذَّاتِ مُلَازِمَةً لَهَا فَكَانَ عَدَمُ الِاخْتِيَارِ فِي صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى دَلِيلًا عَلَى زِيَادَةِ الْكَمَالِ وَفِينَا دَلِيلًا عَلَى النَّقْصِ، وَمَا كَانَ نَقْصًا فِينَا بِاعْتِبَارِ مَا قَدْ يَكُونُ كَمَالًا لِلَّهِ تَعَالَى بِاعْتِبَارٍ آخَرَ مِثْلَ عَدَمِ الْوَلَدِ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى الْأَجْوِبَةِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى التَّنْزِيلِ إِمَّا بِاعْتِبَارِ الصِّفَةِ أَوْ بِاعْتِبَارِ الْمَوْصُوفِ، عَلَى أَنَّ تَوْجِيهَ الثَّنَاءِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِمَادَّةِ (حَمِدَ) هُوَ أَقْصَى مَا تُسَمَّى بِهِ اللُّغَةُ الْمَوْضُوعَةُ لِأَدَاءِ الْمَعَانِي الْمُتَعَارَفَةِ لَدَى أَهْلِ تِلْكَ اللُّغَةِ، فَلَمَّا طَرَأَتْ عَلَيْهِمُ الْمَدَارِكُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْحَقَائِقِ الْعَالِيَةِ عَبَّرَ لَهُمْ عَنْهَا بِأَقْصَى مَا يُقَرِّبُهَا مِنْ كَلَامِهِمْ.
(الْحَمْدُ) مَرْفُوعٌ بِالِابْتِدَاءِ فِي جَمِيعِ الْقِرَاءَاتِ الْمَرْوِيَّةِ وَقَوْلُهُ (لِلَّهِ) خَبَرُهُ فَلَامُ (لِلَّهِ) مُتَعَلِّقٌ بِالْكَوْنِ وَالِاسْتِقْرَارِ الْعَامِّ كَسَائِرِ الْمَجْرُورَاتِ الْمُخْبَرِ بِهَا وَهُوَ هُنَا مِنَ الْمَصَادِرِ الَّتِي أَتَتْ بَدَلًا عَنْ أَفْعَالِهَا فِي مَعْنَى الْإِخْبَارِ، فَأَصْلُهُ النَّصْبُ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ عَلَى أَنَّهُ بُدِّلَ مِنْ فِعْلِهِ وَتَقْدِيرِ الْكَلَامِ نَحْمَدُ حَمْدًا لِلَّهِ، فَلِذَلِكَ الْتَزَمُوا حَذْفَ أَفْعَالِهَا مَعَهَا. قَالَ سِيبَوَيْهِ هَذَا بَابُ مَا يُنْصَبُ مِنَ الْمَصَادِرِ عَلَى إِضْمَارِ الْفِعْلِ غَيْرِ الْمُسْتَعْمَلِ إِظْهَارُهُ وَذَلِكَ قَوْلُكُ سَقْيًا وَرَعْيًا وَخَيْبَةً وَبُؤْسًا، وَالْحَذَرَ بَدَلًا عَنِ احْذَرْ فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى مُتَعَلِّقٍ وَأَمَّا قَوْلُهُمْ سَقْيًا لَكَ نَحْوَ:
سَقْيًا وَرَعْيًا لِذَاكَ الْعَاتِبِ الزَّارِي
فَإِنَّمَا هُوَ لِيُبَيِّنُوا الْمَعْنَى بِالدُّعَاءِ. ثُمَّ قَالَ بَعْدَ أَبْوَابٍ: هَذَا بَابُ مَا يَنْتَصِبُ عَلَى إِضْمَارِ الْفِعْلِ الْمَتْرُوكِ إِظْهَارُهُ مِنَ الْمَصَادِرِ فِي غَيْرِ الدُّعَاءِ، مِنْ ذَلِكَ قَوْلُكُ حَمْدًا
156
وَشُكْرًا لَا كُفْرًا وَعَجَبًا، فَإِنَّمَا يَنْتَصِبُ هَذَا عَلَى إِضْمَارِ الْفِعْلِ كَأَنَّكَ قُلْتَ أَحْمَدُ اللَّهَ حَمْدًا وَإِنَّمَا اخْتُزِلَ الْفِعْلُ هَاهُنَا لِأَنَّهُمْ جَعَلُوا هَذَا بَدَلًا مِنَ اللَّفْظِ بِالْفِعْلِ كَمَا فَعَلُوا ذَلِكَ فِي بَابِ الدُّعَاءِ وَقَدْ جَاءَ بَعْضُ هَذَا رَفْعًا يُبْتَدَأُ بِهِ ثُمَّ يُبْنَى عَلَيْهِ (أَيْ يُخْبَرُ عَنْهُ) ثُمَّ قَالَ بَعْدَ بَابٍ آخَرَ: هَذَا بَابٌ يُخْتَارُ فِيهِ أَنْ تَكُونَ الْمَصَادِرُ مُبْتَدَأَةً مَبْنِيًّا عَلَيْهَا مَا بَعْدَهَا، وَذَلِكَ قَوْلُكَ الْحَمْدُ لِلَّهِ،
وَالْعَجَبُ لَكَ، وَالْوَيْلُ لَهُ، وَإِنَّمَا اسْتَحَبُّوا الرَّفْعَ فِيهِ لِأَنَّهُ صَارَ مَعْرِفَةً وَهُوَ خَبَرٌ (أَيْ غَيْرُ إِنْشَاءٍ) فَقَوِيَ فِي الِابْتِدَاءِ (أَيْ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ خَبَرًا لَا دُعَاءً وَكَانَ مَعْرِفَةً بِأَلْ تَهَيَّأَتْ فِيهِ أَسْبَابُ الِابْتِدَاءِ لِأَنَّ كَوْنَهُ فِي معنى الْإِخْبَار يهّيىء جَانِبَ الْمَعْنَى لِلْخَبَرِيَّةِ وَكَوْنَهَ مَعْرِفَةً يُصَحِّحُ أَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً) بِمَنْزِلَةِ عَبْدِ اللَّهِ، وَالرَّجُلِ، وَالَّذِي تَعْلَمُ (مِنَ الْمَعَارِفِ) لِأَنَّ الِابْتِدَاءَ إِنَّمَا هُوَ خَبَرٌ وَأَحْسَنُهُ إِذَا اجْتَمَعَ مَعْرِفَةٌ وَنَكِرَةٌ أَن تبدأ بالأعرف وَهُوَ أَصْلُ الْكَلَامِ. وَلَيْسَ كُلُّ حَرْفٍ (أَيْ تَرْكِيبٍ) يُصْنَعُ بِهِ ذَاكَ، كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ حَرْفٍ (أَيْ كَلِمَةٍ مِنْ هَذِهِ الْمَصَادِرِ) يَدْخُلُ فِيهِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ، فَلَوْ قُلْتَ السَّقْيَ لَكَ وَالرَّعْيَ لَكَ لَمْ يَجُزْ (يَعْنِي يُقْتَصَرُ فِيهِ عَلَى السَّمَاعِ).
وَاعْلَمْ أَنَّ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَإِنِ ابْتَدَأْتَهُ فَفِيهِ مَعْنَى الْمَنْصُوبِ وَهُوَ بَدَلٌ مِنَ اللَّفْظِ بِقَوْلِكَ أَحْمَدُ اللَّهَ. وَسَمِعْنَا نَاسًا مِنَ الْعَرَبِ كَثِيرًا يَقُولُونَ: التُّرَابَ لَكَ وَالْعَجَبَ لَكَ، فَتَفْسِيرُ نَصْبِ هَذَا كَتَفْسِيرِهِ حَيْثُ كَانَ نَكِرَةً، كَأَنَّكَ قُلْتُ حَمْدًا وَعَجَبًا، ثمَّ جِئْت بلك لِتُبَيِّنَ مَنْ تَعْنِي وَلَمْ تَجْعَلْهُ مَبْنِيًّا عَلَيْهِ فَتَبْتَدِئَهُ». انْتَهَى كَلَامُ سِيبَوَيْهِ بِاخْتِصَارٍ. وَإِنَّمَا جَلَبْنَاهُ هُنَا لِأَنَّهُ أَفْصَحُ كَلَامٍ عَنْ أَطْوَارِ هَذَا الْمَصْدَرِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ وَاسْتِعْمَالِهِمْ، وَهُوَ الَّذِي أَشَارَ لَهُ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» بِقَوْلِهِ: «وَأَصْلُهُ النَّصْبُ بِإِضْمَارِ فِعْلِهِ عَلَى أَنَّهُ مِنَ الْمَصَادِرِ الَّتِي يَنْصِبُهَا الْعَرَبُ بِأَفْعَالٍ مُضْمَرَةٍ فِي مَعْنَى الْإِخْبَارِ كَقَوْلِهِمْ شُكْرًا، وَكُفْرًا، وَعَجَبًا، يُنْزِلُونَهَا مَنْزِلَةَ أَفْعَالِهَا وَيَسُدُّونَ بِهَا مَسَدَّهَا، وَلِذَلِكَ لَا يَسْتَعْمِلُونَهَا مَعَهَا وَالْعُدُولُ بِهَا عَنِ النَّصْبِ إِلَى الرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاءِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى ثَبَاتِ الْمَعْنَى» إِلَخْ.
وَمِنْ شَأْنِ بُلَغَاءِ الْعَرَبِ أَنَّهُمْ لَا يَعْدِلُونَ عَنِ الْأَصْلِ إِلَّا وَهُمْ يَرْمُونَ إِلَى غَرَضٍ عَدَلُوا لِأَجْلِهِ، وَالْعُدُولُ عَنِ النَّصْبِ هُنَا إِلَى الرَّفْعِ لِيَتَأَتَّى لَهُمُ الدَّلَالَةُ عَلَى الدَّوَامِ وَالثَّبَاتِ بِمَصِيرِ الْجُمْلَةِ اسْمِيَّةً وَالدَّلَالَةُ عَلَى الْعُمُومِ الْمُسْتَفَادِ فِي الْمَقَامِ مِنْ أَلِ الْجِنْسِيَّةِ، وَالدَّلَالَةُ عَلَى الِاهْتِمَامِ الْمُسْتَفَادِ مِنَ التَّقْدِيمِ. وَلَيْسَ وَاحِدٌ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ بِمُمْكِنِ الِاسْتِفَادَةِ لَوْ بَقِيَ الْمَصْدَرُ مَنْصُوبًا إِذِ النَّصْبُ يَدُلُّ عَلَى الْفِعْلِ الْمُقَدَّرِ وَالْمُقَدَّرُ كَالْمَلْفُوظِ فَلَا تَكُونُ الْجُمْلَةُ اسْمِيَّةً إِذِ الِاسْمُ فِيهَا نَائِبٌ
157
عَنِ الْفِعْلِ فَهُوَ يُنَادِي عَلَى تَقْدِيرِ الْفِعْلِ فَلَا يَحْصُلُ الدَّوَامُ. وَلِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ مَعَهُ اعْتِبَارُ التَّقْدِيمِ فَلَا يَحْصُلُ الِاهْتِمَامُ. وَلِأَنَّهُ وَإِنْ صَحَّ اجْتِمَاعُ الْأَلِفِ وَاللَّامِ مَعَ النصب كَمَا قرىء بِذَلِكَ وَهِيَ لُغَةُ تَمِيمٍ كَمَا قَالَ سِيبَوَيْهِ فَالتَّعْرِيفُ حِينَئِذٍ لَا يَكُونُ دَالًّا عَلَى عُمُومِ الْمَحَامِدِ لِأَنَّهُ إِنْ قُدِّرَ الْفِعْلُ أَحْمَدُ بِهَمْزَةِ الْمُتَكَلِّمِ فَلَا يَعُمُّ إِلَّا تَحْمِيدَاتِ الْمُتَكَلِّمِ دُونَ تَحْمِيدَاتِ جَمِيعِ النَّاسِ، وَإِنْ قُدِّرَ الْفِعْلُ نَحْمَدُ وَأُرِيدَ بِالنُّونِ جَمِيعُ الْمُؤْمِنِينَ بِقَرِينَةِ اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ وَبِقَرِينَةِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ فَإِنَّمَا يَعُمُّ مَحَامِدَ الْمُؤْمِنِينَ أَوْ مَحَامِدَ الْمُوَحِّدِينَ كُلِّهِمْ، كَيْفَ وَقَدْ حَمِدَ أَهْلُ الْكِتَابِ اللَّهَ تَعَالَى وَحَمِدَهُ الْعَرَبُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ. قَالَ أُمَيَّةُ بْنُ
أَبِي الصَّلْتِ:
الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا لَا انْقِطَاعَ لَهُ فَلَيْسَ إِحْسَانُهُ عَنَّا بِمَقْطُوعِ
أَمَّا إِذَا صَارَ الْحَمْدُ غَيْرَ جَارٍ عَلَى فِعْلٍ فَإِنَّهُ يَصِيرُ الْإِخْبَارُ عَنْ جِنْسِ الْحَمْدِ بِأَنَّهُ ثَابِتٌ لِلَّهِ فَيَعُمُّ كُلَّ حَمْدٍ كَمَا سَيَأْتِي. فَهَذَا مَعْنَى مَا نُقِلَ عَنْ سِيبَوَيْهِ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ الَّذِي يَرْفَعُ الْحَمْدَ يُخْبِرُ أَنَّ الْحَمْدَ مِنْهُ وَمِنْ جَمِيعِ الْخَلْقِ وَالَّذِي يَنْصِبُ يُخْبِرُ أَنَّ الْحَمْدَ مِنْهُ وَحْدَهُ لِلَّهِ تَعَالَى.
وَاعْلَمْ أَنَّ قِرَاءَةَ النَّصْبِ وَإِنْ كَانَتْ شَاذَّةً إِلَّا أَنَّهَا مُجْدِيَةٌ هُنَا لِأَنَّهَا دَلَّتْ عَلَى اعْتِبَارٍ عَرَبِيٍّ فِي تَطَوُّرِ هَذَا التَّرْكِيبِ الْمَشْهُورِ، وَأَنَّ بَعْضَ الْعَرَبِ نَطَقُوا بِهِ فِي حَالِ التَّعْرِيفِ وَلَمْ يَنْسَوْا أَصْلَ الْمَفْعُولِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ. فَقَدْ بَانَ أَنَّ قَوْلَهُ الْحَمْدُ لِلَّهِ أَبْلَغُ مِنَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بِالنَّصْبِ، وَأَنَّ الْحَمْدُ لِلَّهِ بِالنَّصْبِ وَالتَّعْرِيفِ أَبْلَغُ مِنْ حَمْدًا لِلَّهِ بِالتَّنْكِيرِ. وَإِنَّمَا كَانَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بِالرَّفْعِ أَبْلَغَ لِأَنَّهُ دَالٌّ عَلَى الدَّوَامِ وَالثَّبَاتِ. قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» :«إِنَّ الْعُدُولَ عَنِ النَّصْبِ إِلَى الرَّفْعِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى ثَبَاتِ الْمَعْنَى وَاسْتِقْرَارِهِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ [الذاريات: ٢٥] رَفْعُ السَّلَامِ الثَّانِي لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَيَّاهُمْ بِتَحِيَّةٍ أَحْسَنَ مِنْ تَحِيَّتِهِمُ» اهـ.
فَإِنْ قُلْتَ وَقَعَ الِاهْتِمَامُ بِالْحَمْدِ مَعَ أَنَّ ذِكْرَ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى أَهَمُّ فَكَانَ الشَّأْنُ تَقْدِيمَ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِبْقَاءَ الْحَمْدِ غَيْرَ مُهْتَمٍّ بِهِ حَتَّى لَا يَلْجَأَ إِلَى تَغْيِيرِهِ عَنِ النَّصْبِ إِلَى الرَّفْعِ لِأَجْلِ هَذَا الِاهْتِمَامِ، قُلْتُ قُدِّمَ الْحَمْدُ لِأَنَّ الْمَقَامَ هُنَا مَقَامُ الْحَمْدِ إِذْ هُوَ ابْتِدَاءُ أَوْلَى النِّعَمِ بِالْحَمْدِ وَهِيَ نِعْمَةُ تَنْزِيلِ الْقُرْآنِ الَّذِي فِيهِ نَجَاحُ الدَّارَيْنِ، فَتِلْكَ الْمِنَّةُ مِنْ أَكْبَرِ مَا يُحْمَدُ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ جَلَائِلِ صِفَاتِ الْكَمَالِ لَا سِيَّمَا وَقَدِ اشْتَمَلَ الْقُرْآنُ عَلَى كَمَالِ الْمَعْنَى وَاللَّفْظِ وَالْغَايَةِ فَكَانَ خُطُورُهُ عِنْدَ ابْتِدَاءِ سَمَاعِ إِنْزَالِهِ وَابْتِدَاءِ تِلَاوَتِهِ مُذَكِّرًا بِمَا لِمُنْزِلِهِ تَعَالَى مِنَ الصِّفَاتِ الْجَمِيلَةِ، وَذَلِكَ يُذَكِّرُ بِوُجُوبِ حَمْدِهِ وَأَنْ لَا يُغْفَلَ عَنْهُ فَكَانَ الْمَقَامُ مَقَامَ الْحَمْدِ لَا مَحَالَةَ، فَلِذَلِكَ قُدِّمَ وَأُزِيلُ عَنْهُ مَا يُؤْذِنُ بِتَأَخُّرِهِ لِمُنَافَاتِهُُِ
158
الِاهْتِمَامَ، ثُمَّ إِنَّ ذَلِكَ الِاهْتِمَامَ تَأَتَّى بِهِ اعْتِبَارُ الِاهْتِمَامِ بِتَقْدِيمِهِ أَيْضًا عَلَى ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى اعْتِدَادًا بِأَهَمِّيَّةِ الْحَمْدِ الْعَارِضَةِ فِي الْمَقَامِ وَإِنْ ذِكْرُ اللَّهِ أَهَمَّ فِي نَفْسِهِ لِأَنَّ الْأَهَمِّيَّةَ الْعَارِضَةَ تُقَدَّمُ عَلَى الْأَهَمِّيَّةِ الْأَصْلِيَّةِ لِأَنَّهَا أَمْرٌ يَقْتَضِيهِ الْمَقَامُ وَالْحَالُ وَالْآخَرُ يَقْتَضِيهِ الْوَاقِعُ، وَالْبَلَاغَةُ هِيَ الْمُطَابَقَةُ لِمُقْتَضَى الْحَالِ وَالْمَقَامِ، وَلِأَنَّ مَا كَانَ الِاهْتِمَامُ بِهِ لِعَارِضٍ هُوَ الْمُحْتَاجُ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى عَارِضِهِ إِذْ قَدْ يَخْفَى، بِخِلَافِ الْأَمْرِ الْمَعْرُوفِ الْمُقَرَّرِ فَلَا فَائِدَةَ فِي التَّنْبِيهِ عَلَيْهِ بَلْ وَلَا يُفِيتُهُ التَّنْبِيهُ عَلَى غَيْرِهِ.
فَإِنْ قُلْتَ كَيْفَ يَصِحُّ كَوْنُ تَقْدِيمِ الْحَمْدِ وَهُوَ مُبْتَدَأٌ مُؤْذِنًا بِالِاهْتِمَامِ مَعَ أَنَّهُ الْأَصْلُ،
وَشَأْنُ التَّقْدِيمِ الْمُفِيدِ لِلِاهْتِمَامِ هُوَ تَقْدِيمُ مَا حَقُّهُ التَّأْخِيرِ؟
قُلْتُ لَوْ سَلِمَ ذَلِكَ فَإِنَّ مَعْنَى تَقْدِيمِهِ هُوَ قَصْدُ الْمُتَكَلِّمِ لِلْإِتْيَانِ بِهِ مُقَدَّمًا مَعَ إِمْكَانِ الْإِتْيَانِ بِهِ مُؤَخَّرًا لِأَنَّ لِلْبُلَغَاءِ صِيغَتَيْنِ مُتَعَارَفَتَيْنِ فِي حَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى إِحْدَاهُمَا الْحَمْدُ لِلَّهِ كَمَا فِي الْفَاتِحَة وَالْأُخْرَى فَلِلَّهِ كَمَا فِي سُورَةِ الْجَاثِيَةِ [٣٦].
وَأَمَّا قَصْدُ الْعُمُومِ فَسَيَتَّضِحُ عِنْدَ بَيَانِ مَعْنَى التَّعْرِيفِ فِيهِ.
وَالتَّعْرِيفُ فِيهِ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ لِأَنَّ الْمَصْدَرَ هُنَا فِي الْأَصْلِ عِوَضٌ عَنِ الْفِعْلِ فَلَا جَرَمَ أَنْ يَكُونَ الدَّالُّ عَلَى الْفِعْلِ وَالسَّادُّ مَسَدَّهُ دَالًّا عَلَى الْجِنْسِ فَإِذَا دَخَلَ عَلَيْهِ اللَّامُ فَهُوَ لِتَعْرِيفِ مَدْلُولِهِ لِأَنَّ اللَّامَ تَدُلُّ عَلَى التَّعْرِيفِ لِلْمُسَمَّى فَإِذَا كَانَ الْمُسَمَّى جِنْسًا فَاللَّامُ تَدُلُّ عَلَى تَعْرِيفِهِ. وَمَعْنَى تَعْرِيفِ الْجِنْسِ أَنَّ هَذَا الْجِنْسَ هُوَ مَعْرُوفٌ عِنْدَ السَّامِعِ فَإِذَا قُلْتَ الْحَمْدُ لِلَّهِ أَوِ الْعَجَبُ لَكَ فَكَأَنَّكَ تُرِيدُ أَنَّ هَذَا الْجِنْسَ مَعْرُوفٌ لَدَيْكَ وَلَدَى مُخَاطَبِكَ لَا يَلْتَبِسُ بِغَيْرِهِ كَمَا أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ الرَّجُلُ وَأَرَدْتَ مُعَيَّنًا فِي تَعْرِيفِ الْعَهْدِ النَّحْوِيِّ فَإِنَّكَ تُرِيدُ أَنَّ هَذَا الْوَاحِدَ مِنَ النَّاسِ مَعْرُوفٌ بَيْنَكَ وَبَيْنَ مُخَاطَبِكَ فَهُوَ فِي الْمَعْنَى كَالنَّكِرَةِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ تَعْرِيفَ الْجِنْسِ لَيْسَ مَعَهُ كَبِيرُ مَعْنًى إِذْ تَعَيُّنُ الْجِنْسِ مِنْ بَيْنِ بَقِيَّةِ الْأَجْنَاسِ حَاصِلٌ بِذِكْرِ لَفْظَهِ الدَّالِّ عَلَيْهِ لُغَةً وَهُوَ كَافٍ فِي عَدَمِ الدَّلَالَةِ عَلَى غَيْرِهِ، إِذْ لَيْسَ غَيْرُهُ مِنَ الْأَجْنَاسِ بِمُشَارِكٍ لَهُ فِي اللَّفْظِ وَلَا مُتَوَهَّمٍ دُخُولُهُ مَعَهُ فِي ذِهْنِ الْمُخَاطَبِ بِخِلَافِ تَعْرِيفِ الْعَهْدِ الْخَارِجِيِّ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى وَاحِدٍ مُعَيَّنٍ بَيْنَكَ وَبَيْنَ مُخَاطَبِكَ مِنْ بَيْنِ بَقِيَّةِ أَفْرَادِ الْجِنْسِ الَّتِي يَشْمَلُهَا اللَّفْظُ، فَلَا يُفِيدُ هَذَا التَّعْرِيفُ أَعْنِي تَعْرِيفَ الْجِنْسِ إِلَّا تَوْكِيدَ اللَّفْظِ وَتَقْرِيرَهُ وَإِيضَاحَهُ لِلسَّامِعِ لِأَنَّكَ
159
لَمَّا جَعَلْتَهُ مَعْهُودًا فَقَدْ دَلَلْتَ عَلَى أَنَّهُ وَاضِحٌ ظَاهِرٌ، وَهَذَا يَقْتَضِي الِاعْتِنَاءَ بِالْجِنْسِ وَتَقْرِيبِهِ مِنَ الْمَعْرُوفِ الْمَشْهُورِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ صَاحِبِ «الْكَشَّافِ» :«وَهُوَ نَحْوُ التَّعْرِيفِ فِي أَرْسَلَهَا الْعِرَاكَ» (١)
وَمَعْنَاهُ الْإِشَارَةُ إِلَى مَا يَعْرِفُهُ كُلُّ أَحَدٍ مِنْ أَنَّ الْحَمْدَ مَا هُوَ وَالْعِرَاكَ مَا هُوَ مِنْ بَيْنِ أَجْنَاسِ الْأَفْعَالِ» وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ كَلَامِ سِيبَوَيْهِ.
وَلَيْسَتْ لَامُ التَّعْرِيفِ هُنَا لِلِاسْتِغْرَاقِ لِمَا عَلِمْتَ أَنَّهَا لَامُ الْجِنْسِ وَلِذَلِكَ قَالَ صَاحِبُ
«الْكَشَّافِ» :«وَالِاسْتِغْرَاقُ الَّذِي تَوَهَّمَهُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَهْمٌ مِنْهُمْ» غَيْرَ أَنَّ مَعْنَى الِاسْتِغْرَاقِ حَاصِلٌ هُنَا بِالْمِثَالِ لِأَنَّ الْحُكْمَ بِاخْتِصَاصِ جِنْسِ الْحَمْدِ بِهِ تَعَالَى لِوُجُودِ لَامِ تَعْرِيفِ الْجِنْسِ فِي قَوْلِهِ: الْحَمْدُ وَلَامِ الِاخْتِصَاصِ فِي قَوْلِهِ: لِلَّهِ يَسْتَلْزِمُ انْحِصَارَ أَفْرَادِ الْحَمْدِ فِي التَّعَلُّقِ بِاسْمِ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ إِذَا اخْتَصَّ الْجِنْسُ اخْتَصَّتِ الْأَفْرَادُ إِذْ لَوْ تَحَقَّقَ فَرَدٌ مِنْ أَفْرَادِ الْحَمْدِ لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى لَتَحَقَّقَ الْجِنْسُ فِي ضِمْنِهِ فَلَا يَتِمُّ مَعْنَى اخْتِصَاصِ الْجِنْسِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ لَامِ الِاخْتِصَاصِ الدَّاخِلَةِ عَلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ، ثُمَّ هَذَا الِاخْتِصَاصُ اخْتِصَاصٌ ادِّعَائِيٌّ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْقَصْرِ الِادِّعَائِيِّ لِلْمُبَالَغَةِ.
وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لِلَّهِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلِاخْتِصَاصِ عَلَى أَنَّهُ اخْتِصَاصٌ ادِّعَائِيٌّ كَمَا مَرَّ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَامَ التَّقْوِيَةِ قُوَّتْ تَعَلُّقَ الْعَامِلِ بِالْمَفْعُولِ لِضَعْفِ الْعَامِلِ بِالْفَرْعِيَّةِ وَزَادَهُ التَّعْرِيفُ بِاللَّامِ ضَعْفًا لِأَنَّهُ أَبْعَدَ شَبَهَهُ بِالْأَفْعَالِ، وَلَا يَفُوتُ مَعْنَى الِاخْتِصَاصِ لِأَنَّهُ قَدِ اسْتُفِيدَ مِنْ تَعْرِيفِ الْجُزْأَيْنِ.
هَذَا وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي أَنَّ جُمْلَةَ (الْحَمْدِ) هَلْ هِيَ خَبَرٌ أَوْ إِنْشَاءٌ؟ فَإِنَّ لِذَلِكَ مَزِيدَ تَعَلُّقٍ بِالتَّفْسِيرِ لِرُجُوعِهِ إِلَى الْمَعْنَى بِقَوْلِ الْقَائِلِ (الْحَمْدُ لِلَّهِ).
وَجِمَاعُ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْإِنْشَاءَ قَدْ يَحْصُلُ بِنَقْلِ الْمُرَكَّبِ مِنَ الْخَبَرِيَّةِ إِلَى الْإِنْشَاءِ وَذَلِكَ كَصِيَغِ الْعُقُودِ مِثْلَ بِعْتُ وَاشْتَرَيْتُ، وَكَذَلِكَ أَفْعَالُ الْمَدْحِ وَالذَّمِّ وَالرَّجَاءِ كَعَسَى وَنِعْمَ وَبِئْسَ وَهَذَا الْأَخِيرُ قِسْمَانِ مِنْهُ مَا اسْتُعْمِلَ فِي الْإِنْشَاءِ مَعَ بَقَاءِ اسْتِعْمَالِهِ فِي الْخَبَرِ وَمِنْهُ مَا خُصَّ بِالْإِنْشَاءِ فَالْأَوَّلُ كَصِيَغِ الْعُقُودِ فَإِنَّهَا تُسْتَعْمَلُ أَخْبَارًا تَقُولُ بِعْتُ الدَّارَ لِزَيْدٍ الَّتِي أَخْبَرْتُكَ بِأَنَّهُ سَاوَمَنِي إِيَّاهَا
_________
(١) إِشَارَة إِلَى بَيت لبيد:
فأرسلها العراك وَلم يذدها وَلم يشفق على نغص الدّخال
يصف حمَار وَحش. وَالضَّمِير الْمُؤَنَّث للأتن، أَي أطلقها الْحمار أَمَامه إِلَى المَاء فَانْطَلَقت متزاحمة. والنغص: الكمد. والدخال: دُخُول الدَّابَّة بَين الدَّوَابّ لتشرب.
160
فَهَذَا خَبَرٌ، وَتَقُولُ بِعْتُ الدَّارَ لِزَيْدٍ أَوْ بِعْتُكَ الدَّارَ بِكَذَا فَهَذَا إِنْشَاءٌ بِقَرِينَةِ أَنَّهُ جَاءَ لِلْإِشْهَادِ أَوْ بِقَرِينَةِ إِسْنَادِ الْخَبَرِ لِلْمُخَاطَبِ مَعَ أَنَّ الْمُخْبَرَ عَنْهُ حَالٌ مِنْ أَحْوَالِهِ، وَالثَّانِي كَنِعْمَ وَعَسَى.
فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي أَنَّ جُمْلَةَ الْحَمْدُ لِلَّهِ هَلْ هِيَ إِخْبَارٌ عَنْ ثُبُوتِ الْحَمْدُ لِلَّهِ أَوْ هِيَ إِنْشَاءُ ثَنَاءٍ عَلَيْهِ إِلَى مَذْهَبَيْنِ، فَذَهَبَ فَرِيقٌ إِلَى أَنَّهَا خَبَرٌ، وَهَؤُلَاءِ فَرِيقَانِ مِنْهُمْ مَنْ زَعَمَ أَنَّهَا خَبَرٌ بَاقٍ عَلَى الْخَبَرِيَّةِ وَلَا إِشْعَارَ فِيهِ بِالْإِنْشَائِيَّةِ، وَأُورِدَ عَلَيْهِ أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ بِهَا لَا يَكُونُ حَامِدًا لِلَّهِ تَعَالَى مَعَ أَنَّ الْقَصْدَ أَنَّهُ يُثْنِي وَيَحْمَدُ اللَّهَ تَعَالَى، وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْخَبَرَ بِثُبُوتِ الْحَمْدِ لَهُ تَعَالَى اعْتِرَافٌ بِأَنَّهُ مَوْصُوفٌ بِالْجَمِيلِ إِذِ الْحَمْدُ هُوَ عَيْنُ الْوَصْفِ بِالْجَمِيلِ، وَيَكْفِي أَنْ يَحْصُلَ هَذَا الْوَصْفُ مِنَ النَّاسِ وَيَنْقُلَهُ الْمُتَكَلِّمُ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ أَيْضًا بِأَنَّ الْمُخْبِرَ دَاخِلٌ فِي عُمُومِ خَبَرِهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ مِنْ أَهْلِ أُصُولِ الْفِقْهِ. وَأُجِيبَ أَيْضًا
بِأَنَّ كَوْنَ الْمُتَكَلِّمِ حَامِدًا قَدْ يَحْصُلُ بِالِالْتِزَامِ مِنَ الْخَبَرِ يُرِيدُونَ أَنَّهُ لَازِمٌ عُرْفِيٌّ لِأَنَّ شَأْنَ الْأَمْرِ الَّذِي تَضَافَرَ عَلَيْهِ النَّاسُ قَدِيمًا أَنْ يَقْتَدِيَ بِهِمْ فِيهِ غَيْرُهُمْ مِنْ كُلِّ مَنْ عَلِمَهُ، فَإِخْبَارُ الْمُتَكَلِّمِ بِأَنَّهُ عَلِمَ ذَلِكَ يَدُلُّ عُرْفًا عَلَى أَنَّهُ مُقْتَدٍ بِهِمْ فِي ذَلِكَ هَذَا وَجْهُ اللُّزُومِ، وَقَدْ خَفِيَ عَلَى كَثِيرٍ أَيْ فَيَكُونُ مِثْلَ حُصُولِ لَازِمِ الْفَائِدَةِ مِنَ الْخَبَرِ الْمُقَرَّرَةٍ فِي عِلْمِ الْمَعَانِي، مِثْلَ قَوْلِكَ سَهِرْتَ اللَّيْلَةَ وَأَنْتَ تُرِيدُ أَنَّكَ عَلِمْتَ بِسَهَرِهِ، فَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ إِنْشَاءٌ لِأَنَّ التَّقْدِيرَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ يُخْبِرُ عَنْ كَوْنِهِ حَامِدًا كَمَا يُخْبِرُ عَنْ كَوْنِ جَمِيعِ النَّاسِ حَامِدِينَ فَهِيَ خَبَرٌ لَا إِنْشَاءٌ وَالْمُسْتَفَادُ مِنْهَا بِطَرِيقِ اللُّزُومِ مَعْنًى إِخْبَارِيٌّ أَيْضًا. وَيُرَدُّ على هَذَا التَّقْرِير أَيْضًا أَنَّ حَمْدَ الْمُتَكَلِّمِ يَصِيرُ غَيْرَ مَقْصُودٍ لِذَاتِهِ بَلْ حَاصِلًا بِالتَّبَعِ مَعَ أَنَّ الْمَقَامَ مَقَامَ حَمْدِ الْمُتَكَلِّمِ لَا حَمْدِ غَيْرِهِ مِنَ النَّاسِ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمَعْنَى الْمُطَابَقِيَّ قَدْ يُؤْتَى بِهِ لِأَجْلِ الْمَعْنَى الِالْتِزَامِيِّ لِأَنَّهُ وَسِيلَةٌ لَهُ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُمْ طَوِيلُ النَّجَادِ وَالْمُرَادُ طُولُ الْقَامَةِ فَإِنَّ طُولَ النَّجَادِ أَتَى بِهِ لِيَدُلَّ عَلَى مَعْنَى طُولِ الْقَامَةِ.
وَذَهَبَ فَرِيقٌ ثَانٍ إِلَى أَنَّ جُمْلَةَ الْحَمْدُ لِلَّهِ هِيَ خَبَرٌ لَا مَحَالَةَ إِلَّا أَنَّهُ أُرِيدَ مِنْهُ الْإِنْشَاءُ مَعَ اعْتِبَارِ الْخَبَرِيَّةِ كَمَا يُرَادُ مِنَ الْخَبَرِ إِنْشَاءُ التَّحَسُّرِ وَالتَّحَزُّنِ فِي نَحْوِ: إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى [آل عمرَان: ٣٦] وَقَوْلُ جَعْفَرِ بْنِ عُلْبَةَ الْحَارِثِيِّ:
هَوَايَ مَعَ الرَّكْبِ الْيَمَانِيِّنَ مُصْعِدُ
فَيَكُونُ الْمَقْصِدُ الْأَصْلِيُّ هُوَ الْإِنْشَاءُ وَلَكِنَّ الْعُدُولَ إِلَى الْإِخْبَارِ لِمَا يَتَأَتَّى بِوَاسِطَةِ الْإِخْبَارِ مِنَ الدّلَالَة على استغراق وَالِاخْتِصَاصِ وَالدَّوَامِ وَالثَّبَاتِ وَوَجْهُ التَّلَازُمِ بَيْنَ الْإِخْبَارِ عَنْ حَمْدِ النَّاسِ وَبَيْنَ إِنْشَاءِ الْحَمْدِ وَاضِحٌ مِمَّا عَلِمْتَهُ فِي وَجْهِ التَّلَازُمِ عَلَى التَّقْرِيرِ الْأَوَّلِ، بَلْ هُوَ هُنَا أَظْهَرُ لِأَنَّ الْمُخْبِرَ عَنْ حَمْدِ النَّاسِ
161
لِلَّهِ تَعَالَى لَا جرم أَنه منشىء ثَنَاء عَلَيْهِ بِذَلِكَ، وَكَوْنُ الْمَعْنَى الِالْتِزَامِيِّ فِي الْكِنَايَةِ هُوَ الْمَقْصُودُ دُونَ الْمَعْنَى الْمُطَابَقِيِّ أَظْهَرَ مِنْهُ فِي اعْتِبَارِ الْخَبَرِيَّةِ الْمَحْضَةِ لِمَا عُهِدَ فِي الْكِنَايَةِ مِنْ أَنَّهَا لَفْظٌ أُرِيدَ بِهِ لَازِمُ مَعْنَاهُ مَعَ جَوَازِ إِرَادَةِ الْأَصْلِ مَعَهُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى الْأَصْلِيَّ إِمَّا غَيْرُ مُرَادٍ أَوْ مُرَادٌ تَبَعًا لِأَنَّ مَعَ تَدْخُلُ عَلَى الْمَتْبُوعِ.
الْمَذْهَبُ الثَّانِي أَنَّ جُمْلَةَ الْحَمْدُ لِلَّهِ إِنْشَاءٌ مَحْضٌ لَا إِشْعَارَ لَهُ بِالْخَبَرِيَّةِ، عَلَى أَنَّهَا مِنَ الصِّيَغِ الَّتِي نَقَلَتْهَا الْعَرَبُ مِنَ الْإِخْبَارِ إِلَى إِنْشَاءِ الثَّنَاءِ كَمَا نَقَلَتْ صِيَغَ الْعُقُودِ وَأَفْعَالَ الْمَدْحِ وَالذَّمِّ أَيْ نَقْلًا مَعَ عَدَمِ إِمَاتَةِ الْمَعْنَى الْخَبَرِيِّ فِي الِاسْتِعْمَالِ، فَإِنَّكَ قَدْ تَقُولُ الْحَمْدُ لِلَّهِ جَوَابًا لِمَنْ قَالَ لِمَنِ الْحَمْدُ أَوْ مَنْ أَحْمَدُ وَلَكِنَّ تَعَهُّدَ الْمَعْنَى الْأَصْلِيِّ ضَعِيفٌ فَيَحْتَاجُ إِلَى الْقَرِينَةِ. وَالْحَقُّ الَّذِي لَا مَحِيدَ عَنْهُ أَنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ خَبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِنْشَاءِ فَالْقَصْدُ هُوَ
الْإِنْشَائِيَّةُ لَا مَحَالَةَ، وَعُدِّلَ إِلَى الْخَبَرِيَّةِ لِتَحْمِلَ جُمْلَةُ الْحَمْدِ مِنَ الْخُصُوصِيَّاتِ مَا يُنَاسِبُ جَلَالَةَ الْمَحْمُودِ بِهَا مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى الدَّوَامِ وَالثَّبَاتِ وَالِاسْتِغْرَاقِ وَالِاخْتِصَاصِ وَالِاهْتِمَامِ، وَشَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لَا يُمْكِنُ حُصُولُهُ بِصِيغَةِ إِنْشَاءٍ نَحْوَ حَمْدًا لِلَّهِ أَو أَحْمد لله حَمْدًا وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى اعْتِبَارِ الْعَرَبِ إِيَّاهَا إِنْشَاءً لَا خَبَرًا قَوْلُ ذِي الرُّمَّةِ:
وَلَمَّا جَرَتْ فِي الْجَزْلِ جَرْيًا كَأَنَّهُ سَنَا الْفَجْرِ أَحْدَثْنَا لِخَالِقِهَا شُكْرَا (١)
فَعَبَّرَ عَنْ ذِكْرِ لَفْظِ الْحَمْدِ أَوِ الشُّكْرِ بِالْإِحْدَاثِ، وَالْإِحْدَاثُ يُرَادِفُ الْإِنْشَاءَ لُغَةً فَقَوْلُهُ أَحْدَثْنَا خَبَرٌ حَكَى بِهِ مَا عَبَّرَ عَنْهُ بِالْإِحْدَاثِ وَهُوَ حَمْدُهُ الْوَاقِعُ حِينَ الْتِهَابِهَا فِي الْحَطَبِ.
وَاللَّهُ هُوَ اسْمُ الذَّاتِ الْوَاجِبُ الْوُجُودِ الْمُسْتَحِقُّ لِجَمِيعِ الْمَحَامِدِ. وَأَصْلُ هَذَا الِاسْمِ الْإِلَهُ بِالتَّعْرِيفِ وَهُوَ تَعْرِيف إلاه الَّذِي هُوَ اسْمُ جِنْسٍ لِلْمَعْبُودِ مُشْتَقٌّ مِنْ أَلَهَ بِفَتْحِ اللَّامِ بِمَعْنَى عَبَدَ، أَوْ مِنْ أَلِهَ بِكَسْرِ اللَّامِ بِمَعْنَى تَحَيَّرَ أَوْ سَكَنَ أَوْ فَزِعَ أَوْ وُلِعَ مِمَّا يَرْجِعُ إِلَى مَعْنًى هُوَ مَلْزُومٌ لِلْخُضُوعِ وَالتَّعْظِيمِ فَهُوَ فِعَالٌ بِكَسْرِ الْفَاءِ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ مِثْلَ كِتَابٍ، أَطْلَقَهُ الْعَرَبُ عَلَى كُلِّ مَعْبُودٍ مِنْ أَصْنَامِهِمْ لِأَنَّهُمْ يَرَوْنَهَا حَقِيقَةً بِالْعِبَادَةِ وَلِذَلِكَ جَمَعُوهُ عَلَى آلِهَةٍ بِوَزْنِ أَفْعِلَةٍ مَعَ تَخْفِيفِ الْهَمْزَةِ الثَّانِيَةِ مَدَّةً، وَأَحْسَبُ أَنَّ اسْمَهُ تَعَالَى تَقَرَّرَ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ قَبْلَ دُخُولُُِ
_________
(١) هُوَ من قصيدة لَهُ ذكر فِيهَا صِفَات النَّار بطريقة لغزية. وَقَبله:
فَلَمَّا بَدَت كفنتها وَهِي طفلة بطلساء لم تكمل ذِرَاعا وَلَا شبْرًا
وَقلت لَهُ ارفعها إِلَيْك فأحيها بروحك واقتته لَهَا قيتة قدرا
162
الْإِشْرَاكِ فِيهِمْ فَكَانَ أَصْلُ وَضْعِهِ دَالًّا عَلَى انْفِرَادِهِ بِالْأُلُوهِيَّةِ إِذْ لَا إِلَهَ غَيْرُهُ فَلِذَلِكَ صَارَ عَلَمًا عَلَيْهِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ قَبِيلِ الْعَلَمِ بِالْغَلَبَةِ بَلْ مِنْ قَبِيلِ الْعَلَمِ بِالِانْحِصَارِ مِثْلَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ فَلَا بِدَعَ فِي اجْتِمَاعِ كَوْنِهِ اسْمَ جِنْسٍ وَكَوْنِهِ عَلَمًا، وَلِذَلِكَ أَرَادُوا بِهِ الْمَعْبُودَ بِحَقٍّ رَدًّا عَلَى أَهْلِ الشِّرْكِ قَبْلَ دُخُولِ الشِّرْكِ فِي الْعَرَبِ وَإِنَّنَا لَمْ نَقِفْ عَلَى أَنَّ الْعَرَبَ أَطْلَقُوا الْإِلَهَ مُعَرَّفًا بِاللَّامِ مُفْرَدًا عَلَى أَحَدِ أَصْنَامِهِمْ وَإِنَّمَا يضيفون فَيَقُولُونَ إلاه بَنِي فُلَانٍ وَالْأَكْثَرُ أَنْ يَقُولُوا رَبُّ بَنِي فُلَانٍ أَوْ يَجْمَعُونَ كَمَا قَالُوا لِعَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَرْضُ الْآلِهَةِ، وَفِي حَدِيثِ فَتْحِ مَكَّةَ: «وَجَدَ رَسُولُ اللَّهِ الْبَيْتَ فِيهِ الْآلِهَةَ». فَلَمَّا اخْتَصَّ الْإِلَهُ بِالْإِلَهِ الْوَاحِدِ وَاجِبِ الْوُجُودِ اشْتَقُّوا لَهُ مِنَ اسْمِ الْجِنْسِ عَلَمًا زِيَادَةً فِي الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ الْحَقِيقُ بِهَذَا الِاسْمِ لِيَصِيرَ الِاسْمُ خَاصًّا بِهِ غَيْرَ جَائِزِ الْإِطْلَاقِ عَلَى غَيْرِهِ سُنَنِ الْأَعْلَامِ الشَّخْصِيَّةِ،
وَأَرَاهُمْ أَبْدَعُوا وَأَعْجَبُوا إِذْ جَعَلُوا عَلَمَ ذَاتِهِ تَعَالَى مُشْتَقًّا مِنَ اسْمِ الْجِنْسِ الْمُؤْذِنِ بِمَفْهُومِ الْأُلُوهِيَّةِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ ذَاتَهُ تَعَالَى لَا تستحضر عِنْد وَاضح الْعَلَمِ وَهُوَ النَّاطِقُ الْأَوَّلُ بِهَذَا الِاسْمِ مِنْ أَهْلِ اللِّسَانِ إِلَّا بِوَصْفِ الْأُلُوهِيَّةِ (١) وَتَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى أَوْلَى مَنْ يُؤَلَّهُ وَيُعْبَدُ لِأَنَّهُ خَالِقُ الْجَمِيعِ فَحَذَفُوا الْهَمْزَةَ مِنَ الْإِلَهِ لِكَثْرَةِ اسْتِعْمَالِ هَذَا اللَّفْظِ عِنْدَ الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ تَعَالَى كَمَا حَذَفُوا هَمْزَةَ الْأُنَاسِ فَقَالُوا النَّاسُ وَلِذَلِكَ أَظْهَرُوهَا فِي بَعْضِ الْكَلَامِ. قَالَ الْبَعِيثُ بْنُ حُرَيْثٍ (٢).
وَظَاهر لَهَا من يَابِس الشخت واستعن عَلَيْهَا الصَّفَا وَاجعَل يَديك لَهَا سترا
مَعَاذَ الْإِلَهِ أَنْ تَكُونَ كَظَبْيَةٍ وَلَا دُمْيَةٍ وَلَا عَقِيلَةِ رَبْرَبٍُُ
_________
(١) فَيكون وصف الألوهية طَرِيقا لاستحضار الذَّات الْمَقْصُودَة بالعلية وَلذَلِك لَا يَجْعَل الِاسْم الْعلم وَصفا قَالَ السَّيِّد فِي «شرح الْكَشَّاف» : الِاسْم قد يوضع لذات مُبْهمَة بِاعْتِبَار معنى يقوم بهَا فيتركب مَدْلُوله من صفة معنى وَمن ذَات مُبْهمَة فَيصح إِطْلَاق الِاسْم على كل متصف بِتِلْكَ الصّفة وَهَذَا يُسمى صفة وَلذَلِك الْمَعْنى الْمُعْتَبر فِيهِ يُسمى مصحح الْإِطْلَاق كالمعبود مثلا. وَقد يوضع لذات مُعينَة من غير مُلَاحظَة شَيْء من الْمعَانِي الْقَائِمَة بهَا وَهَذَا يُسمى اسْما لَا يشْتَبه بِالصّفةِ كإبل وَفرس، وَقد يوضع لذات مُعينَة ويلاحظ عِنْد الْوَضع معنى لَهُ نوع تعلق بهَا. وَذَلِكَ نَوْعَانِ:
الأول أَن يكون الْمَعْنى خَارِجا عَن الْمَوْضُوع لَهُ وَلكنه سَبَب باعث على تعْيين الِاسْم بإزائه كأحمر إِذا جعل علما لمولود فِيهِ حمرَة. النَّوْع الثَّانِي أَن يكون ذَلِك الْمَعْنى دَاخِلا فِي مَفْهُومه كأسماء الزَّمَان وَالْمَكَان وَهَذَانِ النوعان شَدِيدا الِاشْتِبَاه بِالصِّفَاتِ، ومعيار الْفرق أَنَّهُمَا يوصفان وَلَا يُوصف بهما اهـ يَعْنِي والإله من النَّوْع الأول من الْقسم الثَّالِث.
(٢) وَبعد الْبَيْت:
وَلكنهَا زَادَت على الْحسن كُله كمالا وَمن طيب على كل طيب
وَهَذَا من التَّنْزِيه على التَّشْبِيه وَهَذَا الشَّاعِر غير مولد كَمَا هُوَ ظَاهر كَلَام المعري الَّذِي نَقله الْخَطِيب التبريزي فِي «شَرحه على الحماسة».
163
كَمَا أَظْهَرُوا هَمْزَةَ الْأُنَاسِ فِي قَوْلِ عَبِيدِ بْنِ الْأَبْرَصِ الْأَسَدِيِّ:
إِنَّ الْمَنَايَا لَيَطَّلِعْ نَ عَلَى الْأُنَاسِ الْآمِنِينَ
وَنَزَلَ هَذَا اللَّفْظُ فِي طَوْرِهِ الثَّالِثِ مَنْزِلَةَ الْأَعْلَامِ الشَّخْصِيَّةِ فَتَصَرَّفُوا فِيهِ هَذَا التَّصَرُّفَ لِيَنْتَقِلُوا بِهِ إِلَى طَوْرٍ جَدِيدٍ فَيَجْعَلُوهُ مِثْلَ عَلَمٍ جَدِيدٍ، وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ مَسْلُوكَةٌ فِي بَعْضِ الْأَعْلَامِ. قَالَ أَبُو الْفَتْحِ بْنُ جِنِّي فِي شَرْحِ قَوْلِ تَأَبَّطَ شَرًّا فِي النَّشِيدِ الثَّالِثِ عَشَرَ مِنَ «الْحَمَاسَةِ» :
إِنِّي لَمُهْدٍ مِنْ ثَنَائِي فَقَاصِدٌ بِهِ لِابْنِ عَمِّ الصِّدْقِ شُمْسِ بْنِ مَالِكٍ
شُمْسُ بِضَمِّ الشِّينِ وَأَصْلُهُ شَمْسُ بِفَتْحِهَا كَمَا قَالُوا حُجْرَ وَسُلْمَى فَيَكُونُ مِمَّا غُيِّرَ عَنْ نَظَائِرِهِ لِأَجْلِ الْعَلَمِيَّةِ اهـ. وَفِي «الْكَشَّافِ» فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ أَبِي لَهَبٍ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ أَنَّ مِنَ الْقُرَّاءِ مَنْ قَرَأَ (أَبِي لَهْبٍ) بِسُكُونِ الْهَاءِ مَا نَصَّهُ وَهِيَ مِنْ تَغْيِيرِ الْأَعْلَامِ كَقَوْلِهِمْ شُمْسُ بْنُ مَالِكٍ بِالضَّمِّ اهـ. وَقَالَ قَبْلَهُ: «وَلِفُلَيْتَةَ بْنِ قَاسِمٍ أَمِيرِ مَكَّة ابْنَانِ أحد هما عَبْدِ اللَّهِ بِالْجَرِّ، وَالْآخَرُ عَبْدَ اللَّهِ بِالنَّصْبِ، وَكَانَ بِمَكَّةَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ عَبْدِ اللَّهِ لَا يُعْرَفُ إِلَّا هَكَذَا» اهـ. يَعْنِي بِكَسْرِ دَالِ عَبْدِ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِ إِعْرَابِهِ، فَهُوَ بِهَذَا الْإِيمَاءِ نَوْعٌ مَخْصُوصٌ مِنَ الْعَلَمِ، وَهُوَ أَنَّهُ أَقْوَى مِنَ الْعَلَمِ بِالْغَلَبَةِ لِأَنَّ لَهُ لَفْظًا جَدِيدًا بَعْدَ اللَّفْظِ الْمُغَلَّبِ. وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ فِي الْعَلَمِيَّةِ الَّتِي عَرَضَتْ لِاسْمِ الْجَلَالَةِ لَا نَظِيرَ لَهَا فِي الْأَعْلَامِ فَكَانَ اسْمُهُ تَعَالَى غَيْرُ مُشَابِهٍ لِأَسْمَاءِ الْحَوَادِثِ كَمَا أَنَّ مُسَمَّى ذَلِكَ الِاسْمِ غَيْرُ مُمَاثِلٍ لِمُسَمَّيَاتِ أَسْمَاءِ الْحَوَادِثِ. وَقَدْ دَلُّوا عَلَى تَنَاسِيهِمْ مَا فِي الْأَلِفِ وَاللَّامِ مِنَ التَّعْرِيف وَأَنَّهُمْ جعلو هما جُزْءًا مِنَ الْكَلِمَةِ بِتَجْوِيزِهِمْ نِدَاءَ اسْمِ الْجَلَالَةِ مَعَ إِبْقَاءِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ إِذْ يَقُولُونَ يَا اللَّهُ مَعَ أَنَّهُمْ يَمْنَعُونَ نِدَاءَ مَدْخُولِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ.
وَقَدِ احْتَجَّ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» عَلَى كَوْنِ أَصْلِهِ الْإِلَهَ بِبَيْت البعيث الْمُتَقَدّم، وَلَمْ يُقَرِّرْ نَاظِرُوهُ وَجْهَ احْتِجَاجِهِ بِهِ، وَهُوَ احْتِجَاجٌ وَجِيهٌ لِأَنَّ مَعَاذَ مِنَ الْمَصَادِرِ الَّتِي لَمْ تَرِدْ فِي اسْتِعْمَالِهِمْ مُضَافَةً لِغَيْرِ اسْمِ الْجَلَالَةِ، مِثْلَ سُبْحَانَ فأجريت مجْرى أَمْثَال فِي لُزُومِهَا لهاته الْإِضَافَة، إِذا تَقُولُ مَعَاذَ اللَّهِ فَلَمَّا قَالَ الشَّاعِرُ مَعَاذَ الْإِلَهِ وَهُوَ مِنْ فُصَحَاءِ اللِّسَانِ عَلِمْنَا أَنَّهُمْ يَعْتَبِرُونَ الْإِلَهَ أَصْلًا لِلَفْظِ اللَّهِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ هَذَا التَّصَرُّفُ تَغْيِيرًا إِلَّا أَنَّهُ تَصَرَّفٌ فِي حُرُوفِ اللَّفْظِ الْوَاحِدِ كَاخْتِلَافِ وُجُوهِ الْأَدَاءِ مَعَ كَوْنِ اللَّفْظِ وَاحِدًا، أَلَا تَرَى أَنَّهُمُ احْتَجُّواُُ
164
عَلَى أَنَّ لَاهَ مُخَفَّفُ اللَّهِ بِقَوْلِ ذِي الْأُصْبُعِ الْعَدْوَانِيِّ:
لَاهَ ابْنُ عَمِّكَ لَا أُفْضِلْتَ فِي حَسَبٍ عَنِّي وَلَا أَنْتَ دَيَّانِي فَتَخْزُونِي
وَبِقَوْلِهِمْ لَاهَ أَبُوكَ لِأَنَّ هَذَا مِمَّا لَزِمَ حَالَةً وَاحِدَةً، إِذْ يَقُولُونَ لِلَّهِ أَبُوكَ وَلِلَّهِ ابْنُ عَمِّكَ وَلِلَّهِ أَنْتَ.
وَقَدْ ذُكِرَتْ وُجُوهٌ أُخَرُ فِي أَصْلِ اسْمِ الْجَلَالَةِ: مِنْهَا أَنَّ أَصْلَهُ لَاهٌ مَصْدَرُ لَاهَ يَلِيهُ لَيْهًا إِذَا احْتَجَبَ سُمِّيَ بِهِ اللَّهُ تَعَالَى، ثُمَّ أُدْخِلَتْ عَلَيْهِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ لِلَمْحِ الْأَصْلِ كَالْفَضْلِ وَالْمَجْدِ اسْمَيْنِ، وَهَذَا الْوَجْهُ ذَكَرَ الْجَوْهَرِيُّ عَنْ سِيبَوَيْهِ أَنَّهُ جَوَّزَهُ. وَمِنْهَا أَنَّ أَصْلَهُ وِلَاهٌ بِالْوَاوِ فِعَالٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ مِنْ وَلَهَ إِذَا تَحَيَّرَ، ثُمَّ قُلِبَتِ الْوَاوُ هَمْزَةً لِاسْتِثْقَالِ الْكَسْرَةِ عَلَيْهَا، كَمَا قُلِبَتْ فِي إِعَاءٍ وَإِشَاحٍ، أَيْ وِعَاءٍ وَوِشَاحٍ، ثُمَّ عُرِّفَ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ وَحُذِفَتِ الْهَمْزَةُ.
وَمِنْهَا أَنَّ أَصْلَهُ (لَاهَا) بِالسُّرْيَانِيَّةِ عَلَمٌ لَهُ تَعَالَى فَعُرِّبَ بِحَذْفِ الْأَلِفِ وَإِدْخَالِ اللَّامِ عَلَيْهِ.
وَمِنْهَا أَنَّهُ عَلَمٌ وُضِعَ لِاسْمِ الْجَلَالَةِ بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِيِّ مِنْ غَيْرِ أَخْذٍ مِنْ أَلَّهَ وَتَصْيِيرِهِ الْإِلَهَ فَتَكُونُ مُقَارَبَتُهُ فِي الصُّورَةِ لِقَوْلِنَا الْإِلَهُ مُقَارَبَةً اتِّفَاقِيَّةً غَيْرَ مَقْصُودَةٍ، وَقَدْ قَالَ بِهَذَا جَمْعٌ مِنْهُمُ الزَّجَّاجُ وَنُسِبَ إِلَى الْخَلِيلِ وَسِيبَوَيْهِ، وَوَجَّهَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بِأَنَّ الْعَرَبَ لَمْ تُهْمِلْ شَيْئًا حَتَّى وَضَعَتْ لَهُ لَفْظًا فَكَيْفَ يَتَأَتَّى مِنْهُمْ إِهْمَالُ اسْمٍ لَهُ تَعَالَى لِتَجْرِي عَلَيْهِ صِفَاتُهُ.
وَقَدِ الْتُزِمَ فِي لَفْظِ الْجَلَالَةِ تَفْخِيمُ لَامِهِ إِذَا لَمْ يَنْكَسِرْ مَا قَبْلَ لَفْظِهِ وَحَاوَلَ بَعْضُ الْكَاتِبِينَ تَوْجِيهَ ذَلِكَ بِمَا لَا يَسْلَمُ مِنَ الْمَنْعِ، وَلِذَلِكَ أَبَى صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» التَّعْرِيجَ عَلَيْهِ فَقَالَ: «وَعَلَى ذَلِكَ (أَيِ التَّفْخِيمُ) الْعَرَبُ كُلُّهُمْ، وَإِطْبَاقُهُمْ عَلَيْهِ دَلِيلُ أَنَّهُمْ وَرِثُوهُ كَابِرًا عَنْ كَابِرٍ».
وَإِنَّمَا لَمْ يُقَدَّمِ الْمُسْنَدُ الْمَجْرُورُ وَهُوَ مُتَضَمِّنٌ لِاسْمِ الْجَلَالَةِ عَلَى الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ فَيُقَالُ لِلَّهِ الْحَمْدُ، لِأَنَّ الْمُسْنَدَ إِلَيْهِ حَمْدٌ عَلَى تَنْزِيلِ الْقُرْآنِ وَالتَّشَرُّفِ بِالْإِسْلَامِ وَهُمَا مِنَّةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى فَحَمِدَهُ عَلَيْهِمَا عِنْدَ ابْتِدَاءِ تِلَاوَةِ الْكِتَابِ الَّذِي بِهِ صَلَاحُ النَّاسِ فِي الدَّارَيْنِ فَكَانَ الْمَقَامُ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ اعْتِبَارًا لِأَهَمِّيَّةِ الْحَمْدِ الْعَارِضَةِ، وَإِنْ كَانَ ذِكْرُ اللَّهِ أَهَمَّ أَصَالَةً فَإِنَّ الْأَهَمِّيَّةَ الْعَارِضَةَ تُقَدَّمُ عَلَى الْأَهَمِّيَّةِ الْأَصْلِيَّةِ لِاقْتِضَاءِ الْمَقَامِ وَالْحَالِ، وَالْبَلَاغَةُ هِيَ الْمُطَالِبَةُ لِمُقْتَضَى الْحَالِ، عَلَى أَنَّ الْحَمْدَ لَمَّا تَعَلَّقَ بِاسْمِ اللَّهِ تَعَالَى كَانَ فِي الِاهْتِمَامِ بِهِ اهتمام بشؤون اللَّهِ تَعَالَى.
165
وَمِنْ أَعْجَبِ الْآرَاءِ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ «الْمَنْهَلِ الْأَصْفَى فِي شَرْحِ الشِّفَاءِ» التِّلْمِسَانِيُّ عَنْ جَمْعٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْقَوْلُ بِأَنَّ اسْمَ الْجَلَالَةِ يُمْسَكُ عَنِ الْكَلَامِ فِي مَعْنَاهُ نعظيما وَإِجْلَالًا وَلِتَوَقُّفِ الْكَلَامِ فِيهِ عَلَى إِذْنِ الشَّارِعِ.
رَبِّ الْعالَمِينَ.
وَصْفٌ لِاسْمِ الْجَلَالَةِ فَإِنَّهُ بَعْدَ أَنْ أَسْنَدَ الْحَمْدَ لِاسْمِ ذَاتِهِ تَعَالَى تَنْبِيهًا عَلَى الِاسْتِحْقَاقِ الذَّاتِيِّ، عَقَّبَ بِالْوَصْفِ وَهُوَ الرَّبُّ لِيَكُونَ الْحَمْدُ مُتَعَلِّقًا بِهِ أَيْضًا لِأَنَّ وَصْفَ الْمُتَعَلَّقِ مُتَعَلِّقٌ أَيْضًا، فَلِذَلِكَ لَمْ يَقُلِ الْحَمْدُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ كَمَا قَالَ: يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ [المطففين: ٦] لِيُؤْذِنَ بِاسْتِحْقَاقِهِ الْوَصْفِيِّ أَيْضًا لِلْحَمْدِ كَمَا اسْتَحَقَّهُ بِذَاتِهِ.
وَقَدْ أَجْرَى عَلَيْهِ أَرْبَعَةَ أَوْصَافٍ هِيَ: رَبِّ الْعَالَمِينَ، الرَّحْمَنِ، الرَّحِيمِ، مَلِكْ يَوْمِ الدِّينِ، لِلْإِيذَانِ بِالِاسْتِحْقَاقِ الْوَصْفِيِّ فَإِنَّ ذِكْرَ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ الْمُشْعِرَةِ بِالصِّفَاتِ يُؤْذِنُ بِقَصْدِ
مُلَاحَظَةِ مَعَانِيهَا الْأَصْلِيَّةِ، وَهَذَا مِنَ الْمُسْتَفَادَاتِ مِنَ الْكَلَامِ بِطَرِيقِ الِاسْتِتْبَاعِ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ فِي ذِكْرِ الْوَصْفِ غُنْيَةٌ عَنْ ذِكْرِ الْمَوْصُوفِ لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ الْوَصْفُ مُنَزَّلًا مَنْزِلَةَ الِاسْمِ كَأَوْصَافِهِ تَعَالَى وَكَانَ فِي ذِكْرِ لَفْظِ الْمَوْصُوفِ أَيْضًا غُنْيَةٌ فِي التَّنْبِيهِ عَلَى اسْتِحْقَاقِ الْحَمْدِ الْمَقْصُودِ مِنَ الْجُمْلَةِ عَلِمْنَا أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ مَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا إِلَّا وَهُوَ يُشِيرُ إِلَى أَنَّ كِلَا مَدْلُولَيِ الْمَوْصُوفِ وَالصِّفَةِ جَدِيرٌ بِتَعَلُّقِ الْحَمْدِ لَهُ مَعَ مَا فِي ذِكْرِ أَوْصَافِهِ الْمُخْتَصَّةِ بِهِ مِنَ التَّذْكِيرِ بِمَا يُمَيِّزُهُ عَنِ الْآلِهَةِ الْمَزْعُومَةِ عِنْدَ الْأُمَمِ مِنَ الْأَصْنَامِ وَالْأَوْثَانِ وَالْعَنَاصِرِ كَمَا سَيَأْتِي عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ.
وَالرَّبُّ إِمَّا مَصْدَرٌ وَإِمَّا صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ عَلَى وَزْنِ فَعْلٍ مِنْ رَبَّهَ يَرُبُّهُ بِمَعْنَى رَبَّاهُ وَهُوَ رَبٌّ بِمَعْنَى مُرَبٍّ وَسَائِسٍ. وَالتَّرْبِيَةُ تَبْلِيغُ الشَّيْءِ إِلَى كَمَالِهِ تَدْرِيجًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ رَبَّهُ بِمَعْنَى مَلَكَهُ، فَإِنْ كَانَ مَصْدَرًا عَلَى الْوَجْهَيْنِ فَالْوَصْفُ بِهِ لِلْمُبَالَغَةِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَإِنْ كَانَ صِفَةً مُشَبَّهَةً عَلَى الْوَجْهَيْنِ فَهِيَ وَارِدَةٌ عَلَى الْقَلِيلِ فِي أَوْزَانِ الصِّفَةِ الْمُشَبَّهَةِ فَإِنَّهَا لَا تَكُونُ عَلَى فَعْلٍ مِنْ فَعَلَ يَفْعُلُ إِلَّا قَلِيلًا، مِنْ ذَلِكَ قَوْلِهِمْ نَمَّ الْحَدِيثَ يَنُمُّهُ فَهُوَ نَمٌّ لِلْحَدِيثِ.
وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنْ رَبَّهُ بِمَعْنَى رَبَّاهُ وَسَاسَهُ، لَا مِنْ رَبَّهُ بِمَعْنَى مَلَكَهُ لِأَنَّ الْأَوَّلَ الْأَنْسَبَ بِالْمَقَامِ هُنَا إِذِ الْمُرَادُ أَنَّهُ مُدَبِّرُ الْخَلَائِقِ وَسَائِسُ أُمُورِهَا وَمُبَلِّغُهَا غَايَةَ كَمَالِهَا، وَلِأَنَّهُ لَوْ حُمِلَ عَلَى مَعْنَى الْمَالِكِ لَكَانَ قَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ كَالتَّأْكِيدِ وَالتَّأْكِيدُ خِلَافُ الْأَصْلِ وَلَا دَاعِيَ
166
إِلَيْهِ هُنَا، إِلَّا أَنْ يُجَابَ بِأَنَّ الْعَالَمِينَ لَا يَشْمَلُ إِلَّا عَوَالِمَ الدُّنْيَا، فَيَحْتَاجُ إِلَى بَيَانِ أَنَّهُ مَلَكَ الْآخِرَةَ كَمَا أَنَّهُ مَلَكَ الدُّنْيَا، وَإِنْ كَانَ الْأَكْثَرُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ وُرُودَ الرَّبِّ بِمَعْنَى الْمَلِكِ وَالسَّيِّدِ وَذَلِكَ الَّذِي دَعَا صَاحِبَ «الْكَشَّافِ» إِلَى الِاقْتِصَارِ عَلَى مَعْنَى السَّيِّدِ وَالْمَلِكِ وَجَوَّزَ فِيهِ وَجْهَيِ الْمَصْدَرِيَّةِ وَالصِّفَةِ، إِلَّا أَنَّ قَرِينَةَ الْمَقَامِ قَدْ تَصْرِفَ عَنْ حَمْلِ اللَّفْظِ عَلَى أَكْثَرِ مَوَارِدِهِ إِلَى حَمْلِهِ عَلَى مَا دُونَهُ فَإِنَّ كِلَا الِاسْتِعْمَالَيْنِ شَهِيرٌ حَقِيقِيٌّ أَوْ مَجَازِيٌّ وَالتَّبَادُرُ الْعَارِضُ مِنَ الْمَقَامِ الْمَخْصُوصِ لَا يَقْضِي بِتَبَادُرِ اسْتِعْمَالِهِ فِي ذَلِكَ الْمَعْنَى فِي جَمِيعِ الْمَوَاقِعِ كَمَا لَا يَخْفَى. وَالْعَرَبُ لَمْ تَكُنْ تَخُصُّ لَفْظَ الرَّبِّ بِهِ تَعَالَى لَا مُطْلَقًا وَلَا مُقَيَّدًا لِمَا عَلِمْتَ مِنْ وَزْنِهِ واشتقاقه. قَالَ الْحَرْث بْنُ حِلِّزَةَ:
وَهُوَ الرَّبُّ وَالشَّهِيدُ عَلَى يَوْ مِ الْحِيَارَيْنِ وَالْبَلَاءُ بَلَاءُ
يَعْنِي عَمْرَو بْنَ هِنْدٍ. وَقَالَ النَّابِغَةُ فِي النُّعْمَانِ بْنِ الْحَارِثِ:
تَخُبُّ إِلَى النُّعْمَانِ حَتَّى تَنَالَهُ فِدًى لَكَ مِنْ رَبٍّ طَرِيفِي وَتَالِدِي
وَقَالَ فِي النُّعْمَانِ بْنِ الْمُنْذِرِ حِينَ مَرِضَ:
وَرَبٌّ عَلَيْهِ اللَّهُ أَحْسَنَ صُنْعَهُ وَكَانَ لَهُ عَلَى الْبَرِيَّةِ نَاصِرَا
وَقَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» وَمَنْ تَابَعَهُ: إِنَّهُ لَمْ يُطْلَقْ عَلَى غَيْرِهِ تَعَالَى إِلَّا مُقَيَّدًا أَوْ لَمْ يَأْتُوا عَلَى ذَلِكَ بِسَنَدٍ وَقَدْ رَأَيْتُ أَنَّ الِاسْتِعْمَالَ بِخِلَافِهِ، أَمَّا إِطْلَاقُهُ عَلَى كُلٍّ مِنْ آلِهَتِهِمْ فَلَا مِرْيَةَ فِيهِ كَمَا قَالَ غَاوِي بْنُ ظَالِمٍ أَوْ عَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ:
أَرَبٌّ يَبُولُ الثُّعْلُبَانُ بِرَأْسِهِ لَقَدْ هَانَ مَنْ بَالَتْ عَلَيْهِ الثَّعَالِبُ
وَسَمَّوُا الْعُزَّى الرَّبَّةَ. وَجَمْعُهُ عَلَى أَرْبَابٍ أَدَلُّ دَلِيلٍ عَلَى إِطْلَاقِهِ عَلَى مُتَعَدِّدٍ فَكَيْفَ تَصِحُّ دَعْوَى تَخْصِيصِ إِطْلَاقِهِ عِنْدَهُمْ بِاللَّهِ تَعَالَى؟ وَأَمَّا إِطْلَاقُهُ مُضَافًا أَوْ مُتَعَلِّقًا بِخَاصٍّ فَظَاهِرُ وُرُودِهِ بِكَثْرَةٍ نَحْوَ رَبِّ الدَّارِ وَرَبِّ الْفُرْسِ وَرَبِّ بَنِي فُلَانٍ.
وَقَدْ وَرَدَ الْإِطْلَاقُ فِي الْإِسْلَامِ أَيْضًا حِينَ حَكَى عَنْ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَوْلَهُ: إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ [يُوسُف: ٢٣] إِذَا كَانَ الضَّمِيرُ رَاجِعًا إِلَى الْعَزِيزِ وَكَذَا قَوْلُهُ: أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ [يُوسُف: ٣٩] فَهَذَا إِطْلَاقٌ لِلرَّبِّ مُضَافًا وَغَيْرَ مُضَافٍ عَلَى غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْإِسْلَامِ لِأَنَّ اللَّفْظَ عَرَبِيٌّ أُطْلِقَ فِي الْإِسْلَامِ، وَلَيْسَ يُوسُفُ أَطْلَقَ هَذَا اللَّفْظَ بَلْ أَطْلَقَ مُرَادِفَهُ فَلَوْ لَمْ يَصِحَّ التَّعْبِيرُ بِهَذَا اللَّفْظِ عَنِ الْمَعْنَى الَّذِي عَبَّرَ بِهِ يُوسُفُ لَكَانَ فِي غَيْرِهِ مِنْ أَلْفَاظِ الْعَرَبِيَّةِ مُعَدَّلٌ، إِنَّمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ النَّهْيُ عَنْ أَنْ يَقُولَ أَحَدٌ لِسَيِّدِهُُِ
167
رَبِّي وَلِيَقُلْ سَيِّدِي، وَهُوَ نَهْيُ كَرَاهَةٍ لِلتَّأْدِيبِ وَلِذَلِكَ خُصَّ النَّهْيُ بِمَا إِذَا كَانَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ مِمَّنْ يُعْبَدُ عُرْفًا كَأَسْمَاءِ النَّاسِ لِدَفْعِ تُهْمَةِ الْإِشْرَاكِ وَقَطْعِ دَابِرِهِ وَجَوَّزُوا أَنْ يَقُولَ رَبُّ الدَّابَّةِ وَرَبُّ الدَّارِ، وَأَمَّا بِالْإِطْلَاقِ فَالْكَرَاهَةُ أَشَدُّ فَلَا يَقُلْ أَحَدٌ لِلْمَلِكِ وَنَحْوِهِ هَذَا رب.
و (الْعَالمين) جَمْعُ عَالَمٍ قَالُوا وَلَمْ يُجْمَعْ فَاعَلٌ هَذَا الْجَمْعَ إِلَّا فِي لَفْظَيْنِ عَالَمٌ وَيَاسَمٌ، اسْمٌ لِلزَّهْرِ الْمَعْرُوفِ بِالْيَاسَمِينَ، قِيلَ جَمَعُوهُ عَلَى يَاسَمُونَ وَيَاسَمِينَ قَالَ الْأَعْشَى:
وَقَابَلَنَا الْجُلُّ وَالْيَاسَمُ ونَ وَالْمُسْمِعَاتُ وَقَصَّابُهَا
وَالْعَالَمُ الْجِنْسُ مِنْ أَجْنَاسِ الْمَوْجُودَاتِ، وَقَدْ بَنَتْهُ الْعَرَبُ عَلَى وَزْنِ فَاعَلٍ بِفَتْحِ الْعَيْنِ مُشْتَقًّا مِنَ الْعِلْمِ أَوْ مِنَ الْعَلَامَةِ لِأَنَّ كُلَّ جِنْسٍ لَهُ تَمَيُّزٌ عَنْ غَيْرِهِ فَهُوَ لَهُ عَلَامَةٌ، أَوْ هُوَ سَبَبُ الْعِلْمِ بِهِ فَلَا يَخْتَلِطُ بِغَيْرِهِ. وَهَذَا الْبِنَاءُ مُخْتَصٌّ بِالدَّلَالَةِ عَلَى الْآلَةِ غَالِبًا كَخَاتَمٍ وَقَالَبٍ وَطَابَعٍ فَجَعَلُوا الْعَوَالِمَ لِكَوْنِهَا كَالْآلَةِ لِلْعِلْمِ بِالصَّانِعِ، أَوِ الْعِلْمِ بِالْحَقَائِقِ. وَلَقَدْ أَبْدَعَ الْعَرَبُ فِي هَذِهِ اللَّطِيفَةِ إِذْ بَنَوُا اسْمَ جِنْسِ الْحَوَادِثِ عَلَى وَزْنِ فَاعِلٍ لِهَذِهِ النُّكْتَةِ، وَلَقَدْ أَبْدَعُوا إِذْ جَمَعُوهُ جَمْعَ الْعُقَلَاءِ مَعَ أَنَّ مِنْهُ مَا لَيْسَ بِعَاقِلٍ تَغْلِيبًا لِلْعَاقِلِ.
وَقد قَالَ التفتازانيّ فِي «شَرْحِ الْكَشَّافِ» :«الْعَالَمُ اسْمٌ لِذَوِي الْعِلْمِ وَلِكُلِّ جِنْسٍ يُعْلَمُ بِهِ الْخَالِقُ، يُقَالُ عَالَمُ الْمُلْكِ، عَالَمُ الْإِنْسَانِ، عَالَمُ النَّبَاتِ يُرِيدُ أَنَّهُ لَا يُطْلَقُ بِالْإِفْرَادِ إِلَّا مُضَافًا لِنَوْعٍ يُخَصِّصُهُ يُقَالُ عَالَمُ الْإِنْسِ عَالَمُ الْحَيَوَانِ، عَالَمُ النَّبَاتِ وَلَيْسَ اسْمًا لِمَجْمُوعِ مَا سِوَاهُ تَعَالَى بِحَيْثُ لَا يَكُونُ لَهُ إِجْرَاءٌ فَيَمْتَنِعُ جَمْعُهُ» وَهَذَا هُوَ تَحْقِيقُ اللُّغَةِ فَإِنَّهُ لَا يُوجَدُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ إِطْلَاقُ عَالَمٍ عَلَى مَجْمُوعِ مَا سِوَى اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنَّمَا أَطْلَقَهُ عَلَى هَذَا عُلَمَاءُ الْكَلَامِ فِي قَوْلِهِمُ الْعَالَمُ حَادِثٌ فَهُوَ من المصطلحات.
والتعرف فِيهِ لِلِاسْتِغْرَاقِ بِقَرِينَةِ الْمَقَامِ الْخِطَابِيِّ فَإِنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ عَهْدٌ خَارِجِيٌّ وَلَمْ يَكُنْ مَعْنًى لِلْحَمْلِ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَلَا عَلَى الْمَعْهُودِ الذِّهْنِيِّ تَمَحَّضَ التَّعْرِيفُ لِلِاسْتِغْرَاقِ لِجَمِيعِ الْأَفْرَادِ دَفْعًا لِلتَّحَكُّمِ فَاسْتِغْرَاقُهُ اسْتِغْرَاقُ الْأَجْنَاسِ الصَّادِقِ هُوَ عَلَيْهَا لَا مَحَالَةَ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ صَاحِبِ «الْكَشَّافِ» :«لِيَشْمَلَ كُلَّ جِنْسٍ مِمَّا سُمِّيَ بِهِ» إِلَّا أَنَّ اسْتِغْرَاقَ الْأَجْنَاسِ يَسْتَلْزِمُ اسْتِغْرَاقَ أَفْرَادِهَا اسْتِلْزَامًا وَاضِحًا إِذِ الْأَجْنَاسُ لَا تُقْصَدُ لِذَاتِهَا لَا سِيَّمَا فِي مَقَامِ الْحُكْمِ بِالْمَرْبُوبِيَّةِ عَلَيْهَا فَإِنَّهُ لَا مَعْنَى لِمَرْبُوبِيَّةِ الْحَقَائِقِ.
وَإِنَّمَا جُمِعَ الْعَالَمُ وَلَمْ يُؤْتَ بِهِ مُفْرَدًا لِأَنَّ الْجَمْعَ قرينَة على استغراق، لِأَنَّهُ لَوْ أُفْرِدَ لَتُوُهِّمَ أَنَُُّ
168
الْمُرَادَ مِنَ التَّعْرِيفِ الْعَهْدُ أَوِ الْجِنْسُ فَكَانَ الْجَمْعُ تَنْصِيصًا عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ، وَهَذِهِ سُنَّةُ الْجُمُوعِ مَعَ (الْ) الِاسْتِغْرَاقِيَّةِ عَلَى التَّحْقِيقِ، وَلَمَّا صَارَتِ الْجَمْعِيَّةُ قَرِينَةً عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ بَطَلَ مِنْهَا مَعْنَى الْجَمَاعَاتِ فَكَانَ اسْتِغْرَاقُ الْجُمُوعِ مُسَاوِيًا لِاسْتِغْرَاقِ الْمُفْرَدَاتِ أَوْ أَشْمَلَ مِنْهُ. وَبَطَلَ مَا شَاعَ عِنْدَ مُتَابِعِي السَّكَّاكِيِّ مِنْ قَوْلِهِمُ اسْتِغْرَاقُ الْمُفْرَدِ أَشْمَلُ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها [الْبَقَرَة: ٣١].
[٣]. الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ.
وَصْفَانِ مُشْتَقَّانِ مِنْ رَحِمَ، وَفِي «تَفْسِيرِ الْقُرْطُبِيِّ» عَنِ ابْنِ الْأَنْبَارِيِّ عَنِ الْمبرد أَن الرَّحْمَن اسْمٌ عِبْرَانِيٌّ نُقِلَ إِلَى الْعَرَبِيَّةِ قَالَ وَأَصْلُهُ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ (أَيْ فَأُبْدِلَتْ خَاؤُهُ حَاءً مُهْمَلَةً عِنْدَ أَكْثَرِ الْعَرَبِ كَشَأْنِ التَّغْيِيرِ فِي التَّعْرِيبِ) وَأَنْشَدَ عَلَى ذَلِكَ قَوْلَ جَرِيرٍ يُخَاطِبُ الْأَخْطَلَ:
أَوَ تَتْرُكَنَّ إِلَى الْقِسِّيسِ هِجْرَتَكُمْ وَمَسْحَكُمْ صُلْبَكُمْ رَخَمَانِ قُرْبَانَا
(الرِّوَايَةُ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ) وَلَمْ يَأْتِ الْمُبَرِّدُ بِحُجَّةٍ عَلَى مَا زَعَمَهُ، وَلِمَ لَا يَكُونُ الرَّحْمَنُ عَرَبِيًّا كَمَا كَانَ عِبْرَانِيًّا فَإِنَّ الْعَرَبِيَّةَ وَالْعِبْرَانِيَّةَ أُخْتَانِ وَرُبَّمَا كَانَتِ الْعَرَبِيَّةُ الْأَصْلِيَّةُ
أَقْدَمُ مِنَ الْعِبْرَانِيَّةِ وَلَعَلَّ الَّذِي جَرَّأَهُ عَلَى ادِّعَاءِ أَن الرَّحْمَن اسْمٌ عِبْرَانِيٌّ مَا حَكَاهُ الْقُرْآنُ عَنِ الْمُشْرِكِينَ فِي قَوْلِهِ: قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ [الْفرْقَان: ٦٠] وَيَقْتَضِي أَنَّ الْعَرَبَ لَمْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَ هَذَا الِاسْمَ لِلَّهِ تَعَالَى كَمَا سَيَأْتِي بعض عَرَبِ الْيَمَنِ يَقُولُونَ رَخِمَ رُخْمَةً بِالْمُعْجَمَةِ.
وَاسْمُ الرَّحْمَةِ مَوْضُوعٌ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ لِرِقَّةِ الْخَاطِرِ وَانْعِطَافِهِ نَحْوَ حَيٍّ بِحَيْثُ تَحْمِلُ مَنِ اتَّصَفَ بِهَا عَلَى الرِّفْقِ بِالْمَرْحُومِ وَالْإِحْسَانِ إِلَيْهِ وَدَفْعِ الضُّرِّ عَنْهُ وَإِعَانَتِهِ عَلَى الْمَشَاقِّ.
فَهِيَ مِنَ الْكَيْفِيَّاتِ النَّفْسَانِيَّةِ لِأَنَّهَا انْفِعَالٌ، وَلِتِلْكَ الْكَيْفِيَّةِ انْدِفَاعٌ يَحْمِلُ صَاحِبَهَا عَلَى أَفْعَالٍ وُجُودِيَّةٍ بِقَدْرِ اسْتِطَاعَتِهِ وَعَلَى قَدْرِ قُوَّةِ انْفِعَالِهِ، فَأَصْلُ الرَّحْمَةِ مِنْ مَقُولَةِ الِانْفِعَالِ وَآثَارُهَا مِنْ مَقُولَةِ الْفِعْلِ، فَإِذَا وُصِفَ مَوْصُوفٌ بِالرَّحْمَةِ كَانَ مَعْنَاهُ حُصُولُ الِانْفِعَالِ الْمَذْكُورِ فِي نَفْسِهِ، وَإِذَا أَخْبَرَ عَنْهُ بِأَنَّهُ رَحِمَ غَيْرَهُ فَهُوَ عَلَى مَعْنَى صَدَرَ عَنْهُ أَثَرٌ مِنْ آثَارِ الرَّحْمَةِ، إِذْ لَا تَكُونُ تَعْدِيَةُ فِعْلِ رَحِمَ إِلَى الْمَرْحُومِ إِلَّا عَلَى هَذَا الْمَعْنَى فَلَيْسَ لِمَاهِيَّةِ الرَّحْمَةِ جُزْئِيَّاتٌ وُجُودِيَّةٌ وَلَكِنَّهَا جُزْئِيَّاتٌ مِنْ آثَارِهَا. فَوَصْفُ اللَّهِ تَعَالَى بِصِفَاتِ الرَّحْمَةِ فِي اللُّغَات ناشىء عَلَى مِقْدَارِ عَقَائِدِ أَهْلِهَا فِيمَا يَجُوزُ عَلَى اللَّهِ وَيَسْتَحِيلُ، وَكَانَ أَكْثَرُ الْأُمَمِ مُجَسِّمَةٌ ثُمَّ يَجِيءُ ذَلِكَُُ
169
فِي لِسَانِ الشَّرَائِعِ تَعْبِيرًا عَنِ الْمَعَانِي الْعَالِيَةِ بِأَقْصَى مَا تَسْمَحُ بِهِ اللُّغَاتُ مَعَ اعْتِقَادِ تَنْزِيهِ اللَّهِ عَنْ أَعْرَاضِ الْمَخْلُوقَاتِ بِالدَّلِيلِ الْعَامِّ عَلَى التَّنْزِيهِ وَهُوَ مَضْمُونُ قَوْلِ الْقُرْآنِ:
لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: ١١] فَأَهْلُ الْإِيمَانِ إِذَا سَمِعُوا أَوْ أَطْلَقُوا وَصْفَيِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ لَا يَفْهَمُونَ مِنْهُ حُصُولَ ذَلِكَ الِانْفِعَالِ الْمَلْحُوظِ فِي حَقِيقَةِ الرَّحْمَةِ فِي مُتَعَارَفِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ لِسُطُوعِ أَدِلَّةِ تَنْزِيهِ اللَّهِ تَعَالَى عَنِ الْأَعْرَاضِ، بَلْ إِنَّهُ يُرَادُ بِهَذَا الْوَصْفِ فِي جَانِبِ اللَّهِ تَعَالَى إِثْبَاتُ الْغَرَضِ الْأَسْمَى مِنْ حَقِيقَةِ الرَّحْمَةِ وَهُوَ صُدُورُ آثَارِ الرَّحْمَةِ مِنَ الرِّفْقِ وَاللُّطْفِ وَالْإِحْسَانِ وَالْإِعَانَةِ لِأَنَّ مَا عَدَا ذَلِكَ مِنَ الْقُيُودِ الْمَلْحُوظَةِ فِي مُسَمَّى الرَّحْمَةِ فِي مُتَعَارَفِ النَّاسِ لَا أَهَمِّيَّةَ لَهُ لَوْلَا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ بِدُونِهِ حُصُولُ آثَارِهِ فِيهِمْ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَرْءَ قَدْ يَرْحَمُ أَحَدًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُ نَفْعًا لِعَجْزٍ أَوْ نَحْوِهِ.
وَقَدْ أَشَارَ إِلَى مَا قُلْنَاهُ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ فِي «الْمَقْصِدِ الْأَسْنَى» بِقَوْلِهِ: «الَّذِي يُرِيدُ قَضَاءَ حَاجَةِ الْمُحْتَاجِ وَلَا يَقْضِيهَا فَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى قَضَائِهَا لَمْ يُسَمَّ رَحِيمًا إِذْ لَوْ تَمَّتِ الْإِرَادَةُ لَوَفَى بِهَا وَإِنْ كَانَ عَاجِزًا فَقَدْ يُسَمَّى رَحِيمًا بِاعْتِبَارِ مَا اعْتَوَرَهُ مِنَ الرَّحْمَةِ وَالرِّقَّةِ وَلَكِنَّهُ نَاقِصٌ». وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنَّ إِطْلَاقَ نَحْوِ هَذَا الْوَصْفِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى لَيْسَ مِنَ الْمُتَشَابِهِ لِتَبَادُرِ الْمَعْنَى الْمُرَادِ مِنْهُ بِكَثْرَةِ اسْتِعْمَالِهِ وَتَحَقُّقِ تنزه الله عَن لَوَازِمِ الْمَعْنَى الْمَقْصُودِ فِي الْوَضْعِ مِمَّا لَا يَلِيقُ بِجَلَالِ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا نُطْلِقُ الْعَلِيمَ عَلَى اللَّهِ مَعَ التَّيَقُّنِ بِتَجَرُّدِ عِلْمِهِ عَنِ
الْحَاجَةِ إِلَى النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ وَسَبْقِ الْجَهْلِ، وَكَمَا نُطْلِقُ الْحَيَّ عَلَيْهِ تَعَالَى مَعَ الْيَقِينِ بِتَجَرُّدِ حَيَاتِهِ عَنِ الْعَادَةِ وَالتَّكَوُّنِ، وَنُطْلِقُ الْقُدْرَةَ مَعَ الْيَقِينِ بِتَجَرُّدِ قُدْرَتِهِ عَنِ الْمُعَالَجَةِ وَالِاسْتِعَانَةِ.
فَوَصْفُهُ تَعَالَى بِالرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنَ الْمَنْقُولَاتِ الشَّرْعِيَّةِ فَقَدْ أَثْبَتَ الْقُرْآنُ رَحْمَةَ اللَّهِ فِي قَوْلِهِ:
وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ [الْأَعْرَاف: ١٥٦] فَهِيَ مَنْقُولَةٌ فِي لِسَانِ الشَّرْعِ إِلَى إِرَادَةِ اللَّهِ إِيصَالَ الْإِحْسَانِ إِلَى مَخْلُوقَاتِهِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَغَالِبُ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ.
وَأَمَّا الْمُتَشَابِهُ فَهُوَ مَا كَانَتْ دَلَالَتُهُ عَلَى الْمَعْنَى الْمُنَزَّهِ عَنْهُ أَقْوَى وَأَشَدَّ وَسَيَأْتِي فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [٧] عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ. وَالَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» وَكَثِيرٌ مِنَ الْمُحَقِّقين أَن الرَّحْمَن صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ كَغَضْبَانَ وَبِذَلِكَ مَثَّلَهُ فِي «الْكَشَّافِ».
وَفِعْلُ رَحِمَ وَإِنْ كَانَ مُتَعَدِّيًا وَالصِّفَةُ الْمُشَبَّهَةُ إِنَّمَا تُصَاغُ مِنْ فِعْلٍ لَازِمٍ إِلَّا أَنَّ الْفِعْلَ الْمُتَعَدِّيَ إِذَا صَارَ كَالسَّجِيَّةِ لِمَوْصُوفِهِ يَنْزِلُ مَنْزِلَةَ أَفْعَالِ الْغَرَائِزِ فَيُحَوَّلُ مِنْ فَعَلَ بِفَتْحِ الْعَيْنِ أَوْ كَسْرِهَا إِلَى فَعُلَ بِضَمِّ الْعَيْنِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ صَارَ سَجِيَّةً كَمَا قَالُوا فَقُهَ الرَّجُلُ وَظَرُفَ وَفَهُمَ، ثُمَّ تُشْتَقُّ مِنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ الصِّفَةُ الْمُشَبَّهَةٌ، وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ فِي الْكَلَامِ، وَإِنَّمَا يُعْرَفُ هَذَا التَّحْوِيلُ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ
170
إِمَّا بِسَمَاعِ الْفِعْلِ الْمُحَوَّلِ مِثْلِ فَقُهَ وَإِمَّا بِوُجُودِ أَثَرِهِ وَهُوَ الصِّفَةُ الْمُشَبَّهَةُ مِثْلُ بَلِيغٍ إِذَا صَارَتِ الْبَلَاغَةُ سَجِيَّةً لَهُ، مَعَ عَدَمِ أَوْ قِلَّةِ سَمَاعِ بَلُغَ. وَمن هَذَا رَحْمَن إِذْ لَمْ يُسْمَعْ رَحُمَ بِالضَّمِّ. وَمِنَ النُّحَاةِ مَنْ مَنَعَ أَن يكون الرَّحْمَن صِفَةً مُشَبَّهَةً بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْفِعْلَ الْمُشْتَقَّ هُوَ مِنْهُ فِعْلٌ مُتَعَدٍّ وَإِلَيْهِ مَالَ ابْنُ مَالِكٍ فِي «شَرْحِ التَّسْهِيلِ» فِي بَابِ الصِّفَةِ الْمُشَبَّهَةِ وَنَظَّرَهُ بِرَبٍّ وَمَلِكٍ..
وَأَمَّا الرَّحِيمُ فَذَهَبَ سِيبَوَيْهِ إِلَى أَنَّهُ مِنْ أَمْثِلَةِ الْمُبَالَغَةِ وَهُوَ بَاقٍ عَلَى دَلَالَتِهِ عَلَى التَّعَدِّي وَصَاحِبُ «الْكَشَّافِ» وَالْجُمْهُورُ لَمْ يُثْبِتُوا فِي أَمْثِلَةِ الْمُبَالَغَةِ وَزْنَ فَعِيلٍ فَالرَّحِيمُ عِنْدَهُمْ صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ أَيْضًا مِثْلَ مَرِيضٍ وَسَقِيمٍ، وَالْمُبَالَغَةُ حَاصِلَةٌ فِيهِ عَلَى كِلَا الِاعْتَبَارَيْنِ.
وَالْحَقُّ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ سِيبَوَيْهِ.
وَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ اللُّغَةِ فِي أَنَّ الْوَصْفَيْنِ دَالَّانِ عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي صِفَةِ الرَّحْمَةِ أَيْ تَمَكُّنِهَا وَتَعَلُّقِهَا بِكَثِيرٍ مِنَ الْمَرْحُومِينَ وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي طَرِيقَةِ اسْتِفَادَةِ الْمُبَالَغَةِ مِنْهُمَا وَهَلْ هُمَا مُتَرَادِفَانِ فِي الْوَصْفِ بِصِفَةِ الرَّحْمَةِ أَوْ بَيْنَهُمَا فَارِقٌ؟ وَالْحَقُّ أَنَّ اسْتِفَادَةَ الْمُبَالَغَةِ حَاصِلَةٌ مِنْ تَتَبُّعِ الِاسْتِعْمَالِ وَأَنَّ الِاسْتِعْمَالَ جَرَى عَلَى نُكْتَةٍ فِي مُرَاعَاةِ وَاضِعِي اللُّغَةِ زِيَادَةَ الْمَبْنَى لِقَصْدِ زِيَادَةٍ فِي مَعْنَى الْمَادَّةِ قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» :«وَيَقُولُونَ إِنَّ الزِّيَادَةَ فِي الْبِنَاءِ لِزِيَادَةِ الْمَعْنَى وَقَالَ الزَّجَّاجُ فِي الْغَضْبَانِ هُوَ الْمُمْتَلِئُ غَضَبًا وَمِمَّا طَنَّ عَلَى أُذُنِي مِنْ مُلَحِ الْعَرَبِ
أَنَّهُمْ يُسَمُّونَ مَرْكَبًا مِنْ مَرَاكِبِهِمْ بِالشُّقْدُفِ وَهُوَ مَرْكَبٌ خَفِيفٌ لَيْسَ فِي ثِقَلِ مَحَامِلِ الْعِرَاقِ فَقُلْتُ فِي طَرِيقِ الطَّائِفِ لِرَجُلٍ مِنْهُمْ مَا اسْمُ هَذَا الْمَحْمَلِ- أَرَدْتُ الْمَحْمَلَ الْعِرَاقِيَّ- فَقَالَ أَلَيْسَ ذَاك اسْمه الشقندف؟ قُلْتُ بَلَى فَقَالَ هَذَا اسْمُهُ الشِّقِنْدَافُ فَزَادَ فِي بِنَاءِ الِاسْمِ لِزِيَادَةِ الْمُسَمَّى»
وَهِيَ قَاعِدَةٌ أَغْلَبِيَّةٌ لَا تَتَخَلَّفُ إِلَّا فِي زِيَادَاتٍ مَعْرُوفَةٍ مَوْضُوعَةٍ لِزِيَادَةِ مَعْنًى جَدِيدٍ دُونَ زِيَادَةٍ فِي أَصْلِ مَعْنَى الْمَادَّةِ مِثْلَ زِيَادَةِ يَاءِ التَّصْغِيرِ فَقَدْ أَفَادَتْ مَعْنًى زَائِدًا عَلَى أَصْلِ الْمَادَّةِ وَلَيْسَ زِيَادَةً فِي مَعْنَى الْمَادَّةِ. وَأَمَّا نَحْوُ حَذِرٌ الَّذِي هُوَ مِنْ أَمْثِلَةِ الْمُبَالَغَةِ وَهُوَ أَقَلُّ حُرُوفًا مِنْ حَاذِرٍ فَهُوَ مِنْ مُسْتَثْنَيَاتِ الْقَاعِدَةِ لِأَنَّهَا أَغْلَبِيَّةٌ.
وَبَعْدَ كَوْنِ كُلٍّ من صِفَتي الرَّحْمَن الرَّحِيمِ دَالَّةً عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي اتِّصَافِهِ تَعَالَى بِالرَّحْمَةِ فَقَدْ قَالَ الْجُمْهُور إِن الرَّحْمَن أَبْلَغُ مِنَ الرَّحِيمِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ زِيَادَةَ الْمَبْنَى تُؤْذِنُ بِزِيَادَةِ الْمَعْنَى وَإِلَى ذَلِك مَا جُمْهُورُ الْمُحَقِّقِينَ مِثْلَ أَبِي عُبَيْدَةَ وَابْنِ جِنِّي وَالزَّجَّاجِ وَالزَّمَخْشَرِيِّ وَعَلَى رَعْيِ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ أَعْنِي أَنَّ زِيَادَةَ الْمَبْنَى تُؤْذِنُ بِزِيَادَةِ الْمَعْنَى فَقَدْ شَاعَ وُرُودُ إِشْكَالٍ عَلَى وَجْهِ إرداف وَصفه الرَّحْمَن بِوَصْفِهِ بِالرَّحِيمِ مَعَ أَنَّ شَأْنَ أَهْلِ الْبَلَاغَةِ إِذَا أَجْرَوْا وَصْفَيْنِ فِي مَعْنًى وَاحِدٍ عَلَى مَوْصُوفٍ فِي مَقَامِ الْكَمَالِ أَنْ يَرْتَقُوا مِنَ الْأَعَمِّ إِلَى الْأَخَصِّ وَمِنَ الْقَوِيِّ إِلَى الْأَقْوَى كَقَوْلِهِمْ شُجَاعٌ بَاسِلٌ
171
وَجَوَّادٌ فَيَّاضٌ، وَعَالِمٌ نِحْرِيرٌ، وَخَطِيبٌ مِصْقَعٌ، وَشَاعِرٌ مُفْلِقٌ، وَقَدْ رَأَيْتُ لِلْمُفَسِّرِينَ فِي تَوْجِيهِ الارتقاء من الرَّحْمَن إِلَى الرَّحِيمِ أَجْوِبَةٌ كَثِيرَةٌ مَرْجِعُهَا إِلَى اعْتِبَار الرَّحْمَن أَخَصَّ مِنَ الرَّحِيمِ فَتَعْقِيبُ الْأَوَّلِ بِالثَّانِي تَعْمِيمٌ بَعْدَ خَاصٍّ وَلِذَلِكَ كَانَ وصف الرَّحْمَن مُخْتَصًّا بِهِ تَعَالَى وَكَانَ أَوَّلُ إِطْلَاقِهِ مِمَّا خَصَّهُ بِهِ الْقُرْآنُ عَلَى التَّحْقِيقِ بِحَيْثُ لَمْ يَكُنِ التَّوْصِيفُ بِهِ مَعْرُوفًا عِنْدَ الْعَرَبِ كَمَا سَيَأْتِي. وَمَدْلُولُ الرَّحِيمِ كَوْنُ الرَّحْمَةِ كَثِيرَةَ التَّعَلُّقِ إِذْ هُوَ مِنْ أَمْثِلَةِ الْمُبَالَغَةِ وَلِذَلِكَ كَانَ يُطْلَقُ عَلَى غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي حَقِّ رَسُوله بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ [التَّوْبَة: ١٢٨] فَلَيْسَ ذِكْرُ إِحْدَى الصِّفَتَيْنِ بِمُغْنٍ عَنِ الْأُخْرَى:
وَتَقْدِيم الرَّحْمَن عَلَى الرَّحِيمِ لِأَنَّ الصِّيغَةَ الدَّالَّةَ عَلَى الِاتِّصَافِ الذَّاتِيِّ أَوْلَى بِالتَّقْدِيمِ فِي التَّوْصِيفِ مِنَ الصِّفَةِ الدَّالَّةِ عَلَى كَثْرَةِ مُتَعَلَّقَاتِهَا. وَيُنْسَبُ إِلَى قطرب أَن الرَّحْمَن وَالرَّحِيمَ يَدُلَّانِ عَلَى مَعْنًى وَاحِدٍ مِنَ الصِّفَةِ الْمُشَبَّهَةِ فَهُمَا مُتَسَاوِيَانِ وَجُعِلَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي الْآيَةِ مِنْ قَبِيلِ التَّوْكِيدِ اللَّفْظِيِّ وَمَالَ إِلَيْهِ الزَّجَّاجُ وَهُوَ وَجْهٌ ضَعِيفٌ إِذِ التَّوْكِيدُ خِلَافُ الْأَصْلِ وَالتَّأْسِيسُ خَيْرٌ مِنَ التَّأْكِيدِ وَالْمَقَامُ هُنَا بَعِيدٌ عَنْ مُقْتَضَى التَّوْكِيدِ. وَقَدْ ذُكِرَتْ وُجُوهٌ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الصِّفَتَيْنِ لَيْسَتْ بِمُقْنِعَةٍ.
وَقَدْ ذَكَرَ جُمْهُورُ الْأَئِمَّةِ أَن وصف الرَّحْمَن لَمْ يُطْلَقْ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ وَأَنَّ الْقُرْآنَ هُوَ الَّذِي جَاءَ بِهِ صِفَةً لِلَّهِ تَعَالَى فَلِذَلِكَ اخْتُصَّ بِهِ تَعَالَى حَتَّى قِيلَ إِنَّهُ اسْمٌ لَهُ وَلَيْسَ بِصِفَةٍ وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ [الْفرْقَان: ٦٠] وَقَالَ: وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ [الرَّعْد: ٣٠] وَقَدْ تَكَرَّرَ مِثْلُ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ فِي الْقُرْآنِ وَخَاصَّةً فِي السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ مِثْلَ سُورَةِ الْفُرْقَانِ وَسُورَةِ الْمُلْكِ وَقد ذكر الرَّحْمَن فِي سُورَةِ الْمُلْكِ بِاسْمِهِ الظَّاهِرِ وَضَمِيرِهِ ثَمَانِيَ مَرَّاتٍ مِمَّا يُفِيدُ الِاهْتِمَامَ بِتَقْرِيرِ هَذَا الِاسْمِ لِلَّهِ تَعَالَى فِي نُفُوسِ السَّامِعِينَ فَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الْوَصْفَ تُنُوسِيَ فِي كَلَامِهِمْ، أَوْ أَنْكَرُوا أَنْ يَكُونَ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ.
وَمِنْ دَقَائِقَ الْقُرْآنِ أَنَّهُ آثَرَ اسْمَ الرَّحْمَن فِي قَوْلِهِ: مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمنُ فِي سُورَةِ الْمُلْكِ [١٩]، وَقَالَ: مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ فِي سُورَةِ النَّحْلِ [٧٩] إِذْ كَانَتْ آيَةُ سُورَةِ الْمُلْكِ مَكِّيَّةً وَآيَةُ سُورَةِ النَّحْلِ الْقَدْرَ النَّازِلَ بِالْمَدِينَةِ مِنْ تِلْكَ السُّورَةِ، وَأَمَّا قَوْلُ بَعْضِ شُعَرَاءِ بَنِي حَنِيفَةَ فِي مُسَيْلِمَةَ:
سَمَوْتَ بِالْمَجْدِ يَا ابْنَ الْأَكْرَمِينَ أَبًا وَأَنْتَ غَيْثُ الْوَرَى لَا زِلْتَ رَحْمَانَا
فَإِنَّمَا قَالَهُ بَعْدَ مَجِيءِ الْإِسْلَامِ وَفِي أَيَّامِ رِدَّةِ أَهْلِ الْيَمَامَةِ، وَقَدْ لَقَّبُوا مُسَيْلمَة أيامئذ رَحْمَن الْيَمَامَةِ وَذَلِكَ مِنْ غُلُوِّهِمْ فِي الْكُفْرِ. وَإِجْرَاءُ هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ الْعَلِيَّيْنِ عَلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ بَعْدَُُ
172
وَصْفِهِ بِأَنَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لِمُنَاسَبَةٍ ظَاهِرَةٍ لِلْبَلِيغِ لِأَنَّهُ بَعْدَ أَنْ وُصِفَ بِمَا هُوَ مُقْتَضَى اسْتِحْقَاقِهِ الْحَمْدَ مِنْ كَوْنِهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَيْ مُدَبِّرُ شُؤُونِهِمْ وَمُبْلِغُهُمْ إِلَى كَمَالِهِمْ فِي الْوُجُودَيْنِ الْجُثْمَانِيِّ وَالرُّوحَانِيِّ، نَاسَبَ أَنْ يُتْبِعَ ذَلِك بوصفه بالرحمن أَيِ الَّذِي الرَّحْمَةُ لَهُ وَصْفٌ ذَاتِيٌّ تَصْدُرُ عَنْهُ آثَارُهُ بِعُمُومٍ وَاطِّرَادٍ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، فَلَمَّا كَانَ رَبًّا لِلْعَالَمِينَ وَكَانَ الْمَرْبُوبُونَ ضُعَفَاءً كَانَ احْتِيَاجُهُمْ لِلرَّحْمَةِ وَاضِحًا وَكَانَ تَرَقُّبُهُمْ إِيَّاهَا مِنَ الْمَوْصُوفِ بِهَا بِالذَّاتِ نَاجِحًا.
فَإِنْ قُلْتَ إِنَّ الرُّبُوبِيَّةَ تَقْتَضِي الرَّحْمَةَ لِأَنَّهَا إِبْلَاغُ الشَّيْءِ إِلَى كَمَالِهِ شَيْئًا فَشَيْئًا وَذَلِكَ يَجْمَعُ النعم كلهَا، فَلَمَّا ذَا احْتِيجَ إِلَى ذِكْرِ كَوْنِهِ رَحْمَانًا؟ قُلْتُ لِأَنَّ الرَّحْمَةَ تَتَضَمَّنُ أَنَّ ذَلِكَ الْإِبْلَاغَ إِلَى الْكَمَالِ لَمْ يَكُنْ عَلَى وَجْهِ الْإِعْنَاتِ بَلْ كَانَ بِرِعَايَةِ مَا يُنَاسِبُ كُلَّ نَوْعٍ وَفَرْدٍ وَيُلَائِمُ طَوْقَهُ وَاسْتِعْدَادَهُ، فَكَانَتِ الرُّبُوبِيَّةُ نِعْمَةً، وَالنِّعْمَةُ قَدْ تَحْصُلُ بِضَرْبٍ مِنَ الشِّدَّةِ وَالْأَذَى، فَأَتْبَعَ ذَلِك بوصفه بالرحمن تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ تِلْكَ النِّعَمَ الْجَلِيلَةَ وَصَلَتْ إِلَيْنَا بِطَرِيقِ الرِّفْقِ وَالْيُسْرِ وَنَفْيِ الْحَرَجِ، حَتَّى فِي أَحْكَامِ التَّكَالِيفِ وَالْمَنَاهِي وَالزَّوَاجِرِ فَإِنَّهَا مَرْفُوقَةٌ
بِالْيُسْرِ بِقَدْرِ مَا لَا يُبْطِلُ الْمَقْصُودَ مِنْهَا، فَمُعْظَمُ تَدْبِيرِهِ تَعَالَى بِنَا هُوَ رَحَمَاتٌ ظَاهِرَةٌ كَالتَّمْكِينِ مِنَ الْأَرْضِ وَتَيْسِيرِ مَنَافِعِهَا، وَمِنْهُ مَا رَحْمَتُهُ بِمُرَاعَاةِ الْيُسْرِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ مِثْلَ التَّكَالِيفِ الرَّاجِعَةِ إِلَى مَنَافِعِنَا كَالطَّهَارَةِ وَبَثِّ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَمِنْهَا مَا مَنْفَعَتُهُ لِلْجُمْهُورِ فَتَتْبَعُهَا رَحَمَاتُ الْجَمِيعِ لِأَنَّ فِي رَحْمَةِ الْجُمْهُورِ رَحْمَةً بِالْبَقِيَّةِ فِي انْتِظَامِ الْأَحْوَالِ كَالزَّكَاةِ.
وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي أَن لفظ رَحْمَن لَوْ لَمْ يُقْرَنْ بِلَامِ التَّعْرِيفِ هَلْ يُصْرَفُ أَوْ يُمْنَعُ مِنَ الصَّرْفِ؟ قَالَ فِي «الْكَافِيَةِ» :«النُّونُ وَالْأَلِفُ إِذَا كَانَا فِي صِفَةٍ فَشَرْطُ مَنْعِهِ مِنَ الصَّرْفِ انْتِفَاءُ فَعْلَانَةٍ، وَقِيلَ وُجُودُ فَعْلَى، وَمِنْ ثَمَّ اخْتلف فِي رَحْمَن، وَبَنُو أَسَدٍ يَصْرِفُونَ جَمِيعَ فَعْلَانَ لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ فِي كُلِّ مُؤَنَّثٍ لَهُ فَعْلَانَةٌ» وَاخْتَارَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَالرَّضِيُّ وَابْنُ مَالِكٍ عَدَمَ صَرْفِهِ.
[٤] مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ.
إِتْبَاعُ الْأَوْصَافِ الثَّلَاثَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ بِهَذَا لَيْسَ لِمُجَرَّدِ سَرْدِ صِفَاتٍ مِنْ صِفَاتِهِ تَعَالَى، بَلْ هُوَ مِمَّا أَثَارَتْهُ الْأَوْصَافُ الْمُتَقَدِّمَةُ، فَإِنَّهُ لَمَّا وُصِفَ تَعَالَى بِأَنَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ وَكَانَ ذَلِكَ مُفِيدًا لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ التَّنْبِيهِ عَلَى كَمَالِ رِفْقِهِ تَعَالَى بِالْمَرْبُوبِينَ فِي سَائِرِ أَكْوَانِهِمْ، ثُمَّ التَّنْبِيهِ بِأَنَّ تَصَرُّفَهُ تَعَالَى فِي الْأَكْوَانِ وَالْأَطْوَارِ تَصَرُّفُ رَحْمَةٍ عِنْدَ الْمُعْتَبِرِ، وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ تِلْكَ
173
التَّصَرُّفَاتِ تَصَرُّفَاتُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ الْمُعَبَّرِ عَنْهَا بِالتَّشْرِيعِ الرَّاجِعِ إِلَى حِفْظِ مَصَالِحِ النَّاسِ عَامَّةً وَخَاصَّةً، وَكَانَ مُعْظَمُ تِلْكَ التَّشْرِيعَاتِ مُشْتَمِلًا عَلَى إِخْرَاجِ الْمُكَلَّفِ عَنْ دَاعِيَةِ الْهَوَى الَّذِي يُلَائِمُهُ اتِّبَاعُهُ وَفِي نَزْعِهِ عَنْهُ إِرْغَامٌ لَهُ وَمَشَقَّةٌ، خِيفَ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْأَوْصَافُ الْمُتَقَدِّمَةُ فِي فَاتِحَةِ الْكِتَابِ مُخَفِّفًا عَنِ الْمُكَلَّفِينَ عِبْءَ الْعِصْيَانِ لِمَا أُمِرُوا بِهِ وَمُثِيرًا لِأَطْمَاعِهِمْ فِي الْعَفْوِ عَنِ اسْتِخْفَافِهِمْ بِذَلِكَ وَأَنْ يَمْتَلِكَهُمُ الطَّمَعُ فَيَعْتَمِدُوا عَلَى مَا عَلِمُوا مِنَ الرُّبُوبِيَّةِ وَالرَّحْمَةِ الْمُؤَكَّدَةِ فَلَا يَخْشَوْا غَائِلَةَ الْإِعْرَاضِ عَنِ التَّكَالِيفِ، لِذَلِكَ كَانَ مِنْ مُقْتَضَى الْمَقَامِ تَعْقِيبُهُ بِذِكْرِ أَنَّهُ صَاحِبُ الْحُكْمِ فِي يَوْم الْجَزَاء: الْيَوْمَ (١) تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ [غَافِر: ١٧] لِأَنَّ الْجَزَاءَ عَلَى الْفِعْلِ سَبَبٌ فِي الِامْتِثَالِ وَالِاجْتِنَابِ لِحِفْظِ مَصَالِحِ الْعَالَمِ، وَأُحِيطَ ذَلِكَ بِالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، وَجُعِلَ مِصْدَاقُ ذَلِكَ الْجَزَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلِذَلِكَ اخْتِيرَ هُنَا وَصْفُ مَلِكِ أَوْ مَالِكِ مُضَافًا إِلَى يَوْمِ الدِّينِ. فَأَمَّا مَلِكٌ فَهُوَ مُؤْذِنٌ بِإِقَامَةِ الْعَدْلِ وَعَدَمِ الْهَوَادَةِ فِيهِ لِأَنَّ شَأْنَ الْمَلِكِ أَنْ يُدَبِّرَ صَلَاحَ الرَّعِيَّةِ وَيَذُبَّ عَنْهُمْ، وَلِذَلِكَ أَقَامَ النَّاسُ الْمُلُوكَ عَلَيْهِمْ. وَلَوْ قِيلَ رَبُّ يَوْمِ الدِّينِ لَكَانَ فِيهِ مَطْمَعٌ لِلْمُفْسِدِينَ يَجِدُونَ مِنْ شَأْنِ الرَّبِّ
رَحْمَةً وَصَفْحًا، وَأَمَّا مَالِكٌ فَمِثْلُ تِلْكَ فِي إِشْعَارِهِ بِإِقَامَةِ الْجَزَاءِ عَلَى أَوْفَقِ كَيْفِيَّاتِهِ بِالْأَفْعَالِ الْمُجْزَى عَلَيْهَا.
فَإِنْ قُلْتَ فَإِذَا كَانَ إِجْرَاءُ الْأَوْصَافِ السَّابِقَةِ مُؤْذِنًا بِأَنَّ جَمِيعَ تَصَرُّفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى فِينَا رَحْمَةٌ فَقَدْ كَفَى ذَلِكَ فِي الْحَثِّ عَلَى الِامْتِثَالِ وَالِانْتِهَاءِ إِذِ الْمَرْءُ لَا يُخَالِفُ مَا هُوَ رَحْمَةٌ بِهِ فَلَا جَرَمَ أَنْ يَنْسَاقَ إِلَى الشَّرِيعَةِ بِاخْتِيَارِهِ. قُلْتُ الْمُخَاطَبُونَ مَرَاتِبٌ: مِنْهُمْ مَنْ لَا يَهْتَدِي لِفَهْمِ ذَلِكَ إِلَّا بَعْدَ تَعْقِيبِ تِلْكَ الْأَوْصَافِ بِهَذَا الْوَصْفِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَهْتَدِي لِفَهْمِ ذَلِكَ وَلَكِنَّهُ يَظُنُّ أَنَّ فِي فِعْلِ الْمُلَائِمِ لَهُ رَحْمَةً بِهِ أَيْضًا فَرُبَّمَا آثَرَ الرَّحْمَةَ الْمُلَائِمَةَ عَلَى الرَّحْمَةِ الْمُنَافِرَةِ وَإِنْ كَانَتْ مُفِيدَةً لَهُ، وَرُبَّمَا تَأَوَّلَ الرَّحْمَةَ بِأَنَّهَا رَحْمَةٌ لِلْعُمُومِ وَأَنَّهُ إِنَّمَا يَنَالُهُ مِنْهَا حَظٌّ ضَعِيفٌ فَآثَرَ رَحْمَةَ حَظِّهِ الْخَاصِّ بِهِ عَلَى رَحْمَةِ حَظِّهِ التَّابِعِ لِلْعَامَّةِ. وَرُبَّمَا تَأَوَّلَ أَنَّ الرَّحْمَةَ فِي تَكَالِيفِ اللَّهِ تَعَالَى أَمْرٌ أَغْلَبِيٌّ لَا مُطَّرِدٌ وَأَنَّ وَصفه تَعَالَى بالرحمن بِالنِّسْبَةِ لِغَيْرِ التَّشْرِيعِ مِنْ تَكْوِينٍ وَرِزْقٍ وَإِحْيَاءٍ، وَرُبَّمَا ظَنَّ أَنَّ الرَّحْمَةَ فِي الْمَآلِ فَآثَرَ عَاجِلَ مَا يُلَائِمُهُ. وَرُبَّمَا عَلِمَ جَمِيعَ مَا تَشْتَمِلُ عَلَيْهِ التَّكَالِيفُ مِنَ الْمَصَالِحِ بِاطِّرَادٍ وَلَكِنَّهُ مَلَكَتْهُ شَهْوَتُهُ وَغَلَبَتْ عَلَيْهِ شِقْوَتُهُ. فَكُلُّ هَؤُلَاءِ مَظِنَّةٌ لِلْإِعْرَاضِ عَنِ التَّكَالِيفِ الشَّرْعِيَّةِ، وَلِأَمْثَالِهِمْ جَاءَ تَعْقِيبُ الصِّفَاتِ الْمَاضِيَةِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ تَذْكِيرًا لَهُمْ بِمَا سَيَحْصُلُ مِنَ الْجَزَاءِ يَوْمَ الْحِسَابِ لِئَلَّا يَفْسُدَ الْمَقْصُودُ مِنَ التَّشْرِيعِ حِينَ تَتَلَقَّفُهُ أَفْهَامُ كُلِّ مُتَأَوِّلٍ مُضَيِّعٍ.
_________
(١) فِي المطبوعة: يَوْم.
174
ثُمَّ إِنَّ فِي تَعْقِيبِ قَوْلِهِ: رَبِّ الْعالَمِينَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ بِقَوْلِهِ: مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ وَلِيُّ التَّصَرُّفِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَهُوَ إِذَنْ تَتْمِيمٌ.
وَقَوْلُهُ (مَلِكِ) قَرَأَهُ الْجُمْهُورُ بِدُونِ أَلِفٍ بَعْدَ الْمِيمِ وَقَرَأَهُ عَاصِمٌ وَالْكِسَائِيُّ وَيَعْقُوبُ وَخَلَفٌ (مَالِكِ) بِالْأَلِفِ فَالْأَوَّلُ صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ صَارَتِ اسْمًا لِصَاحِبِ الْمُلْكِ (بِضَمِّ الْمِيمِ) وَالثَّانِي اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ مَلَكَ إِذَا اتَّصَفَ بِالْمِلْكِ (بِكَسْر الْمِيم) وكلا هما مُشْتَقٌّ مِنْ مَلَكَ، فَأَصْلُ مَادَّةِ مَلَكَ فِي اللُّغَةِ تَرْجِعُ تَصَارِيفُهَا إِلَى مَعْنَى الشَّدِّ وَالضَّبْطِ كَمَا قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ، ثُمَّ يَتَصَرَّفُ ذَلِكَ بِالْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ، وَالتَّحْقِيقِ وَالِاعْتِبَارِ، وَقِرَاءَةُ (مَلِكِ) بِدُونِ أَلِفٍ تَدُلُّ عَلَى تَمْثِيلِ الْهَيْئَةِ فِي نُفُوسِ السَّامِعِينَ لِأَنَّ الْمَلِكَ- بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ اللَّامِ- هُوَ ذُو الْمُلْكِ- بِضَمِّ الْمِيمِ- وَالْمُلْكُ أَخَصُّ مِنَ الْمِلْكِ، إِذِ الْمُلْكُ- بِضَمِّ الْمِيمِ- هُوَ التَّصَرُّفُ فِي الْمَوْجُودَاتِ وَالِاسْتِيلَاءُ وَيَخْتَصُّ بِتَدْبِيرِ أُمُورِ الْعُقَلَاءِ وَسِيَاسَةِ جُمْهُورِهِمْ وَأَفْرَادِهِمْ وَمَوَاطِنِهِمْ فَلِذَلِكَ يُقَالُ: مَلِكِ النَّاسِ وَلَا يُقَالُ: مَلِكِ الدَّوَابِّ أَوِ الدَّرَاهِمِ، وَأَمَّا الْمِلْكُ- بِكَسْرِ الْمِيمِ- فَهُوَ الِاخْتِصَاصُ بِالْأَشْيَاءِ وَمَنَافِعِهَا دُونَ غَيْرِهِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ (مَلِكِ) بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ اللَّامِ دُونَ أَلِفٍ وَرُوِيَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَاحِبَيْهِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ فِي «كِتَابِ التِّرْمِذِيِّ». قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: حَكَى أَبُو عَلِيٍّ عَنْ بَعْضِ الْقُرَّاءِ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ قَرَأَ (مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ) مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ فَرَدَّهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ السَّرَّاجِ بِأَنَّ الْأَخْبَارَ الْوَارِدَةَ تُبْطِلُ ذَلِكَ فَلَعَلَّ قَائِلَ ذَلِكَ أَرَادَ أَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ قَرَأَ بِهَا فِي بَلَدٍ مَخْصُوصٍ. وَأَمَّا قِرَاءَةُ (مَالِكِ) بِأَلِفٍ بَعْدَ الْمِيمِ بِوَزْنِ اسْمِ الْفَاعِلِ فَهِيَ قِرَاءَةُ عَاصِمٍ وَالْكِسَائِيِّ وَيَعْقُوبَ وَخَلَفٍ، وَرُوِيَتْ عَنْ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَطَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ، وَرَوَاهَا التِّرْمِذِيُّ فِي «كِتَابِهِ» أَنَّهَا قَرَأَ بِهَا النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصاحباه أَيْضا.
وكلتا هما صَحِيحَةٌ ثَابِتَةٌ كَمَا هُوَ شَأْنُ الْقِرَاءَاتِ الْمُتَوَاتِرَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمُقَدِّمَةِ السَّادِسَةِ.
وَقَدْ تَصَدَّى الْمُفَسِّرُونَ وَالْمُحْتَجُّونَ لِلْقِرَاءَاتِ لِبَيَانِ مَا فِي كُلٍّ مِنْ قِرَاءَةِ (مَلِكِ) - بِدُونِ أَلِفٍ- وَقِرَاءَةِ (مَالِكِ) - بِالْأَلِفِ- مِنْ خُصُوصِيَّاتٍ بِحَسَبِ قَصْرِ النَّظَرِ عَلَى مَفْهُومِ كَلِمَةِ مَلِكِ وَمَفْهُومِ كَلِمَةِ (مَالِكِ)، وَغَفَلُوا عَنْ إِضَافَةِ الْكَلِمَةِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، فَأَمَّا وَالْكَلِمَةُ مُضَافَةٌ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ فَقَدِ اسْتَوَيَا فِي إِفَادَةِ أَنَّهُ الْمُتَصَرف فِي شؤون ذَلِكَ الْيَوْمِ دُونَ شُبْهَةِ مُشَارِكٍ. وَلَا مَحِيصَ عَنِ اعْتِبَارِ التَّوَسُّعِ فِي إِضَافَةِ (مَلِكٍ) أَوْ (مَالِكٍ) إِلَى (يَوْم) بِتَأْوِيل شؤون يَوْمٍ الدِّينِ.
عَلَى أَنَّ (مَالِكِ) لُغَةٌ فِي (مَلِكِ) فَفِي «الْقَامُوسِ» :«وَكَأَمِيرٍ وَكَتِفٍ وَصَاحِبٍ ذُو الْمُلْكِ».
175
وَيَوْمُ الدِّينِ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَمَبْدَأُ الدَّارِ الْآخِرَةِ، فَالدِّينُ فِيهِ بِمَعْنَى الْجَزَاءِ، قَالَ الْفِنْدُ الزِّمَّانِيِّ (١) :
فَلَمَّا صَرَّحَ الشَّرُّ فَأَمْسَى وَهْوَ عُرْيَانُ
وَلَمْ يَبْقَ سِوَى الْعُدْوَا نُ دِنَّاهُمْ كَمَا دَانُوا
أَيْ جَازَيْنَاهُمْ عَلَى صُنْعِهِمْ كَمَا صَنَعُوا مُشَاكَلَةً، أَوْ كَمَا جَازَوْا مِنْ قَبْلُ إِذَا كَانَ اعْتِدَاؤُهُمْ نَاشِئًا عَنْ ثَأْرٍ أَيْضًا، وَهَذَا هُوَ الْمَعْنَى الْمُتَعَيَّنُ هُنَا وَإِنْ كَانَ لِلدِّينِ إِطْلَاقَاتٌ كَثِيرَةٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ وَصْفَهُ تَعَالَى بِمَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ تَكْمِلَةٌ لِإِجْرَاءِ مَجَامِعِ صِفَاتِ الْعَظَمَةِ وَالْكَمَالِ عَلَى اسْمِهِ تَعَالَى، فَإِنَّهُ بَعْدَ أَنْ وُصِفَ بِأَنَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَذَلِكَ مَعْنَى الْإِلَهِيَّةِ الْحَقَّةِ إِذْ يَفُوقُ مَا كَانُوا يَنْعَتُونَ بِهِ آلِهَتَهُمْ مِنْ قَوْلِهِمْ إِلَهُ بَنِي فُلَانٍ فَقَدْ كَانَتِ الْأُمَمُ تَتَّخِذُ آلِهَةً خَاصَّةً لَهَا كَمَا حَكَى اللَّهُ عَنْ بَعْضِهِمْ: فَقالُوا هَذَا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى [طه: ٨٨] وَقَالَ: قالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ [الْأَعْرَاف: ١٣٨] وَكَانَتْ لِبَعْضِ قَبَائِلِ الْعَرَبِ آلِهَةٌ خَاصَّةٌ، فَقَدْ عَبَدَتْ ثَقِيفٌ اللَّاتَ قَالَ الشَّاعِرُ:
وَوَقَرَتْ ثَقِيفٌ إِلَى لَاتِهَا (٢)
وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ فِي «الْمُوَطَّأِ» :«كَانَ الْأَنْصَارُ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمُوا يُهِلُّونَ لِمَنَاةَ الطَّاغِيَةِ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَهَا عِنْدَ الْمُشَلَّلِ» الْحَدِيثَ (٣).
فَوَصْفُ اللَّهِ تَعَالَى بِأَنَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ كُلِّهِمْ، ثُمَّ عقب بوصفي الرَّحْمَن الرَّحِيمِ لِإِفَادَةِ عِظَمُُِ
_________
(١) الفند لقبه، وأصل الفند بِكَسْر الْفَاء الْجَبَل، واسْمه شهل بن شَيبَان بشين مُعْجمَة وَلَيْسَ فِي أَسمَاء الْعَرَب شهل بالشين الْمُعْجَمَة غَيره، وَهُوَ من شعراء حَرْب البسوس، وَإِنَّمَا لقب الفند لِأَنَّهُ لما جَاءَ لينصر بني بكر بن وَائِل قَالُوا مَا يُغني عَنَّا هَذَا الْهم- بِكَسْر الْهَاء- أَي الشَّيْخ، فَقَالَ لَهُم أما ترْضونَ أَن أكون لكم فندا تأوون إِلَيْهِ؟ أَي معقلا ومرجعا فِي الرَّأْي وَالْحَرب. والزماني- بِكَسْر الزَّاي وَتَشْديد الْمِيم- نِسْبَة لقبيلة هم أَبنَاء عَم بني حنيفَة.
(٢) تَمَامه:
بمنقلب الخائب الخاسر
كَذَا فِي «تَارِيخ الْعَرَب» فِي بَاب أَدْيَان الْعَرَب من كتَابنَا «تَارِيخ الْعَرَب قبل الْإِسْلَام» مخطوط.
(٣) فِي «الصَّحِيحَيْنِ» وَاللَّفْظ للْبُخَارِيّ (وَمَنَاة) اسْم صنم يعبده الْمُشْركُونَ من الْعَرَب وَهُوَ صَخْرَة كَانُوا يذبحون عِنْدهَا. والمشلل- بِضَم الْمِيم وَفتح الشين الْمُعْجَمَة وَلَام مُشَدّدَة مَفْتُوحَة وَلَام أُخْرَى- اسْم ثنية مشرفة على قديد بَين مَكَّة وَالْمَدينَة.
176
رَحْمَتِهِ، ثُمَّ وُصِفَ بِأَنَّهُ مَلِكُ يَوْمِ الدِّينِ وَهُوَ وَصْفٌ بِمَا هُوَ أَعْظَمُ مِمَّا قبله لِأَنَّهُ ينبىء عَنْ عُمُومِ التَّصَرُّفِ فِي الْمَخْلُوقَاتِ فِي يَوْمِ الْجَزَاءِ الَّذِي هُوَ أَوَّلُ أَيَّامِ الْخُلُودِ، فَمَلِكُ ذَلِكَ الزَّمَانِ هُوَ صَاحِبُ الْمُلْكِ الَّذِي لَا يَشِذُّ شَيْءٌ عَنِ الدُّخُولِ تَحْتَ مُلْكِهِ، وَهُوَ الَّذِي لَا يَنْتَهِي مُلْكُهُ وَلَا يَنْقَضِي، فَأَيْنَ هَذَا الْوَصْفُ مِنْ أَوْصَافِ الْمُبَالَغَةِ الَّتِي يُفِيضُهَا النَّاسُ عَلَى أَعْظَمِ الْمُلُوكِ مِثْلَ مَلِكِ الْمُلُوكِ (شَاهَانْ شَاهْ) وَمَلِكِ الزَّمَانِ وَمَلِكِ الدُّنْيَا (شَاهْ جَهَانْ) وَمَا شَابَهَ ذَلِكَ. مَعَ مَا فِي تَعْرِيفِ ذَلِكَ الْيَوْمِ بِإِضَافَتِهِ إِلَى الدِّينِ أَيِ الْجَزَاءِ مِنْ إِدْمَاجِ التَّنْبِيهِ عَلَى عَدَمِ حُكْمِ اللَّهِ لِأَنَّ إِيثَارَ لَفْظِ الدِّينِ (أَيِ الْجَزَاءِ) لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّهُ مُعَامَلَةُ الْعَامِلِ بِمَا يُعَادِلُ أَعْمَالَهُ الْمَجْزِيِّ عَلَيْهَا فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَذَلِكَ الْعَدْلُ الْخَاصُّ قَالَ تَعَالَى: الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ [غَافِر: ١٧] فَلِذَلِكَ لَمْ يَقُلْ مَلِكِ يَوْمِ الْحِسَابِ فَوَصْفُهُ بِأَنَّهُ مَلِكُ يَوْمِ الْعَدْلِ الصِّرْفِ وَصْفٌ لَهُ بِأَشْرَفِ مَعْنَى الْمُلْكِ فَإِنَّ الْمُلُوكَ تَتَخَلَّدُ مَحَامِدُهُمْ بِمِقْدَارِ تَفَاضُلِهِمْ فِي إِقَامَةِ الْعَدْلِ وَقَدْ عَرَّفَ الْعَرَبُ الْمِدْحَةَ بِذَلِكَ. قَالَ النَّابِغَةُ يَمْدَحُ الْمَلِكَ
عَمْرَو بْنَ الْحَارِثِ الْغَسَّانِيَّ مَلِكَ الشَّامِ:
وَكَمْ جَزَانَا بِأَيْدٍ غَيْرِ ظَالِمَةٍ عُرْفًا بِعُرْفٍ وَإِنْكَارًا بِإِنْكَارِ
وَقَالَ الْحَارِثُ بْنُ حِلِّزَةَ يَمْدَحُ الْمَلِكَ عَمْرَو بْنَ هِنْدٍ اللَّخْمِيَّ مَلِكَ الْحِيرَةِ:
مَلِكٌ مُقْسِطٌ وَأَفْضَلُ مَنْ يَمْ شِي وَمِنْ دُونِ مَا لَدَيْهِ الْقَضَاءُ
وَإِجْرَاءُ هَذِهِ الْأَوْصَافِ الْجَلِيلَةِ عَلَى اسْمِهِ تَعَالَى إِيمَاءٌ بِأَنَّ مَوْصُوفَهَا حَقِيقٌ بِالْحَمْدِ الْكَامِلِ الَّذِي أَعْرَبَتْ عَنْهُ جُمْلَةُ الْحَمْدُ لِلَّهِ، لِأَنَّ تَقْيِيدَ مُفَادِ الْكَلَامِ بِأَوْصَافِ مُتَعَلَّقِ ذَلِكَ الْمُفَادِ يُشْعِرُ بِمُنَاسَبَةٍ بَيْنَ تِلْكَ الْأَوْصَافِ وَبَيْنَ مُفَادِ الْكَلَامِ مُنَاسِبَةٌ تُفْهَمُ مِنَ الْمَقَامِ مِثْلَ التَّعْلِيلِ فِي مَقَامِ هَذِهِ الْآيَةِ.
[٥] إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ.
إِذَا أَتَمَّ الْحَامِدُ حَمْدَ رَبِّهِ يَأْخُذُ فِي التَّوَجُّهِ إِلَيْهِ بِإِظْهَارِ الْإِخْلَاصِ لَهُ انْتِقَالًا مِنَ الْإِفْصَاحِ عَنْ حَقِّ الرَّبِّ إِلَى إِظْهَار مراعة مَا يَقْتَضِيهِ حَقُّهُ تَعَالَى عَلَى عَبْدِهِ مِنْ إِفْرَادِهِ بِالْعِبَادَةِ وَالِاسْتِعَانَةِ. فَهَذَا الْكَلَامُ اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ.
وَمُفَاتَحَةُ الْعُظَمَاءِ بِالتَّمْجِيدِ عِنْدَ التَّوَجُّهِ إِلَيْهِمْ قَبْلَ أَنْ يُخَاطَبُوا طَرِيقَةٌ عَرَبِيَّةٌ. رَوَىُُ
177
أَبُو الْفَرَجِ الْأَصْفَهَانِيُّ عَنْ حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ النُّعْمَانِ فَنَادَمْتُهُ وَأَكَلْتُ مَعَهُ فَبَيْنَا أَنَا عَلَى ذَلِكَ مَعَهُ فِي قُبَّةٍ إِذَا رَجُلٌ يَرْتَجِزُ حَوْلَهَا:
أَصُمَّ أَمْ يَسْمَعُ رَبُّ الْقُبَّهْ يَا أَوْهَبُ النَّاسِ لِعِيسٍ صُلْبَهْ
ضرّابة بالمشغر الأذيّه ذَاتِ هِبَابٍ فِي يَدَيْهَا خُلْبَهْ
فِي لَاحِبٍ كَأَنَّهُ الْأَطِبَّهْ (١)
فَقَالَ النُّعْمَانُ: أَلَيْسَ بِأَبِي أُمَامَةَ؟ (كُنْيَةُ النَّابِغَةِ) قَالُوا: بَلَى، قَالَ: فَأَذِنُوا لَهُ فَدَخَلَ.
وَالِانْتِقَالُ مِنْ أُسْلُوبِ الْحَدِيثِ بِطَرِيقِ الْغَائِبِ الْمُبْتَدَأِ مِنْ قَوْلِهِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ إِلَى
قَوْلِهِ: مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ، إِلَى أُسْلُوبِ طَرِيقِ الْخِطَابِ ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ إِلَى آخِرِ السُّورَةِ، فَنٌّ بَدِيعٌ مِنْ فُنُونِ نَظْمِ الْكَلَامِ الْبَلِيغِ عِنْدَ الْعَرَبِ، وَهُوَ الْمُسَمَّى فِي عِلْمِ الْأَدَبِ الْعَرَبِيِّ وَالْبَلَاغَةِ الْتِفَاتًا. وَفِي ضَابِطِ أُسْلُوبِ الِالْتِفَاتِ رَأْيَانِ لِأَئِمَّةِ علم البلاغة:
أحد هما رَأْيُ مَنْ عَدَا السَّكَّاكِيِّ مِنْ أَئِمَّةِ الْبَلَاغَةِ وَهُوَ أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ بَعْدَ أَنْ يُعَبِّرَ عَنْ ذَات بِأحد طَرِيق ثَلَاثَةٍ مِنْ تَكَلُّمٍ أَوْ غَيْبَةٍ أَوْ خِطَابٍ يَنْتَقِلُ فِي كَلَامِهِ ذَلِكَ فَيُعَبِّرُ عَنْ تِلْكَ الذَّاتِ بِطَرِيقٍ آخَرَ مِنْ تِلْكَ الثَّلَاثَةِ، وَخَالَفَهُمُ السَّكَّاكِيُّ فَجَعَلَ مُسَمَّى الِالْتِفَاتِ أَنْ يُعَبِّرَ عَنْ ذَاتٍ بِطَرِيقٍ مِنْ طُرُقِ التَّكَلُّمِ أَوِ الْخِطَابِ أَوِ الْغَيْبَةِ عادلا عَن أحد هما الَّذِي هُوَ الْحَقِيقُ بِالتَّعْبِيرِ فِي ذَلِكَ الْكَلَامِ إِلَى طَرِيقٍ آخَرَ مِنْهَا.
وَيَظْهَرُ أَثَرُ الْخِلَافِ بَيْنَ الْجُمْهُورِ وَالسَّكَّاكِيِّ فِي الْمُحَسِّنِ الَّذِي يُسَمَّى بِالتَّجْرِيدِ فِي عِلْمِ الْبَدِيعِ مِثْلَ قَوْلِ عَلْقَمَةَ بْنِ عَبْدَةَ فِي طَالِعِ قَصِيدَتِهِ:
طَحَا بِكَ قَلْبٌ فِي الْحِسَانِ طَرُوبُ
مُخَاطِبًا نَفْسَهُ عَلَى طَرِيقَةِ التَّجْرِيدِ، فَهَذَا لَيْسَ بِالْتِفَاتٍ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَهُوَ مَعْدُودٌ مِنَ الِالْتِفَاتِ عِنْدَ السَّكَّاكِيِّ، فَتَسْمِيَةُ الِالْتِفَاتِ الْتِفَاتًا عَلَى رَأْيِ الْجُمْهُورِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ عُدُولَ الْمُتَكَلِّمِ عَنِ الطَّرِيقِ الَّذِي سَلَكَهُ إِلَى طَرِيقٍ آخَرَ يُشْبِهُ حَالَةَ النَّاظِرِ إِلَى شَيْءٍ ثُمَّ يَلْتَفِتُ عَنْهُ، وَأَمَّا تَسْمِيَتُهُ الْتِفَاتًا عَلَى رَأْيِ السَّكَّاكِيِّ فَتَجْرِي عَلَى اعْتِبَارِ الْغَالِبِ مِنْ صُوَرِ الِالْتِفَاتِ دُونَ صُورَةِ التَّجْرِيدِ، وَلَعَلَّ السَّكَّاكِيَّ الْتَزَمَ هَذِهِ التَّسْمِيَةَ لِأَنَّهَا تَقَرَّرَتْ مِنْ قَبْلِهِ فَتَابَعَ هُوَ الْجُمْهُورَ فِي هَذَا الِاسْمِ. وَمِمَّا يَجِبُُُ
_________
(١) الْهمزَة فِي قَوْله: أَصمّ للاستفهام الْمُسْتَعْمل فِي التَّنْبِيه. والمشغر: آلَة الشّغَار أَي الطَّرْد وَهُوَ يَعْنِي ذَنْب الْبَعِير. والأذبة- بِكَسْر الذَّال الْمُعْجَمَة- جمع ذُبَابَة. والخلبة- بِضَم الْخَاء الْمُعْجَمَة وَسُكُون اللَّام حَلقَة من لِيف. واللاحب: الطَّرِيق وَهُوَ مُتَعَلق بقوله هباب. والأطبة- جمع طباب- وَهُوَ الشرَاك يجمع بَين الأديمين.
178
التَّنَبُّهُ لَهُ أَنَّ الِاسْمَ الظَّاهِرَ مُعْتَبَرٌ مِنْ قَبِيلِ الْغَائِبِ عَلَى كِلَا الرَّأْيَيْنِ، وَلِذَلِكَ كَانَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ الْتِفَاتًا عَلَى كِلَا الرَّأْيَيْنِ لِأَنَّ مَا سَبَقَ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إِلَى قَوْلِهِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ تَعْبِيرٌ بِالِاسْمِ الظَّاهِرِ وَهُوَ اسْمُ الْجَلَالَةِ وَصِفَاتُهُ.
وَلِأَهْلِ الْبَلَاغَةِ عِنَايَةٌ بِالِالْتِفَاتِ لِأَنَّ فِيهِ تَجْدِيدَ أُسْلُوبِ التَّعْبِيرِ عَنِ الْمَعْنَى بِعَيْنِهِ تَحَاشِيًا مِنْ تَكَرُّرِ الْأُسْلُوبِ الْوَاحِدِ عِدَّةَ مِرَارٍ فَيَحْصُلُ بِتَجْدِيدِ الْأُسْلُوبِ تَجْدِيدُ نَشَاطِ السَّامِعِ كَيْ لَا يَمَلَّ مِنْ إِعَادَةِ أُسْلُوبٍ بِعَيْنِهِ. قَالَ السَّكَّاكِيُّ فِي «الْمِفْتَاحِ» بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ أَنَّ الْعَرَبَ يَسْتَكْثِرُونَ مِنَ الِالْتِفَاتِ: «أَفَتَرَاهُمْ يُحْسِنُونَ قِرَى الْأَشْبَاحِ فَيُخَالِفُونَ بَيْنَ لَوْنٍ وَلَوْنٍ وَطَعْمٍ وَطَعْمٍ وَلَا يُحْسِنُونَ قِرَى الْأَرْوَاحِ فَيُخَالِفُونَ بَيْنَ أُسْلُوبٍ وَأُسْلُوبٍ». فَهَذِهِ فَائِدَةٌ مُطَّرِدَةٌ فِي الِالْتِفَاتِ. ثُمَّ إِنَّ الْبُلَغَاءَ لَا يَقْتَصِرُونَ عَلَيْهَا غَالِبًا بَلْ يُرَاعُونَ لِلِالْتِفَاتِ لَطَائِفَ وَمُنَاسَبَاتٍ وَلَمْ يَزَلْ أَهْلُ النَّقْدِ وَالْأَدَبِ يَسْتَخْرِجُونَ ذَلِكَ مِنْ مَغَاصِهِ.
وَمَا هُنَا الْتِفَاتٌ بَدِيعٌ فَإِنَّ الْحَامِدَ لَمَّا حَمِدَ اللَّهَ تَعَالَى وَوَصَفَهُ بِعَظِيمِ الصِّفَاتِ بَلَغَتْ بِهِ
الْفِكْرَةُ مُنْتَهَاهَا فَتَخَيَّلَ نَفْسَهُ فِي حَضْرَةِ الرُّبُوبِيَّةِ فَخَاطَبَ رَبَّهُ بِالْإِقْبَالِ، كَعَكْسِ هَذَا الِالْتِفَاتِ فِي قَوْلِ مُحَمَّدِ بْنِ بَشِيرٍ الْخَارِجِيِّ (نِسْبَةً إِلَى بَنِي خَارِجَةَ قَبِيلَةٌ) :
ذُمِمْتَ وَلَمْ تُحْمَدْ وَأَدْرَكْتُ حَاجَةً تَوَلَّى سِوَاكُمْ أَجْرَهَا وَاصْطِنَاعَهَا
أَبَى لَكَ كَسْبَ الْحَمْدِ رَأْيٌ مُقَصِّرٌ وَنَفْسٌ أَضَاقَ اللَّهُ بِالْخَيْرِ بَاعَهَا
إِذَا هِيَ حَثَّتْهُ عَلَى الْخَيْرِ مَرَّةً عَصَاهَا وَإِنْ هَمَّتْ بِشَرٍّ أَطَاعَهَا
فَخَاطَبَهُ ابْتِدَاءً ثُمَّ ذَكَرَ قُصُورَ رَأْيِهِ وَعَدَمَ انْطِبَاعِ نَفْسِهِ عَلَى الْخَيْرِ فَالْتَفَتَ مِنْ خِطَابِهِ إِلَى التَّعْبِيرِ عَنْهُ بِضَمِيرِ الْغَيْبَةِ فَقَالَ: إِذَا هِيَ حَثَّتْهُ فَكَأَنَّهُ تَخَيَّلَهُ قَدْ تَضَاءَلَ حَتَّى غَابَ عَنْهُ، وَبِعَكْسِ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ وَلِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي [العنكبوت: ٢٣] لِاعْتِبَارِ تَشْنِيعِ كُفْرِ الْمُتَحَدَّثِ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ صَاحِبِ ذَلِكَ الِاسْمِ الْجَلِيلِ، وَبَعْدَ تَقُرُّرِ ذَلِكَ انْتَقَلَ إِلَى أُسْلُوبِ ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ إِذْ هُوَ الْأَصْلُ فِي التَّعْبِيرِ عَنِ الْأَشْيَاءِ الْمُضَافَةِ إِلَى ذَاتِ الْمُتَكَلِّمِ. وَمِمَّا يَزِيدُ الِالْتِفَاتَ وَقْعًا فِي الْآيَةِ أَنَّهُ تَخَلَّصَ مِنَ الثَّنَاءِ إِلَى الدُّعَاءِ وَلَا شَكَّ أَنَّ الدُّعَاءَ يَقْتَضِي الْخِطَابَ فَكَانَ قَوْلُهُ: إِيَّاكَ نَعْبُدُ تَخَلُّصًا يَجِيءُ بَعْدَهُ: اهْدِنَا الصِّراطَ وَنَظِيرُهُ فِي ذَلِكَ قَوْلُ النَّابِغَةِ فِي رِثَاءِ النُّعْمَانِ الْغَسَّانِيِّ:
179
أَبَى غَفْلَتِي أَنِّي إِذَا مَا ذَكَرْتُهُ تَحَرَّكَ دَاءٌ فِي فُؤَادِيَ دَاخِلُُُ
وَأَنَّ تِلَادِي إِنْ نَظَرْتُ وَشِكَّتِي وَمُهْرِي وَمَا ضَمَّتْ إليّ الأنامل
جباؤك وَالْعِيسُ الْعِتَاقُ كَأَنَّهَا هِجَانُ الْمَهَى تُزْجَى عَلَيْهَا الرَّحَائِلُ
وَأَبُو الْفَتْحِ ابْنُ جِنِّي يُسَمِّي الِالْتِفَاتَ «شَجَاعَةَ الْعَرَبِيَّةِ» كَأَنَّهُ عَنَى أَنَّهُ دَلِيلٌ عَلَى حِدَّةِ ذِهْنِ الْبَلِيغِ وَتَمَكُّنِهِ مِنْ تَصْرِيفِ أَسَالِيبِ كَلَامِهِ كَيْفَ شَاءَ كَمَا يَتَصَرَّفُ الشُّجَاعُ فِي مَجَالِ الْوَغَى بِالْكَرِّ وَالْفَرِّ.
وَ (إِيَّاكَ) ضَمِيرُ خِطَابٍ فِي حَالَةِ النَّصْبِ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ كَلِمَةَ إِيَّا جُعِلَتْ لِيَعْتَمِدَ عَلَيْهَا الضَّمِيرُ عِنْدَ انْفِصَالِهِ وَلِذَلِكَ لَزِمَتْهَا الضَّمَائِرُ نَحْوُ: إِيَّايَ تَعْنِي، وَإِيَّاكَ أَعْنِي، وَإِيَّاهُمْ أَرْجُو.
وَمن هُنَا لَك الْتُزِمَ فِي التَّحْذِيرِ لِأَنَّ الضَّمِيرَ انْفَصَلَ عِنْدَ الْتِزَامِ حَذْفِ الْعَامِلِ. وَمِنَ النُّحَاةِ مَنْ جَعَلَ (إِيَّا) ضَمِيرًا مُنْفَصِلًا مُلَازِمًا حَالَةً وَاحِدَةً وَجَعْلَ الضَّمَائِرَ الَّتِي مَعَهُ أُضِيفَتْ إِلَيْهِ لِلتَّأْكِيدِ. وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ (إِيَّا) هُوَ الضَّمِيرُ وَجَعَلَ مَا بَعْدَهُ حُرُوفًا لِبَيَانِ الضَّمِيرِ. وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ (إِيَّا) اعْتِمَادًا لِلضَّمِيرِ كَمَا كَانَتْ أَيُّ اعْتِمَادًا لِلْمُنَادَى الَّذِي فِيهِ الْ. وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ (إِيَّا) اسْمًا ظَاهِرًا مُضَافًا لِلْمُضْمَرَاتِ.
وَالْعِبَادَةُ فِعْلٌ يَدُلُّ عَلَى الْخُضُوعِ أَوِ التَّعْظِيمِ الزَّائِدَيْنِ عَلَى الْمُتَعَارَفِ بَيْنَ النَّاسِ. وَأَمَّا إِطْلَاقُهَا عَلَى الطَّاعَةِ فَهُوَ مَجَازٌ. وَالْعِبَادَةُ فِي الشَّرْعِ أَخَصُّ فَتُعَرَّفُ بِأَنَّهَا فِعْلُ مَا يُرْضِي الرَّبَّ مِنْ خُضُوعٍ وَامْتِثَالٍ وَاجْتِنَابٍ، أَوْ هِيَ فِعْلُ الْمُكَلَّفِ عَلَى خِلَافِ هَوَى نَفْسِهِ تَعْظِيمًا لِرَبِّهِ، وَقَالَ الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: ٥٦] ((الْعِبَادَةُ تَعْظِيمُ أَمْرِ اللَّهِ وَالشَّفَقَةُ عَلَى الْخَلْقِ، وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الَّذِي اتَّفَقَتْ عَلَيْهِ الشَّرَائِعُ وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي الْوَضْعِ وَالْهَيْئَةِ والقلة وَالْكَثْرَة)) اهـ فَهِيَ بِهَذَا التَّفْسِيرِ تَشْمَلُ الِامْتِثَالَ لِأَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ كُلِّهَا.
وَقَدْ فَسَّرَ الصُّوفِيَّةُ الْعِبَادَةَ بِأَنَّهَا فِعْلُ مَا يُرْضِي الرَّبَّ، وَالْعُبُودِيَّةُ بِالرِّضَا بِمَا يَفْعَلُ الرَّبُّ. فَهِيَ أَقْوَى. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْعُبُودِيَّةُ الْوَفَاءُ بِالْعُهُودِ، وَحِفْظُ الْحُدُودِ، وَالرِّضَا بِالْمَوْجُودِ. وَالصَّبْرُ عَلَى الْمَفْقُودِ. وَهَذِهِ اصْطِلَاحَاتٌ لَا مُشَاحَّةَ فِيهَا.
قَالَ الْفَخْرُ: ((مَرَاتِبُ الْعِبَادَةِ ثَلَاثٌ: الْأُولَى أَنْ يَعْبُدَ اللَّهَ طَمَعًا فِي الثَّوَابِ وَخَوْفًا مِنَ الْعِقَابِ وَهِيَ الْعِبَادَةُ، وَهِيَ دَرَجَةٌ نَازِلَةٌ سَاقِطَةٌ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْحَقَّ وَسِيلَةً لِنَيْلِ الْمَطْلُوبِ.
الثَّانِيَةُ أَنْ يَعْبُدَ اللَّهَ لِأَجْلِ أَنْ يَتَشَرَّفَ بِعِبَادَتِهِ وَالِانْتِسَابِ إِلَيْهِ بِقَبُولِ تَكَالِيفِهِ وَهِيَ أَعْلَى مِنَ الْأُولَى إِلَّاُُ
180
أَنَّهَا لَيْسَتْ كَامِلَةً لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالذَّاتِ غَيْرُ اللَّهِ. الثَّالِثَةُ أَنْ يَعْبُدَ اللَّهَ لِكَوْنِهِ إِلَهًا خَالِقًا مُسْتَحِقًّا لِلْعِبَادَةِ وَكَوْنِهِ هُوَ عَبْدًا لَهُ، وَهَذِهِ أَعْلَى الْمَقَامَاتِ وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالْعُبُودِيَّةِ)) اهـ.
قُلْتُ وَلَمْ يُسَمِّ الْإِمَامُ الْمَرْتَبَةَ الثَّالِثَةَ بِاسْمٍ وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا مُلْحَقَةٌ فِي الِاسْمِ بِالْمَرْتَبَةِ الثَّالِثَةِ أَعْنِي الْعُبُودِيَّةَ لِأَنَّ الشَّيْخَ ابْنَ سِينَا قَالَ فِي «الْإِشَارَاتِ» :((الْعَارِفُ يُرِيدُ الْحَقَّ لَا لِشَيْءٍ غَيْرِهِ وَلَا يُؤْثِرُ شَيْئًا عَلَى عِرْفَانِهِ وَتَعَبُّدُهُ لَهُ فَقَطْ وَلِأَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ لِلْعِبَادَةِ وَلِأَنَّهَا نِسْبَةٌ شَرِيفَةٌ إِلَيْهِ لَا لِرَغْبَةٍ أَوْ رَهْبَةٍ)) اهـ فَجَعَلَهُمَا حَالَةً وَاحِدَةً.
وَمَا ادَّعَاهُ الْفَخْرُ فِي سُقُوطِ الدَّرَجَةِ الْأُولَى وَنُزُولِ مَرْتَبَتِهَا قَدْ غَلَبَ عَلَيْهِ فِيهِ اصْطِلَاحُ غُلَاةِ الصُّوفِيَّةِ وَإِلَّا فَإِنَّ الْعِبَادَةَ لِلطَّمَعِ وَالْخَوْفِ هِيَ الَّتِي دَعَا إِلَيْهَا الْإِسْلَامُ فِي سَائِرِ إِرْشَادِهِ، وَهِيَ الَّتِي عَلَيْهَا جُمْهُورُ الْمُؤْمِنِينَ وَهِيَ غَايَةُ التَّكْلِيفِ، كَيْفَ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى:
إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ [فاطر: ٢٨] فَإِنْ بَلَغَ الْمُكَلَّفُ إِلَى الْمُرَتَّبَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ فَذَلِكَ فَضْلٌ عَظِيمٌ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ، عَلَى أَنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ مُلَاحَظَةِ الْخَوْفِ وَالطَّمَعِ فِي أَحْوَالٍ كَثِيرَةٍ، نَعَمْ إِنَّ أَفَاضِلَ الْأُمَّةِ مُتَفَاوِتُونَ فِي الِاحْتِيَاجِ إِلَى التَّخْوِيفِ وَالْإِطْمَاعِ بِمِقْدَارِ تَفَاوُتِهِمْ فِي الْعِلْمِ بِأَسْرَارِ التَّكْلِيفِ وَمَصَالِحِهِ وَتَفَاوُتِهِمْ فِي التَّمَكُّنِ مِنْ مُغَالَبَةِ نُفُوسِهِمْ، وَمَعَ ذَلِكَ لَا
مَحِيصَ لَهُمْ عَنِ الرُّجُوعِ إِلَى الْخَوْفِ فِي أَحْوَالٍ كَثِيرَةٍ وَالطَّمَعِ فِي أَحْوَالٍ أَكْثَرَ. وَأَعْظَمُ دَلِيلٍ عَلَى مَا قُلْنَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَدَحَ فِي كِتَابِهِ الْمُتَّقِينَ فِي مَوَاضِعَ جَمَّةٍ وَدَعَا إِلَى التَّقْوَى، وَهَلِ التَّقْوَى إِلَّا كَاسْمِهِمَا بِمَعْنَى الْخَوْفِ وَالِاتِّقَاءِ مِنْ غَضَبِ اللَّهِ قَالَ تَعَالَى: وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً [الْإِسْرَاء: ٥٧]. وَالْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ هِيَ الَّتِي أَشَارَ لَهَا
قَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِمَنْ قَالَ لَهُ كَيْفَ تُجْهِدُ نَفْسَكَ فِي الْعِبَادَةِ وَقَدْ غَفَرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ فَقَالَ:- «أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا»
لِأَنَّ مِنَ الظَّاهِرِ أَنَّ الشُّكْرَ هُنَا عَلَى نِعْمَةٍ قَدْ حَصَلَتْ فَلَيْسَ فِيهِ حَظٌّ لِلنَّفْسِ بِالطَّمَعِ فِي الْمَزِيدِ لِأَنَّ الْغُفْرَانَ الْعَامَّ قَدْ حَصَلَ لَهُ فَصَارَ الشُّكْرُ لِأَجْلِ الْمَشْكُورِ لَا غَيْرَ وَتَمَحَّضَ أَنَّهُ لَا لِخَوْفٍ وَلَا طَمَعٍ (١).
_________
(١) كَأَنَّهُمْ اصْطَلحُوا على أَن الْعُبُودِيَّة أبلغ من الْعِبَادَة لما فِيهَا من النّسَب لِأَن الْأَوْصَاف الَّتِي تلحقها يَاء النّسَب يقْصد مِنْهَا الْمُبَالغَة فِي الوصفية وَذَلِكَ للْجمع بَين طريقي توصيف فَإِن صِيغَة الْوَصْف تفِيد التوصيف وَصِيغَة النّسَب كَذَلِك وَلِهَذَا كَانَ قَوْلهم أسحمي أبلغ من أسحم، ولحياني أبلغ من لحيان فالعبودية مصدر من هَذَا النَّوْع. وَاعْلَم أَن كَون الشُّكْر يشْتَمل على حَظّ للمشكور قد تقرر فِي بحث الْحَمْدُ إِذْ بَينا أَن الْحَمد وَالشُّكْر تَزْيِين للعرض الْمَحْمُود والمشكور لقَوْل النَّابِغَة:
شكرت لَك النعمى
الْبَيْت.
181
وَاعْلَمْ أَنَّ مِنْ أَهَمِّ الْمَبَاحِثِ الْبَحْثَ عَنْ سِرِّ الْعِبَادَةِ وَتَأْثِيرِهَا وَسِرِّ مَشْرُوعِيَّتِهَا لَنَا وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ هَذَا الْعَالَمَ لِيَكُونَ مَظْهَرًا لِكَمَالِ صِفَاتِهِ تَعَالَى: الْوُجُودُ، وَالْعِلْمُ، وَالْقُدْرَةُ. وَجَعَلَ قَبُولَ الْإِنْسَانِ لِلْكَمَالَاتِ الَّتِي بِمِقْيَاسِهَا يَعْلَمُ نِسْبَةَ مَبْلَغِ عِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَقُدْرَتِهِ، وَأَوْدَعَ فِيهِ الرُّوحَ وَالْعَقْلَ اللَّذَيْنِ بِهِمَا يَزْدَادُ التَّدَرُّجُ فِي الْكَمَالِ لِيَكُونَ غَيْرَ قَانِعٍ بِمَا بَلَغَهُ مِنَ الْمَرَاتِبِ فِي أَوْجِ الْكَمَالِ وَالْمَعْرِفَةِ، وَأَرْشَدَهُ وَهَدَاهُ إِلَى مَا يَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى مَرَامِهِ لِيَحْصُلَ لَهُ بِالِارْتِقَاءِ الْعَاجِلِ رُقِيٌّ آجِلٌ لَا يَضْمَحِلُّ، وَجَعَلَ اسْتِعْدَادَهُ لِقَبُولِ الْخَيْرَاتِ كُلِّهَا عَاجِلِهَا وَآجِلِهَا مُتَوَقِّفًا عَلَى التَّلْقِينِ مِنَ السَّفَرَةِ الْمُوحَى إِلَيْهِمْ بِأُصُولِ الْفَضَائِلِ. وَلَمَّا تَوَقَّفَ ذَلِكَ عَلَى مُرَاقَبَةِ النَّفْسِ فِي نَفَرَاتِهَا وَشَرَدَاتِهَا وَكَانَتْ تِلْكَ الْمُرَاقَبَةُ تَحْتَاجُ إِلَى تَذَكُّرِ الْمُجَازِي بِالْخَيْرِ وَضِدِّهِ، شُرِعَتِ الْعِبَادَةُ لِتَذَكُّرِ ذَلِكَ الْمُجَازِيِّ لِأَنَّ عَدَمَ حُضُورِ ذَاتِهِ وَاحْتِجَابِهِ بِسُبُحَاتِ الْجَلَالِ يُسَرِّبُ نِسْيَانَهُ إِلَى النُّفُوسِ، كَمَا أَنَّهُ جَعَلَ نِظَامَهُ فِي هَذَا الْعَالَمِ مُتَّصِلَ الِارْتِبَاطِ بَيْنَ أَفْرَادِهِ فَأَمَرَهُمْ بِلُزُومِ آدَابِ الْمُعَاشَرَةِ وَالْمُعَامَلَةِ لِئَلَّا يَفْسُدَ النِّظَامُ، وَلِمُرَاقَبَةِ الدَّوَامِ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا شُرِعَتِ الْعِبَادَةُ لِتُذَكِّرَ بِهِ، عَلَى أَنَّ فِي ذَلِكَ التَّذَكُّرِ دَوَامَ الْفِكْرِ فِي الْخَالِقِ وَشُؤُونِهِ وَفِي ذَلِكَ تَخَلُّقٌ بِالْكَمَالَاتِ تَدْرِيجًا فَظَهَرَ أَنَّ الْعِبَادَةَ هِيَ
طَرِيقُ الْكَمَالِ الذَّاتِيِّ وَالِاجْتِمَاعِيِّ مَبْدَأً وَنِهَايَةً، وَبِهِ يَتَّضِحُ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: ٥٦] فَالْعِبَادَةُ عَلَى الْجُمْلَةِ لَا تَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهَا مُحَقِّقَةً لِلْمَقْصِدِ مِنَ الْخَلْقِ، وَلَمَّا كَانَ سِرُّ الْخَلْقِ وَالْغَايَةُ مِنْهُ خَفِيَّةَ الْإِدْرَاكِ عَرَّفَنَا اللَّهُ تَعَالَى إِيَّاهَا بِمَظْهَرِهَا وَمَا يُحَقِّقُهَا جَمْعًا لِعَظِيمِ الْمَعَانِي فِي جُمْلَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ جُمْلَةُ: إِلَّا لِيَعْبُدُونِ، وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا التَّقْرِيرِ الَّذِي نَحَوْنَاهُ وَأَقَلُّ مِنْهُ قَوْلُ الشَّيْخِ ابْنِ سِينَا فِي «الْإِشَارَاتِ» :((لَمَّا لَمْ يَكُنِ الْإِنْسَانُ بِحَيْثُ يَسْتَقِلُّ وَحْدَهُ بِأَمْرِ نَفْسِهِ إِلَّا بِمُشَارَكَةِ آخَرَ مِنْ بَنِي جِنْسِهِ وَبِمُعَاوَضَةٍ وَمُعَارَضَةٍ تَجْرِيَانِ بَيْنَهُمَا يُفْرِغُ كُلُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ عَنْ مُهِمٍّ لَوْ تَوَلَّاهُ بِنَفْسِهِ لَازْدَحَمَ عَلَى الْوَاحِدِ كَثِيرٌ وَكَانَ مِمَّا يَتَعَسَّرُ إِنْ أَمْكَنَ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ النَّاسِ مُعَامَلَةٌ وَعَدْلٌ يَحْفَظُهُ شَرْعٌ يَفْرِضُهُ شَارِعٌ مُتَمَيِّزٌ بِاسْتِحْقَاقِ الطَّاعَةِ وَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ لِلْمُحْسِنِ وَالْمُسِيءِ جَزَاءٌ مِنْ عِنْدِ الْقَدِيرِ الْخَبِيرِ، فَوَجَبَ مَعْرِفَةٌ الْمُجَازِي وَالشَّارِعِ وَأَنْ يكون مَعَ الْمعرفَة سَبَبٍ حَافِظٍ لِلْمَعْرِفَةِ فَفُرِضَتْ عَلَيْهِمُ الْعِبَادَةُ الْمُذَكِّرَةُ لِلْمَعْبُودِ، وَكُرِّرَتْ عَلَيْهِمْ لِيُسْتَحْفَظَ التَّذْكِيرُ بِالتَّكْرِيرِ)) اهـ.
لَا شَكَّ أَنَّ دَاعِيَ الْعِبَادَةِ التَّعْظِيمُ وَالْإِجْلَالُ وَهُوَ إِمَّا عَنْ مَحَبَّةٍ أَوْ عَنْ خَوْفٍ مُجَرَّدٍ،
182
وَأَهَمُّهُ مَا كَانَ عَنْ مَحَبَّةٍ لِأَنَّهُ يُرْضِي نَفْسَ فَاعِلِهِ قَالَ:
أَهَابُكِ إِجْلَالًا وَمَا بِكِ قُدْرَةٌ عَلَيَّ وَلَكِنْ مِلْءُ عَيْنٍ حَبِيبُهَا
وَهِيَ تَسْتَلْزِمُ الْخَوْفَ مِنْ غَضَبِ الْمَحْبُوبِ قَالَ مَحْمُودٌ الْوَرَّاقُ أَوْ مَنْصُورٌ الْفَقِيهُ:
تَعْصِي الْإِلَهَ وَأَنْتَ تُظْهِرُ حُبَّهُ هَذَا لَعَمْرِي فِي الْقِيَاسِ بَدِيعُ
لَوْ كَانَ حُبُّكَ صَادِقًا لَأَطَعْتَهُ إِنَّ الْمُحِبَّ لِمَنْ يُحِبُّ مُطِيعُ
وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمرَان: ٣١] فَذَلِكَ يُشْعِرُ بِأَنَّ اتِّبَاعَ الشَّرِيعَةِ يُوجِبُ مَحَبَّةَ اللَّهِ وَأَنَّ الْمُحِبَّ يَوَدُّ أَنْ يُحِبَّهُ حَبِيبُهُ كَمَا قَالَ الْمُتَنَبِّي:
أَنْتَ الْحَبِيبُ وَلَكِنِّي أَعُوذُ بِهِ مِنْ أَنْ أَكُونَ مُحِبًّا غَيْرَ مَحْبُوبِ
وَإِلَى هَذَا النَّوْعِ تَرْجِعُ عِبَادَةُ أَكْثَرِ الْأُمَمِ، وَمِنْهَا الْعِبَادَةُ الْمَشْرُوعَةُ فِي جَمِيعِ الشَّرَائِعِ لِأَنَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى حُبِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَكَذَلِكَ عِبَادَةُ الْمُشْرِكِينَ أَصْنَامَهُمْ قَالَ تَعَالَى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ [الْبَقَرَة: ١٦٥]. وَمِنَ الْأُمَمِ مَنْ عَبَدَتْ عَنْ خَوْفٍ دُونَ مَحَبَّةٍ وَإِنَّمَا هُوَ لِاتِّقَاءِ شَرٍّ كَمَا عَبَدَتْ بَعْضُ الْأُمَمِ الشَّيَاطِينَ وَعَبَدَتِ
الْمَانَوِيَّةُ مِنَ الْمَجُوسِ الْمَعْبُودِ (أَهْرُمُنْ) وَهُوَ عِنْدَهُمْ رَبُّ الشَّرِّ وَالضُّرِّ وَيَرْمُزُونَ إِلَيْهِ بِعُنْصُرِ الظُّلْمَةِ وَأَنَّهُ تَوَلَّدَ مِنْ خَاطِرِ سُوءٍ خَطَرَ لِلرَّبِّ (يَزْدَانَ) إِلَهِ الْخَيْرِ، قَالَ الْمَعَرِّيُّ:
فَكَّرَ يَزْدَانُ عَلَى غِرَّةٍ فَصِيغَ مِنْ تَفْكِيرِهِ أَهْرُمُنْ
وَالْحَصْرُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ تَقْدِيمِ الْمَعْمُولِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ حَصْرٌ حَقِيقِيٌّ لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ الْمُلَقَّنِينَ لِهَذَا الْحَمْدِ لَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ. وَزَعَمَ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي «إِيضَاحِ الْمُفَصَّلِ» فِي شَرْحِ دِيبَاجَةِ «الْمُفَصَّلِ» عِنْدَ قَوْلِ الزَّمَخْشَرِيِّ «اللَّهَ أَحْمَدُ» أَنَّ التَّقْدِيمَ لَا يُفِيدُ إِلَّا الِاهْتِمَامَ دُونَ حَصْرٍ وَأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ تَقْدِيمُ الْمَفْعُولِ لِلِاهْتِمَامِ دُونَ قَصْرٍ وَأَنَّ تَمَسُّكَهُمْ بِقَوْلِهِ: بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ [الزمر: ٦٦] ضَعِيفٌ لِوُرُودِ: فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ [الزمر: ٢] وَإِبْطَالُ رَأْيِهِ مُقَرَّرٌ فِي كُتُبِ عِلْمِ الْمَعَانِي.
وَأَنَا أَرَى اسْتِدْلَالَهُ بِوُرُودِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَاعْبُدِ اللَّهَ لَا يَلِيقُ بِمَقَامِهِ الْعِلْمِيِّ إِذْ لَا يُظَنُّ أَنَّ مَحَامِلَ الْكَلَامِ مُتَمَاثِلَةً فِي كُلِّ مَقَامٍ، وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ جُمْلَةٌ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِنَّمَا لَمْ تُفْصَلْ عَنْ جُمْلَةِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ بِطَرِيقَةِ تَعْدَادِ الْجُمَلِ مَقَامِ التَّضَرُّعِ وَنَحْوِهِ مِنْ مَقَامَاتِ التَّعْدَادِ وَالتَّكْرِيرِ كُلًّا أَوْ بَعْضًا لِلْإِشَارَةِ إِلَى خُطُورِ الْفِعْلَيْنِ جَمِيعًا فِي إِرَادَةِ الْمُتَكَلِّمِينَ بِهَذَا التَّخْصِيصِ، أَيْ نَخُصُّكَُُ
183
بِالِاسْتِعَانَةِ أَيْضًا مَعَ تَخْصِيصِكَ بِالْعِبَادَةِ.
وَالِاسْتِعَانَةُ طَلَبُ الْعَوْنِ. وَالْعَوْنُ وَالْإِعَانَةُ تَسْهِيلُ فِعْلِ شَيْءٍ يَشُقُّ وَيَعْسُرُ عَلَى الْمُسْتَعِينِ وَحْدَهُ، فَهِيَ تَحْصُلُ بِإِعْدَادِ طَرِيقِ تَحْصِيلِهِ مِنْ إِعَارَةِ آلَةٍ، أَوْ مُشَارَكَةٍ بِعَمَلِ الْبَدَنِ كَالْحَمْلِ وَالْقَوْدِ، أَوْ بِقَوْلٍ كَالْإِرْشَادِ وَالتَّعْلِيمِ، أَوْ بِرَأْيٍ كَالنَّصِيحَةِ. قَالَ الْحَرِيرِيُّ فِي الْمَقَامَةِ: «وَخُلُقِيٌّ نِعْمَ الْعَوْنُ»، أَوْ بِمَالٍ كَدَفْعِ الْمَغْرَمِ، بِحَيْثُ يَحْصُلُ الْأَمْرُ بِعَسِيرٍ مِنْ جُهُودِ الْمُسْتَعِينِ وَالْمُعِينِ.
وَأَمَّا الِاسْتِعَانَةُ بِاللَّهِ فَهِيَ طَلَبُ الْمَعُونَةِ عَلَى مَا لَا قِبَلَ لِلْبَشَرِ بِالْإِعَانَةِ عَلَيْهِ وَلَا قِبَلَ لِلْمُسْتَعِينِ بِتَحْصِيلِهِ بِمُفْرَدِهِ، وَلِذَلِكَ فَهِيَ مُشْعِرَةٌ بِأَنَّ الْمُسْتَعِينَ يَصْرِفُ مَقْدِرَتَهُ لِتَحْصِيلِ الْفِعْلِ وَيَطْلُبُ مِنَ اللَّهِ الْعَوْنَ عَلَيْهِ بِتَيْسِيرِ مَا لَا قِبَلَ لِقُدْرَةِ الْمُسْتَعِينِ عَلَى تَحْصِيلِهِ بِمُفْرَدِهِ، فَهَذِهِ هِيَ الْمَعُونَةُ شَرْعًا. وَقَدْ فَسَّرَهَا الْعُلَمَاءُ بِأَنَّهَا هِيَ خَلْقُ مَا بِهِ تَمَامُ الْفِعْلِ أَوْ تَيْسِيرُهُ، فَتَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ ضَرُورِيَّةٌ أَيْ مَا يَتَوَقَّفُ الْفِعْلُ عَلَيْهَا فَلَا يَحْصُلُ بِدُونِهَا أَيْ لَا يَحْصُلُ بِدُونِ تَوَفُّرِ مُتَعَلِّقِهَا وَهِيَ إِعْطَاءُ الِاقْتِدَارِ لِلْفَاعِلِ وَتَصَوُّرُهُ لِلْفِعْلِ وَحُصُولُ الْمَادَّةِ وَالْآلَةِ، وَمَجْمُوعُ هَاتِهِ الْأَرْبَعَةِ يُعَبَّرُ عَنْهُ بِالِاسْتِطَاعَةِ، وَيُعَبَّرُ عَنْهَا بِسَلَامَةِ الْأَسْبَابِ وَالْآلَاتِ وَبِهَا يَصِحُّ تَكْلِيفُ الْمُسْتَطِيعِ.
الْقِسْمُ الثَّانِي الْمَعُونَةُ غَيْرُ الضَّرُورِيَّةِ وَيَنْبَغِي أَنْ تُخَصَّ بِاسْمِ الْإِعَانَةِ وَهِيَ إِيجَادُ الْمُعِينِ مَا يَتَيَسَّرُ بِهِ الْفِعْلُ لِلْمُعَانِ حَتَّى يَسْهُلَ عَلَيْهِ وَيَقْرُبَ مِنْهُ كَإِعْدَادِ الرَّاحِلَةِ فِي السَّفَرِ لِلْقَادِرِ عَلَى الْمَشْيِ. وَبِانْضِمَامِ هَذَا الْمَعْنَى لِلْمَعْنَى الْأَوَّلِ تَتِمُّ حَقِيقَةُ التَّوْفِيقِ الْمُعَرَّفِ عِنْدَهُمْ بِأَنَّهُ خَلْقُ الْقُدْرَةِ وَالدَّاعِيَةُ إِلَى الطَّاعَةِ، وَسَمَّى الرَّاغِبُ هَذَا الْقِسْمَ الثَّانِيَ بِالتَّوْفِيقِ وَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ كَلَامِهِ وَبَيْنَ تَعْرِيفِهِمْ إِيَّاهُ لِمَا عَلِمْتَ مِنْ أَنَّهُ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بَعْدَ حُصُولِ الْمَعُونَةِ بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ فَتَمَّ التَّوْفِيقُ وَالْمَقْصُودُ هُنَا الِاسْتِعَانَةُ عَلَى الْأَفْعَالِ الْمُهِمَّةِ كُلِّهَا الَّتِي أَعْلَاهَا تَلَقِّي الدِّينِ وَكُلِّ مَا يَعْسُرُ عَلَى الْمَرْءِ تَذْلِيلُهُ مِنْ تَوَجُّهَاتِ النُّفُوسِ إِلَى الْخَيْرِ وَمَا يَسْتَتْبِعُ ذَلِكَ مِنْ تَحْصِيلِ الْفَضَائِلِ. وَقَرِينَةُ هَذَا الْمَقْصُودِ رَسْمُهُ فِي فَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَوُقُوعُ تَخْصِيصِ الْإِعَانَةِ عَقِبَ التَّخْصِيصِ بِالْعِبَادَةِ. وَلِذَلِكَ حَذَفَ مُتَعَلِّقَ نَسْتَعِينُ الَّذِي حَقُّهُ أَنْ يُذْكَرَ مَجْرُورًا بِعَلَى، وَقَدْ أَفَادَ هَذَا الْحَذْفُ الْهَامُّ عُمُومَ الِاسْتِعَانَةِ الْمَقْصُورَةِ عَلَى الطَّلَبِ مِنَ اللَّهِ تَأَدُّبًا مَعَهُ تَعَالَى، وَمِنْ تَوَابِعِ ذَلِكَ وَأَسْبَابِهِ وَهِيَ الْمَعَارِفُ وَالْإِرْشَادَاتُ وَالشَّرَائِعُ وَأُصُولُ الْعُلُومِ فَكُلُّهَا مِنَ الْإِعَانَةِ الْمَطْلُوبَةِ وَكُلُّهَا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ الَّذِي أَلْهَمَنَا مَبَادِئَ الْعُلُومِ وَكَلَّفَنَا الشَّرَائِعَ وَلَقَّنَنَا النُّطْقَ، قَالَ: أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ [الْبَلَد: ٨- ١٠]- فَالْأَوَّلُ إِيمَاءٌ إِلَى طَرِيقِ الْمَعَارِفِ وَأَصْلُهَا الْمَحْسُوسَاتُ وَأَعْلَاهَا الْمُبْصِرَاتُ، وَالثَّانِي إِيمَاءٌ إِلَى
184
النُّطْقِ وَالْبَيَانِ لِلتَّعْلِيمِ، وَالثَّالِثُ إِلَى الشَّرَائِعِ.
وَالْحَصْرُ الْمُسْتَفَادُ مِنَ التَّقْدِيمِ فِي قَوْلِهِ: وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ حَصْرٌ ادِّعَائِيٌّ لِلْمُبَالَغَةِ لِعَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِالِاسْتِعَانَاتِ الْمُتَعَارَفَةِ بَيْنَ النَّاسِ بَعْضِهِمْ بِبَعْض فِي شؤونهم، وَمَعْنَى الْحَصْرِ هُنَا لَا نَسْتَعِينُ عَلَى عَظَائِمِ الْأُمُورِ الَّتِي لَا يُسْتَعَانُ فِيهَا بِالنَّاسِ إِلَّا بِاللَّهِ تَعَالَى. وَيُفِيدُ هَذَا الْقَصْرُ فِيهِمَا التَّعْرِيضَ بِالْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَعْبُدُونَ غَيْرَ اللَّهِ وَيَسْتَعِينُونَ بِغَيْرِهِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا فَرِيقَيْنِ مِنْهُمْ مَنْ عَبَدَ غَيْرَ اللَّهِ عَلَى قَصْدِ التَّشْرِيكِ إِلَّا أَنَّ وَلَعَهُ وَاسْتِهْتَارَهُ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى أَنْسَاهُ عِبَادَةَ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا عَبَدَتْ سَبَأُ الشَّمْسَ وَعَبَدَ الْفُرْسُ النُّورَ وَالظُّلْمَةَ، وَعَبَدَ الْقِبْطُ الْعِجْلَ وَأَلَّهُوا الْفَرَاعِنَةَ، وَعَبَدَتْ أُمَمُ السُّودَانِ الْحَيَوَانَاتِ كَالثَّعَابِينِ. وَمِنَ الْمُشْرِكِينَ مَنْ أَشْرَكَ مَعَ عِبَادَةِ اللَّهِ عِبَادَةَ غَيْرِهِ وَهَذَا حَالُ مُعْظَمِ الْعَرَبِ مِمَّنْ عَبَدَ الْأَصْنَامَ أَوْ عَبَدَ الْكَوَاكِبَ، فَقَدْ عَبَدَتْ ضَبَّةُ وَتَيْمٌ وَعُكْلُ الشَّمْسَ، وَعَبَدَتْ كِنَانَةُ الْقَمَرَ، وَعَبَدَتْ لَخْمٌ وَخُزَاعَةُ وَبَعْضُ قُرَيْشٍ الشِّعْرَى، وَعَبَدَتْ تَمِيمٌ الدبران، وعبدت طيىء الثُّرَيَّا، وَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ جَعَلُوا الْآلِهَةَ بِزَعْمِهِمْ وَسِيلَةً يَتَقَرَّبُونَ بِهَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَهَؤُلَاءِ جَمَعُوا الْعِبَادَةَ وَالِاسْتِعَانَةَ بِهِمْ لِأَنَّ جَعْلَهُمْ وَسِيلَةً إِلَى اللَّهِ ضَرْبٌ مِنَ الِاسْتِعَانَةِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّ اسْتِفَادَةَ الرَّدِّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَنَحْوِهِمْ بِطَرِيقِ التَّعْرِيضِ أَيْ بِطَرِيقِ عَرْضِ الْكَلَامِ لِأَنَّ الْقَصْرَ الْحَقِيقِيَّ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ لِرَدِّ الِاعْتِقَادِ إِلَّا
تَعْرِيضًا لِأَنَّ مَعْنَاهُ حَاصِلٌ عَلَى الْحَقِيقَةِ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ السَّلْكُوتِيُّ فِي «حَاشِيَةِ التَّفْسِيرِ».
فَإِنْ قُلْتَ كَيْفَ أُمِرْنَا بِأَنْ لَا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نَسْتَعِينَ إِلَّا بِهِ حَسْبَمَا تُشِيرُ إِلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ، وَقَدْ
وَرَدَ فِي الصَّحِيح أَن النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا عَلَّمَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ قَالَ لَهُ «إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ»
فَلَمْ يَأْتِ بِصِيغَةِ قَصْرٍ. قُلْتُ قَدْ ذَكَرَ الشَّيْخُ الْجَدُّ قَدَّسَ اللَّهُ رَوْحَهُ فِي تَعْلِيقِهِ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ تَرْكَ طَرِيقَةِ الْقَصْرِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الْمَقَامَ لَا يَقْبَلُ الشَّرِكَةَ وَأَنَّ مِنْ حَقِّ السُّؤَالِ أَنْ لَا يَكُونَ إِلَّا لِلَّهِ الْقَادِرِ الْعَلِيمِ، وَقَدْ قَالَ عُلَمَاءُ الْبَلَاغَةِ إِذَا كَانَ الْفِعْلُ مَقْصُورًا فِي نَفْسِهِ فَارْتِكَابُ طَرِيقِ الْقَصْرِ لَغْوٌ مِنَ الْكَلَامِ اهـ.
وَأَقُولُ تَقْفِيَةً عَلَى أَثَرِهِ إِنَّ مَقَامَ الْحَدِيثِ غَيْرُ مَقَامِ الْآيَةِ فَمَقَامُ الْحَدِيثِ مَقَامُ تَعْلِيمٍ خَاصٍّ لِمَنْ نَشَأَ وَشَبَّ وَتَرَجَّلَ فِي الْإِسْلَامِ فَتَقَرُّرُ قَصْرِ الْحُكْمِ لَدَيْهِ عَلَى طَرَفِ الثُّمَامِ وَلِذَلِكَ اسْتَغْنَى عَنْهُ وَأَمَّا مَقَامُ هَذِهِ الْآيَةِ فَمَقَامُ مُفْتَتَحِ الْوَحْيِ وَالتَّشْرِيعِ وَاسْتِهْلَالِ الْوَعْظِ وَالتَّقْرِيعِ، فَنَاسَبَ تَأْكِيدَ الْحُكْمِ بِالْقَصْرِ مَعَ التَّعْرِيضِ بِحَالِ الشِّرْكِ الشَّنِيعِ عَلَى أَنَّ تَعْلِيقَ الْأَمْرِ بِهِمَا فِي جَوَابِ الشَّرْطِ عَلَى حُصُولِ أَيِّ سُؤَالٍ وَأَيَّةِ اسْتِعَانَةٍ يُفِيدُ مَفَادَ الْقَصْرِ تَعْرِيضًا بِالْمُشْرِكِينَ
185
وَبَرَاءَةً مِنْ صَنِيعِهِمْ فَقَدْ كَانُوا يَسْتَعِينُونَ بِآلِهَتِهِمْ. وَمِنْ ذَلِكَ الِاسْتِقْسَامُ بِالْأَزْلَامِ الْمَوْضُوعَةِ عِنْدَ الْآلِهَةِ وَالْأَصْنَامِ.
وَضَمِيرَا نَعْبُدُ ونَسْتَعِينُ يَعُودَانِ إِلَى تَالِي السُّورَةِ ذَاكِرًا مَعَهُ جَمَاعَةَ الْمُؤْمِنِينَ.
وَفِي الْعُدُولِ عَنْ ضَمِيرِ الْوَاحِدِ إِلَى الْإِتْيَانِ بِضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ الْمُشَارِكِ الدَّلَالَةَ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْمَحَامِدَ صَادِرَةٌ مِنْ جَمَاعَاتٍ، فَفِيهِ إِغَاظَةٌ لِلْمُشْرِكِينَ إِذْ يَعْلَمُونَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ صَارُوا فِي عِزَّةٍ وَمَنَعَةٍ، وَلِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي الثَّنَاءِ مِنْ أَعْبُدَ وَأَسْتَعِينَ لِئَلَّا تَخْلُوَ الْمُنَاجَاةُ عَنْ ثَنَاءٍ أَيْضًا بِأَنَّ الْمَحْمُودَ الْمَعْبُودَ الْمُسْتَعَانَ قَدْ شَهِدَ لَهُ الْجَمَاعَاتُ وَعَرَفُوا فَضْلَهُ، وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا قَوْلُ النَّابِغَةِ فِي رِثَاءِ النُّعْمَانِ بْنِ الْحَارِثِ الْغَسَّانِيِّ:
قُعُودًا لَهُ غَسَّانُ يَرْجُونَ أَوْبَةً وَتُرْكٌ وَرَهْطُ الْأَعْجَمِينَ وَكَابُلُ
إِذْ قَصَدَ مِنْ تَعْدَادِ أَصْنَافٍ مِنَ الْأُمَمِ الْكِنَايَةَ عَنْ عَظَمَةِ النُّعْمَانِ وَكَثْرَةِ رَعِيَّتِهِ. فَكَأَنَّ الْحَامِدَ لَمَّا انْتَقَلَ مِنَ الْحَمْدِ إِلَى الْمُنَاجَاةِ لَمْ يُغَادِرْ فُرْصَةً يَقْتَنِصُ مِنْهَا الثَّنَاءَ إِلَّا انتهزها.
وَوَجهه تَقْدِيمِ قَوْلِهِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ عَلَى قَوْلِهِ: وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ أَنَّ الْعِبَادَةَ تَقَرُّبٌ لِلْخَالِقِ تَعَالَى فَهِيَ أَجْدَرُ بِالتَّقْدِيمِ فِي الْمُنَاجَاةِ، وَأَمَّا الِاسْتِعَانَةُ فَهِيَ لِنَفْعِ الْمَخْلُوقِ لِلتَّيْسِيرِ عَلَيْهِ فَنَاسَبَ أَنْ يُقَدِّمَ الْمُنَاجِي مَا هُوَ مِنْ عَزْمِهِ وَصُنْعِهِ عَلَى مَا يَسْأَلُهُ مِمَّا يُعِينُ عَلَى ذَلِكَ،
وَلِأَنَّ الِاسْتِعَانَةَ بِاللَّهِ تَتَرَكَّبُ عَلَى كَوْنِهِ مَعْبُودًا لِلْمُسْتَعِينِ بِهِ وَلِأَنَّ مِنْ جُمْلَةِ مَا تُطْلَبُ الْإِعَانَةُ عَلَيْهِ الْعِبَادَةُ فَكَانَتْ مُتَقَدِّمَةً عَلَى الِاسْتِعَانَةِ فِي التَّعَقُّلِ. وَقَدْ حَصَلَ مِنْ ذَلِكَ التَّقْدِيمِ أَيْضًا إِيفَاءُ حَقِّ فَوَاصِلِ السُّورَةِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى الْحَرْفِ السَّاكِنِ الْمُتَمَاثِلِ أَوِ الْقَرِيبِ فِي مَخْرَجِ اللِّسَانِ.
وَأُعِيدَ لَفْظُ إِيَّاكَ فِي الِاسْتِعَانَةِ دُونَ أَنْ يَعْطِفَ فِعْلَ نَسْتَعِينُ عَلَى نَعْبُدُ مَعَ أَنَّهُمَا مَقْصُودَانِ جَمِيعًا كَمَا أَنْبَأَ عَنْهُ عَطْفُ الْجُمْلَةِ عَلَى الْجُمْلَةِ لِأَنَّ بَيْنَ الْحَصْرَيْنِ فَرْقًا، فَالْحَصْرُ فِي إِيَّاكَ نَعْبُدُ حَقِيقِيٌّ وَالْقَصْرُ فِي إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ادِّعَائِيٌّ فَإِنَّ الْمُسْلِمَ قَدْ يَسْتَعِينُ غَيْرَ اللَّهِ تَعَالَى كَيْفَ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى [الْمَائِدَة: ٢] وَلَكِنَّهُ لَا يَسْتَعِينُ فِي عَظَائِمِ الْأُمُورِ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا يَعُدُّ الِاسْتِعَانَةَ حَقِيقَةً إِلَّا الِاسْتِعَانَةَ بِاللَّهِ تَعَالَى
186
[٦] اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ.
تَهَيَّأَ لِأَصْحَابِ هَذِهِ الْمُنَاجَاةِ أَنْ يَسْعَوْا إِلَى طَلَبِ حُظُوظِهِمُ الشَّرِيفَةِ مِنَ الْهِدَايَةِ بَعْدَ أَنْ حَمِدُوا اللَّهَ وَوَصَفُوهُ بِصِفَاتِ الْجَلَالَةِ ثُمَّ أَتْبَعُوا ذَلِكَ بِقَوْلِهِمْ: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ الَّذِي هُوَ وَاسِطَةٌ جَامِعٌ بَيْنَ تَمْجِيدِ اللَّهِ تَعَالَى وَبَيْنَ إِظْهَارِ الْعُبُودِيَّةِ وَهِيَ حَظُّ الْعَبْدِ بِأَنَّهُ عَابِدٌ وَمُسْتَعِينٌ وَأَنَّهُ قَاصِرٌ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَكَانَ ذَلِكَ وَاسِطَةً بَيْنَ الثَّنَاءِ وَبَيْنَ الطَّلَبِ، حَتَّى إِذَا ظَنُّوا بِرَبِّهِمُ الْإِقْبَالَ عَلَيْهِمْ وَرَجَوْا مِنْ فَضْلِهِ، أفضوا إِلَى سُؤال حَظِّهِمْ فَقَالُوا: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ فَهُوَ حَظُّ الطَّالِبِينَ خَاصَّةً لِمَا يَنْفَعُهُمْ فِي عَاجِلِهِمْ وَآجِلِهِمْ، فَهَذَا هُوَ التَّوْجِيهُ الْمُنَاسِبُ لِكَوْنِ الْفَاتِحَةِ بِمَنْزِلَةِ الدِّيبَاجَةِ لِلْكِتَابِ الَّذِي أُنْزِلَ هُدًى لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً فَتَتَنَزَّلُ هَاتِهِ الْجُمْلَةُ مِمَّا قَبْلَهَا مَنْزِلَةَ الْمَقْصِدِ مِنَ الدِّيبَاجَةِ، أَوِ الْمَوْضُوعِ مِنَ الْخُطْبَةِ، أَوِ التَّخَلُّصِ مِنَ الْقَصِيدَةِ، وَلِاخْتِلَافِ الْجُمَلِ الْمُتَقَدِّمَةِ مَعَهَا بِالْخَبَرِيَّةِ وَالْإِنْشَائِيَّةِ فُصِلَتْ هَذِهِ عَنْهُنَّ، وَهَذَا أَوْلَى فِي التَّوْجِيهِ مِنْ جَعْلِهَا جَوَابًا لِسُؤَالٍ مُقَدَّرٍ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ».
وَالْهِدَايَةُ الدَّلَالَةُ بِتَلَطُّفٍ وَلِذَلِكَ خُصَّتْ بِالدَّلَالَةِ لِمَا فِيهِ خَيْرُ الْمَدْلُولِ لِأَنَّ التَّلَطُّفَ يُنَاسِبُ مَنْ أُرِيدَ بِهِ الْخَيْرُ، وَهُوَ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ بِنَفْسِهِ لِأَنَّ مَعْنَاهُ مَعْنَى الْإِرْشَادِ، وَيَتَعَدَّى إِلَى الْمَفْعُولِ الثَّانِي وَهُوَ الْمُهْدَى إِلَيْهِ بِإِلَى وَبِاللَّامِ وَالِاسْتِعْمَالَانِ وَارِدَانِ، تَقُولُ هَدَيْتُهُ إِلَى كَذَا عَلَى مَعْنَى أَوْصَلْتُهُ إِلَى مَعْرِفَتِهِ، وَهَدَيْتُهُ لِكَذَا عَلَى مَعْنَى أَرْشَدْتُهُ لِأَجْلِ كَذَا:
فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ [الصافات: ٢٣]، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا [الْأَعْرَاف: ٤٣]
وَقَدْ يُعَدَّى إِلَى الْمَفْعُولِ الثَّانِي بِنَفْسِهِ كَمَا هُنَا عَلَى تَضْمِينِهِ مَعْنَى عَرَفَ قِيلَ هِيَ لُغَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ وَأَمَّا غَيْرُهُمْ فَلَا يُعَدِّيهِ بِنَفْسِهِ وَقَدْ جَعَلُوا تَعْدِيَتَهُ بِنَفْسِهِ مِنَ التَّوَسُّعِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِالْحَذْفِ وَالْإِيصَالِ. وَقِيلَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمُتَعَدِّي وَغَيْرِهِ أَنَّ الْمُتَعَدِّيَ يُسْتَعْمَلُ فِي الْهِدَايَةِ لِمَنْ كَانَ فِي الطَّرِيقِ وَنَحْوِهِ لِيَزْدَادَ هُدًى وَمَصْدَرُهُ حِينَئِذٍ الْهِدَايَةُ، وَأَمَّا هَدَاهُ إِلَى كَذَا أَوْ لِكَذَا فَيُسْتَعْمَلُ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ سَائِرًا فِي الطَّرِيقِ وَمَصْدَرُهُ هُدًى، وَكَأَنَّ صَاحِبَ هَذَا الْقَوْلِ نَظَرَ إِلَى أَنَّ الْمُتَعَدِّيَ بِالْحَرْفِ إِنَّمَا عُدِّيَ لِتَقْوِيَتِهِ وَالتَّقْوِيَةُ إِمَّا أَنْ يَقْصِدَ بِهَا تَقْوِيَةَ الْعَامِلِ لِضَعْفِهِ فِي الْعَمَلِ بِالْفَرْعِيَّةِ أَوِ التَّأْخِيرِ، وَإِمَّا أَنْ يَقْصِدَ بِهَا تَقْوِيَةَ مَعْنَاهُ، وَالْحَقُّ أَنَّ هَذَا إِنْ تَمَّ فَهُوَ أَغْلَبِيٌّ عَلَى أَنَّهُ تَخْصِيصٌ مِنَ الِاسْتِعْمَالِ فَلَا يَقْتَضِي كَوْنُ الْفِعْلِ مُخْتَلِفَ الْمَعْنَى لِأَنَّ الْفِعْلَ لَا تَخْتَلِفُ مَعَانِيهِ بِاعْتِبَارِ كَيْفِيَّةِ تَعْدِيَتِهِ إِلَّا إِذَا ضُمِّنَ مَعْنَى فِعْلٍ آخَرَ،
187
عَلَى أَنَّ كُلًّا مِنَ الْهُدَى وَالْهِدَايَةِ اسْمُ مَصْدَرٍ وَالْمَصْدَرُ هُوَ الْهَدْيُ. وَالَّذِي أَرَاهُ أَنَّ التَّعْدِيَةَ وَالْقُصُورَ لَيْسَا مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي تُصْنَعُ بِالْيَدِ أَوْ يَصْطَلِحُ عَلَيْهَا أَحَدٌ، بَلْ هِيَ جَارِيَةٌ عَلَى مَعْنَى الْحَدَثِ الْمَدْلُولِ لِلْفِعْلِ فَإِنْ كَانَ الْحَدَثُ يَتَقَوَّمُ مَعْنَاهُ بِمُجَرَّدِ تَصَوُّرِ مَنْ قَامَ بِهِ فَهُوَ الْفِعْلُ الْقَاصِرُ وَإِنْ كَانَ لَا يَتَقَوَّمُ إِلَّا بِتَصَوُّرِ مَنْ قَامَ بِهِ وَمَنْ وَقَعَ عَلَيْهِ فَهُوَ الْمُتَعَدِّي إِلَى وَاحِدٍ أَوْ أَكْثَرَ، فَإِنْ أُشْكِلَتْ أَفْعَالٌ فَإِنَّمَا إِشْكَالُهَا لِعَدَمِ اتِّضَاحِ تَشَخُّصِ الْحَدَثِ الْمُرَادِ مِنْهَا لِأَنَّ مَعْنَاهَا يَحُومُ حَوْلَ مَعَانٍ مُتَعَدِّدَةٍ. وَهَدَى مُتَعَدٍّ لِوَاحِدٍ لَا مَحَالَةَ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي تَعْدِيَتِهِ لِثَانٍ فَالْحَقُّ أَنَّهُ إِنِ اعْتُبِرَ فِيهِ معنى الإراءة وَالْإِبَانَةِ تَعَدَّى بِنَفْسِهِ وَإِنِ اعْتُبِرَ فِيهِ مُطْلَقُ الْإِرْشَادِ وَالْإِشَارَةِ فَهُوَ مُتَعَدٍّ بِالْحَرْفِ فَحَالَةُ تَعْدِيَتِهِ هِيَ الْمُؤْذِنَةُ بِالْحَدَثِ الْمُتَضَمِّنِ لَهُ.
وَقَدْ قِيلَ إِنَّ حَقِيقَةَ الْهِدَايَةِ الدَّلَالَةُ عَلَى الطَّرِيقِ لِلْوُصُولِ إِلَى الْمَكَانِ الْمَقْصُودِ فَالْهَادِي هُوَ الْعَارِفُ بِالطُّرُقِ وَفِي حَدِيثِ الْهِجْرَةِ: «إِنَّ أَبَا بَكْرٍ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا مِنْ بَنِي الدِّيلِ هَادِيًا خِرِّيتًا» وَإِنَّ مَا نَشَأَ مِنْ مَعَانِي الْهِدَايَةِ هُوَ مَجَازَاتٌ شَاعَ اسْتِعْمَالُهَا. وَالْهِدَايَةُ فِي اصْطِلَاحِ الشَّرْعِ حِينَ تُسْنَدُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى هِيَ الدَّلَالَةُ عَلَى مَا يُرْضِي اللَّهَ مِنْ فِعْلِ الْخَيْرِ وَيُقَابِلُهَا الضَّلَالَةُ وَهِيَ التَّغْرِيرُ.
وَاخْتَلَفَ عُلَمَاءُ الْكَلَامِ فِي اعْتِبَارِ قَيْدِ الْإِيصَالِ إِلَى الْخَيْرِ فِي حَقِيقَةِ الْهِدَايَةِ فَالْجُمْهُورُ عَلَى عَدَمِ اعْتِبَارِهِ وَأَنَّهَا الدَّلَالَةُ عَلَى طَرِيقِ الْوُصُولِ سَوَاءٌ حَصَلَ الْوُصُولُ أَمْ لَمْ يَحْصُلْ وَهُوَ قَوْلُ الْأَشَاعِرَةِ وَهُوَ الْحَقُّ. وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمُ الزَّمَخْشَرِيُّ إِلَى أَنَّ الْهِدَايَةَ هِيَ الدَّلَالَةُ مَعَ الْإِيصَالِ وَإِلَّا لَمَا امْتَازَتْ عَنِ الضَّلَالَةِ أَيْ حَيْثُ كَانَ اللَّهُ قَادِرًا عَلَى أَنْ يُوصِلَ مَنْ يَهْدِيهِ إِلَى مَا هَدَاهُ إِلَيْهِ، وَمَرْجِعُ الْخِلَافِ إِلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي أَصْلٍ آخَرَ وَهُوَ أَصْلُ مَعْنَى رِضَى اللَّهِ
وَمَشِيئَتِهِ وَإِرَادَتِهِ وَأَمْرِهِ، فَأَصْحَابُ الْأَشْعَرِيِّ اعْتَبَرُوا الْهِدَايَةَ الَّتِي هِيَ مِنْ مُتَعَلِّقِ الْأَمْرِ، وَالْمُعْتَزِلَةُ نَظَرُوا إِلَى الْهِدَايَةِ الَّتِي هِيَ مِنْ مُتَعَلِّقِ التَّكْوِينِ وَالْخَلْقِ، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْهِدَايَةَ مَعَ الْوُصُولِ هِيَ الْمَطْلُوبَةُ شَرْعًا مِنَ الْهَادِي وَالْمَهْدِيِّ مَعَ أَنَّهُ قَدْ يَحْصُلُ الْخَطَأُ لِلْهَادِي وَسُوءُ الْقَبُولِ مِنَ الْمَهْدِيِّ وَهَذَا مَعْنَى مَا اخْتَارَ عَبْدُ الْحَكِيمِ أَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ فِي الشَّرْع لقدر الْمُشْتَرِكِ لِوُرُودِهَا فِي الْقُرْآنِ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا قَالَ: إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ [الْقَصَص: ٥٦] وَقَالَ: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى [فصلت: ١٧] وَالْأَصْلُ عَدَمُ الِاشْتِرَاكِ وَعَدَمُ الْمَجَازِ.
وَالْهِدَايَةُ أَنْوَاعٌ تَنْدَرِجُ كَثْرَتُهَا تَحْتَ أَرْبَعَةِ أَجْنَاسٍ مُتَرَتِّبَةٍ: الْأَوَّلُ إِعْطَاءُ الْقُوَى الْمُحَرِّكَةِ وَالْمُدْرِكَةِ الَّتِي بِهَا يَكُونُ الِاهْتِدَاءُ إِلَى انْتِظَامِ وُجُودِ ذَاتِ الْإِنْسَانِ، وَيَنْدَرِجُ تَحْتَهَا أَنْوَاعٌ
188
تَبْتَدِئُ مِنْ إِلْهَامِ الصَّبِيِّ الْتِقَامَ الثَّدْيِ وَالْبُكَاءَ عِنْدَ الْأَلَمِ إِلَى غَايَةِ الْوِجْدَانِيَّاتِ الَّتِي بِهَا يَدْفَعُ عَنْ نَفْسِهِ كَإِدْرَاكِ هَوْلِ الْمُهْلِكَاتِ وَبَشَاعَةِ الْمُنَافَرَاتِ، وَيَجْلِبُ مَصَالِحَهُ الْوُجُودِيَّةَ كَطَلَبِ الطَّعَامِ وَالْمَاءِ وَذَوْدِ الْحَشَرَاتِ عَنْهُ وَحَكِّ الْجِلْدِ وَاخْتِلَاجِ الْعَيْنِ عِنْدَ مُرُورِ مَا يُؤْذِي تُجَاهَهَا، وَنِهَايَتُهَا أَحْوَالُ الْفِكْرِ وَهُوَ حَرَكَةُ النَّفْسِ فِي الْمَعْقُولَاتِ أَعْنِي مُلَاحَظَةَ الْمَعْقُولِ لِتَحْصِيلِ الْمَجْهُولِ فِي الْبَدِيهِيَّاتِ وَهِيَ الْقُوَّةُ النَّاطِقَةُ الَّتِي انْفَرَدَ بِهَا الْإِنْسَانُ الْمُنْتَزَعَةُ مِنَ الْعُلُومِ الْمَحْسُوسَةِ.
الثَّانِي نَصْبُ الْأَدِلَّةِ الْفَارِقَةِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَالصَّوَابِ وَالْخَطَأِ، وَهِيَ هِدَايَةُ الْعُلُومِ النَّظَرِيَّةِ. الثَّالِثُ الْهِدَايَةُ إِلَى مَا قَدْ تُقَصِّرُ عَنْهُ الْأَدِلَّةُ أَوْ يُفْضِي إِعْمَالُهَا فِي مِثْلِهِ إِلَى مَشَقَّةٍ وَذَلِكَ بِإِرْسَالِ الرُّسُلِ وَإِنْزَالِ الْكُتُبِ وَمَوَازِينِ الْقِسْطِ وَإِلَيْهَا الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي شَأْنِ الرُّسُل: وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا [الْأَنْبِيَاء: ٢٣]. الرَّابِعُ أَقْصَى أَجْنَاسِ الْهِدَايَةِ وَهِيَ كَشْفُ الْحَقَائِقِ الْعُلْيَا وَإِظْهَارُ أَسْرَارِ الْمَعَانِي الَّتِي حَارَتْ فِيهَا أَلْبَابُ الْعُقَلَاءِ إِمَّا بِوَاسِطَةِ الْوَحْيِ وَالْإِلْهَامِ الصَّحِيحِ أَوِ التَّجَلِّيَاتِ، وَقَدْ سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى هَذَا هُدًى حِينَ أَضَافَهُ لِلْأَنْبِيَاءِ فَقَالَ: أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ [الْأَنْعَام: ٩٠].
وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمَطْلُوبَ بِقَوْلِهِ اهْدِنَا الْمُلَقَّنِ لِلْمُؤْمِنِينَ هُوَ مَا يُنَاسِبُ حَالَ الدَّاعِي بِهَذَا إِنْ كَانَ بِاعْتِبَارِ دَاعٍ خَاصٍّ أَوْ طَائِفَة خَاصَّة عِنْد مَا يَقُولُونَ: اهْدِنَا، أَوْ هُوَ أَنْوَاعُ الْهِدَايَةِ عَلَى الْجُمْلَةِ بِاعْتِبَارِ تَوْزِيعِهَا عَلَى مَنْ تَأَهَّلَ لَهَا بِحَسَبِ أَهْلِيَّتِهِ إِنْ كَانَ دُعَاءً عَلَى لِسَانِ الْمُؤْمِنِينَ كُلِّهِمُ الْمُخَاطَبِينَ بِالْقُرْآنِ، وَعَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ فَبَعْضُ أَنْوَاعِ الْهِدَايَةِ مَطْلُوبٌ حُصُولُهُ لِمَنْ لَمْ يَبْلُغْ إِلَيْهِ، وَبَعْضُهَا مَطْلُوبٌ دَوَامُهُ لِمَنْ كَانَ حَاصِلًا لَهُ خَاصَّةً أَوْ لِجَمِيعِ
النَّاسِ الْحَاصِلِ لَهُمْ، وَذَلِكَ كَالْهِدَايَةِ الْحَاصِلَةِ لَنَا قَبْلَ أَنْ نَسْأَلَهَا مِثْلَ غَالِبِ أَنْوَاعِ الْجِنْسِ الْأَوَّلِ.
وَصِيغَةُ الطَّلَبِ مَوْضُوعَةٌ لِطَلَبِ حُصُولِ الْمَاهِيَّةِ الْمَطْلُوبَةِ مِنْ فِعْلٍ أَوْ كَفٍّ فَإِذَا اسْتُعْمِلَتْ فِي طَلَبِ الدَّوَامِ كَانَ اسْتِعْمَالُهَا مَجَازًا نَحْوَ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا [النِّسَاء:
١٣٦] وَذَلِكَ حَيْثُ لَا يُرَادُ بِهَا إِلَّا طَلَبُ الدَّوَامِ. وَأَمَّا إِذَا اسْتُعْمِلَتْ فِي طَلَبِ الدَّوَامِ لِلزِّيَادَةِ مِمَّا حَصَلَ بَعْضُهُ وَلَمْ يَحْصُلْ بَعْضُهُ فَهِيَ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي مَعْنَاهَا وَهُوَ طَلَبُ الْحُصُولِ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ فِي مَرَاتِبِ الْهِدَايَةِ مَثَلًا تَحْصِيلٌ لِمَوَادَّ أُخْرَى مِنْهَا. وَلَمَّا كَانَ طَلَبُ الزِّيَادَةِ يَسْتَلْزِمُ طَلَبَ دَوَامِ مَا حَصَلَ إِذْ لَا تَكَادُ تَنْفَعُ الزِّيَادَةُ إِذَا انْتَقَضَ الْأَصْلُ كَانَ اسْتِعْمَالُهَا حِينَئِذٍ فِي لَازِمِ الْمَعْنَى مَعَ الْمَعْنَى فَهُوَ كِنَايَةٌ. أَمَّا إِذَا قَالَ: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ مَنْ بَلَغَ جَمِيعَ مَرَاتِبِ الْهِدَايَةِ وَرَقِيَ إِلَى قِمَّةِ غاياتها وَهُوَ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ
189
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ دُعَاءَهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ مِنَ اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِي مَجَازِ مَعْنَاهُ وَيَكُونُ دُعَاؤُهُ ذَلِكَ اقْتِبَاسًا مِنَ الْآيَةِ وَلَيْسَ عَيْنَ الْمُرَادِ مِنَ الْآيَةِ لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْهَا طَلَبُ الْحُصُولِ بِالْمَزِيدِ مَعَ طَلَبِ الدَّوَامِ بِطَرِيقَةِ الِالْتِزَامِ وَلَا مَحَالَةَ أَنَّ الْمَقْصُودَ فِي الْآيَةِ هُوَ طَلَبُ الْهِدَايَةِ الْكَامِلَةِ.
وَالصِّرَاطُ الطَّرِيقُ وَهُوَ بِالصَّادِ وبالسين وَقد قرىء بِهِمَا فِي الْمَشْهُورَةِ وَكَذَلِكَ نَطَقَتْ بِهِ بِالسِّينِ جُمْهُورُ الْعَرَبِ إِلَّا أَهْلَ الْحِجَازِ نَطَقُوهُ بِالصَّادِ مُبْدَلَةً عَنِ السِّينِ لِقَصْدِ التَّخْفِيفِ فِي الِانْتِقَالِ مِنَ السِّينِ إِلَى الرَّاءِ ثُمَّ إِلَى الطَّاءِ قَالَ فِي «لَطَائِفِ الْإِشَارَاتِ» عَنِ الْجَعْبَرِيِّ إِنَّهُمْ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ فِي كُلِّ سِينٍ بَعْدَهَا غَيْنٌ أَوْ خَاءٌ أَوْ قَافٌ أَوْ طَاءٌ وَإِنَّمَا قَلَبُوهَا هُنَا صَادًا لِتُطَابِقَ الطَّاءَ فِي الْإِطْبَاقِ وَالِاسْتِعْلَاءِ وَالتَّفَخُّمِ مَعَ الرَّاءِ اسْتِثْقَالًا لِلِانْتِقَالِ مِنْ سُفْلٍ إِلَى عُلُوٍّ اهـ.
أَيْ بِخِلَافِ الْعَكْسِ نَحْوَ طَسْتٍ لِأَنَّ الْأَوَّلَ عَمَلٌ وَالثَّانِي تَرْكٌ. وَقَيْسٌ قَلَبُوا السِّينَ بَيْنَ الصَّادِ وَالزَّايِ وَهُوَ إِشْمَامٌ وَقَرَأَ بِهِ حَمْزَةُ فِي رِوَايَةِ خَلَفٍ عَنْهُ. وَمِنَ الْعَرَبِ مَنْ قَلَبَ السِّينَ زَايًا خَالِصَةً قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَهِيَ لُغَةُ عُذْرَةَ وَكَلْبٍ وَبَنِي الْقَيْنِ وَهِيَ مَرْجُوحَةٌ وَلَمْ يُقْرَأْ بِهَا، وَقَدْ قَرَأَ بِاللُّغَةِ الْفُصْحَى (بِالصَّادِ) جُمْهُورُ الْقُرَّاءِ وَقَرَأَ بِالسِّينِ ابْنُ كَثِيرٍ فِي رِوَايَةِ قُنْبُلٍ، وَالْقِرَاءَةُ بِالصَّادِ هِيَ الرَّاجِحَةُ لِمُوَافَقَتِهَا رَسْمَ الْمُصْحَفِ وَكَوْنِهَا اللُّغَةَ الْفُصْحَى.
فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ كُتِبَتْ فِي الْمُصْحَفِ بِالصَّادِ وَقَرَأَهَا بَعْضُ الْقُرَّاءِ بِالسِّينِ؟ قُلْتُ إِنَّ الصَّحَابَةَ كَتَبُوهَا بِالصَّادِ تَنْبِيهًا عَلَى الْأَفْصَحِ فِيهَا، لِأَنَّهُمْ يَكْتُبُونَ بِلُغَةِ قُرَيْشٍ وَاعْتَمَدُوا عَلَى عِلْمِ الْعَرَب فَالَّذِينَ قرأوا بِالسِّينِ تَأَوَّلُوا أَنَّ الصَّحَابَةَ لَمْ يَتْرُكُوا لُغَةَ السِّينِ لِلْعِلْمِ بِهَا فَعَادَلُوا الْأَفْصَحَ بِالْأَصْلِ وَلَوْ كَتَبُوهَا بِالسِّينِ مَعَ أَنَّهَا الْأَصْلُ لَتَوَهَّمَ النَّاسُ عَدَمَ جَوَازِ الْعُدُولِ عَنْهُ
لِأَنَّهُ الْأَصْلُ وَالْمَرْسُومُ كَمَا كَتَبُوا الْمُصَيْطِرَ بِالصَّادِ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ أَصْلَهُ السِّينُ فَهَذَا مِمَّا يَرْجِعُ الْخِلَافُ فِيهِ إِلَى الِاخْتِلَافِ فِي أَدَاءِ اللَّفْظِ لَا فِي مَادَّةِ اللَّفْظِ لِشُهْرَةِ اخْتِلَافِ لَهَجَاتِ الْقَبَائِلِ فِي لَفْظٍ مَعَ اتِّحَادِهِ عِنْدَهُمْ.
وَالصِّرَاطُ اسْمٌ عَرَبِيٌّ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ أَنَّهُ مُعَرَّبٌ وَلَكِنْ ذُكِرَ فِي «الْإِتْقَانِ» عَنِ النَّقَّاشِ وَابْنِ الْجَوْزِيِّ أَنَّهُ الطَّرِيقُ بِلُغَةِ الرُّومِ وَذُكِرَ أَنَّ أَبَا حَاتِمٍ ذَكَرَ ذَلِكَ فِي كِتَابِ «الزِّينَةِ» لَهُ وَبَنَى عَلَى ذَلِكَ السُّيُوطِيُّ فَزَادَهُ فِي «مَنْظُومَتِهِ فِي الْمُعَرَّبِ».
وَالصِّرَاطُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مُسْتَعَارٌ لِمَعْنَى الْحَقِّ الَّذِي يَبْلُغُ بِهِ مُدْرِكُهُ إِلَى الْفَوْزِ بِرِضَاءِ اللَّهِ لِأَنَّ ذَلِكَ الْفَوْزَ هُوَ الَّذِي جَاءَ الْإِسْلَامُ بِطَلَبِهِ.
190
وَالْمُسْتَقِيمُ اسْمُ فَاعِلِ اسْتَقَامَ مُطَاوِعٌ قَوَّمْتُهُ فَاسْتَقَامَ، وَالْمُسْتَقِيمُ الَّذِي لَا عِوَجَ فِيهِ وَلَا تَعَارِيجَ، وَأَحْسَنُ الطُّرُقِ الَّذِي يَكُونُ مُسْتَقِيمًا وَهُوَ الْجَادَّةُ لِأَنَّهُ بِاسْتِقَامَتِهِ يَكُونُ أَقْرَبَ إِلَى الْمَكَانِ الْمَقْصُودِ مِنْ غَيْرِهِ فَلَا يَضِلُّ فِيهِ سَالِكُهُ وَلَا يَتَرَدَّدُ وَلَا يَتَحَيَّرُ.
وَالْمُسْتَقِيمُ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِلْحَقِّ الْبَيِّنِ الَّذِي لَا تَخْلِطُهُ شُبْهَةُ بَاطِلٍ فَهُوَ كَالطَّرِيقِ الَّذِي لَا تَتَخَلَّلُهُ بُنَيَّاتٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ دِينُ الْحَقِّ، وَنُقِلَ عَنْهُ أَنَّهُ مِلَّةُ الْإِسْلَامِ، فَكَلَامُهُ يُفَسِّرُ بَعْضُهُ بَعْضًا وَلَا يُرِيدُ أَنَّهُمْ لُقِّنُوا الدُّعَاءَ بِطَلَبِ الْهِدَايَةِ إِلَى دِينٍ مَضَى وَإِنْ كَانَتِ الْأَدْيَانُ الْإِلَهِيَّةُ كُلُّهَا صُرُطًا مُسْتَقِيمَةً بِحَسَبِ أَحْوَالِ أُمَمِهَا يَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي حِكَايَةِ غِوَايَةِ الشَّيْطَانِ: قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ [الْأَعْرَاف: ١٦].
فَالتَّعْرِيفُ فِي (الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ) تَعْرِيفُ الْعَهْدِ الذِّهْنِيِّ، لِأَنَّهُمْ سَأَلُوا الْهِدَايَةَ لِهَذَا الْجِنْسِ فِي ضِمْنِ فَرْدٍ وَهُوَ الْفَرْدُ الْمُنْحَصِرُ فِيهِ الِاسْتِقَامَةُ لِأَنَّ الِاسْتِقَامَةَ لَا تَتَعَدَّدُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ [يُونُس: ٣٢] وَلِأَنَّ الضَّلَالَ أَنْوَاعٌ كَثِيرَةٌ كَمَا قَالَ:
وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ [الْمَائِدَة: ١٠٠] وَقَدْ يُوَجَّهُ هَذَا التَّفْسِيرُ بِحُصُولِ الْهِدَايَةِ إِلَى الْإِسْلَامِ فَعَلَّمَهُمُ اللَّهُ هَذَا الدُّعَاءَ لِإِظْهَارِ مِنَّتِهِ وَقَدْ هَدَاهُمُ اللَّهُ بِمَا سَبَقَ مِنَ الْقُرْآنِ قَبْلَ نُزُولِ الْفَاتِحَةِ وَيَهْدِيهِمْ بِمَا لَحِقَ مِنَ الْقُرْآنِ وَالْإِرْشَادِ النَّبَوِيِّ. وَإِطْلَاقُ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ عَلَى دِينِ الْإِسْلَامِ وَرَدَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً [الْأَنْعَام:
١٦١].
وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي أَنَّ الْمُرَادَ بِالصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ الْمَعَارِفُ الصَّالِحَاتُ كُلُّهَا مِنَ اعْتِقَادٍ وَعَمَلٍ بِأَنْ يُوَفِّقَهُمْ إِلَى الْحَقِّ وَالتَّمْيِيزِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الضَّلَالِ عَلَى مَقَادِيرِ اسْتِعْدَادِ النُّفُوسِ وَسَعَةِ
مَجَالِ الْعُقُولِ النَّيِّرَةِ وَالْأَفْعَالِ الصَّالِحَةِ بِحَيْثُ لَا يَعْتَرِيهِمْ زَيْغٌ وَشُبْهَاتٌ فِي دِينِهِمْ وَهَذَا أَوْلَى لِيَكُونَ الدُّعَاءُ طَلَبَ تَحْصِيلِ مَا لَيْسَ بِحَاصِلٍ وَقْتَ الطَّلَبِ وَإِنَّ الْمَرْءَ بِحَاجَةٍ إِلَى هَذِهِ الْهِدَايَةِ فِي جَمِيع شؤونه كُلِّهَا حَتَّى فِي الدَّوَامِ عَلَى مَا هُوَ مُتَلَبِّسٌ بِهِ مِنَ الْخَيْرِ لِلْوِقَايَةِ مِنَ التَّقْصِيرِ فِيهِ أَوِ الزَّيْغِ عَنْهُ. وَالْهِدَايَةُ إِلَى الْإِسْلَامِ لَا تُقْصَرُ عَلَى ابْتِدَاءِ اتِّبَاعِهِ وَتَقَلُّدِهِ بَلْ هِيَ مُسْتَمِرَّةٌ بِاسْتِمْرَارِ تَشْرِيعَاتِهِ وَأَحْكَامِهِ بِالنَّصِّ أَوِ الِاسْتِنْبَاطِ. وَبِهِ يَظْهَرُ مَوْقِعُ قَوْلِهِ: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ مُصَادِفًا الْمِحَزِّ
191
[٧] صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (٧).
صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ.
بَدَلٌ أَوْ عَطْفُ بَيَانٍ مِنَ الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ، وَإِنَّمَا جَاءَ نَظْمُ الْآيَةِ بِأُسْلُوبِ الْإِبْدَالِ أَوِ الْبَيَانِ دُونَ أَنْ يُقَالَ: اهْدِنَا صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمُ الْمُسْتَقِيمَ، لِفَائِدَتَيْنِ: الْأُولَى: أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الطَّلَبِ ابْتِدَاءً هُوَ كَوْنُ الْمُهْدَى إِلَيْهِ وَسِيلَةً لِلنَّجَاةِ وَاضِحَةً سَمْحَةً سَهْلَةً، وَأَمَّا كَوْنُهَا سَبِيلَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فَأَمْرٌ زَائِدٌ لِبَيَانِ فَضْلِهِ. الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: مَا فِي أُسْلُوبِ الْإِبْدَالِ مِنَ الْإِجْمَالِ الْمُعَقَّبِ بِالتَّفْصِيلِ لِيَتَمَكَّنَ مَعْنَى الصِّرَاطِ لِلْمَطْلُوبِ فَضْلُ تَمَكُّنٍ فِي نُفُوسِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ لُقِّنُوا هَذَا الدُّعَاءَ فَيَكُونُ لَهُ مِنَ الْفَائِدَةِ مِثْلُ مَا لِلتَّوْكِيدِ الْمَعْنَوِيِّ، وَأَيْضًا لِمَا فِي هَذَا الْأُسْلُوبِ مِنْ تَقْرِيرِ حَقِيقَةِ هَذَا الصِّرَاطِ وَتَحْقِيقِ مَفْهُومِهِ فِي نُفُوسِهِمْ فَيَحْصُلُ مَفْهُومُهُ مَرَّتَيْنِ فَيَحْصُلُ لَهُ مِنَ الْفَائِدَةِ مَا يَحْصُلُ بِالتَّوْكِيدِ اللَّفْظِيِّ وَاعْتِبَارِ الْبَدَلِيَّةِ مُسَاوٍ لِاعْتِبَارِهِ عَطْفَ بَيَانٍ لَا مَزِيَّةَ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ خِلَافًا لِمَنْ حَاوَلَ التَّفَاضُلَ بَيْنَهُمَا، إِذِ التَّحْقِيقُ عِنْدِي أَنَّ عَطْفَ الْبَيَانِ اسْمٌ لِنَوْعٍ مِنَ الْبَدَلِ وَهُوَ الْبَدَلُ الْمُطَابِقُ وَهُوَ الَّذِي لَمْ يُفْصِحْ أَحَدٌ مِنَ النُّحَاةِ عَلَى تَفْرِقَةٍ مَعْنَوِيَّةٍ بَيْنَهُمَا وَلَا شَاهِدًا يُعَيِّنُ الْمَصِيرَ إِلَى أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ.
قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» :«فَإِنْ قُلْتَ مَا فَائِدَةُ الْبَدَلِ؟ قُلْتُ فَائِدَتُهُ التَّوْكِيدُ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّثْنِيَةِ وَالتَّكْرِيرِ» اهـ فَأَفْهَمَ كَلَامُهُ أَنَّ فَائِدَةَ الْإِبْدَالِ أَمْرَانِ يَرْجِعَانِ إِلَى التَّوْكِيدِ وَهُمَا مَا فِيهِ مِنَ التَّثْنِيَةِ أَيْ تَكْرَارِ لَفْظِ الْبَدَلِ وَلَفْظِ الْمُبْدَلِ مِنْهُ وَعَنَى بِالتَّكْرِيرِ مَا يُفِيدُهُ الْبَدَلُ عِنْدَ النُّحَاةِ مِنْ تَكْرِيرِ الْعَامِلِ وَهُوَ الَّذِي مَهَّدَ لَهُ فِي صَدْرِ كَلَامِهِ بِقَوْلِهِ: «وَهُوَ فِي حُكْمِ تَكْرِيرِ الْعَامِلِ كَأَنَّهُ قِيلَ: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ اهْدِنَا صِرَاطَ الَّذِينَ، وَسَمَّاهُ تَكْرِيرًا لِأَنَّهُ إِعَادَةٌ لِلَّفْظِ بِعَيْنِهِ،
بِخِلَافِ إِعَادَةِ لَفْظِ الْمُبْدَلِ مِنْهُ فَإِنَّهُ إِعَادَةٌ لَهُ بِمَا يَتَّحِدُ مَعَ مَا صَدَقَهُ فَلِذَلِكَ عَبَّرَ بِالتَّكْرِيرِ وَبِالتَّثْنِيَةِ، وَمُرَادُهُ أَنَّ مِثْلَ هَذَا الْبَدَلِ وَهُوَ الَّذِي فِيهِ إِعَادَةُ لَفْظِ الْمُبْدَلِ مِنْهُ يُفِيدُ فَائِدَةَ الْبَدَلِ وَفَائِدَةَ التَّوْكِيدِ اللَّفْظِيِّ، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ لَا يَتَأَتَّى عَلَى وَجْهٍ مُعْتَبَرٍ عِنْدَ الْبُلَغَاءِ إِلَّا بِهَذَا الصَّوْغِ الْبَدِيعِ.
وَإِنَّ إِعَادَةَ الِاسْمِ فِي الْبَدَلِ أَوِ الْبَيَانِ لِيُبْنَى عَلَيْهِ مَا يُرَادُ تَعَلُّقُهُ بِالِاسْمِ الْأَوَّلِ أُسْلُوبٌ بَهِيجٌ مِنَ الْكَلَامِ الْبَلِيغِ لِإِشْعَارِ إِعَادَةِ اللَّفْظِ بِأَنَّ مَدْلُولَهُ بِمَحَلِّ الْعِنَايَةِ وَأَنَّهُ حَبِيبٌ إِلَى النَّفْسِ، وَمِثْلُهُ تَكْرِيرُ الْفِعْلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً [الْفرْقَان: ٧٢] وَقَوْلِهِ: رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا [الْقَصَص: ٦٣] فَإِنَّ إِعَادَةَ فِعْلِ مَرُّوا وَفِعْلِ أَغْوَيْناهُمْ وَتَعْلِيقِ الْمُتَعَلِّقِ بِالْفِعْلِ الْمُعَادِ دُونَ الْفِعْلِ الْأَوَّلِ تَجِدُ لَهُ مِنَ الرَّوْعَةِ وَالْبَهْجَةِ مَا لَا تَجِدُهُ لِتَعْلِيقِهِ بِالْفِعْلِ الْأَوَّلِ
192
دُونَ إِعَادَةٍ، وَلَيْسَتِ الْإِعَادَةُ فِي مِثْلِهِ لِمُجَرَّدِ التَّأْكِيدِ لِأَنَّهُ قَدْ زِيدَ عَلَيْهِ مَا تَعَلَّقَ بِهِ. قَالَ ابْنُ جِنِّي فِي «شَرْحِ مُشْكِلِ الْحَمَاسَةِ» عِنْدَ قَوْلِ الْأَحْوَصِ:
فَإِذَا تَزُولُ تَزُولُ عَنْ مُتَخَمِّطٍ تُخْشَى بَوَادِرُهُ عَلَى الْأَقْرَانِ
مُحَالٌ أَنْ تَقُولَ إِذَا قُمْتُ قُمْتُ وَإِذَا أَقْعُدُ أَقْعُدُ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الثَّانِي غَيْرُ مَا فِي الْأَوَّلِ وَإِنَّمَا جَازَ أَنْ يَقُولَ فَإِذَا تَزُولُ تَزُولُ لِمَا اتَّصَلَ بِالْفِعْلِ الثَّانِي مِنْ حَرْفِ الْجَرِّ الْمُفَادَةُ مِنْهُ الْفَائِدَةُ، وَمِثْلُهُ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا وَقَدْ كَانَ أَبُو عَلِيٍّ (يَعْنِي الْفَارِسِيَّ) امْتَنَعَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِمَّا أَخَذْنَاهُ اهـ.
قُلْتُ وَلَمْ يَتَّضِحْ تَوْجِيهُ امْتِنَاعِ أَبِي عَلِيٍّ فَلَعَلَّهُ امْتَنَعَ مِنَ اعْتِبَارِ أَغْوَيْناهُمْ بَدَلًا مِنْ أَغْوَيْنا وَجَعَلَهُ اسْتِئْنَافًا وَإِنْ كَانَ الْمَآلُ وَاحِدًا. وَفِي اسْتِحْضَارِ الْمُنْعَمِ عَلَيْهِمْ بِطَرِيقِ الْمَوْصُولِ، وَإِسْنَادِ فِعْلِ الْإِنْعَامِ عَلَيْهِمْ إِلَى ضَمِيرِ الْجَلَالَةِ، تَنْوِيهٌ بِشَأْنِهِمْ خِلَافًا لِغَيْرِهِمْ مِنَ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَالضَّالِّينَ.
ثُمَّ إِنَّ فِي اخْتِيَارِ وَصْفِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ بِأَنَّهُ صِرَاطُ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ دُونَ بَقِيَّةِ أَوْصَافِهِ تَمْهِيدًا لِبِسَاطِ الْإِجَابَةِ فَإِنَّ الْكَرِيمَ إِذَا قُلْتَ لَهُ أَعْطِنِي كَمَا أَعْطَيْتَ فُلَانًا كَانَ ذَلِكَ أَنْشَطَ لِكَرَمِهِ، كَمَا قَرَّرَهُ الشَّيْخُ الْجَدُّ قَدَّسَ اللَّهُ سِرَّهُ
فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ»
، فَيَقُولُ السَّائِلُونَ: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقيم الصِّرَاط الَّذين هَدَيْتَ إِلَيْهِ عَبِيدَ نِعَمِكَ مَعَ مَا فِي ذَلِكَ مِنَ التَّعْرِيضِ بِطَلَبِ أَن يَكُونُوا لَا حقين فِي مَرْتَبَةِ الْهُدَى بِأُولَئِكَ الْمُنْعَمِ عَلَيْهِمْ، وَتَهَمُّمًا بِالِاقْتِدَاءِ بِهِمْ فِي الْأَخْذِ بِالْأَسْبَابِ الَّتِي ارْتَقَوْا بِهَا إِلَى تِلْكَ الدَّرَجَاتِ، قَالَ تَعَالَى: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الممتحنة: ٦]، وَتَوْطِئَةً لِمَا سَيَأْتِي بعد من التبري
مِنَ أَحْوَالِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَالضَّالِّينَ فَتَضَمَّنَ ذَلِكَ تَفَاؤُلًا وَتَعَوُّذًا.
وَالنِّعْمَةُ- بِالْكَسْرِ وَبِالْفَتْحِ- مُشْتَقَّةٌ مِنَ النَّعِيمِ وَهُوَ رَاحَةُ الْعَيْشِ وَمُلَائِمُ الْإِنْسَانِ وَالتَّرَفُّهِ، وَالْفِعْلُ كَسَمِعَ وَنَصَرَ وَضَرَبَ. وَالنِّعْمَةُ الْحَالَةُ الْحَسَنَةُ لِأَنَّ بِنَاءَ الْفِعْلَةِ بِالْكَسْرِ لِلْهَيْئَاتِ وَمُتَعَلِّقَ النِّعْمَةِ اللَّذَّاتُ الْحِسِّيَّةُ ثُمَّ اسْتُعْمِلَتْ فِي اللَّذَّاتِ الْمَعْنَوِيَّةِ الْعَائِدَةِ بِالنَّفْعِ وَلَوْ لَمْ يُحِسَّ بِهَا صَاحِبُهَا. فَالْمُرَادُ مِنَ النِّعْمَةِ فِي قَوْلِهِ: الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ النِّعْمَةُ الَّتِي لَمْ يَشُبْهَا مَا يُكَدِّرُهَا وَلَا تَكُونُ عَاقِبَتُهَا سُوأَى، فَهِيَ شَامِلَةٌ لِخَيْرَاتِ الدُّنْيَا الْخَالِصَةِ مِنَ الْعَوَاقِبِ السَّيِّئَةِ وَلِخَيْرَاتِ الْآخِرَةِ، وَهِيَ الْأَهَمُّ، فَيَشْمَلُ النِّعَمَ الدُّنْيَوِيَّةَ الْمَوْهُوبِيَّ مِنْهَا وَالْكَسْبِيَّ، وَالرُّوحَانِيَّ وَالْجُثْمَانِيَّ، وَيَشْمَلُ النِّعَمَ الْأُخْرَوِيَّةَ.
193
وَالنِّعْمَةُ بِهَذَا الْمَعْنَى يَرْجِعُ مُعْظَمُهَا إِلَى الْهِدَايَةِ، فَإِنَّ الْهِدَايَةَ إِلَى الْكَسْبِيِّ مِنَ الدُّنْيَوِيِّ وَإِلَى الْأُخْرَوِيِّ كُلِّهِ ظَاهِرَةٌ فِيهَا حَقِيقَةُ الْهِدَايَةِ، وَلِأَنَّ الْمَوْهُوبَ فِي الدُّنْيَا وَإِنْ كَانَ حَاصِلًا بِلَا كَسْبٍ إِلَّا أَنَّ الْهِدَايَةَ تَتَعَلَّقُ بِحُسْنِ اسْتِعْمَالِهِ فِيمَا وُهِبَ لِأَجْلِهِ.
فَالْمُرَادُ مِنَ الْمُنْعَمِ عَلَيْهِمُ الَّذِينَ أُفِيضَتْ عَلَيْهِمُ النِّعَمُ الْكَامِلَةُ وَلَا تَخْفَى تَمَامُ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ الْمُنْعَمِ عَلَيْهِمْ وَبَيْنَ الْمَهْدِيِّينَ حِينَئِذٍ فَيَكُونُ فِي إِبْدَالِ صِراطَ الَّذِينَ مِنَ الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ مَعْنًى بَدِيعٌ وَهُوَ أَنَّ الْهِدَايَةَ نِعْمَةٌ وَأَنَّ الْمُنْعَمَ عَلَيْهِمْ بِالنِّعْمَةِ الْكَامِلَةِ قَدْ هُدُوا إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ. وَالَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ هُمْ خِيَارُ الْأُمَمِ السَّابِقَةِ مِنَ الرُّسُلِ وَالْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ حَصَلَتْ لَهُمُ النِّعْمَةُ الْكَامِلَةُ. وَإِنَّمَا يَلْتَئِمُ كَوْنُ الْمَسْئُولِ طَرِيقَ الْمُنْعَمِ عَلَيْهِمْ فِيمَا مَضَى وَكَوْنُهُ هُوَ دِينَ الْإِسْلَامِ الَّذِي جَاءَ مِنْ بَعْدُ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ جَارٍ عَلَى سَنَنِ الشَّرَائِعِ الْحَقَّةِ فِي أُصُولِ الدِّيَانَةِ وَفُرُوعِ الْهِدَايَةِ وَالتَّقْوَى، فَسَأَلُوا دِينًا قَوِيمًا يَكُونُ فِي اسْتِقَامَتِهِ كَصِرَاطِ الْمُنْعَمِ عَلَيْهِمْ فَأُجِيبُوا بِدِينِ الْإِسْلَامِ، وَقَدْ جَمَعَ اسْتِقَامَةَ الْأَدْيَانِ الْمَاضِيَةِ وَزَادَ عَلَيْهَا، أَوِ الْمُرَادُ مِنَ الْمُنْعَمِ عَلَيْهِمُ الْأَنْبِيَاءُ وَالرُّسُلُ فَإِنَّهُمْ كَانُوا عَلَى حَالَةٍ أَكْمَلَ مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ أُمَمُهُمْ، وَلِذَلِكَ وَصَفَ اللَّهُ كَثِيرًا مِنَ الرُّسُلِ الْمَاضِينَ بِوَصْفِ الْإِسْلَامِ وَقَدْ قَالَ يَعْقُوبُ لِأَبْنَائِهِ: فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [الْبَقَرَة: ١٣٢] ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى رَفِقَ بِالْأُمَمِ فَلَمْ يَبْلُغْ بِهِمْ غَايَةَ الْمُرَادِ مِنَ النَّاسِ لِعَدَمِ تَأَهُّلِهِمْ لِلِاضْطِلَاعِ بِذَلِكَ وَلَكِنَّهُ أَمَرَ الْمُرْسَلِينَ بِأَكْمَلِ الْحَالَاتِ وَهِيَ مُرَادُهُ تَعَالَى مِنَ الْخَلْقِ فِي الْغَايَةِ، وَلْنُمَثِّلْ لِذَلِكَ بِشُرْبِ الْخَمْرِ فَقَدْ كَانَ الْقَدْرُ غَيْرُ الْمُسْكِرِ مِنْهُ مُبَاحًا وَإِنَّمَا يَحْرُمُ السُّكْرُ أَوْ لَا يَحْرُمُ أَصْلًا غَيْرَ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يَكُونُوا يَتَعَاطَوْنَ الْقَلِيلَ مِنَ الْمُسْكِرَاتِ وَهُوَ الْمِقْدَارُ الَّذِي هَدَى اللَّهُ إِلَيْهِ هَذِهِ الْأُمَّةَ كُلَّهَا، فَسَوَاءٌ فَسَّرْنَا الْمُنْعَمَ عَلَيْهِمْ بِالْأَنْبِيَاءِ أَوْ بِأَفْضَلِ أتباعهم أَو الْمُسلمين السَّابِقِينَ فَالْمَقْصِدُ
الْهِدَايَةُ إِلَى صِرَاطٍ كَامِلٍ وَيَكُونُ هَذَا الدُّعَاءُ مَحْمُولًا فِي كُلِّ زَمَانٍ عَلَى مَا يُنَاسِبُ طُرُقَ الْهِدَايَةِ الَّتِي سَبَقَتْ زَمَانَهُ وَالَّتِي لَمْ يَبْلُغْ إِلَى نِهَايَتِهَا.
وَالْقَوْلُ فِي الْمَطْلُوبِ مِنِ اهْدِنَا عَلَى هَذِهِ التَّقَادِيرِ كُلِّهَا كَالْقَوْلِ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ كَوْنِ اهْدِنَا لِطَلَبِ الْحُصُولِ أَوِ الزِّيَادَةِ أَوِ الدَّوَامِ.
وَالدُّعَاءُ مَبْنِيٌّ عَلَى عَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِالنِّعْمَةِ غَيْرِ الْخَالِصَةِ، فَإِنَّ نِعَمَ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ كُلِّهِمْ كَثِيرَةٌ وَالْكَافِرُ مُنْعَمٌ عَلَيْهِ بِمَا لَا يُمْتَرَى فِي ذَلِكَ وَلَكِنَّهَا نِعَمٌ تَحُفُّهَا آلَامُ الْفِكْرَةِ فِي سُوءِ الْعَاقِبَةِ وَيَعْقُبُهَا عَذَابُ الْآخِرَةِ، فَالْخِلَافُ الْمَفْرُوضُ بَيْنَ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ فِي أَنَّ الْكَافِرَ هَلْ هُوَ مُنْعَمٌ عَلَيْهِ خِلَافٌ لَا طَائِلَ تَحْتَهُ فَلَا فَائِدَةَ فِي التَّطْوِيلِ بِظَوَاهِرِ أَدِلَّةِ الْفَرِيقَيْنِ.
194
غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ.
كَلِمَةُ غَيْرِ مَجْرُورَةٌ بِاتِّفَاقِ الْقُرَّاءِ الْعَشَرَةِ، وَهِيَ صِفَةٌ لِلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ، أَوْ بَدَلٌ مِنْهُ وَالْوَصْفُ وَالْبَدَلِيَّةُ سَوَاءٌ فِي الْمَقْصُودِ، وَإِنَّمَا قَدَّمَ فِي «الْكَشَّافِ» بَيَانَ وَجْهِ الْبَدَلِيَّةِ لِاخْتِصَارِ الْكَلَامِ عَلَيْهَا لِيُفْضِيَ إِلَى الْكَلَامِ عَلَى الْوَصْفِيَّةِ، فَيُورِدُ عَلَيْهَا كَيْفِيَّةَ صِحَّةِ تَوْصِيفِ الْمَعْرِفَةِ بِكَلِمَةِ (غَيْرِ) الَّتِي لَا تُتَعَرَّفُ، وَإِلَّا فَإِنَّ جَعْلَ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ صِفَةً لِلَّذِينَ هُوَ الْوَجْهُ وَكَذَلِكَ أَعْرَبَهُ سِيبَوَيْهِ فِيمَا نَقَلَ عَنْهُ أَبُو حَيَّانَ وَوَجَّهَهُ بِأَنَّ الْبَدَلَ بِالْوَصْفِ ضَعِيفٌ إِذِ الشَّأْنُ أَنَّ الْبَدَلَ هُوَ عَيْنُ الْمُبْدَلِ مِنْهُ أَيِ اسْمُ ذَاتٍ لَهُ، يُرِيدُ أَنَّ مَعْنَى التَّوْصِيفِ فِي غَيْرِ أَغْلَبُ مِنْ مَعْنَى ذَاتٍ أُخْرَى لَيْسَتِ السَّابِقَةَ، وَهُوَ وُقُوفٌ عِنْدَ حُدُودِ الْعِبَارَاتِ الِاصْطِلَاحِيَّةِ حَتَّى احْتَاجَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» إِلَى تَأْوِيلِ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ بِالَّذِينَ سَلِمُوا مِنَ الْغَضَبِ، وَأَنَا لَا أَظُنُّ الزَّمَخْشَرِيَّ أَرَادَ تَأْوِيلَ غَيْرِ بَلْ أَرَادَ بَيَانَ الْمَعْنَى. وَإِنَّمَا صَحَّ وُقُوعُ (غَيْرِ) صِفَةً لِلْمَعْرِفَةِ مَعَ قَوْلِهِمْ إِنَّ غَيْرَ لِتَوَغُّلِهَا فِي الْإِبْهَامِ لَا تُفِيدُهَا الْإِضَافَةُ تَعْرِيفًا أَيْ فَلَا يَكُونُ فِي الْوَصْفِ بِهَا فَائِدَةُ التَّمْيِيزِ فَلَا تُوصَفُ بِهَا الْمَعْرِفَةُ لِأَنَّ الصِّفَةَ يَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ أَشْهَرَ من الْمَوْصُوف، فَغير وَإِنْ كَانَتْ مُضَافَةً لِلْمَعْرِفَةِ إِلَّا أَنَّهَا لِمَا تَضَمَّنَهُ مَعْنَاهَا مِنَ الْإِبْهَامِ انْعَدَمَتْ مَعَهَا فَائِدَةُ التَّعْرِيفِ، إِذْ كُلُّ شَيْءٍ سِوَى الْمُضَافِ إِلَيْهِ هُوَ غَيْرُ، فَمَاذَا يُسْتَفَادُ مِنَ الْوَصْفِ فِي قَوْلِكَ مَرَرْتُ بِزَيْدٍ غَيْرِ عَمْرٍو، فَالتَّوْصِيفُ هُنَا إِمَّا بِاعْتِبَارِ كَوْنِ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ لَيْسَ مُرَادًا بِهِ فَرِيقٌ مُعَيَّنٌ فَكَانَ وِزَانُ تَعْرِيفِهِ بِالصِّلَةِ وِزَانَ الْمُعَرَّفِ بِأَلِ الْجِنْسِيَّةِ الْمُسَمَّاةِ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْمَعَانِي بِلَامِ الْعَهْدِ الذِّهْنِيِّ، فَكَانَ فِي الْمَعْنَى كَالنَّكِرَةِ وَإِنْ كَانَ لَفْظُهُ لَفْظَ الْمَعْرِفَةِ فَلِذَلِكَ عُرِفَ بِمِثْلِهِ لَفْظًا وَمَعْنًى، وَهُوَ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ الَّذِي هُوَ فِي صُورَةِ الْمَعْرِفَةِ لِإِضَافَتِهِ لِمَعْرِفَةٍ وَهُوَ فِي الْمَعْنَى كَالنَّكِرَةِ لِعَدَمِ إِرَادَةِ شَيْءٍ مُعَيَّنٍ، وَإِمَّا بِاعْتِبَارِ تَعْرِيفِ غَيْرِ فِي مِثْلِ
هَذَا لِأَنَّ غَيْرَ إِذَا أُرِيدَ بِهَا نَفْيُ ضِدِّ الْمَوْصُوفِ أَيْ مُسَاوِي نَقِيضِهِ صَارَتْ مُعَرَّفَةً، لِأَنَّ الشَّيْءَ يَتَعَرَّفُ بِنَفْيِ ضِدِّهِ نَحْوُ عَلَيْكَ بِالْحَرَكَةِ غَيْرِ السُّكُونِ، فَلَمَّا كَانَ مَنْ أُنْعِمَ عَلَيْهِ لَا يُعَاقَبُ كَانَ الْمُعَاقَبُ هُوَ الْمَغْضُوبَ عَلَيْهِ، هَكَذَا نَقَلَ ابْنُ هِشَامٍ عَنِ ابْنِ السَّرَّاجِ وَالسِّيرَافِيِّ وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي أَمَالِيهِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ [النِّسَاء: ٩٥] وَنقل عَن سيبوبه أَن غيرا إِنَّمَا لَمْ تَتَعَرَّفْ لِأَنَّهَا بِمَعْنَى الْمُغَايِرِ فَهِيَ كَاسْمِ الْفَاعِلِ وَأَلْحَقَ بِهَا مِثْلًا وَسِوَى وَحَسْبَ وَقَالَ: إِنَّهَا تَتَعَرَّفُ إِذَا قُصِدَ بِإِضَافَتِهَا الثُّبُوتُ. وَكَأَنَّ مَآلَ الْمَذْهَبَيْنِ وَاحِد لِأَن غيرا إِذَا أُضِيفَتْ
195
إِلَى ضِدِّ مَوْصُوفِهَا وَهُوَ ضِدٌّ وَاحِدٌ أَيْ إِلَى مُسَاوِي نَقِيضِهِ تَعَيَّنَتْ لَهُ الْغَيْرِيَّةُ فَصَارَتْ صِفَةً ثَابِتَةً لَهُ غَيْرَ مُنْتَقِلَةٍ، إِذْ غَيْرِيَّةُ الشَّيْءِ لِنَقِيضِهِ ثَابِتَةٌ لَهُ أَبَدًا فَقَوْلُكَ عَلَيْكَ بِالْحَرَكَةِ غَيْرِ السُّكُونِ هُوَ غَيْرُ قَوْلِكَ مَرَرْتُ بِزَيْدٍ غَيْرِ عَمْرٍو وَقَوْلُهُ: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّوْعِ الْأَوَّلِ.
وَمِنْ غَرَضِ وَصْفِ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ التَّعَوُّذُ مِمَّا عَرَضَ لِأُمَمٍ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِالْهِدَايَةِ إِلَى صِرَاطِ الْخَيْرِ بِحَسَبِ زَمَانِهِمْ بِدَعْوَةِ الرُّسُلِ إِلَى الْحَقِّ فَتَقَلَّدُوهَا ثُمَّ طَرَأَ عَلَيْهِمْ سُوءُ الْفَهْمِ فِيهَا فَغَيَّرُوهَا وَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا، وَالتَّبَرُّؤُ مِنْ أَنْ يَكُونُوا مِثْلَهُمْ فِي بَطَرِ النِّعْمَةِ وَسُوءِ الِامْتِثَالِ وَفَسَادِ التَّأْوِيلِ وَتَغْلِيبِ الشَّهَوَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ عَلَى إِقَامَةِ الدِّينِ حَتَّى حَقَّ عَلَيْهِمْ غَضَبُ اللَّهِ تَعَالَى، وَكَذَا التَّبَرُّؤُ مِنْ حَالِ الَّذِينَ هُدُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ فَمَا صَرَفُوا عِنَايَتَهُمْ لِلْحِفَاظِ عَلَى السَّيْرِ فِيهِ بِاسْتِقَامَةٍ، فَأَصْبَحُوا مِنَ الضَّالِّينَ بَعْدَ الْهِدَايَةِ إِذْ أَسَاءُوا صِفَةَ الْعِلْمِ بِالنِّعْمَةِ فَانْقَلَبَتْ هِدَايَتُهُمْ ضَلَالًا.
وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ لَمْ يَحِقَّ عَلَيْهِمْ غَضَبُ اللَّهِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ لِأَنَّهُمْ ضَلُّوا عَنْ غَيْرِ تَعَمُّدٍ فَلَمْ يَسْبِقْ غَضَبُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ قَدِيمًا وَالْيَهُودُ مِنْ جُمْلَةِ الْفَرِيقِ الْأَوَّلِ، وَالنَّصَارَى مِنْ جُمْلَةِ الْفَرِيقِ الثَّانِي كَمَا يُعْلَمُ مِنَ الِاطِّلَاعِ عَلَى تَارِيخِ ظُهُورِ الدِّينَيْنِ فِيهِمْ. وَلَيْسَ يَلْزَمُ اخْتِصَاصُ أَوَّلِ الْوَصْفَيْنِ بِالْيَهُودِ وَالثَّانِي بِالنَّصَارَى فَإِنَّ فِي الْأُمَمِ أَمْثَالَهُمْ وَهَذَا الْوَجْهُ فِي التَّفْسِيرِ هُوَ الَّذِي يَسْتَقِيمُ مَعَهُ مَقَامُ الدُّعَاءِ بِالْهِدَايَةِ إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ وَلَو كَانَ المرادين الْيَهُودِيَّةِ وَدِينَ النَّصْرَانِيَّةِ لَكَانَ الدُّعَاءُ تَحْصِيلًا لِلْحَاصِلِ فَإِنَّ الْإِسْلَامَ جَاءَ نَاسِخًا لَهُمَا.
وَيَشْمَلُ الْمَغْضُوبُ عَلَيْهِمْ وَالضَّالُّونَ فِرَقَ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ، فَالْمَغْضُوبُ عَلَيْهِمْ جِنْسٌ لِلْفِرَقِ الَّتِي تَعَمَّدَتْ ذَلِكَ وَاسْتَخَفَّتْ بِالدِّيَانَةِ عَنْ عَمْدٍ أَوْ عَنْ تَأْوِيلٍ بَعِيدٍ جِدًّا، وَالضَّالُّونَ جِنْسٌ لِلْفِرَقِ الَّتِي أَخْطَأَتِ الدِّينَ عَنْ سُوءِ فَهْمٍ وَقِلَّةِ إِصْغَاءٍ وَكِلَا الْفَرِيقَيْنِ مَذْمُومٌ لِأَنَّنَا مَأْمُورُونَ بِاتِّبَاعِ سَبِيلِ الْحَقِّ وَصَرْفِ الْجُهْدِ إِلَى إِصَابَتِهِ، وَالْيَهُودُ مِنَ الْفَرِيقِ الْأَوَّلِ
وَالنَّصَارَى مِنَ الْفَرِيقِ الثَّانِي. وَمَا وَرَدَ فِي الْأَثَرِ مِمَّا ظَاهِرُهُ تَفْسِيرُ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ بِالْيَهُودِ وَالضَّالِّينَ بِالنَّصَارَى فَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ فِي الْآيَةِ تَعْرِيضًا بِهَذَيْنِ الْفَرِيقَيْنِ اللَّذَيْنِ حَقَّ عَلَيْهِمَا هَذَانِ الْوَصْفَانِ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا صَارَ عَلَمًا فِيمَا أُرِيدَ التَّعْرِيضُ بِهِ فِيهِ. وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكَ مِنْ هَذَا أَنَّ عَطْفَ وَلَا الضَّالِّينَ عَلَى غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ارْتِقَاءٌ فِي التَّعَوُّذِ مِنْ شَرِّ سُوءِ الْعَاقِبَةِ لِأَنَّ التَّعَوُّذَ مِنَ الضَّلَالِ الَّذِي جَلَبَ لِأَصْحَابِهِ غَضَبَ اللَّهِ لَا يُغْنِي عَنِ التَّعَوُّذِ مِنَ الضَّلَالِ الَّذِي لَمْ يَبْلُغْ بِأَصْحَابِهِ تِلْكَ الدَّرَكَاتِ وَذَلِكَ وَجْهُ تَقْدِيمِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ عَلَى وَلَا الضَّالِّينَ، لِأَنَّ الدُّعَاءَ كَانَ بِسُؤَالِ النَّفْيِ، فَالتَّدَرُّجُ فِيهِ يَحْصُلُ
196
بِنَفْيِ الْأَضْعَفِ بَعْدَ نَفْيِ الْأَقْوَى، مَعَ رِعَايَةِ الْفَوَاصِلِ.
وَالْغَضَبُ الْمُتَعَلِّقُ بِالْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ هُوَ غَضَبُ اللَّهِ. وَحَقِيقَةُ الْغَضَبِ الْمَعْرُوفِ فِي النَّاسِ أَنَّهُ كَيْفِيَّةٌ تَعْرِضُ لِلنَّفْسِ يَتْبَعُهَا حَرَكَةُ الرُّوحِ إِلَى الْخَارِجِ وَثَوَرَانُهَا فَتَطْلُبُ الِانْتِقَامَ، فَالْكَيْفِيَّةُ سَبَبٌ لِطَلَبِ الِانْتِقَامِ وَطَلَبُ الِانْتِقَامِ سَبَبٌ لِحُصُولِ الِانْتِقَامِ. وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ إِرَادَةَ الِانْتِقَامِ لَيْسَتْ مِنْ لَوَازِمِ مَاهِيَّةِ الْغَضَبِ بِحَيْثُ لَا تَنْفَكُّ عَنْهُ وَلَكِنَّهَا قَدْ تَكُونُ مِنْ آثَارِهِ، وَأَنَّ الْغَضَبَ هُوَ كَيْفِيَّةٌ لِلنَّفْسِ تَعْرِضُ مِنْ حُصُولِ مَا لَا يُلَائِمُهَا فَتَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ كَرَاهِيَةُ الْفِعْلِ الْمَغْضُوبِ مِنْهُ وَكَرَاهِيَةُ فَاعِلِهِ، وَيُلَازِمُهُ الْإِعْرَاضُ عَنِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِ وَمُعَامَلَتُهُ بِالْعُنْفِ وَبِقَطْعِ الْإِحْسَانِ وَبِالْأَذَى وَقَدْ يُفْضِي ذَلِكَ إِلَى طَلَبِ الِانْتِقَامِ مِنْهُ فَيَخْتَلِفُ الْحَدُّ الَّذِي يَثُورُ عِنْدَ الْغَضَبِ فِي النَّفْسِ بِاخْتِلَافِ مَرَاتِبِ احْتِمَالِ النُّفُوسِ لِلْمُنَافَرَاتِ وَاخْتِلَافِ الْعَادَاتِ فِي اعْتِبَارِ أَسْبَابِهِ، فَلَعَلَّ الَّذِينَ جَعَلُوا إِرَادَةَ الِانْتِقَامِ لَازِمَةً لِلْغَضَبِ بَنَوْا عَلَى الْقَوَانِينِ الْعَرَبِيَّةِ.
وَإِذْ كَانَتْ حَقِيقَةُ الْغَضَبِ يَسْتَحِيلُ اتِّصَافُ اللَّهِ تَعَالَى بِهَا وَإِسْنَادُهَا إِلَيْهِ عَلَى الْحَقِيقَةِ لِلْأَدِلَّةِ الْقَطْعِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى تَنْزِيهِ اللَّهِ تَعَالَى عَنِ التَّغَيُّرَاتِ الذَّاتِيَّةِ وَالْعَرَضِيَّةِ، فَقَدْ وَجَبَ عَلَى الْمُؤْمِنِ صَرْفُ إِسْنَادِ الْغَضَبِ إِلَى اللَّهِ عَنْ مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيِّ، وَطَرِيقَةُ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالنَّظَرِ فِي هَذَا الصَّرْفِ أَنْ يُصْرَفَ اللَّفْظُ إِلَى الْمَجَازِ بِعَلَاقَةِ اللُّزُومِ أَوْ إِلَى الْكِنَايَةِ بِاللَّفْظِ عَنْ لَازِمِ مَعْنَاهُ فَالَّذِي يَكُونُ صِفَةً لِلَّهِ مِنْ مَعْنَى الْغَضَبِ هُوَ لَازِمُهُ، أَعْنِي الْعِقَابَ وَالْإِهَانَةَ يَوْمَ الْجَزَاءِ وَاللَّعْنَةَ أَيِ الْإِبْعَادَ عَنْ أَهْلِ الدِّينِ وَالصَّلَاحِ فِي الدُّنْيَا أَوْ هُوَ مِنْ قَبِيلِ التَّمْثِيلِيَّةِ.
وَكَانَ السَّلَفُ فِي الْقَرْنِ الْأَوَّلِ وَمُنْتَصَفِ الْقَرْنِ الثَّانِي يُمْسِكُونَ عَنْ تَأْوِيلِ هَذِهِ الْمُتَشَابِهَاتِ لِمَا رَأَوْا فِي ذَلِكَ الْإِمْسَاكِ مِنْ مَصْلَحَةِ الِاشْتِغَالِ بِإِقَامَةِ الْأَعْمَالِ الَّتِي هِيَ مُرَادُ الشَّرْعِ مِنَ النَّاسِ فَلَمَّا نَشَأَ النَّظَرُ فِي الْعِلْمِ وَطَلَبِ مَعْرِفَةِ حَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ وَحَدَثَ قَوْلُ النَّاسِ فِي مَعَانِي الدِّينِ بِمَا لَا يُلَائِمُ الْحَقَّ، لَمْ يَجِدْ أَهْلُ الْعِلْمِ بُدًّا مِنْ تَوْسِيعِ أَسَالِيبِ التَّأْوِيلِ
الصَّحِيحِ لِإِفْهَامِ الْمُسْلِمِ وَكَبْتِ الْمُلْحِدِ، فَقَامَ الدِّينُ بِصَنِيعِهِمْ عَلَى قَوَاعِدِهِ، وَتَمَيَّزَ الْمُخْلِصُ لَهُ عَنْ مَاكِرِهِ وَجَاحِدِهِ. وَكُلٌّ فِيمَا صَنَعُوا عَلَى هُدًى. وَبَعْدَ الْبَيَانِ لَا يُرْجَعُ إِلَى الْإِجْمَالِ أَبَدًا. وَمَا تَأَوَّلُوهُ إِلَّا بِمَا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ مَفْهُومٌ لِأَهْلِهِ.
فَغَضَبُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْعُمُومِ يَرْجِعُ إِلَى مُعَامَلَتِهِ الْحَائِدِينَ عَنْ هَدْيِهِ الْعَاصِينَ لِأَوَامِرِهِ وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الِانْتِقَامُ وَهُوَ مَرَاتِبٌ أَقْصَاهَا عِقَابُ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُنَافِقِينَ بِالْخُلُودِ فِي الدَّرْكِ
197
الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَدُونَ الْغَضَبِ الْكَرَاهِيَةُ فَقَدْ
وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: «وَيَكْرَهُ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ»
، وَيُقَابِلُهُمَا الرِّضَى وَالْمَحَبَّةُ وَكُلُّ ذَلِكَ غَيْرُ الْمَشِيئَةِ وَالْإِرَادَةِ بِمَعْنَى التَّقْدِير والتكوين، وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ [الزمر: ٧] وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ [الْأَنْعَام: ١١٢] وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً [يُونُس: ٩٩] وَتَفْصِيلُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْغَضَبَ عِنْدَ حُكَمَاءِ الْأَخْلَاقِ مَبْدَأٌ مِنْ مَجْمُوعِ الْأَخْلَاقِ الثَّلَاثَةِ الْأَصْلِيَّةِ الَّتِي يُعَبَّرُ عَنْ جَمِيعِهَا بِالْعَدَالَةِ وَهِيَ: الْحِكْمَةُ وَالْعِفَّةُ وَالشَّجَاعَةُ، فَالْغَضَبُ مَبْدَأُ الشَّجَاعَةِ إِلَّا أَنَّ الْغَضَبَ يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ مَبْدَأٍ نَفْسَانِيٍّ لِأَخْلَاقٍ كَثِيرَةٍ مُتَطَرِّفَةٍ وَمُعْتَدِلَةٍ فَيُلَقِّبُونَ بِالْقُوَّةِ الْغَضَبِيَّةِ مَا فِي الْإِنْسَانِ مِنْ صِفَاتِ السَّبُعِيَّةِ وَهِيَ حُبُّ الْغَلَبَةِ وَمِنْ فَوَائِدِهَا دَفْعُ مَا يَضُرُّهُ وَلَهَا حَدُّ اعْتِدَالٍ وَحَدُّ انْحِرَافٍ فَاعْتِدَالُهَا الشَّجَاعَةُ وَكِبَرُ الْهِمَّةِ، وَثَبَاتُ الْقَلْبِ فِي الْمَخَاوِفِ، وَانْحِرَافُهَا إِمَّا بِالزِّيَادَةِ فَهِيَ التَّهَوُّرُ وَشِدَّةُ الْغَضَبِ مِنْ شَيْءٍ قَلِيلٍ وَالْكِبْرُ وَالْعُجْبُ وَالشَّرَاسَةُ وَالْحِقْدُ وَالْحَسَدُ وَالْقَسَاوَةُ، أَوْ بِالنُّقْصَانِ فَالْجُبْنُ وَخَوْرُ النَّفْسِ وَصِغَرُ الْهِمَّةِ فَإِذَا أُطْلِقَ الْغَضَبُ لُغَةً انْصَرَفَ إِلَى بَعْضِ انْحِرَافِ الْغَضَبِيَّةِ، وَلِذَلِكَ كَانَ مِنْ جَوَامِعِ
كَلِمِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَّ رَجُلًا قَالَ لَهُ أَوْصِنِي قَالَ: لَا تَغْضَبْ فَكَرَّرَ مِرَارًا فَقَالَ: لَا تَغْضَبْ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.
وَسُئِلَ بَعْضُ مُلُوكِ الْفُرْسِ بِمَ دَامَ مُلْكُكُمْ؟ فَقَالَ: لِأَنَّا نُعَاقِبُ عَلَى قَدْرِ الذَّنْبِ لَا عَلَى قَدْرِ الْغَضَبِ. فَالْغَضَبُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ هُوَ الْغَضَبُ لِلنَّفْسِ لِأَنَّهُ يَصْدُرُ عَنْهُ الظُّلْمُ وَالْعُدْوَانُ، وَمِنَ الْغَضَبِ مَحْمُودٌ وَهُوَ الْغَضَبُ لِحِمَايَةِ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ وَخُصُوصًا الدِّينِيَّةِ وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ النَّبِيءَ كَانَ لَا يَغْضَبُ لِنَفْسِهِ فَإِذَا انْتُهِكَتْ حُرْمَةٌ مِنْ حُرُمَاتِ اللَّهِ غَضِبَ لِلَّهِ.
وَقَوْلُهُ: وَلَا الضَّالِّينَ مَعْطُوفٌ عَلَى الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ كَمَا هُوَ مُتَبَادِرٌ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ، قَالَ مَكِّيُّ ابْن أَبِي طَالِبٍ إِنَّ دُخُولَ (لَا) لِدَفْعِ تَوَهُّمِ عَطْفِ (الضَّالِّينَ) عَلَى (الَّذِينَ أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ)، وَهُوَ تَوْجِيهٌ بَعِيدٌ فَالْحَقُّ أَنَّ (لَا) مَزِيدَةٌ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ لَفْظِ (غَيْرِ) عَلَى طَرِيقَةِ الْعَرَبِ فِي الْمَعْطُوفِ عَلَى مَا فِي حَيِّزِ النَّفْيِ نَحْوَ قَوْلِهِ: أَنْ تَقُولُوا مَا جاءَنا مِنْ
بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ
[الْمَائِدَة: ١٩] وَهُوَ أُسْلُوبٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ. وَقَالَ السَّيِّدُ فِي «حَوَاشِي الْكَشَّافِ» لِئَلَّا يَتَوَهَّمَ أَنَّ الْمَنْفِيَّ هُوَ الْمَجْمُوعُ فَيُجَوِّزَ ثُبُوتَ أَحَدِهِمَا، وَلَمَّا كَانَتْ غَيْرُ فِي مَعْنَى النَّفْيِ أُجْرِيَتْ إِعَادَةُ النَّفْيِ فِي الْمَعْطُوفِ عَلَيْهَا، وَلَيْسَتْ زِيَادَةُ (لَا) هُنَا كَزِيَادَتِهَا فِي نَحْوِ: مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ [الْأَعْرَاف: ١٢] كَمَا تَوَهَّمَهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ لِأَنَّ
198
تِلْكَ الزِّيَادَةَ لَفْظِيَّةٌ وَمَعْنَوِيَّةٌ لِأَنَّ الْمَعْنَى عَلَى الْإِثْبَاتِ وَالَّتِي هُنَا زِيَادَةٌ لَفْظِيَّةٌ فَحَسْبُ وَالْمَعْنَى عَلَى النَّفْيِ.
وَالضَّلَالُ سُلُوكُ غَيْرِ الطَّرِيقِ الْمُرَادِ عَنْ خَطَأٍ سَوَاءٌ عَلِمَ بِذَلِكَ فَهُوَ يَتَطَلَّبُ الطَّرِيقَ أَمْ لَمْ يَعْلَمْ، وَمِنْهُ ضَالَّةُ الْإِبِلِ، وَهُوَ مُقَابِلُ الْهُدَى وَإِطْلَاقُ الضَّالِّ عَلَى الْمُخْطِئِ فِي الدِّينِ أَوِ الْعِلْمِ اسْتِعَارَةٌ كَمَا هُنَا. وَالضَّلَالُ فِي لِسَانِ الشَّرْعِ مُقَابِلُ الِاهْتِدَاءِ وَالِاهْتِدَاءُ هُوَ الْإِيمَانُ الْكَامِلُ وَالضَّلَالُ مَا دُونُ ذَلِكَ، قَالُوا وَلَهُ عَرْضٌ عَرِيضٌ أَدْنَاهُ تَرْكُ السُّنَنِ وَأَقْصَاهُ الْكُفْرُ.
وَقَدْ فَسَّرْنَا الْهِدَايَةَ فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّهَا الدَّلَالَةُ بِلُطْفٍ، فَالضَّلَالُ عَدَمُ ذَلِكَ، وَيُطْلَقُ عَلَى أَقْصَى أَنْوَاعِهِ الْخَتْمُ وَالطَّبْعُ وَالْأَكِنَّةُ.
وَالْمُرَادُ مِنَ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَالضَّالِّينَ جِنْسَا فِرَقِ الْكُفْرِ، فَالْمَغْضُوبُ عَلَيْهِمْ جِنْسٌ لِلْفِرَقِ الَّتِي تَعَمّدت ذَلِك واستحقت بِالدِّيَانَةِ عَنْ عَمْدٍ وَعَنْ تَأْوِيلٍ بَعِيدٍ جِدًّا تُحْمَلُ عَلَيْهِ غَلَبَةُ الْهَوَى، فَهَؤُلَاءِ سَلَكُوا مِنَ الصِّرَاطِ الَّذِي خُطَّ لَهُمْ مَسَالِكَ غَيْرَ مُسْتَقِيمَةٍ فَاسْتَحَقُّوا الْغَضَب لأَنهم أخطأوا عَنْ غَيْرِ مَعْذِرَةٍ إِذْ مَا حَمَلَهُمْ عَلَى الْخَطَأِ إِلَّا إِيثَارُ حُظُوظِ الدُّنْيَا.
وَالضَّالُّونَ جِنْسٌ لِلْفِرَقِ الَّذِينَ حَرَّفُوا الدِّيَانَاتِ الْحَقَّ عَنْ عَمْدٍ وَعَنْ سُوءِ فَهْمٍ وَكِلَا الْفَرِيقَيْنِ مَذْمُومٌ مُعَاقَبٌ لِأَنَّ الْخَلْقَ مَأْمُورُونَ بِاتِّبَاعِ سَبِيلِ الْحَقِّ وَبَذْلِ الْجُهْدِ إِلَى إِصَابَتِهِ وَالْحَذَرِ مِنْ مُخَالَفَةِ مَقَاصِدِهِ.
وَإِذْ قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَعُلِمَ أَنَّ الْغَضَبَ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ حَادُوا عَنِ الصِّرَاطِ الَّذِي هُدُوا إِلَيْهِ فَحَرَمُوا أَنْفُسَهُمْ مِنَ الْوُصُولِ بِهِ إِلَى مَرْضَاةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّ الضَّالِّينَ قَدْ ضَلُّوا الصِّرَاطَ، فَحَصَلَ شِبْهُ الِاحْتِبَاكِ وَهُوَ أَنَّ كِلَا الْفَرِيقَيْنِ نَالَ حَظًّا مِنَ الْوَصْفَيْنِ إِلَّا أَنَّ تَعْلِيقَ كُلِّ وَصْفٍ عَلَى الْفَرِيقِ الَّذِي عُلِّقَ عَلَيْهِ يُرْشِدُ إِلَى أَنَّ الْمَوْصُوفِينَ بِالضَّالِّينَ هُمْ دُونَ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ فِي الضَّلَالِ فَالْمُرَادُ الْمَغْضُوبُ عَلَيْهِمْ غَضَبًا شَدِيدًا لِأَنَّ ضَلَالَهُمْ شَنِيعٌ.
فَالْيَهُودُ مَثَلٌ لِلْفَرِيقِ الْأَوَّلِ وَالنَّصَارَى مِنْ جُمْلَةِ الْفَرِيقِ الثَّانِي كَمَا وَرَدَ بِهِ الْحَدِيثُ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي «جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ» وَحَسَّنَهُ. وَمَا وَرَدَ فِي الْأَثَرِ مِنْ تَفْسِيرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ بِالْيَهُودِ وَالضَّالِّينَ بِالنَّصَارَى، فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ التَّمْثِيلِ بِأَشْهَرِ الْفِرَقِ الَّتِي حَقَّ عَلَيْهَا هَذَانِ
الْوَصْفَانِ، فَقَدْ كَانَ الْعَرَبُ يَعْرِفُونَ الْيَهُودَ فِي خَيْبَرَ وَالنَّضِيرِ وَبَعْضِ سُكَّانِ الْمَدِينَةِ وَفِي عَرَبِ الْيَمَنِ. وَكَانُوا يَعْرِفُونَ نَصَارَى الْعَرَبِ مِثْلَ تَغْلِبَ وَكَلْبٍ وَبَعْضِ قُضَاعَةَ، وَكُلُّ أُولَئِكَ بَدَّلُوا وَغَيَّرُوا وَتَنَكَّبُوا عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ الَّذِي أَرْشَدَهُمُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَتَفَرَّقُوا فِي بِنْيَاتِ الطُّرُقِ عَلَى تَفَاوُتٍ فِي ذَلِكَ.
199
فَالْيَهُودُ تَمَرَّدُوا عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ وَأَحْبَارِهِمْ غَيْرَ مَرَّةٍ وَبَدَّلُوا الشَّرِيعَةَ عَمْدًا فَلَزِمَهُمْ وَصْفُ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَعَلِقَ بِهِمْ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ. وَالنَّصَارَى ضَلُّوا بَعْدَ الْحَوَارِيِّينَ وَأَسَاءُوا فَهْمَ مَعْنَى التَّقْدِيسِ فِي عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَزَعَمُوهُ ابْنَ اللَّهِ عَلَى الْحَقِيقَةِ قَالَ تَعَالَى: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ [الْمَائِدَة: ٧٧]. وَفِي وَصْفِ الصِّرَاطِ الْمَسْئُولِ فِي قَوْلِهِ: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ بِالْمُسْتَقِيمِ إِيمَاءً إِلَى أَنَّ الْإِسْلَامَ وَاضِحُ الْحُجَّةِ قَوِيمُ الْمَحَجَّةِ لَا يَهْوِي أَهْلُهُ إِلَى هُوَّةِ الضَّلَالَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً [الْأَنْعَام: ١٦١] وَقَالَ: وَأَنَّ هَذَا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الْأَنْعَام: ١٥٣]، عَلَى تَفَاوُتٍ فِي مَرَاتِبِ إِصَابَةِ مُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى وَلِذَلِكَ
قَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنِ اجْتَهَدَ وَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ وَمَنِ اجْتَهَدَ وَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ وَاحِدٌ»
وَلَمْ يَتْرُكْ بَيَانُ الشَّرِيعَةِ مَجَارِيَ اشْتِبَاهٍ بَيْنَ الْخِلَافِ الَّذِي تُحِيطُ بِهِ دَائِرَةُ الْإِسْلَامِ وَالْخِلَافِ الَّذِي يَخْرُجُ بِصَاحِبِهِ عَنْ مُحِيطِ الْإِسْلَامِ قَالَ تَعَالَى: إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ [النَّمْل: ٧٩].
وَاخْتَلَفَ الْقُرَّاءُ فِي حَرَكَةِ هَاءِ الضَّمِيرِ مِنْ قَوْلِهِ: أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ، وَقَوْلِهِ: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ، وَمَا ضَاهَاهُمَا مِنْ كُلِّ ضَمِيرِ جَمْعٍ وَتَثْنِيَةِ مُذَكَّرٍ وَمُؤَنَّثٍ لِلْغَائِبِ وَقَعَ بَعْدَ يَاءٍ سَاكِنة، فالجمهور قرأوها بِكَسْرِ الْهَاءِ تَخَلُّصًا مِنَ الثِّقَلِ لِأَنَّ الْهَاءَ حَاجِزٌ غَيْرُ حَصِينٍ فَإِذَا ضُمَّتْ بَعْدَ الْيَاءِ فَكَانَ ضَمَّتُهَا قَدْ وَلِيَتِ الْكَسْرَةَ أَوِ الْيَاءَ السَّاكِنَةَ وَذَلِكَ ثَقِيلٌ وَهَذِهِ لُغَةُ قَيْسٍ وَتَمِيمٍ وَسَعْدِ بْنِ بَكْرٍ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ عَلَيْهُمْ وَإِلَيْهُمْ وَلَدَيْهُمْ فَقَطْ بِضَمِّ الْهَاءِ وَمَا عَدَاهَا بِكَسْرِ الْهَاءِ نَحْوُ إِلَيْهِمَا وَصَيَاصِيهِمْ وَهِيَ لُغَةُ قُرَيْشٍ وَالْحِجَازِيِّينَ. وَقَرَأَ يَعْقُوبُ كُلَّ ضَمِيرٍ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ مِمَّا قَبْلَ الْهَاءِ فِيهِ يَاءٌ سَاكِنَةٌ بِضَمِّ الْهَاءِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذَا هُنَا فَلَا نُعِيدُ ذِكْرَهُ فِي أَمْثَالِهِ وَهُوَ مِمَّا يَرْجِعُ إِلَى قَوَاعِدِ عِلْمِ الْقِرَاءَاتِ فِي هَاءِ الضَّمِيرِ.
وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا فِي حَرَكَةِ مِيمِ ضَمِيرِ الْجَمْعِ الْغَائِبِ الْمُذَكَّرِ فِي الْوَصْلِ إِذَا وَقَعَتْ قَبْلَ متحرك فالجمهور قرأوا: عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ بِسُكُونِ الْمِيمِ وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَقَالُونُ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ بِضَمَّةٍ مُشَبَّعَةٍ: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَهِي لُغَة بعض الْعَرَبِ
وَعَلَيْهَا قَوْلُ لَبِيدٍ:
وَهُمُو فَوَارِسُهَا وَهُمْ حُكَّامُهَا
فَجَاءَ بِاللُّغَتَيْنِ، وَقَرَأَ وَرْشٌ بِضَمِّ الْمِيمِ وَإِشْبَاعِهَا إِذَا وَقَعَ بَعْدَ الْمِيمِ هَمْزٌ دُونَ نَحْوِ:
غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَأَجْمَعَ الْكُلُّ عَلَى إِسْكَانِ الْمِيمِ فِي الْوَقْفِ.
200

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

٢- سُورَةُ الْبَقَرَةِ
كَذَا سُمِّيَتْ هَذِهِ السُّورَةُ سُورَةَ الْبَقَرَةِ فِي الْمَرْوِيِّ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا جَرَى فِي كَلَامِ السَّلَفِ، فَقَدْ
وَرَدَ فِي «الصَّحِيحِ» أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ قَرَأَ الْآيَتَيْنِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ كَفَتَاهُ»
وَفِيهِ عَنْ عَائِشَةَ: «لَمَّا نَزَلَتِ الْآيَاتُ مِنْ آخِرِ الْبَقَرَةِ فِي الرِّبَا قَرَأَهُنَّ رَسُولُ اللَّهِ ثُمَّ قَامَ فَحَرَّمَ التِّجَارَةَ فِي الْخَمْرِ».
وَوَجْهُ تَسْمِيَتِهَا أَنَّهَا ذُكِرَتْ فِيهَا قِصَّةُ الْبَقَرَةِ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِذَبْحِهَا لِتَكُونَ آيَةً وَوَصَفَ سُوءَ فَهْمِهِمْ لِذَلِكَ، وَهِيَ مِمَّا انْفَرَدَتْ بِهِ هَذِهِ السُّورَةُ بِذِكْرِهِ، وَعِنْدِي أَنَّهَا أُضِيفَتْ إِلَى قِصَّةِ الْبَقَرَةِ تَمْيِيزًا لَهَا عَنِ السُّورِ ال الم مِنَ الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا رُبَّمَا جَعَلُوا تِلْكَ الْحُرُوفَ الْمُقَطَّعَةَ أَسْمَاءً لِلسُّوَرِ الْوَاقِعَةِ هِيَ فِيهَا وَعَرَّفُوهَا بِهَا نَحْوَ: طه، وَيس، وص وَفِي الِاتِّفَاقِ
عَنِ «الْمُسْتَدْرك» أَن النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّهَا سَنَامُ الْقُرْآنِ»
وَسَنَامُ كُلِّ شَيْءٍ أَعْلَاهُ وَهَذَا لَيْسَ عَلَمًا لَهَا وَلَكِنَّهُ وَصْفُ تَشْرِيفٍ. وَكَذَلِكَ قَوْلُ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ إِنَّهَا فُسْطَاطُ الْقُرْآنِ وَالْفُسْطَاطُ مَا يُحِيطُ بِالْمَكَانِ لِإِحَاطَتِهَا بِأَحْكَامٍ كَثِيرَةٍ.
نَزَلَتْ سُورَةُ الْبَقَرَةِ بِالْمَدِينَةِ بِالِاتِّفَاقِ وَهِيَ أَوَّلُ مَا نَزَلَ فِي الْمَدِينَةِ، وَحَكَى ابْنُ حَجَرٍ فِي «شَرْحِ الْبُخَارِيِّ» الِاتِّفَاقَ عَلَيْهِ، وَقِيلَ نَزَلَتْ سُورَةُ الْمُطَفِّفِينَ قَبْلَهَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ سُورَةَ الْمُطَفِّفِينَ مَدَنِيَّةٌ، وَلَا شَكَّ أَنَّ سُورَةَ الْبَقَرَةِ فِيهَا فَرْضُ الصِّيَامِ، وَالصِّيَامُ فُرِضَ فِي السَّنَةِ الْأُولَى مِنَ الْهِجْرَةِ، فُرِضَ فِيهَا صَوْمُ عَاشُورَاءَ ثُمَّ فُرِضَ صِيَامُ رَمَضَانَ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ لِأَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَامَ سَبْعَ رَمَضَانَاتٍ أَوَّلُهَا رَمَضَانُ مِنَ الْعَامِ الثَّانِي مِنَ الْهِجْرَةِ، فَتَكُونُ سُورَةُ الْبَقَرَةِ نَزَلَتْ فِي السَّنَةِ الْأُولَى مِنَ الْهِجْرَةِ فِي أَوَاخِرِهَا أَوْ فِي الثَّانِيَةِ.
وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ عَائِشَةَ «مَا نَزَلَتْ سُورَةُ الْبَقَرَةِ إِلَّا وَأَنَا عِنْدَهُ» (تَعْنِي النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) وَكَانَ بِنَاءُ رَسُولِ اللَّهِ عَلَى عَائِشَةَ فِي شَوَّالٍ مِنَ السَّنَةِ الْأُولَى لِلْهِجْرَةِ، وَقِيلَ فِي أَوَّلِ السَّنَةِ
الثَّانِيَةِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْهَا أَنَّهَا مَكَثَتْ عِنْدَهُ تِسْعَ سِنِينَ فَتُوُفِّيَ وَهِيَ بِنْتُ ثَمَانِ عَشْرَةَ سَنَةً وَبَنَى بِهَا وَهِيَ بِنْتُ تِسْعِ سِنِينَ، إِلَّا أَنَّ اشْتِمَالَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ عَلَى أَحْكَامِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَعَلَى أَحْكَامِ الْقِتَالِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ والبلد الْحَرَام ينبىء بِأَنَّهَا اسْتَمَرَّ نُزُولُهَا إِلَى سَنَةِ خَمْسٍ وَسَنَةِ سِتٍّ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ عِنْدَ آيَةِ: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [الْبَقَرَة: ١٩٦]
201
وَقَدْ يَكُونُ مُمْتَدًّا إِلَى مَا بَعْدَ سَنَةِ ثَمَانٍ كَمَا يَقْتَضِيهِ قَوْلُهُ: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ- الْآيَاتِ إِلَى قَوْلِهِ- لِمَنِ اتَّقى [الْبَقَرَة: ١٩٧- ٢٠٣]. عَلَى أَنَّهُ قَدْ قِيلَ إِنَّ قَوْلَهُ: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ [الْبَقَرَة: ٢٨١] الْآيَةَ هُوَ آخِرُ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي الْمُقَدِّمَةِ الثَّامِنَةِ أَنَّهُ قَدْ يَسْتَمِرُّ نُزُولُ السُّورَةِ فَتَنْزِلُ فِي أَثْنَاءِ مُدَّةِ نُزُولِهَا سُوَرٌ أُخْرَى.
وَقَدْ عُدَّتْ سُورَةُ الْبَقَرَةِ السَّابِعَةَ وَالثَّمَانِينَ فِي تَرْتِيبِ نُزُولِ السُّوَرِ نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الْمُطَفِّفِينَ وَقَبْلَ آلِ عِمْرَانَ.
وَإِذْ قَدْ كَانَ نُزُولُ هَذِهِ السُّورَةِ فِي أَوَّلِ عَهْدٍ بِإِقَامَةِ الْجَامِعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ وَاسْتِقْلَالِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ بِمَدِينَتِهِمْ كَانَ مِنْ أَوَّلِ أَغْرَاضِ هَذِهِ السُّورَةِ تَصْفِيَةُ الْجَامِعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ مِنْ أَنْ تَخْتَلِطَ بِعَنَاصِرَ مُفْسِدَةٍ لِمَا أَقَامَ اللَّهُ لَهَا مِنَ الصَّلَاحِ سَعْيًا لِتَكْوِينِ الْمَدِينَةِ الْفَاضِلَةِ النَّقِيَّةِ مِنْ شَوَائِبِ الدَّجَلِ وَالدَّخَلِ.
وَإِذْ كَانَتْ أَوَّلَ سُورَةٍ نَزَلَتْ بَعْدَ الْهِجْرَةِ فَقَدْ عُنِيَ بِهَا الْأَنْصَارُ وَأَكَبُّوا عَلَى حِفْظِهَا، يَدُلُّ لِذَلِكَ مَا جَاءَ فِي السِّيرَةِ أَنَّهُ لَمَّا انْكَشَفَ الْمُسْلِمُونَ يَوْمَ حُنَيْنٍ
قَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْعَبَّاسِ: «اصْرُخْ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ يَا أَهْلَ السَّمُرَةِ (يَعْنِي شَجَرَةَ الْبَيْعَةِ فِي الْحُدَيْبِيَةِ) يَا أَهْلَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ» فَقَالَ الْأَنْصَارُ: لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَبْشِرْ
. وَفِي «الْمُوَطَّأِ» قَالَ مَالِكٌ إِنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ مَكَثَ عَلَى سُورَةِ الْبَقَرَةِ ثَمَانِيَ سِنِينَ يَتَعَلَّمُهَا، وَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» :
كَانَ نَصْرَانِيٌّ أَسْلَمَ فَقَرَأَ الْبَقَرَةَ وَآلَ عِمْرَانَ وَكَانَ يكْتب للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ ارْتَدَّ إِلَى آخِرِ الْقِصَّةِ.
وَعَدَدُ آيِهَا مِائَتَانِ وَخَمْسٌ وَثَمَانُونَ آيَةً عِنْدَ أَهْلِ الْعَدَدِ بِالْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ وَالشَّامِ، وَسِتٌّ وَثَمَانُونَ عِنْدَ أَهْلِ الْعَدَدِ بِالْكُوفَةِ، وَسَبْعٌ وَثَمَانُونَ عِنْدَ أَهْلِ الْعدَد بِالْبَصْرَةِ.
202
محتويات هَذِه السُّورَة
هَذِهِ السُّورَةُ مُتَرَامِيَةٌ أَطْرَافُهَا، وَأَسَالِيبُهَا ذَاتُ أَفْنَانٍ، قَدْ جَمَعَتْ مِنْ وَشَائِجِ أَغْرَاضِ السُّوَرِ مَا كَانَ مِصْدَاقًا لِتَلْقِيبِهَا فُسْطَاطَ الْقُرْآنِ، فَلَا تَسْتَطِيعُ إِحْصَاءَ مُحْتَوَيَاتِهَا بِحُسْبَانٍ، وَعَلَى النَّاظِرِ أَنْ يَتَرَقَّبَ تَفَاصِيلَ مِنْهَا فِيمَا يَأْتِي لَنَا مِنْ تَفْسِيرِهَا، وَلَكِنَّ هَذَا لَا يُحْجِمُ بِنَا
عَنِ التَّعَرُّضِ إِلَى لَائِحَاتٍ مِنْهَا، وَقَدْ حِيكَتْ بِنَسْجِ الْمُنَاسَبَاتِ وَالِاعْتِبَارَاتِ الْبَلَاغِيَّةِ مِنْ لُحْمَةٍ مُحْكَمَةٍ فِي نَظْمِ الْكَلَامِ، وَسُدًى مَتِينٍ مِنْ فَصَاحَةِ الْكَلِمَاتِ.
وَمُعْظَمُ أَغْرَاضِهَا يَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ: قِسْمٌ يُثْبِتُ سُمُوَّ هَذَا الدِّينِ عَلَى مَا سَبَقَهُ وَعُلُوَّ هَدْيِهِ وَأُصُولَ تَطْهِيرِهِ النُّفُوسَ، وَقِسْمٌ يُبَيِّنُ شَرَائِعَ هَذَا الدِّينِ لِأَتْبَاعِهِ وَإِصْلَاحِ مُجْتَمَعِهِمْ.
وَكَانَ أُسْلُوبُهَا أَحْسَنَ مَا يَأْتِي عَلَيْهِ أُسْلُوبٌ جَامِعٌ لِمَحَاسِنِ الْأَسَالِيبِ الْخِطَابِيَّةِ، وَأَسَالِيبِ الْكُتُبِ التَّشْرِيعِيَّةِ، وَأَسَالِيبِ التَّذْكِيرِ وَالْمَوْعِظَةِ، يَتَجَدَّدُ بِمِثْلِهِ نَشَاطُ السَّامِعِينَ بِتَفَنُّنِ الْأَفَانِينِ، وَيَحْضُرُ لَنَا مِنْ أَغْرَاضِهَا أَنَّهَا ابْتُدِئَتْ بِالرَّمْزِ إِلَى تَحَدِّي الْعَرَبِ الْمُعَانِدِينَ تَحَدِّيًا إِجْمَالِيًّا بِحُرُوفِ التَّهَجِّي الْمُفْتَتَحِ بِهَا رَمْزًا يَقْتَضِي اسْتِشْرَافَهُمْ لِمَا يَرِدُ بَعْدَهُ وَانْتِظَارَهُمْ لِبَيَانِ مَقْصِدِهِ، فَأَعْقَبَ بِالتَّنْوِيهِ بِشَأْنِ الْقُرْآنِ فَتَحَوَّلَ الرَّمْزُ إِيمَاءً إِلَى بَعْضِ الْمَقْصُودِ مِنْ ذَلِكَ الرَّمْزِ لَهُ أَشَدُّ وَقْعٍ عَلَى نُفُوسِهِمْ فَتَبْقَى فِي انْتِظَارِ مَا يَتَعَقَّبُهُ مِنْ صَرِيحِ التَّعْجِيزِ الَّذِي سَيَأْتِي بَعْدَ قَوْلِهِ:
وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [الْبَقَرَة: ٢٣]. فَعَدَلَ بِهِمْ إِلَى ذَاتِ جِهَةِ التَّنْوِيهِ بِفَائِقِ صِدْقِ هَذَا الْكِتَابِ وَهَدْيِهِ، وَتَخَلَّصَ إِلَى تَصْنِيفِ النَّاسِ تُجَاهَ تَلَقِّيهِمْ هَذَا الْكِتَابِ وَانْتِفَاعِهِمْ بِهَدْيِهِ أَصْنَافًا أَرْبَعَةً (وَكَانُوا قَبْلَ الْهِجْرَةِ صِنْفَيْنِ) بِحَسَبِ اخْتِلَافِ أَحْوَالِهِمْ فِي ذَلِكَ التَّلَقِّي. وَإِذْ قَدْ كَانَ أَخَصُّ الْأَصْنَافِ انْتِفَاعًا بِهَدْيِهِ هُمُ الْمُؤْمِنِينَ بِالْغَيْبِ الْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ- يَعْنِي الْمُسْلِمِينَ- ابْتُدِئَ بِذِكْرِهِمْ، وَلَمَّا كَانَ أَشَدُّ الْأَصْنَافِ عِنَادًا وَحِقْدًا صِنْفَا الْمُشْرِكِينَ الصُّرَحَاءِ وَالْمُنَافِقِينَ لُفَّ الْفَرِيقَانِ لَفًّا وَاحِدًا فَقُورِعُوا بِالْحُجَجِ الدَّامِغَةِ وَالْبَرَاهِينِ السَّاطِعَةِ، ثُمَّ خَصَّ بِالْإِطْنَابِ صِنْفَ أَهْلِ النِّفَاقِ تَشْوِيهًا لِنِفَاقِهِمْ وَإِعْلَانًا لِدَخَائِلِهِمْ وَرَدِّ مَطَاعِنِهِمْ، ثُمَّ كَانَ خَاتِمَةُ مَا قُرِعَتْ بِهِ أُنُوفُهُمْ صَرِيحَ التَّحَدِّي الَّذِي رَمَزَ إِلَيْهِ بَدْءًا تَحَدِّيًا يُلْجِئُهُمْ إِلَى الِاسْتِكَانَةِ وَيُخْرِسُ أَلْسِنَتَهُمْ عَنِ التَّطَاوُلِ وَالْإِبَانَةِ، وَيُلْقِي فِي قَرَارَاتِ أَنْفُسِهِمْ مَذَلَّةَ الْهَزِيمَةِ وَصِدْقَ الرَّسُولِ الَّذِي تَحَدَّاهُمْ، فَكَانَ ذَلِكَ مِنْ رَدِّ
203
الْعَجُزِ عَلَى الصَّدْرِ فَاتَّسَعَ الْمَجَالُ لِدَعْوَةِ الْمُنْصِفِينَ إِلَى عِبَادَةِ الرَّبِّ الْحَقِّ الَّذِي خَلَقَهُمْ وَخَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَأَنْعَمَ عَلَيْهِمْ بِمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا. وَتَخَلَّصَ إِلَى صِفَةِ بَدْءِ خَلْقِ الْإِنْسَانِ فَإِنَّ فِي ذَلِكَ تَذْكِيرًا لَهُمْ بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ قَبْلَ أَنْ تُوجَدَ أَصْنَامُهُمُ الَّتِي يَزْعُمُونَهَا مِنْ صَالِحِي قَوْمِ نُوحٍ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، وَمِنَّةً عَلَى النَّوْعِ بِتَفْضِيلِ أَصْلِهِمْ عَلَى مَخْلُوقَاتِ هَذَا الْعَالَمِ، وَبِمَزِيَّتِهِ بِعِلْمِ مَا لَمْ يَعْلَمْهُ أَهْلُ الْمَلَأِ الْأَعْلَى وَكَيْفَ نَشَأَتْ عَدَاوَةُ الشَّيْطَانِ لَهُ وَلِنَسْلِهِ، لِتَهْيِئَةِ نُفُوسِ السَّامِعِينَ لِاتِّهَامِ شَهَوَاتِهَا وَلِمُحَاسَبَتِهَا عَلَى دَعَوَاتِهَا. فَهَذِهِ الْمِنَّةُ الَّتِي شَمِلَتْ كُلَّ الْأَصْنَافِ الْأَرْبَعَةِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا كَانَتْ مُنَاسِبَةً لِلتَّخَلُّصِ إِلَى مِنَّةٍ عُظْمَى تَخُصُّ الْفَرِيقَ الرَّابِعَ وَهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ الَّذِينَ هُمْ أَشَدُّ النَّاسِ مُقَاوَمَةً لِهُدَى الْقُرْآنِ، وَأَنْفَذُ الْفِرَقِ قَوْلًا فِي عَامَّةِ الْعَرَبِ لِأَنَّ أَهْلَ
الْكِتَابِ يَوْمَئِذٍ هُمْ أَهْلُ الْعِلْمِ وَمَظِنَّةُ اقْتِدَاءِ الْعَامَّةِ لَهُمْ مِنْ قَوْلِهِ: يَا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي [الْبَقَرَة: ٤٠] الْآيَاتِ فَأَطْنَبَ فِي تَذْكِيرِهِمْ بِنِعَمِ اللَّهِ وَأَيَّامِهِ لَهُمْ، وَوَصَفَ مَا لَاقَوْا بِهِ نِعَمَهُ الْجَمَّةَ مِنَ الِانْحِرَافِ عَنِ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ انْحِرَافًا بَلَغَ بِهِمْ حَدَّ الْكُفْرِ وَذَلِكَ جَامِعٌ لِخُلَاصَةِ تَكْوِينِ أُمَّةِ إِسْرَائِيلَ وَجَامِعَتُهُمْ فِي عَهْدِ مُوسَى، ثُمَّ مَا كَانَ مِنْ أَهَمِّ أَحْدَاثِهِمْ مَعَ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ قَفَوْا مُوسَى إِلَى أَنْ تَلَقَّوْا دَعْوَةَ الْإِسْلَامِ بِالْحَسَدِ وَالْعَدَاوَةِ حَتَّى عَلَى الْمَلَكِ جِبْرِيلَ، وَبَيَانِ أَخْطَائِهِمْ، لِأَنَّ ذَلِكَ يُلْقِي فِي النُّفُوسِ شَكًّا فِي تَأَهُّلِهِمْ لِلِاقْتِدَاءِ بِهِمْ. وَذَكَرَ مِنْ ذَلِكَ نَمُوذَجًا مِنْ أَخْلَاقِهِمْ مِنْ تَعَلُّقِ الْحَيَاةِ: وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ [الْبَقَرَة: ٩٦]، ومحاولة الْعَمَل بالحسر وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّياطِينُ إِلَخ [الْبَقَرَة: ١٠٢] وَأَذَى النَّبِيءِ بِمُوَجَّهِ الْكَلَامِ لَا تَقُولُوا راعِنا [الْبَقَرَة: ١٠٤].
ثُمَّ قُرِنَ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَالْمُشْرِكُونَ فِي قَرْنِ حَسَدِهِمُ الْمُسْلِمِينَ وَالسُّخْطِ عَلَى الشَّرِيعَةِ الْجَدِيدَةِ: مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ إِلَى قَوْلِهِ: وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [الْبَقَرَة: ١٠٥- ١١٢]، ثُمَّ مَا أُثِيرَ مِنَ الْخِلَافِ بَيْنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَادِّعَاءُ كُلِّ فَرِيقٍ أَنَّهُ هُوَ الْمُحِقُّ: وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ إِلَى يَخْتَلِفُونَ [الْبَقَرَة: ١١٣] ثُمَّ خُصَّ الْمُشْرِكُونَ بِأَنَّهُمْ أَظْلَمُ هَؤُلَاءِ الْأَصْنَافِ الثَّلَاثَةِ لِأَنَّهُمْ مَنَعُوا الْمُسْلِمِينَ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَسَعَوْا بِذَلِكَ فِي خَرَابِهِ وَأَنَّهُمْ تَشَابَهُوا فِي ذَلِكَ هُمْ وَالْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَاتَّحَدُوا فِي كَرَاهِيَةِ الْإِسْلَامِ.
وَانْتَقَلَ بِهَذِهِ الْمُنَاسَبَةِ إِلَى فَضَائِلِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَبَانِيهِ، وَدَعْوَتِهِ لِذُرِّيَّتِهِ بِالْهُدَى،
204
وَالِاحْتِرَازِ عَنْ إِجَابَتِهَا فِي الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ، وَأَنَّ الْإِسْلَامَ عَلَى أَسَاسِ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَهُوَ التَّوْحِيدُ، وَأَنَّ الْيَهُودِيَّةَ وَالنَّصْرَانِيَّةَ لَيْسَتَا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ، وَأَنَّ مِنْ ذَلِكَ الرُّجُوعَ إِلَى اسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ ادَّخَرَهُ اللَّهُ لِلْمُسْلِمِينَ آيَةً عَلَى أَنَّ الْإِسْلَامَ هُوَ الْقَائِمُ عَلَى أَسَاسِ الْحَنِيفِيَّةِ، وَذِكْرِ شَعَائِرِ اللَّهِ بِمَكَّةَ، وَإِبْكَاتِ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي طَعْنِهِمْ عَلَى تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ، وَأَنَّ الْعِنَايَةَ بِتَزْكِيَةِ النُّفُوسِ أَجْدَرُ مِنَ الْعِنَايَةِ بِاسْتِقْبَالِ الْجِهَاتِ: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ [الْبَقَرَة: ١٧٧]. وَذُكِّرُوا بِنَسْخِ الشَّرَائِعِ لِصَلَاحِ الْأُمَمِ وَأَنَّهُ لَا بِدَعَ فِي نَسْخِ شَرِيعَةِ التَّوْرَاةِ أَوِ الْإِنْجِيلِ بِمَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهُمَا.
ثُمَّ عَادَ إِلَى مُحَاجَّةِ الْمُشْرِكِينَ بِالِاسْتِدْلَالِ بِآثَارِ صَنْعَةِ اللَّهِ: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ إِلَخ [الْبَقَرَة: ١٦٤]، وَمُحَاجَّةِ الْمُشْرِكِينَ فِي يَوْم يتبرأون فِيهِ مِنْ قَادَتِهِمْ، وَإِبْطَالِ مَزَاعِمِ دِينِ الْفَرِيقَيْنِ فِي مُحَرَّمَاتٍ مِنَ الْأَكْلِ:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا رَزَقْناكُمْ [الْبَقَرَة: ١٧٢]، وَقَدْ كَمَّلَ ذَلِكَ بِذِكْرِ صِنْفٍ مِنَ النَّاسِ قَلِيلٍ وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ لَمْ يُظْهِرُوا الْإِسْلَامَ وَلَكِنَّهُمْ أَظْهَرُوا مَوَدَّةَ الْمُسْلِمِينَ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا [الْبَقَرَة: ٢٠٤].
وَلَمَّا قَضَى حَقَّ ذَلِكَ كُلِّهِ بِأَبْدَعِ بَيَانٍ وَأَوْضَحِ بُرْهَانٍ، انْتَقَلَ إِلَى قِسْمِ تَشْرِيعَاتِ الْإِسْلَامِ إِجْمَالًا بِقَوْلِهِ: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ [الْبَقَرَة: ١٧٧]، ثُمَّ تَفْصِيلًا: الْقِصَاصُ، الْوَصِيَّةُ، الصِّيَامُ، الِاعْتِكَافُ، الْحَجُّ، الْجِهَادُ، وَنِظَامُ الْمُعَاشَرَةِ وَالْعَائِلَةُ، الْمُعَامَلَاتُ الْمَالِيَّةُ، وَالْإِنْفَاقُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالصَّدَقَاتُ، وَالْمُسْكِرَاتُ، وَالْيَتَامَى، وَالْمَوَارِيثُ، وَالْبُيُوعُ وَالرِّبَا، وَالدُّيُونُ، وَالْإِشْهَادُ، وَالرَّهْنُ، وَالنِّكَاحُ، وَأَحْكَامُ النِّسَاءِ، وَالْعِدَّةُ، وَالطَّلَاقُ، وَالرَّضَاعُ، وَالنَّفَقَاتُ، وَالْأَيْمَانُ.
وَخُتِمَتِ السُّورَةُ بِالدُّعَاءِ الْمُتَضَمِّنِ لِخَصَائِصِ الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ وَذَلِكَ مِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ فَكَانَ هَذَا الْخِتَامُ تَذْيِيلًا وَفَذْلَكَةً: مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ [الْبَقَرَة: ٢٨٤] الْآيَاتِ.
وَكَانَتْ فِي خِلَالِ ذَلِكَ كُلِّهِ أَغْرَاضٌ شَتَّى سَبَقَتْ فِي مَعْرِضِ الِاسْتِطْرَادِ فِي مُتَفَرِّقِ الْمُنَاسَبَاتِ تَجْدِيدًا لِنَشَاطِ الْقَارِئِ وَالسَّامِعِ، كَمَا يُسْفِرُ وَجْهُ الشَّمْسِ إِثْرَ نُزُولِ الْغُيُوثِ الْهَوَامِعِ، وَتَخْرُجُ بَوَادِرُ الزَّهْرِ عَقِبَ الرُّعُودِ الْقَوَارِعِ، مِنْ تَمْجِيدِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ: اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ [الْبَقَرَة: ٢٥٥] وَرَحْمَتِهِ وَسَمَاحَةِ الْإِسْلَامِ، وَضَرْبِ أَمْثَالٍ: أَوْ كَصَيِّبٍ [الْبَقَرَة: ١٩] وَاسْتِحْضَارِ نَظَائِرَ: وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ [الْبَقَرَة: ٧٤]
205
Icon