هي مكية، نزلت بعد سورة العصر.
ووجه المناسبة بينها وبين ما قبلها : أنه لما ذكر هناك الجزاء على الخير والشر أتبعه تعنيف الذين يؤثرون الحياة الدنيا على الآخرة، ولا يستعدون لحياتهم الثانية، بتعويد أنفسهم فعل الخير.
ﰡ
بسم الله الرحمن الرحيم
شرح المفردات : العاديات : واحدها عادية، من العدو وهو الجري، والضبح : صوت أنفاس الخيل حين الجري. قال عنترة :*** والخيل تكدح حين تضبح *** في حياض الموت ضبحا.
الإيضاح :﴿ والعاديات ضبحا ﴾ أي قسما بالخيل التي تعدو وتجري، ويسمع لها حينئذ ضبح، أي زفير شديد.
والموريات : واحدها مورية من الإيراء، وهو إخراج النار، تقول : أورى فلان إذا أخرج النار بزند ونحوه، والقدح : الضرب لإخراج النار كضرب الزناد بالحجر.
﴿ فالموريات قدحا ﴾ أي والخيل التي تخرج النار بحوافرها، ويتطاير منها الشرر أثناء الجري.
﴿ فالمغيرات صبحا ﴾ أي والخيل التي تعدو لتهجم على العدو وقت الصباح ؛ لأخذه على غير أهبة واستعداد.
﴿ فأثرن به نقعا ﴾ أي فهيجن في الصبح غبارا لشدة عدوهن.
﴿ فوسطن به جمعا ﴾ أي فتوسطن جمعا من الأعداء ففرقنه وشتتن شمله.
أقسم سبحانه بالخيل التي لها هذه الصفات، والتي تعمل تلك الأعمال، ليعلي من شأنها في نفوس عباده المؤمنين أهل الجد والعمل، وليعنوا بتربيتها وتعويدها الكر والفر، وليحملهم على العناية بالفروسية والتدرب على ركوب الخيل، والإغارة بها، ليكون كل امرئ مسلم منهم عاملا ناصبا إذا جد الجد، واضطرت الأمة إلى صد عدو، أو بعثها باعث على كسر شوكته، يرشد إلى ذلك قوله في آية أخرى :﴿ وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم ﴾ [ الأنفال : ٦٠ ].
وفي إقسام الله بها بوصف العاديات المغيرات الموريات إشارة إلى أنه يجب أن تقنى الخيل لهذه الأغراض والمنافع لا للخيلاء والزينة، وأن الركوب الذي يحمد ما يكون لكبح جماح الأعداء، وخضد شوكتهم، وصد عدوانهم.
وقصارى ذلك : إن للخيل في عدوها فوائد لا يحصى عدها، فهي تصلح للطلب، وتسعف في الهرب، وتساعد جد المساعدة في النجاء، والكر والفر على الأعداء، وقطع شاسع المسافة في الزمن القليل.
كنود لنعماء الرجال، ومن يكن | كنودا لنعماء الرجال يبعّد |
ثم ذكر المحلوف عليه بتلك الأيمان الشريفة فقال :
﴿ إن الإنسان لربه لكنود ﴾ أي إن الإنسان طبع على نكران الحق وجحوده، وعدم الإقرار بما لزمه من شكر خالقه والخضوع له، إلا من عصمهم الله وهم الذين روَّضوا أنفسهم على فعل الفضائل، وترك الرذائل، ما ظهر منها وما بطن.
روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" الكنود الذي يأكل وحده، ويضرب عبده، ويمنع رفده "، أي إنه لا يعطي شيئا مما أنعم الله به عليه، ولا يرأف بعباده، كما رأف به، فهو كافر بنعمته، مجانف لما يقضي به العقل والشرع.
وسر هذه الجبلة : الإنسان يحصر همه فيما حضره، وينسى ماضيه، وما عسى أن يستقبله. فإذا أنعم الله عليه بنعمة غرّته غفلته، وقسا قلبه، وامتلأ جفوة على عباده.
﴿ وإنه على ذلك لشهيد ﴾ أي وإنه مع كنوده، ولجاجته في الطغيان، وتماديه في الإنكار والبهتان، إذا خلي ونفسه رجع إلى الحق، وأذعن إلى أنه ما شكر ربه على نعمه، إلى أن أعماله كلها جحود لنعم الله، فهي شهادة منه على كنوده، شهادة بلسان الحال، وهي أفصح من لسان المقال.
﴿ وإنه لحب الخير لشديد ﴾ أي وإن الإنسان بسبب محبته للمال وشغفه به وتعلقه بجمعه وادخاره لبخيل شديد في بخله، حريص متناه في حرصه، ممسك مبالغ في إمساكه، متشدد فيه، قال طرفة :
أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي | عقيلة مال الفاحش المتشدد |
ثم هدد الإنسان الذي هذه صفاته وتوعده بقوله :
﴿ أفلا يعلم إذا بعثر ما في القبور* وحصل ما في الصدور* إن ربهم بهم يومئذ لخبير ﴾ أي أفلا يعلم هذا الإنسان المنكر لنعم الله عليه، الجاحد لفضله وأياديه أنه سبحانه عليم بما تنطوي عليه نفسه، وأنه مجازيه على جحده وإنكاره يوم يحصل ما في الصدور، ويبعثر ما في القبور ؟
وقد عبر سبحانه عن مجازاتهم على ما كسبت أيديهم بالخبرة بهم والعلم المحيط لأعمالهم، وهذا كثير في الكلام، تقول لشخص في معرض التهديد : سأعرف لك عملك هذا مع أنك تعرفه الآن قطعا، وإنما عرفانه الآتي هو ظهور أثر المعرفة وهو مجازاته بما يستحق، وقد جاء على هذا النسق قوله تعالى :﴿ سنكتب ما قالوا ﴾ [ آل عمران : ١٨١ ] مع أن كتابة أقوالهم حاصلة فعلا، فالمراد سنجازيهم بما قالوا الجزاء الذي هم له أهل، والله أعلم.