تفسير سورة التكاثر

تفسير ابن عرفة - النسخة الكاملة
تفسير سورة سورة التكاثر من كتاب تفسير ابن عرفة المعروف بـتفسير ابن عرفة - النسخة الكاملة .
لمؤلفه ابن عرفة . المتوفي سنة 803 هـ

سُورَةُ (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ)
قوله تعالى: ﴿(أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (١)﴾
ابن عرفة: الشغل: هو الإقبال على الأمر الدنيوي بالبدن والقلب بحيث يذهل عن الأثر المصلح جملة، قال: (شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا) فلا يحسن اعتذارهم بذلك إلا إذا فهم أن قلوبهم لم تزل عامرة بالجهاد راغبة فيه، ابن عرفة: وهذا خبر في معنى النفي، وهو قليل في الخبر المثبت، والأكثر في الخبر المثبت كونه يعني الأمر، مثل (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ)، وفي الخبر النفي كونه بمعنى النهي (لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) ابن عرفة: وعادتهم يقولون: هل هذا من باب [لا أرينك*] هاهنا؛ لأن الفعل أسند لغير فاعله بخلاف: لَا تعد يا سيدي، كذلك هنا ليس المنهي التكاثر، وإنَّمَا المنهي المفعول.
قال: وعادتهم يجيبون بأن ذلك إنما هو في الفاعل الذي يمكن وقوع الفعل منه؛ لأن وقوع الرؤية هنالك من كل واحد منهما ممكن حقيقة، وأما هنا فالتكاثر معنى لا يمكن وقوع الفعل منه بوجه، وانظر ما تقدم في [المنافقون*] (لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ) وفي الغاشية (لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً).
قوله تعالى: ﴿حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (٢)﴾
إن أريد تفاخرهم بكثرة [الأحياء والأموات فما بعدها داخل فيما قبلها*]، وإن أريد تفاخرهم بكثرة المال إلى أن ماتوا فما بعدها غير داخل، وزيارة القبور محمودة، وكان بعضهم يقول إذا رأيت الطالب في ابتداء أمره يكثر من زيارة القبور، فاعلم أنه لَا يفلح لاشتغاله عن طلب العلم بما لَا يجدي شيئا.
قوله تعالى: ﴿كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣)﴾
قيل لابن عرفة: نص ابن مالك وغيره أن سوف أبلغ من التنفيس بالسين، فكيف يفهم من قول ابن عبد العزيز بعث بالقوم للقيامة ورب الكعبة، فإِن الزائر منصرف غير مقيم، فقال: لَا يتنافيان، والتنفيس يصدق بمطلق زمن موصوف بالطول.
أو نقول: سوف للتحقيق، والعطف بـ ثم إما تأكيدا.
قال الزمخشري: ويكون التأكيد بالثاني أبلغ، وإمَّا لاختلاف المعنى، فالأول علمهم بالبرزخ، والثاني علمهم بالقيامة، وإمَّا لاختلاف العلمين، فالأول في الكفار والثاني في العصاة، نقله ابن عطية، وضعف ابن عرفة الأول؛ لأن النحويين فرقوا بين العطف والتوكيد اللفظي في الجمل، كقول المؤذن: الله أكبر الله أكبر، وليس فيه، وضعف الأخير لقول الزمخشري: إن الإتيان مبالغة في التأكيد، وأن الثاني أبلغ من الأول فلو قال الأول في العصاة، والثاني في الكفار لكان صوابا.
قوله تعالى: ﴿ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (٤)﴾
(كَلَّا) زجر لما تقدم فيتوقف قبلها، ابن عرفة: ويحتمل أن يكون زجرا لمعنى لما بعد عاد لاسيما عند من يقول: إن لو أن نفيها إيجاب وإيجابها نفي؛ لأن المعنى: لو تعلمون علم اليقين لانزجرتم، فيدل على أنهم [لا*] يعلمون ذلك وغفلوا عنه فزجرهم على عدم العلم.
قوله تعالى: ﴿عِلْمَ الْيَقِينِ (٥)﴾
من إضافة الصفة إلى الموصوف، ابن عرفة: فيه عندي دليل على أن العلوم الحادثة متفاوتة، وهي مسألة خلاف بين الأصوليين، وهما مسألتان في أصول الدين، فقيل: إن العلوم كلها متساوية، وقيل مختلفة، ومنهم من جعل الخلاف لفظا، وقال بعضهم: أما في دلالة العلم فلا تفاوت بينهما أصلا، وأما بالنسبة إلى الطرق المحصلة إلى العلم فلا يشك في [... ] ضروري ونظري، فالضروري لَا يعرض له وهم ولا تشكيك، والنظري يعرض فيه التشكيك والمخالفة في الاستدلال، فهذا إذا كان راجعا إلى الآخرة فهو ضروري، وهو أقوى العلوم فلذلك قال: علم اليقين، وقد تقدم في قوله تعالى: (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) (وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ) (إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ) وتقدم أنه إن أريد نفس وقوع ما تعلق به الظن [فهو*] بمعنى العلم، وإن أريد بالظن وقته فهو على بابه.
قوله تعالى: ﴿لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (٦)﴾
هذه رؤية [بصرية*]، فإن كانت للمؤمنين فهو أعم من المعاينة فقط، والدخول، وإن كانت للكافرين فهي دخول، والثاني للكافرين ولذلك عطفه بـ ثم، وإن كان الأول للجمع فيكون بالثاني للكافرين ولمن يدخلها من عصاة المؤمنين، ويجيء فيه تفكيك الضمائر، وتقدم الفرق بين علم اليقين، وعين اليقين ما هو الأبلغ فيهما وإن كان الثاني أبلغ.
قوله تعالى: ﴿ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (٨)﴾
إن كان سؤال [توبيخ*] للكافر، فظاهر تأخيره عن رؤية الجحيم؛ لأنهم [يسألون، قال تعالى*] (إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (٣٩) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (٤٠) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (٤١) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ)، وإن كان سؤال حقيقة، فيكون بعد رؤية الجحيم الرؤية التي هي عرض ومعاينة، لَا بعد الدخول كما قال الزمخشري [(عَنِ النَّعِيمِ) عن اللهو والتنعم الذي شغلكم الالتذاذ به عن الدين وتكاليفه*].
* * *
Icon