تفسير سورة سورة الشرح من كتاب أضواء البيان
المعروف بـأضواء البيان
.
لمؤلفه
محمد الأمين الشنقيطي
.
المتوفي سنة 1393 هـ
ﰡ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
سُورَةُ الشَّرْحِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ
ذَكَرَ تَعَالَى هُنَا ثَلَاثَ مَسَائِلَ: شَرْحُ الصَّدْرِ، وَوَضْعُ الْوِزْرِ، وَرَفْعُ الذِّكْرِ.
وَهِيَ وَإِنْ كَانَتْ مُصَدَّرَةٌ بِالِاسْتِفْهَامِ، فَهُوَ اسْتِفْهَامٌ تَقْرِيرِيٌّ لِتَقْرِيرِ الْإِثْبَاتِ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَمْ نَشْرَحْ بِمَعْنَى شَرَحْنَا عَلَى الْمَبْدَأِ الْمَعْرُوفِ، مِنْ أَنَّ نَفْيَ النَّفْيِ إِثْبَاتٌ. وَذَلِكَ ; لِأَنَّ هَمْزَةَ الِاسْتِفْهَامِ وَهِيَ فِيهَا مَعْنَى النَّفْيِ دَخَلَتْ عَلَى لَمْ وَهِيَ لِلنَّفْيِ، فَتَرَافَعَا فَبَقِيَ الْفِعْلُ مُثْبَتًا. قَالُوا: وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ [٣٩ ٣٦]. وَقَوْلُهُ: أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا [٢٦ ١٨].
وَعَلَيْهِ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
فَتَقَرَّرَ بِذَلِكَ أَنَّهُ تَعَالَى يُعَدِّدُ عَلَيْهِ نِعَمَهُ الْعُظْمَى، وَقَدْ ذَكَرْنَا سَابِقًا ارْتِبَاطَ هَذِهِ السُّورَةِ بِالَّتِي قَبْلَهَا فِي تَتِمَّةِ نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَرَوَى النَّيْسَابُورِيُّ عَنْ عَطَاءٍ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ: أَنَّهُمَا كَانَا يَقُولَانِ: هَذِهِ السُّورَةُ وَسُورَةُ «الضُّحَى» سُورَةٌ وَاحِدَةٌ، وَكَانَا يَقْرَآنِهِمَا فِي الرَّكْعَةِ الْوَاحِدَةِ، وَمَا كَانَا يَفْصِلَانِ بَيْنَهُمَا بِبَسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَالَّذِي دَعَاهُمَا إِلَى ذَلِكَ هُوَ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ كَالْعَطْفِ عَلَى قَوْلِهِ: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا [٩٣ ٦]، وَرَدَ هَذَا الِادِّعَاءُ - أَيْ مِنْ كَوْنِهِمَا سُورَةً وَاحِدَةً - وَعَلَى كُلٍّ فَإِنَّ هَذَا إِذَا لَمْ يَجْعَلْهُمَا سُورَةً وَاحِدَةً فَإِنَّهُ يَجْعَلُهُمَا مُرْتَبِطَتَيْنِ مَعًا فِي الْمَعْنَى، كَمَا فِي «الْأَنْفَالِ» وَ «التَّوْبَةِ». ُُ
سُورَةُ الشَّرْحِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ
ذَكَرَ تَعَالَى هُنَا ثَلَاثَ مَسَائِلَ: شَرْحُ الصَّدْرِ، وَوَضْعُ الْوِزْرِ، وَرَفْعُ الذِّكْرِ.
وَهِيَ وَإِنْ كَانَتْ مُصَدَّرَةٌ بِالِاسْتِفْهَامِ، فَهُوَ اسْتِفْهَامٌ تَقْرِيرِيٌّ لِتَقْرِيرِ الْإِثْبَاتِ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَمْ نَشْرَحْ بِمَعْنَى شَرَحْنَا عَلَى الْمَبْدَأِ الْمَعْرُوفِ، مِنْ أَنَّ نَفْيَ النَّفْيِ إِثْبَاتٌ. وَذَلِكَ ; لِأَنَّ هَمْزَةَ الِاسْتِفْهَامِ وَهِيَ فِيهَا مَعْنَى النَّفْيِ دَخَلَتْ عَلَى لَمْ وَهِيَ لِلنَّفْيِ، فَتَرَافَعَا فَبَقِيَ الْفِعْلُ مُثْبَتًا. قَالُوا: وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ [٣٩ ٣٦]. وَقَوْلُهُ: أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا [٢٦ ١٨].
وَعَلَيْهِ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
أَلَسْتُمْ خَيْرَ مَنْ رَكِبَ الْمَطَايَا | وَأَنْدَى الْعَالَمِينَ بُطُونَ رَاحِ |
وَرَوَى النَّيْسَابُورِيُّ عَنْ عَطَاءٍ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ: أَنَّهُمَا كَانَا يَقُولَانِ: هَذِهِ السُّورَةُ وَسُورَةُ «الضُّحَى» سُورَةٌ وَاحِدَةٌ، وَكَانَا يَقْرَآنِهِمَا فِي الرَّكْعَةِ الْوَاحِدَةِ، وَمَا كَانَا يَفْصِلَانِ بَيْنَهُمَا بِبَسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَالَّذِي دَعَاهُمَا إِلَى ذَلِكَ هُوَ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ كَالْعَطْفِ عَلَى قَوْلِهِ: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا [٩٣ ٦]، وَرَدَ هَذَا الِادِّعَاءُ - أَيْ مِنْ كَوْنِهِمَا سُورَةً وَاحِدَةً - وَعَلَى كُلٍّ فَإِنَّ هَذَا إِذَا لَمْ يَجْعَلْهُمَا سُورَةً وَاحِدَةً فَإِنَّهُ يَجْعَلُهُمَا مُرْتَبِطَتَيْنِ مَعًا فِي الْمَعْنَى، كَمَا فِي «الْأَنْفَالِ» وَ «التَّوْبَةِ». ُُ
572
وَاخْتُلِفَ فِي مَعْنَى شَرْحِ الصَّدْرِ، إِلَّا أَنَّهُ لَا مُنَافَاةَ فِيمَا قَالُوا، وَكُلُّهَا يُكْمِلُ بَعْضُهَا بَعْضًا.
فَقِيلَ: هُوَ شَقُّ الصَّدْرِ سَوَاءٌ كَانَ مَرَّةً أَوْ أَكْثَرَ، وَغَسْلُهُ وَمَلْؤُهُ إِيمَانًا وَحِكْمَةً، كَمَا فِي رِوَايَةِ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ فِي لَيْلَةِ الْإِسْرَاءِ، وَرِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي غَيْرِهَا.
وَفِيهِ كَمَا فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ: أَنَّهُ شُقَّ صَدْرُهُ، وَأُخْرِجَ مِنْهُ الْغِلُّ وَالْحَسَدُ، فِي شَيْءٍ كَهَيْئَةِ الْعَلَقَةِ، وَأُدْخِلَتِ الرَّأْفَةُ وَالرَّحْمَةُ.
وَقِيلَ: شَرْحُ الصَّدْرِ إِنَّمَا هُوَ تَوْسِيعُهُ لِلْمَعْرِفَةِ وَالْإِيمَانِ وَمَعْرِفَةِ الْحَقِّ، وَجَعْلُ قَلْبِهِ وِعَاءً لِلْحِكْمَةِ.
وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ».
وَعِنْدَ أَبِي كَثِيرٍ: نَوَّرْنَاهُ وَجَعَلْنَاهُ فَسِيحًا رَحِيبًا وَاسِعًا، كَقَوْلِهِ: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ [٦ ١٢٥].
وَالَّذِي يَشْهَدُ لَهُ الْقُرْآنُ: أَنَّ الشَّرْحَ هُوَ الِانْشِرَاحُ وَالِارْتِيَاحُ. وَهَذِهِ حَالَةُ نَتِيجَةِ اسْتِقْرَارِ الْإِيمَانِ وَالْمَعْرِفَةِ وَالنُّورِ وَالْحِكْمَةِ. كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ [٣٩ ٢٢] فَقَوْلُهُ: «فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ» : بَيَانٌ لَشَرْحِ الصَّدْرِ لِلْإِسْلَامِ.
كَمَا أَنَّ ضِيقَ الصَّدْرِ، دَلِيلٌ عَلَى الضَّلَالِ، كَمَا فِي نَفْسِ الْآيَةِ: وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا الْآيَةَ [٦ ١٢٥].
وَفِي حَاشِيَةِ الشَّيْخِ زَادَةَ عَلِيٍّ الْبَيْضَاوِيِّ، قَالَ: لَمْ يَشْرَحْ صَدْرَ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ، كَمَا شَرَحَ صَدْرَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حَتَّى وَسِعَ عُلُومَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، فَقَالَ: «أُوتِيتُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ» اهـ.
وَمُرَادُهُ بِعُلُومِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ، مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ أَخْبَارِ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ مَعَ رُسُلِهِمْ وَأَخْبَارِ الْمَعَادِ، وَمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ ذَلِكَ مِمَّا عَلَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
وَالَّذِي يَظْهَرُ - وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ -: أَنَّ شَرْحَ الصَّدْرِ الْمُمْتَنَّ بِهِ عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْسَعُ وَأَعَمُّ
فَقِيلَ: هُوَ شَقُّ الصَّدْرِ سَوَاءٌ كَانَ مَرَّةً أَوْ أَكْثَرَ، وَغَسْلُهُ وَمَلْؤُهُ إِيمَانًا وَحِكْمَةً، كَمَا فِي رِوَايَةِ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ فِي لَيْلَةِ الْإِسْرَاءِ، وَرِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي غَيْرِهَا.
وَفِيهِ كَمَا فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ: أَنَّهُ شُقَّ صَدْرُهُ، وَأُخْرِجَ مِنْهُ الْغِلُّ وَالْحَسَدُ، فِي شَيْءٍ كَهَيْئَةِ الْعَلَقَةِ، وَأُدْخِلَتِ الرَّأْفَةُ وَالرَّحْمَةُ.
وَقِيلَ: شَرْحُ الصَّدْرِ إِنَّمَا هُوَ تَوْسِيعُهُ لِلْمَعْرِفَةِ وَالْإِيمَانِ وَمَعْرِفَةِ الْحَقِّ، وَجَعْلُ قَلْبِهِ وِعَاءً لِلْحِكْمَةِ.
وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ».
وَعِنْدَ أَبِي كَثِيرٍ: نَوَّرْنَاهُ وَجَعَلْنَاهُ فَسِيحًا رَحِيبًا وَاسِعًا، كَقَوْلِهِ: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ [٦ ١٢٥].
وَالَّذِي يَشْهَدُ لَهُ الْقُرْآنُ: أَنَّ الشَّرْحَ هُوَ الِانْشِرَاحُ وَالِارْتِيَاحُ. وَهَذِهِ حَالَةُ نَتِيجَةِ اسْتِقْرَارِ الْإِيمَانِ وَالْمَعْرِفَةِ وَالنُّورِ وَالْحِكْمَةِ. كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ [٣٩ ٢٢] فَقَوْلُهُ: «فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ» : بَيَانٌ لَشَرْحِ الصَّدْرِ لِلْإِسْلَامِ.
كَمَا أَنَّ ضِيقَ الصَّدْرِ، دَلِيلٌ عَلَى الضَّلَالِ، كَمَا فِي نَفْسِ الْآيَةِ: وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا الْآيَةَ [٦ ١٢٥].
وَفِي حَاشِيَةِ الشَّيْخِ زَادَةَ عَلِيٍّ الْبَيْضَاوِيِّ، قَالَ: لَمْ يَشْرَحْ صَدْرَ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ، كَمَا شَرَحَ صَدْرَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حَتَّى وَسِعَ عُلُومَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، فَقَالَ: «أُوتِيتُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ» اهـ.
وَمُرَادُهُ بِعُلُومِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ، مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ أَخْبَارِ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ مَعَ رُسُلِهِمْ وَأَخْبَارِ الْمَعَادِ، وَمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ ذَلِكَ مِمَّا عَلَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
وَالَّذِي يَظْهَرُ - وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ -: أَنَّ شَرْحَ الصَّدْرِ الْمُمْتَنَّ بِهِ عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْسَعُ وَأَعَمُّ
573
مِنْ ذَلِكَ، حَتَّى إِنَّهُ لَيَشْمَلُ صَبْرَهُ وَصَفْحَهُ وَعَفْوَهُ عَنْ أَعْدَائِهِ، وَمُقَابَلَتَهُ الْإِسَاءَةَ بِالْإِحْسَانِ، حَتَّى إِنَّهُ لَيَسَعُ الْعَدُوَّ، كَمَا يَسَعُ الصَّدِيقَ.
كَقِصَّةِ عَوْدَتِهِ مِنْ ثَقِيفٍ: إِذْ آذَوْهُ سُفَهَاؤُهُمْ، حَتَّى ضَاقَ مَلَكُ الْجِبَالِ بِفِعْلِهِمْ، وَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: إِنُّ مَلَكَ الْجِبَالِ مَعِي، إِنْ أَرَدْتَ أَنْ يُطْبِقَ عَلَيْهِمُ الْأَخْشَبَيْنِ فَعَلَ، فَيَنْشَرِحُ صَدْرُهُ إِلَى مَا هُوَ أَبْعَدُ مِنْ ذَلِكَ، وَلَكَأَنَّهُمْ لَمْ يُسِيئُوا إِلَيْهِ فَيَقُولُ: «اللَّهُمَّ اهْدِ قَوْمِي ; فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ، إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَقُولُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ».
وَتِلْكَ أَعْظَمُ نِعْمَةٍ وَأَقْوَى عِدَّةٍ فِي تَبْلِيغِ الدَّعْوَةِ وَتَحَمُّلِ أَعْبَاءِ الرِّسَالَةِ، وَلِذَا تَوَجَّهَ نَبِيُّ اللَّهِ مُوسَى إِلَى رَبِّهِ يَطْلُبُهُ إِيَّاهَا، لَمَّا كُلِّفَ الذَّهَابَ إِلَى الطَّاغِيَةِ فِرْعَوْنَ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي [٢٠ ٢٤ - ٣١].
فَذَكَرَ هُنَا مِنْ دَوَاعِي الْعَوْنِ عَلَى أَدَاءِ الرِّسَالَةِ أَرْبَعَةَ عَوَامِلَ: بَدَأَهَا بِشَرْحِ الصَّدْرِ، ثُمَّ تَيْسِيرِ الْأَمْرِ، وَهَذَانِ عَامِلَانِ ذَاتِيَّانِ، ثُمَّ الْوَسِيلَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ فِرْعَوْنُ، وَهُوَ اللِّسَانُ فِي الْإِقْنَاعِ: وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي، ثُمَّ الْعَامِلِ الْمَادِّيِّ أَخِيرًا فِي الْمُؤَازَرَةِ: وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي، فَقَدَّمَ شَرْحَ الصَّدْرِ عَلَى هَذَا كُلِّهِ لِأَهَمِّيَّتِهِ ; لِأَنَّهُ بِهِ يُقَابِلُ كُلَّ الصِّعَابِ، وَلِذَا قَابَلَ بِهِ مَا جَاءَ بِهِ السَّحَرَةُ مِنْ سِحْرٍ عَظِيمٍ، وَمَا قَابَلَهُمْ بِهِ فِرْعَوْنُ مِنْ عَنَتٍ أَعْظَمَ.
وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى مِنْ دَوَاعِي انْشِرَاحِ الصَّدْرِ وَإِنَارَتِهِ، مَا يَكُونُ مِنْ رِفْعَةٍ وَحِكْمَةٍ وَتَيْسِيرٍ، وَقَدْ يَكُونُ مِنْ هَذَا الْبَابِ مِمَّا يُسَاعِدُ عَلَيْهِ تَلَقِّي تِلْكَ التَّعَالِيمِ مِنَ الْوَحْيِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ [٧ ١٩٩]، وَكَقَوْلِهِ: وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [٣ ١٣٤] مِمَّا لَا يَتَأَتَّى إِلَّا مِمَّنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ. وَمِمَّا يُعِينُ الْمُلَازِمَةَ عَلَيْهِ عَلَى انْشِرَاحُ الصَّدْرِ، وَفِعْلًا قَدْ صَبَرَ عَلَى أَذَى الْمُشْرِكِينَ بِمَكَّةَ، وَمُخَادِعَةِ الْمُنَافِقِينَ بِالْمَدِينَةِ، وَتَلَقَّى كُلَّ ذَلِكَ بِصَدْرٍ رَحْبٍ.
كَقِصَّةِ عَوْدَتِهِ مِنْ ثَقِيفٍ: إِذْ آذَوْهُ سُفَهَاؤُهُمْ، حَتَّى ضَاقَ مَلَكُ الْجِبَالِ بِفِعْلِهِمْ، وَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: إِنُّ مَلَكَ الْجِبَالِ مَعِي، إِنْ أَرَدْتَ أَنْ يُطْبِقَ عَلَيْهِمُ الْأَخْشَبَيْنِ فَعَلَ، فَيَنْشَرِحُ صَدْرُهُ إِلَى مَا هُوَ أَبْعَدُ مِنْ ذَلِكَ، وَلَكَأَنَّهُمْ لَمْ يُسِيئُوا إِلَيْهِ فَيَقُولُ: «اللَّهُمَّ اهْدِ قَوْمِي ; فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ، إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَقُولُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ».
وَتِلْكَ أَعْظَمُ نِعْمَةٍ وَأَقْوَى عِدَّةٍ فِي تَبْلِيغِ الدَّعْوَةِ وَتَحَمُّلِ أَعْبَاءِ الرِّسَالَةِ، وَلِذَا تَوَجَّهَ نَبِيُّ اللَّهِ مُوسَى إِلَى رَبِّهِ يَطْلُبُهُ إِيَّاهَا، لَمَّا كُلِّفَ الذَّهَابَ إِلَى الطَّاغِيَةِ فِرْعَوْنَ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي [٢٠ ٢٤ - ٣١].
فَذَكَرَ هُنَا مِنْ دَوَاعِي الْعَوْنِ عَلَى أَدَاءِ الرِّسَالَةِ أَرْبَعَةَ عَوَامِلَ: بَدَأَهَا بِشَرْحِ الصَّدْرِ، ثُمَّ تَيْسِيرِ الْأَمْرِ، وَهَذَانِ عَامِلَانِ ذَاتِيَّانِ، ثُمَّ الْوَسِيلَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ فِرْعَوْنُ، وَهُوَ اللِّسَانُ فِي الْإِقْنَاعِ: وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي، ثُمَّ الْعَامِلِ الْمَادِّيِّ أَخِيرًا فِي الْمُؤَازَرَةِ: وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي، فَقَدَّمَ شَرْحَ الصَّدْرِ عَلَى هَذَا كُلِّهِ لِأَهَمِّيَّتِهِ ; لِأَنَّهُ بِهِ يُقَابِلُ كُلَّ الصِّعَابِ، وَلِذَا قَابَلَ بِهِ مَا جَاءَ بِهِ السَّحَرَةُ مِنْ سِحْرٍ عَظِيمٍ، وَمَا قَابَلَهُمْ بِهِ فِرْعَوْنُ مِنْ عَنَتٍ أَعْظَمَ.
وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى مِنْ دَوَاعِي انْشِرَاحِ الصَّدْرِ وَإِنَارَتِهِ، مَا يَكُونُ مِنْ رِفْعَةٍ وَحِكْمَةٍ وَتَيْسِيرٍ، وَقَدْ يَكُونُ مِنْ هَذَا الْبَابِ مِمَّا يُسَاعِدُ عَلَيْهِ تَلَقِّي تِلْكَ التَّعَالِيمِ مِنَ الْوَحْيِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ [٧ ١٩٩]، وَكَقَوْلِهِ: وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [٣ ١٣٤] مِمَّا لَا يَتَأَتَّى إِلَّا مِمَّنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ. وَمِمَّا يُعِينُ الْمُلَازِمَةَ عَلَيْهِ عَلَى انْشِرَاحُ الصَّدْرِ، وَفِعْلًا قَدْ صَبَرَ عَلَى أَذَى الْمُشْرِكِينَ بِمَكَّةَ، وَمُخَادِعَةِ الْمُنَافِقِينَ بِالْمَدِينَةِ، وَتَلَقَّى كُلَّ ذَلِكَ بِصَدْرٍ رَحْبٍ.
574
وَفِي هَذَا كَمَا قَدَّمْنَا تَوْجِيهٌ لِكُلِّ دَاعِيَةٍ إِلَى اللَّهِ، أَنْ يَكُونَ رَحْبَ الصَّدْرِ، هَادِئَ النَّفْسِ، مُتَجَمِّلًا بِالصَّبْرِ.
وَقَوْلُهُ: وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ [٢٤ ٢]، وَالْوَضْعُ يَكُونُ لِلْحَطِّ وَالتَّخْفِيفِ، وَيَكُونُ لِلْحَمْلِ وَالتَّثْقِيلِ، فَإِنْ عُدِّيَ بِعَنْ كَانَ لِلْحَطِّ، وَإِنْ عُدِّيَ بِعَلَى كَانَ لِلْحَمْلِ، فِي قَوْلِهِمْ: وَضَعْتُ عَنْكَ، وَوَضَعْتُ عَلَيْكَ، وَالْوِزْرُ لُغَةً الثِّقْلُ.
وَمِنْهُ: حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا، أَيْ: ثِقْلَهَا مِنْ سِلَاحٍ وَنَحْوِهِ.
وَمِنْهُ: الْوَزِيرُ الْمُتَحَمِّلُ ثِقْلَ أَمِيرِهِ وَشُغْلَهُ، وَشَرْعًا الذَّنْبُ كَمَا فِي الْحَدِيثِ: «وَمَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً، فَعَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»، وَقَدْ يَتَعَاوَرَانِ فِي التَّعْبِيرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً [١٦ ٢٥]، وَقَوْلِهِ مَرَّةً أُخْرَى: وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ [٢٩ ١٣].
وَقَدْ أُفْرِدَ لَفْظُ الْوِزْرِ هُنَا وَأُطْلِقَ، وَلَمْ يُبَيَّنْ مَا هُوَ وَمَا نَوْعُهُ، فَاخْتُلِفَ فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا.
فَقِيلَ: مَا كَانَ فِيهِ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَحِفْظُهُ مِنْ مُشَارَكَتِهِ مَعَهُمْ، فَلَمْ يَلْحَقْهُ شَيْءٌ مِنْهُ.
وَقِيلَ: ثِقْلُ تَأَلُّمِهِ مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ قَوْمُهُ، وَلَمْ يَسْتَطِعْ تَغْيِيرَهُ، وَشَفَقَتُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِهِمْ، أَيْ: كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا [١٨ ٦]، أَيْ: أَسَفًا عَلَيْهِمْ.
وَقَالَ أَبُو حَيَّانَ: هُوَ كِنَايَةٌ عَنْ عِصْمَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الذُّنُوبِ، وَتَطْهِيرِهِ مِنَ الْأَرْجَاسِ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَغَفَرْنَا لَكَ مَا سَلَفَ مِنْ ذُنُوبِكَ، وَحَطَطْنَا عَنْكَ ثِقْلَ أَيَّامِ الْجَاهِلِيَّةِ الَّتِي كُنْتَ فِيهَا.
وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: هُوَ بِمَعْنَى: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ.
فَكَلَامُ أَبِي حَيَّانَ: يَدُلُّ عَلَى الْعِصْمَةِ، وَكَلَامُ ابْنِ جَرِيرٍ يَدُلُّ عَلَى شَيْءٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَلَامُ ابْنِ كَثِيرٍ مُجْمَلٌ.
وَقَوْلُهُ: وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ [٢٤ ٢]، وَالْوَضْعُ يَكُونُ لِلْحَطِّ وَالتَّخْفِيفِ، وَيَكُونُ لِلْحَمْلِ وَالتَّثْقِيلِ، فَإِنْ عُدِّيَ بِعَنْ كَانَ لِلْحَطِّ، وَإِنْ عُدِّيَ بِعَلَى كَانَ لِلْحَمْلِ، فِي قَوْلِهِمْ: وَضَعْتُ عَنْكَ، وَوَضَعْتُ عَلَيْكَ، وَالْوِزْرُ لُغَةً الثِّقْلُ.
وَمِنْهُ: حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا، أَيْ: ثِقْلَهَا مِنْ سِلَاحٍ وَنَحْوِهِ.
وَمِنْهُ: الْوَزِيرُ الْمُتَحَمِّلُ ثِقْلَ أَمِيرِهِ وَشُغْلَهُ، وَشَرْعًا الذَّنْبُ كَمَا فِي الْحَدِيثِ: «وَمَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً، فَعَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»، وَقَدْ يَتَعَاوَرَانِ فِي التَّعْبِيرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً [١٦ ٢٥]، وَقَوْلِهِ مَرَّةً أُخْرَى: وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ [٢٩ ١٣].
وَقَدْ أُفْرِدَ لَفْظُ الْوِزْرِ هُنَا وَأُطْلِقَ، وَلَمْ يُبَيَّنْ مَا هُوَ وَمَا نَوْعُهُ، فَاخْتُلِفَ فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا.
فَقِيلَ: مَا كَانَ فِيهِ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَحِفْظُهُ مِنْ مُشَارَكَتِهِ مَعَهُمْ، فَلَمْ يَلْحَقْهُ شَيْءٌ مِنْهُ.
وَقِيلَ: ثِقْلُ تَأَلُّمِهِ مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ قَوْمُهُ، وَلَمْ يَسْتَطِعْ تَغْيِيرَهُ، وَشَفَقَتُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِهِمْ، أَيْ: كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا [١٨ ٦]، أَيْ: أَسَفًا عَلَيْهِمْ.
وَقَالَ أَبُو حَيَّانَ: هُوَ كِنَايَةٌ عَنْ عِصْمَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الذُّنُوبِ، وَتَطْهِيرِهِ مِنَ الْأَرْجَاسِ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَغَفَرْنَا لَكَ مَا سَلَفَ مِنْ ذُنُوبِكَ، وَحَطَطْنَا عَنْكَ ثِقْلَ أَيَّامِ الْجَاهِلِيَّةِ الَّتِي كُنْتَ فِيهَا.
وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: هُوَ بِمَعْنَى: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ.
فَكَلَامُ أَبِي حَيَّانَ: يَدُلُّ عَلَى الْعِصْمَةِ، وَكَلَامُ ابْنِ جَرِيرٍ يَدُلُّ عَلَى شَيْءٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَلَامُ ابْنِ كَثِيرٍ مُجْمَلٌ.
575
وَفِي هَذَا الْمَجَالِ مَبْحَثُ عِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ عُمُومًا، وَهُوَ مَبْحَثٌ أُصُولِيٌّ يُحَقِّقُهُ كُتُبُ الْأُصُولِ لِسَلَامَةِ الدَّعْوَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - بَحْثُهُ فِي سُورَةِ «طه» عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى [٢٠ ١٢١]، وَأَوْرَدَ كَلَامَ الْمُعْتَزِلَةِ وَالشِّيعَةِ وَالْحَشْوِيَّةِ، وَمِقْيَاسَ ذَلِكَ، عَقْلًا وَشَرْعًا، وَفِي سُورَةِ «ص» عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ [٣٨ ٢٤]، وَنَبَّهَ عِنْدَهَا عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا يُقَالُ فِي دَاوُدَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حَوْلَ هَذَا الْمَعْنَى، كُلُّهُ إِسْرَائِيلِيَّاتٌ لَا تَلِيقُ بِمَقَامِ النُّبُوَّةِ. اهـ.
أَمَّا فِي خُصُوصِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّا نُورِدُ الْآتِي: إِنَّهُ مَهْمَا يَكُنْ مِنْ شَيْءٍ، فَإِنَّ عِصْمَتَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْكَبَائِرِ وَالصَّغَائِرِ بَعْدَ الْبِعْثَةِ يَجِبُ الْقَطْعُ بِهَا ; لِنَصِّ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [٣٣ ٢١] ; لِوُجُوبِ التَّأَسِّي بِهِ، وَامْتِنَاعِ أَنْ يَكُونَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ قَطْعًا.
أَمَّا قَبْلَ الْبَعْثَةِ، فَالْعِصْمَةُ مِنَ الْكَبَائِرِ أَيْضًا، يَجِبُ الْجَزْمُ بِهَا ; لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ فِي مَقَامِ التَّهَيُّؤِ لِلنُّبُوَّةِ مِنْ صِغَرِهِ، وَقَدْ شُقَّ صَدْرُهُ فِي سِنِّ الرَّضَاعِ، وَأُخْرِجَ مِنْهُ حَظُّ الشَّيْطَانِ، ثُمَّ إِنَّهُ لَوْ كَانَ قَدْ وَقَعَ مِنْهُ شَيْءٌ لَأَخَذُوهُ عَلَيْهِ حِينَ عَارَضُوهُ فِي دَعْوَتِهِ، وَلَمْ يُذْكَرْ مِنْ ذَلِكَ وَلَا شَيْءَ فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الْقَوْلُ فِي الصَّغَائِرِ، فَهِيَ دَائِرَةٌ بَيْنَ الْجَوَازِ وَالْمَنْعِ، فَإِنْ كَانَتْ جَائِزَةً وَوَقَعَتْ، فَلَا تَمُسَّ مَقَامَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِوُقُوعِهَا قَبْلَ الْبَعْثَةِ وَالتَّكْلِيفِ، وَأَنَّهَا قَدْ غُفِرَتْ وَحُطَّ عَنْهُ ثِقْلُهَا، فَإِنْ لَمْ تَقَعْ وَلَمْ تَكُنْ جَائِزَةً فِي حَقِّهِ، فَهَذَا الْمَطْلُوبُ.
وَقَدْ سَاقَ الْأَلُوسِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي تَفْسِيرِهِ: أَنَّ عَمَّهُ أَبَا طَالِبٍ، قَالَ لِأَخِيهِ الْعَبَّاسِ يَوْمًا: «لَقَدْ ضَمَمْتُهُ إِلَيَّ وَمَا فَارَقْتُهُ لَيْلًا وَلَا نَهَارًا وَلَا ائْتَمَنْتُ عَلَيْهِ أَحَدَّا»، وَذَكَرَ قِصَّةَ بَنِيهِ وَمَنَامِهِ فِي وَسَطِ أَوْلَادِهِ أَوَّلَ اللَّيْلِ، ثُمَّ نَقْلِهِ إِيَّاهُ مَحَلَّ أَحَدِ أَبْنَائِهِ حِفَاظًا عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: «وَلَمْ أَرَ مِنْهُ كِذْبَةً، وَلَا ضَحِكًا، وَلَا جَاهِلِيَّةً، وَلَا وَقَفَ مَعَ الصِّبْيَانِ وَهُمْ يَلْعَبُونَ».
وَذَكَرَتْ كُتُبُ التَّفْسِيرِ: أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرَادَ مَرَّةً فِي صِغَرِهِ أَنْ يَذْهَبَ لِمَحَلِّ عُرْسٍ لِيَرَى مَا فِيهِ، فَلَمَّا دَنَا مِنْهُ أَخَذَهُ النَّوْمُ وَلَمْ يَصْحُ إِلَّا عَلَى حَرِّ الشَّمْسِ، فَصَانَهُ اللَّهُ مِنْ رُؤْيَهِ أَوْ سَمَاعِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ.
وَمِنْهُ قِصَّةُ مُشَارَكَتِهِ فِي بِنَاءِ الْكَعْبَةِ حِينَ تَعَرَّى وَمُنِعَ مِنْهُ حَالًا، وَعَلَى الْمَنْعِ مِنْ وُقُوعِ شَيْءٍ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَقِيَ الْجَوَابُ عَلَى مَعْنَى الْآيَةِ، فَيُقَالُ - وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ -: إِنَّهُ تَكْرِيمٌ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا
أَمَّا فِي خُصُوصِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّا نُورِدُ الْآتِي: إِنَّهُ مَهْمَا يَكُنْ مِنْ شَيْءٍ، فَإِنَّ عِصْمَتَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْكَبَائِرِ وَالصَّغَائِرِ بَعْدَ الْبِعْثَةِ يَجِبُ الْقَطْعُ بِهَا ; لِنَصِّ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [٣٣ ٢١] ; لِوُجُوبِ التَّأَسِّي بِهِ، وَامْتِنَاعِ أَنْ يَكُونَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ قَطْعًا.
أَمَّا قَبْلَ الْبَعْثَةِ، فَالْعِصْمَةُ مِنَ الْكَبَائِرِ أَيْضًا، يَجِبُ الْجَزْمُ بِهَا ; لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ فِي مَقَامِ التَّهَيُّؤِ لِلنُّبُوَّةِ مِنْ صِغَرِهِ، وَقَدْ شُقَّ صَدْرُهُ فِي سِنِّ الرَّضَاعِ، وَأُخْرِجَ مِنْهُ حَظُّ الشَّيْطَانِ، ثُمَّ إِنَّهُ لَوْ كَانَ قَدْ وَقَعَ مِنْهُ شَيْءٌ لَأَخَذُوهُ عَلَيْهِ حِينَ عَارَضُوهُ فِي دَعْوَتِهِ، وَلَمْ يُذْكَرْ مِنْ ذَلِكَ وَلَا شَيْءَ فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الْقَوْلُ فِي الصَّغَائِرِ، فَهِيَ دَائِرَةٌ بَيْنَ الْجَوَازِ وَالْمَنْعِ، فَإِنْ كَانَتْ جَائِزَةً وَوَقَعَتْ، فَلَا تَمُسَّ مَقَامَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِوُقُوعِهَا قَبْلَ الْبَعْثَةِ وَالتَّكْلِيفِ، وَأَنَّهَا قَدْ غُفِرَتْ وَحُطَّ عَنْهُ ثِقْلُهَا، فَإِنْ لَمْ تَقَعْ وَلَمْ تَكُنْ جَائِزَةً فِي حَقِّهِ، فَهَذَا الْمَطْلُوبُ.
وَقَدْ سَاقَ الْأَلُوسِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي تَفْسِيرِهِ: أَنَّ عَمَّهُ أَبَا طَالِبٍ، قَالَ لِأَخِيهِ الْعَبَّاسِ يَوْمًا: «لَقَدْ ضَمَمْتُهُ إِلَيَّ وَمَا فَارَقْتُهُ لَيْلًا وَلَا نَهَارًا وَلَا ائْتَمَنْتُ عَلَيْهِ أَحَدَّا»، وَذَكَرَ قِصَّةَ بَنِيهِ وَمَنَامِهِ فِي وَسَطِ أَوْلَادِهِ أَوَّلَ اللَّيْلِ، ثُمَّ نَقْلِهِ إِيَّاهُ مَحَلَّ أَحَدِ أَبْنَائِهِ حِفَاظًا عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: «وَلَمْ أَرَ مِنْهُ كِذْبَةً، وَلَا ضَحِكًا، وَلَا جَاهِلِيَّةً، وَلَا وَقَفَ مَعَ الصِّبْيَانِ وَهُمْ يَلْعَبُونَ».
وَذَكَرَتْ كُتُبُ التَّفْسِيرِ: أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرَادَ مَرَّةً فِي صِغَرِهِ أَنْ يَذْهَبَ لِمَحَلِّ عُرْسٍ لِيَرَى مَا فِيهِ، فَلَمَّا دَنَا مِنْهُ أَخَذَهُ النَّوْمُ وَلَمْ يَصْحُ إِلَّا عَلَى حَرِّ الشَّمْسِ، فَصَانَهُ اللَّهُ مِنْ رُؤْيَهِ أَوْ سَمَاعِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ.
وَمِنْهُ قِصَّةُ مُشَارَكَتِهِ فِي بِنَاءِ الْكَعْبَةِ حِينَ تَعَرَّى وَمُنِعَ مِنْهُ حَالًا، وَعَلَى الْمَنْعِ مِنْ وُقُوعِ شَيْءٍ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَقِيَ الْجَوَابُ عَلَى مَعْنَى الْآيَةِ، فَيُقَالُ - وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ -: إِنَّهُ تَكْرِيمٌ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا
576
جَاءَ فِي أَهْلِ بَدْرٍ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَعَلَّ اللَّهَ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ، فَقَالَ: افْعَلُوا مَا شِئْتُمْ ; فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ» مَعَ أَنَّهُمْ لَنْ يَفْعَلُوا مُحَرَّمًا بِذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ تَكْرِيمٌ لَهُمْ وَرَفْعٌ لِمَنْزِلَتِهِمْ.
وَقَدْ كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتُوبُ، وَيَسْتَغْفِرُ، وَيَقُومُ اللَّيْلَ حَتَّى تَوَرَّمَتْ قَدَمَاهُ، وَقَالَ: «أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا».
فَكَانَ كُلُّ ذَلِكَ مِنْهُ شُكْرًا لِلَّهِ تَعَالَى، وَرَفْعًا لِدَرَجَاتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وَقَدْ جَاءَ: «نَعِمَ الْعَبْدُ صُهَيْبٌ، لَوْ لَمْ يَخَفِ اللَّهَ لَمْ يَعْصِهِ»، وَهُوَ حَسَنَةٌ مِنْ حَسَنَاتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
أَوْ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَعْتَدُّ عَلَى نَفْسِهِ بِالتَّقْصِيرِ، وَيَعْتَبِرُ ذَنْبًا يَسْتَثْقِلُهُ وَيَسْتَغْفِرُ مِنْهُ، كَمَا كَانَ إِذَا خَرَجَ مِنَ الْخَلَاءِ قَالَ: «غُفْرَانَكَ».
وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ مُوجِبٍ لِلِاسْتِغْفَارِ، إِلَّا مَا قِيلَ شُعُورُهُ بِتَرْكِ الذِّكْرِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ، اسْتَوْجَبَ مِنْهُ ذَلِكَ.
وَقَدِ اسْتَحْسَنَ الْعُلَمَاءُ قَوْلَ الْجُنَيْدِ: حَسَنَاتُ الْأَبْرَارِ سَيِّئَاتُ الْمُقَرَّبِينَ، أَوْ أَنَّ الْمُرَادَ مِثْلُ مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ بَعْضِ اجْتِهَادَاتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِي سَبِيلِ الدَّعْوَةِ، فَيُرَدُّ اجْتِهَادُهُ فَيَعْظُمُ عَلَيْهِ: كَقِصَّةِ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ، وَعُوتِبَ فِيهِ: عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى الْآيَةَ [٨٠ ١ - ٢]، وَنَظِيرِهَا وَلَوْ كَانَ بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ، إِلَّا أَنَّهُ مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ كَقَوْلِهِ: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ [٩ ٤٣]، وَقِصَّةِ أُسَارَى بَدْرٍ، وَقَوْلِهِ: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ [٣ ١٢٨]، وَاجْتِهَادِهِ فِي إِيمَانِ عَمِّهِ، حَتَّى قِيلَ لَهُ: إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ [٢٨ ٥٦] وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَتُحْمَلُ الْآيَةُ عَلَيْهِ، أَوْ أَنَّ الْوِزْرَ بِمَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ، وَهُوَ مَا كَانَ يُثْقِلُهُ مِنْ أَعْبَاءِ الدَّعْوَةِ، وَتَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ، كَمَا ذَكَرَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي سُورَةِ «الْإِسْرَاءِ» عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَمَّا كَانَ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي فَأَصْبَحْتُ بِمَكَّةَ فَظِعْتُ، وَعَرَفْتُ أَنَّ النَّاسَ مُكَذِّبِيَّ، فَقَعَدْتُ مُعْتَزِلًا حَزِينًا، فَمَرَّ بِي أَبُو جَهْلٍ، فَجَاءَ حَتَّى جَلَسَ إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ كَالْمُسْتَهْزِئِ: هَلْ كَانَ مِنْ شَيْءٍ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:» نَعَمْ «، وَقَصَّ عَلَيْهِ الْإِسْرَاءَ».
فَفِيهِ التَّصْرِيحُ بِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَظِعَ، وَالْفَظَاعَةُ: ثِقَلٌ وَحُزْنُ، وَالْحُزْنُ: ثِقَلٌ. وَتَوَقُّعُ تَكْذِيبِهِمْ إِيَّاهُ أَثْقَلُ عَلَى النَّفْسِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَقَدْ كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتُوبُ، وَيَسْتَغْفِرُ، وَيَقُومُ اللَّيْلَ حَتَّى تَوَرَّمَتْ قَدَمَاهُ، وَقَالَ: «أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا».
فَكَانَ كُلُّ ذَلِكَ مِنْهُ شُكْرًا لِلَّهِ تَعَالَى، وَرَفْعًا لِدَرَجَاتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وَقَدْ جَاءَ: «نَعِمَ الْعَبْدُ صُهَيْبٌ، لَوْ لَمْ يَخَفِ اللَّهَ لَمْ يَعْصِهِ»، وَهُوَ حَسَنَةٌ مِنْ حَسَنَاتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
أَوْ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَعْتَدُّ عَلَى نَفْسِهِ بِالتَّقْصِيرِ، وَيَعْتَبِرُ ذَنْبًا يَسْتَثْقِلُهُ وَيَسْتَغْفِرُ مِنْهُ، كَمَا كَانَ إِذَا خَرَجَ مِنَ الْخَلَاءِ قَالَ: «غُفْرَانَكَ».
وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ مُوجِبٍ لِلِاسْتِغْفَارِ، إِلَّا مَا قِيلَ شُعُورُهُ بِتَرْكِ الذِّكْرِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ، اسْتَوْجَبَ مِنْهُ ذَلِكَ.
وَقَدِ اسْتَحْسَنَ الْعُلَمَاءُ قَوْلَ الْجُنَيْدِ: حَسَنَاتُ الْأَبْرَارِ سَيِّئَاتُ الْمُقَرَّبِينَ، أَوْ أَنَّ الْمُرَادَ مِثْلُ مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ بَعْضِ اجْتِهَادَاتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِي سَبِيلِ الدَّعْوَةِ، فَيُرَدُّ اجْتِهَادُهُ فَيَعْظُمُ عَلَيْهِ: كَقِصَّةِ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ، وَعُوتِبَ فِيهِ: عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى الْآيَةَ [٨٠ ١ - ٢]، وَنَظِيرِهَا وَلَوْ كَانَ بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ، إِلَّا أَنَّهُ مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ كَقَوْلِهِ: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ [٩ ٤٣]، وَقِصَّةِ أُسَارَى بَدْرٍ، وَقَوْلِهِ: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ [٣ ١٢٨]، وَاجْتِهَادِهِ فِي إِيمَانِ عَمِّهِ، حَتَّى قِيلَ لَهُ: إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ [٢٨ ٥٦] وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَتُحْمَلُ الْآيَةُ عَلَيْهِ، أَوْ أَنَّ الْوِزْرَ بِمَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ، وَهُوَ مَا كَانَ يُثْقِلُهُ مِنْ أَعْبَاءِ الدَّعْوَةِ، وَتَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ، كَمَا ذَكَرَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي سُورَةِ «الْإِسْرَاءِ» عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَمَّا كَانَ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي فَأَصْبَحْتُ بِمَكَّةَ فَظِعْتُ، وَعَرَفْتُ أَنَّ النَّاسَ مُكَذِّبِيَّ، فَقَعَدْتُ مُعْتَزِلًا حَزِينًا، فَمَرَّ بِي أَبُو جَهْلٍ، فَجَاءَ حَتَّى جَلَسَ إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ كَالْمُسْتَهْزِئِ: هَلْ كَانَ مِنْ شَيْءٍ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:» نَعَمْ «، وَقَصَّ عَلَيْهِ الْإِسْرَاءَ».
فَفِيهِ التَّصْرِيحُ بِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَظِعَ، وَالْفَظَاعَةُ: ثِقَلٌ وَحُزْنُ، وَالْحُزْنُ: ثِقَلٌ. وَتَوَقُّعُ تَكْذِيبِهِمْ إِيَّاهُ أَثْقَلُ عَلَى النَّفْسِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
577
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ، أَيْ: ثِقَلَهُ، مُشْعِرٌ بِأَنَّ لِلذَّنْبِ ثِقَلًا عَلَى الْمُؤْمِنِ يَنُوءُ بِهِ، وَلَا يُخَفِّفُهُ إِلَّا التَّوْبَةُ وَحَطَّهُ عِنْدَهُ.
وَقَوْلُهُ: وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا بِمَ وَلَا كَيْفَ رَفَعَ لَهُ ذِكْرَهُ، وَالرَّفْعُ يَكُونُ حِسِّيًّا وَيَكُونُ مَعْنَوِيًّا، فَاخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ بِهِ أَيْضًا.
فَقِيلَ: هُوَ حِسِّيٌّ فِي الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ، وَفِي الْخُطَبِ عَلَى الْمَنَابِرِ وَافْتِتَاحِيَّاتِ الْكَلَامِ فِي الْأُمُورِ الْهَامَّةِ، وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِالْوَاقِعِ فِعْلًا، وَاسْتَشْهَدُوا بِقَوْلِ حَسَّانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَهِيَ أَبْيَاتٌ فِي دِيوَانِهِ مِنْ قَصِيدَةٍ دَالِيَّةٍ:
وَمِنْ رَفْعِ الذِّكْرِ مَعْنًى، أَيْ: مِنَ الرِّفْعَةِ، ذِكْرُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي كُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَهُ، حَتَّى عُرِفَ لِلْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ قَبْلَ مَجِيئِهِ.
وَقَدْ نَصَّ الْقُرْآنُ أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ الْوَحْيَ ذِكْرًا لَهُ وَلِقَوْمِهِ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ [٤٣ ٤٣ - ٤٤]، وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذِكْرَهُ قَوْمَهُ ذِكْرٌ لَهُ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
فَتَبَيَّنَ أَنَّ رَفْعَ ذِكْرِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، إِنَّمَا هُوَ عَنْ طَرِيقِ الْوَحْيِ، سَوَاءٌ كَانَ بِنُصُوصٍ مِنْ تَوْجِيهِ الْخِطَابِ إِلَيْهِ بِمِثْلِ: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ [٥ ٤١]، يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ [٨ ٦٤]، يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ [٧٤ ١]، وَالتَّصْرِيحُ بِاسْمِهِ فِي مَقَامِ الرِّسَالَةِ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ [٤٨ ٢٩]، أَوْ كَانَ فِي فُرُوعِ التَّشْرِيعِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَذَانٍ، وَإِقَامَةٍ، وَتَشَهُّدٍ، وَخُطَبٍ، وَصَلَاةٍ عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ النَّصَبُ: التَّعَبُ بَعْدَ الِاجْتِهَادِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ [٨٨ ٢ - ٣]. ُُ
وَقَوْلُهُ: وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا بِمَ وَلَا كَيْفَ رَفَعَ لَهُ ذِكْرَهُ، وَالرَّفْعُ يَكُونُ حِسِّيًّا وَيَكُونُ مَعْنَوِيًّا، فَاخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ بِهِ أَيْضًا.
فَقِيلَ: هُوَ حِسِّيٌّ فِي الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ، وَفِي الْخُطَبِ عَلَى الْمَنَابِرِ وَافْتِتَاحِيَّاتِ الْكَلَامِ فِي الْأُمُورِ الْهَامَّةِ، وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِالْوَاقِعِ فِعْلًا، وَاسْتَشْهَدُوا بِقَوْلِ حَسَّانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَهِيَ أَبْيَاتٌ فِي دِيوَانِهِ مِنْ قَصِيدَةٍ دَالِيَّةٍ:
أَغَرُّ عَلَيْهِ لِلنُّبُوَّةِ خَاتَمٌ | مِنَ اللَّهِ مَشْهُودٌ يَلُوحُ وَيَشْهَدُ |
وَضَمَّ الْإِلَهُ اسْمَ النَّبِيِّ إِلَى اسْمِهِ | إِذَا قَالَ فِي الْخَمْسِ الْمُؤَذَّنِ أَشْهَدُ |
وَشَقَّ لَهُ مِنِ اسْمِهِ لِيُجِلَّهُ | فَذُو الْعَرْشِ مَحْمُودٌ وَهَذَا مُحَمَّدُ |
وَقَدْ نَصَّ الْقُرْآنُ أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ الْوَحْيَ ذِكْرًا لَهُ وَلِقَوْمِهِ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ [٤٣ ٤٣ - ٤٤]، وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذِكْرَهُ قَوْمَهُ ذِكْرٌ لَهُ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
وَكَمْ أَبٍ قَدْ عَلَا بِابْنٍ ذُرَى رُتَبِ | كَمَا عَلَتْ بِرَسُولِ اللَّهِ عَدْنَانُ |
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ النَّصَبُ: التَّعَبُ بَعْدَ الِاجْتِهَادِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ [٨٨ ٢ - ٣]. ُُ
578
وَقَدْ يَكُونُ النَّصَبُ لِلدُّنْيَا أَوْ لِلْآخِرَةِ، وَلَمْ يُبَيِّنِ الْمُرَادَ بِالنَّصَبِ فِي أَيِّ شَيْءٍ، فَاخْتُلِفَ فِيهِ، وَلَكِنَّهَا أَقْوَالٌ مُتَقَارِبَةٌ.
فَقِيلَ: فِي الدُّعَاءِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الصَّلَاةِ.
وَقِيلَ: فِي النَّافِلَةِ مِنَ الْفَرِيضَةِ، وَالَّذِي يَشْهَدُ لَهُ الْقُرْآنُ، أَنَّهُ تَوْجِيهٌ عَامُّ لِلْأَخْذِ بِحَظِّ الْآخِرَةِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ عَمَلِ الدُّنْيَا، كَمَا فِي مِثْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا، وَقَوْلِهِ: إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا [٧٣ ٦]، أَيْ لِأَنَّهَا وَقْتُ الْفَرَاغِ مِنْ عَمَلِ النَّهَارِ وَفِي سُكُونِ اللَّيْلِ، وَقَوْلِهِ: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا [١١٠ ١ - ٣]، فَيَكُونُ وَقْتُهُ كُلُّهُ مَشْغُولًا، إِمَّا لِلدُّنْيَا وَإِمَّا لِلدِّينِ.
وَفِي قَوْلِهِ فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ، حَلٌّ لِمُشْكِلَةِ الْفَرَاغِ الَّتِي شَغَلَتِ الْعَالَمَ حَيْثُ لَمْ تَتْرُكْ لِلْمُسْلِمِ فَرَاغًا فِي وَقْتِهِ ; لِأَنَّهُ إِمَّا فِي عَمَلٍ لِلدُّنْيَا، وَإِمَّا فِي عَمَلٍ لِلْآخِرَةِ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " أَنَّهُ مَرَّ عَلَى رَجُلَيْنِ يَتَصَارَعَانِ، فَقَالَ لَهُمَا: مَا بِهَذَا أُمِرْنَا بَعْدَ فَرَاغِنَا ".
وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: " إِنِّي لَأَكْرَهُ لِأَحَدِكُمْ أَنْ يَكُونَ خَالِيًا سَبَهْلَلًا، لَا فِي عَمَلِ دُنْيَا وَلَا دِينٍ " وَلِهَذَا لَمْ يَشْكُ الصَّدْرُ الْأَوَّلُ فَرَاغًا فِي الْوَقْتِ.
وَمِمَّا يُشِيرُ إِلَى وَضْعِ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ، مَا رَوَاهُ مَالِكٌ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ: قُلْتُ لِعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وَأَنَا يَوْمَئِذٍ حَدِيثُ السِّنِّ: " أَرَأَيْتِ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا [٢ ١٥٨]، فَمَا عَلَى الرَّجُلِ شَيْءٌ أَلَّا يَطَّوَّفَ بِهِمَا؟ فَقَالَتْ عَائِشَةُ: كَلَّا ; لَوْ كَانَ كَمَا تَقُولُ لَكَانَتْ: فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَلَّا يَطَّوَّفَ بِهِمَا.
فَانْظُرْ رَحِمَكَ اللَّهُ وَإِيَّايَ، فِيمَ يُفَكِّرُ حَدِيثُ السِّنِّ، وَكَيْفَ يَسْتَشْكِلُ مَعَانِيَ الْقُرْآنِ، فَمِثْلُهُ لَا يُوجَدُ عِنْدَهُ فَرَاغٌ.
تَنْبِيهٌ.
فَقِيلَ: فِي الدُّعَاءِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الصَّلَاةِ.
وَقِيلَ: فِي النَّافِلَةِ مِنَ الْفَرِيضَةِ، وَالَّذِي يَشْهَدُ لَهُ الْقُرْآنُ، أَنَّهُ تَوْجِيهٌ عَامُّ لِلْأَخْذِ بِحَظِّ الْآخِرَةِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ عَمَلِ الدُّنْيَا، كَمَا فِي مِثْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا، وَقَوْلِهِ: إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا [٧٣ ٦]، أَيْ لِأَنَّهَا وَقْتُ الْفَرَاغِ مِنْ عَمَلِ النَّهَارِ وَفِي سُكُونِ اللَّيْلِ، وَقَوْلِهِ: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا [١١٠ ١ - ٣]، فَيَكُونُ وَقْتُهُ كُلُّهُ مَشْغُولًا، إِمَّا لِلدُّنْيَا وَإِمَّا لِلدِّينِ.
وَفِي قَوْلِهِ فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ، حَلٌّ لِمُشْكِلَةِ الْفَرَاغِ الَّتِي شَغَلَتِ الْعَالَمَ حَيْثُ لَمْ تَتْرُكْ لِلْمُسْلِمِ فَرَاغًا فِي وَقْتِهِ ; لِأَنَّهُ إِمَّا فِي عَمَلٍ لِلدُّنْيَا، وَإِمَّا فِي عَمَلٍ لِلْآخِرَةِ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " أَنَّهُ مَرَّ عَلَى رَجُلَيْنِ يَتَصَارَعَانِ، فَقَالَ لَهُمَا: مَا بِهَذَا أُمِرْنَا بَعْدَ فَرَاغِنَا ".
وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: " إِنِّي لَأَكْرَهُ لِأَحَدِكُمْ أَنْ يَكُونَ خَالِيًا سَبَهْلَلًا، لَا فِي عَمَلِ دُنْيَا وَلَا دِينٍ " وَلِهَذَا لَمْ يَشْكُ الصَّدْرُ الْأَوَّلُ فَرَاغًا فِي الْوَقْتِ.
وَمِمَّا يُشِيرُ إِلَى وَضْعِ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ، مَا رَوَاهُ مَالِكٌ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ: قُلْتُ لِعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وَأَنَا يَوْمَئِذٍ حَدِيثُ السِّنِّ: " أَرَأَيْتِ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا [٢ ١٥٨]، فَمَا عَلَى الرَّجُلِ شَيْءٌ أَلَّا يَطَّوَّفَ بِهِمَا؟ فَقَالَتْ عَائِشَةُ: كَلَّا ; لَوْ كَانَ كَمَا تَقُولُ لَكَانَتْ: فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَلَّا يَطَّوَّفَ بِهِمَا.
فَانْظُرْ رَحِمَكَ اللَّهُ وَإِيَّايَ، فِيمَ يُفَكِّرُ حَدِيثُ السِّنِّ، وَكَيْفَ يَسْتَشْكِلُ مَعَانِيَ الْقُرْآنِ، فَمِثْلُهُ لَا يُوجَدُ عِنْدَهُ فَرَاغٌ.
تَنْبِيهٌ.
579
ذَكَرَ الْأَلُوسِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَانْصَبْ قِرَاءَةً شَاذَّةً بِكَسْرِ الصَّادِ، وَأَخَذَهَا الشِّيعَةُ عَلَى الْفَرَاغِ مِنَ النُّبُوَّةِ، وَنَصْبِ عَلِيٍّ إِمَامًا، وَقَالَ: لَيْسَ الْأَمْرُ مُتَعَيِّنًا بِعَلِيٍّ ; فَالسُّنِّيُّ يُمْكِنُ أَنْ يَقُولَ: فَانْصَبْ أَبَا بَكْرٍ، فَإِنِ احْتَجَّ الشِّيعِيُّ بِمَا كَانَ فِي غَدِيرِ خُمٍّ، احْتَجَّ السُّنِّيُّ ; بِأَنَّ وَقْتَهُ لَمْ يَكُنْ وَقْتَ الْفَرَاغِ مِنَ النُّبُوَّةِ.
بَلَى إِنَّ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ " كَانَ بَعْدَهُ، وَفِي قُرْبِ فَرَاغِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ النُّبُوَّةِ، إِذْ كَانَ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ.
فَإِنِ احْتَجَّ الشِّيعِيُّ بِالْفَرَاغِ مِنْ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، رَدَّهُ السُّنِّيُّ بِأَنَّ الْآيَةَ قَبْلَ ذَلِكَ، انْتَهَى.
وَعَلَى كُلٍّ إِذَا كَانَ الشِّيعَةُ يَحْتَجُّونَ بِهَا، فَيَكْفِي لِرَدِّ احْتِجَاجِهِمْ أَنَّهَا شَاذَّةٌ، وَتَتَبُّعُ الشَّوَاذِّ قَرِيبٌ مِنَ التَّأْوِيلِ الْمُسَمَّى بِاللَّعِبِ عِنْدَ عُلَمَاءِ التَّفْسِيرِ، وَهُوَ صَرْفُ اللَّفْظِ عَنْ ظَاهِرِهِ، لَا لِقَرِينَةٍ صَارِفَةٍ وَلَا عَلَاقَةٍ رَابِطَةٍ.
وَمِنَ اللَّعِبِ فِي التَّأْوِيلِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ الْعَوَامِّ: رَأَيْتُ رَجُلًا عَامِّيًّا عَادِيًّا، قَدْ لَبِسَ حُلَّةً كَامِلَةً مِنْ: عِمَامَةٍ، وَثَوْبٍ صَقِيلٍ، وَحِزَامٍ جَمِيلٍ مِمَّا يُسَمُّونَهُ نَصْبَةً، أَيْ: بَدْلَةً كَامِلَةً، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: مَا هَذِهِ النَّصْبَةُ يَا فُلَانُ؟ فَقَالَ لَهُ: لَمَّا فَرَغْتُ مِنْ عَمَلِي نَصَبْتُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ.
كَمَا سَمِعْتُ آخَرَ يَتَوَجَّعُ لِقِلَّةِ مَا فِي يَدِهِ، وَيَقُولُ لِزَمِيلِهِ: أَلَا تَعْرِفُ لِي شَخْصًا أَنْصُبُ عَلَيْهِ، أَيْ: آخُذُ قَرْضَةً مِنْهُ، فَقُلْتُ لَهُ: وَلِمَ تَنْصُبُ عَلَيْهِ؟ وَالنَّصْبُ كَذِبٌ وَحَرَامٌ. فَقَالَ: إِذَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَ الْإِنْسَانِ شَيْءٌ، وَيَدُهُ خَالِيَةٌ فَلَا بَأْسَ ; لِأَنَّ اللَّهَ قَالَ: فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ، وَهَذَا وَأَمْثَالُهُ مِمَّا يَتَجَرَّأُ عَلَيْهِ الْعَامَّةُ لِجَهْلِهِمْ، أَوْ أَصْحَابُ الْأَهْوَاءِ لِنِحَلِهِمْ.
التقديم هنا مشعر بالتخصيص وهو كقوله تعالى ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ [١/٥]، أي لا نعبد غيرك، وهكذا هنا لا ترغب إلى غيره سبحانه، كأنه يقول: الذي أنعم عليك بكل ما تقدم، هو الذي ترغب فيما عنده لا سواه.
بَلَى إِنَّ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ " كَانَ بَعْدَهُ، وَفِي قُرْبِ فَرَاغِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ النُّبُوَّةِ، إِذْ كَانَ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ.
فَإِنِ احْتَجَّ الشِّيعِيُّ بِالْفَرَاغِ مِنْ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، رَدَّهُ السُّنِّيُّ بِأَنَّ الْآيَةَ قَبْلَ ذَلِكَ، انْتَهَى.
وَعَلَى كُلٍّ إِذَا كَانَ الشِّيعَةُ يَحْتَجُّونَ بِهَا، فَيَكْفِي لِرَدِّ احْتِجَاجِهِمْ أَنَّهَا شَاذَّةٌ، وَتَتَبُّعُ الشَّوَاذِّ قَرِيبٌ مِنَ التَّأْوِيلِ الْمُسَمَّى بِاللَّعِبِ عِنْدَ عُلَمَاءِ التَّفْسِيرِ، وَهُوَ صَرْفُ اللَّفْظِ عَنْ ظَاهِرِهِ، لَا لِقَرِينَةٍ صَارِفَةٍ وَلَا عَلَاقَةٍ رَابِطَةٍ.
وَمِنَ اللَّعِبِ فِي التَّأْوِيلِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ الْعَوَامِّ: رَأَيْتُ رَجُلًا عَامِّيًّا عَادِيًّا، قَدْ لَبِسَ حُلَّةً كَامِلَةً مِنْ: عِمَامَةٍ، وَثَوْبٍ صَقِيلٍ، وَحِزَامٍ جَمِيلٍ مِمَّا يُسَمُّونَهُ نَصْبَةً، أَيْ: بَدْلَةً كَامِلَةً، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: مَا هَذِهِ النَّصْبَةُ يَا فُلَانُ؟ فَقَالَ لَهُ: لَمَّا فَرَغْتُ مِنْ عَمَلِي نَصَبْتُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ.
كَمَا سَمِعْتُ آخَرَ يَتَوَجَّعُ لِقِلَّةِ مَا فِي يَدِهِ، وَيَقُولُ لِزَمِيلِهِ: أَلَا تَعْرِفُ لِي شَخْصًا أَنْصُبُ عَلَيْهِ، أَيْ: آخُذُ قَرْضَةً مِنْهُ، فَقُلْتُ لَهُ: وَلِمَ تَنْصُبُ عَلَيْهِ؟ وَالنَّصْبُ كَذِبٌ وَحَرَامٌ. فَقَالَ: إِذَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَ الْإِنْسَانِ شَيْءٌ، وَيَدُهُ خَالِيَةٌ فَلَا بَأْسَ ; لِأَنَّ اللَّهَ قَالَ: فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ، وَهَذَا وَأَمْثَالُهُ مِمَّا يَتَجَرَّأُ عَلَيْهِ الْعَامَّةُ لِجَهْلِهِمْ، أَوْ أَصْحَابُ الْأَهْوَاءِ لِنِحَلِهِمْ.
التقديم هنا مشعر بالتخصيص وهو كقوله تعالى ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ [١/٥]، أي لا نعبد غيرك، وهكذا هنا لا ترغب إلى غيره سبحانه، كأنه يقول: الذي أنعم عليك بكل ما تقدم، هو الذي ترغب فيما عنده لا سواه.
580