تفسير سورة الفاتحة

التفسير الوسيط لطنطاوي
تفسير سورة سورة الفاتحة من كتاب التفسير الوسيط المعروف بـالتفسير الوسيط لطنطاوي .
لمؤلفه محمد سيد طنطاوي . المتوفي سنة 1431 هـ
المجلد الأول

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا هو، وحده لا شريك له، ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله رحمة للعالمين، وأنزل عليه كتاباً لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه الذين آمنوا به وعزروه ونصروه، واتبعوا النور الذي أنزل معه، أولئك هم المفلحون.
وبعد : فإن القرآن الكريم هو كتاب الله الذي أنزله على قلب نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، ولينقذهم من الكفر والظلم والفجور. [ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ العَزِيزِ الحَمِيدِ ]( ١ ).
وقد أنزل الله –تعالى- هذا القرآن على قلب نبيه صلى الله عليه وسلم، لمقاصد عالية، وحكم سامية، وأغراض شريفة...
من أهمها أن يكون هذا القرآن هداية للإنس وللجن في كل زمان ومكان إلى الصراط المستقيم، وإلى السعادة التي تصبو إليها النفوس، وتتطلع إليها الأفئدة والقلوب...
وقد أودع –تعالى- في هذا الكتاب من العقائد السليمة، والعبادات القويمة، والأحكام الجليلة، والآداب الفاضلة، والعظات البليغة، والتوجيهات الحكيمة... ما به قوام الملة الكاملة، والأمة الفاضلة، والجماعة الراشدة، والفرد السليم في عقيدته وسلوكه وفي كل شئونه.
فكان هذا الكتاب أفضل الكتب السماوية، وأوفاها بحاجة البشرية، وأجمعها للخير، وأبقاها على الدهر، وأعمها وأتمها وأصحها في هدايته الناس إلى ما يصلحهم في معاشهم ومعادهم.
قال –تعالى- [ إِنَّ هَذَا القُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ المُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً ]( ٢ ).
وقال تعالى :[ لَقَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ. يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنْ اتَّبع رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ، وَيُخْرِجُهُم مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ، وَيَهْدِيهم إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم ]( ٣ ).
وقال –تعالى- [ قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الجِنِّ، فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً. يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَأَمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً ]( ٤ ).
كذلك من أهم المقاصد التي من أجلها أنزل الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم هذا القرآن، أن يكون هذا القرآن معجزة ناطقة في فم الدنيا بصدقه فيما يبلغه عن ربه.
ولقد جاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى الناس فدعاهم إلى وحدانية الله، وإلى مكارم الأخلاق، وقال لهم : معجزتي الدالة على صدقي هذا القرآن، فإن كنتم في شك من ذلك فأتوا بمثله فعجزوا، فأرخى لهم العنان وتحداهم بأن يأتوا بعشر سور من مثله فما استطاعوا، فزاد في إرخاء العنان لهم –وهم أرباب البلاغة والبيان- وتحداهم بأن يأتوا بسورة واحدة من مثله، فأخرسوا وانقلبوا صاغرين. فثبت أن هذا القرآن من عند الله، ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً.
قال الله تعالى- :[ وَإِنْ كُنْتُم فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِه، وادْعُوا شُهَدَاءَكُم مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِين. فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِين ]( ٥ ).
كذلك من أهم المقاصد التي من أجلها أنزل الله هذا القرآن على قلب نبيه صلى الله عليه وسلم أن يتقرب الناس به إلى خالقهم عن طريق تلاوته، وحفظه، وتدبره، والعمل بتشريعاته وآدابه وتوجيهاته...
ولقد تكلم الإمام القرطبي بإسهاب في مقدمة تفسيره عن فضائل القرآن، والترغيب فيه، وفضل طالبه، وقارئه، ومستمعه، والعامل به، وكيفية تلاوته... فقال ما ملخصه :
اعلم أن هذا الباب واسع كبير. ألف فيه العلماء كتباً كثيرة، نذكر من ذلك نكتا تدل على فضله، وما أعد الله لأهله إذا أخلصوا الطلب لوجهه، وعملوا به. فأول ذلك أن يستشعر المؤمن من فضل القرآن أنه كلام رب العالمين. كلام من ليس كمثله شيء...
ومن الآثار التي جاءت في هذا الباب ما أخرجه الترمذي عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الله تعالى : " من شغله القرآن وذكري عن مسألتي، أعطيته أفضل ما أعطي السائلين... ".
وعن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن هذا القرآن مأدبة الله، فتعلموا من مأدبته ما استطعتم... ".
وروى البخاري عن عثمان بن عفان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " خيركم من تعلم القرآن وعلمه "، وروى مسلم عن أبي موسى الأشعري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأترجة( ٦ ) ريحها طيب وطعمها طيب. ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة لا ريح لها وطعمها حلو. ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة ريحها طيب وطعمها مر. ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة لا ريح لها وطعمها مر ".
وروى مسلم عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه –أي يقرؤه بصعوبة- وهو عليه شاق له أجران ".
وروى الترمذي عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من قرأ حرفاً من كتاب الله فله بكل حرف حسنة، والحسنة بعشر أمثالها. لا أقول الَم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف " ( ٧ ).
هذا جانب من الأحاديث الشريفة التي أوردها القرطبي، وهو يتحدث عن فضائل القرآن، والترغيب فيه... الخ.
ولقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم : أمته تحذيراً شديداً من نسيان القرآن، فقد روى الشيخان عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " تعاهدوا القرآن ؛ فو الذي نفسي بيده لهو أشد تفصياً –أي : تفلتا- من الإبل في عُقُلِها ".
وروى الترمذي وأبو داود عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " عرضت علي ذنوب أمتي فلم أر ذنباً أعظم من سورة من القرآن أو آية أوتيها رجها ثم نسيها ".
هذه أهم المقاصد والحكم التي من أجلها أنزل الله –تعالى- القرآن على نبيه صلى الله عليه وسلم : أن يكون هداية للناس، وأن يكون معجزة خالدة باقية شاهدة بصدق الرسول صلى الله عليه وسلم : فيما يبلغه عن ربه، وأن يتقرب الناس بقراءته والعمل به إلى خالقهم –عز وجل- ولقد تكفل الله –تعالى- بحفظ هذا القرآن، وصانه من التحريف والتبديل، والتغيير والمعارضة. قال –تعالى- :[ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُون ]( ٨ ).
وكان من مظاهر عنايته –سبحانه- بكتابه، أن جعله محفوظاً في كل العصور بالتواتر الصادق القاطع، يرويه الخلف عن السلف بالكيفية المروية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن وفق له في كل عصر حفاظاً متقنين جمعوه في صدورهم، وعمروا به ليلهم ونهارهم...
وأن قيض لهم رجالا قضوا معظم أيام حياتهم في خدمته ودراسة علومه، فمنهم من كتب في إعجازه وبلاغته، ومنهم من كتب في قصصه وأخباره، ومنهم من كتب في أسباب نزوله، ومنهم من كتب في قراءاته ورسمه، ومنهم من كتب في محكمه ومتشابهه، ومنهم من كتب في ناسخه ومنسوخه، ومنهم من كتب في مكيه ومدنيه، ومنهم من كتب في غريب ألفاظه..... إلى غير ذلك من ألوان علومه.
وكثير منهم كتبوا في تفسيره. وتوضيح معانيه ومقاصده وألفاظه، وذلك لأن سعادة الأفراد والأمم لا تتأتى إلا عن طريق الاسترشاد بتعاليم القرآن وتوجيهاته، وهذا الاسترشاد لا يتحقق إلا عن طريق الكشف والبيان، لما تدل عليه ألفاظ القرآن. وهو ما يسمى بعلم التفسير.
فتفسير القرآن هو المفتاح الذي يكشف عن تلك الهدايات السامية، والتوجيهات النافعة، والعظات الشافية والكنوز الثمينة التي احتواها هذا الكتاب الكريم.
وبدون تفسير القرآن، تفسيراً علمياً سليماً لا يمكن الوصول إلى ما اشتمل عليه هذا الكتاب من هدايات وتوجيهات، مهما قرأه القارئون وردد ألفاظه المرددون.
قال إياس بن معاوية : مثل الذين يقرءون القرآن وهم لا يعلمون تفسيره، كمثل قوم جاءهم كتاب من مليكهم ليلا، وليس عندهم مصباح، فتداخلتهم روعة ولا يدرون ما في الكتاب. ومثل الذي يعرف التفسير كمثل رجل جاءهم بمصباح فقرأوا ما في الكتاب " ( ٩ ).
ولقد أفاض الإمام ابن كثير في بيان هذا المعنى " وفي بيان أحسن طرق التفسير فقال : " فالواجب على العلماء الكشف عن معاني كلام الله، وتفسير ذلك، وطلبه من مظانه، وتعلم ذلك وتعليمه....
فإن قال قائل : فما أحسن طرق التفسير ؟ فالجواب : إن أصح الطريق في ذلك أن يفسر القرآن بالقرآن فما أجمل في مكان فإنه قد بسط في موضع آخر، فإن أعياك ذلك عليك بالسنة فإنها شارحة للقرآن وموضحة له.... وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه ". يعني السنة....
والغرض أنك تطلب تفسير القرآن منه، فإن لم تجده فمن السنة.... فإن لم تجده فمن أقوال الصحابة، فإنهم أدرى بذلك لما شاهدوا من القرائن والأحوال التي اختصوا بها ولما لهم من الفهم التام والعلم الصحيح والعمل الصالح، لاسيما علماؤهم وكبراؤهم كالخلفاء الراشدين، والأئمة المهتدين المهديين... قال عبد الله بن مسعود : والذي لا إله غيره، ما نزلت آية من كتاب الله إلا وأنا أعلم فيمن نزلت وأين نزلت. ولو أعلم أحداً أعلم بكتاب الله مني تناله المطايا لأتيته ". وقال : كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهن ".
وقال أبو عبد الرحمن السلمي : " حدثنا الذين كانوا يقرئوننا أنهم كانوا يستقرئون من النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا إذا تعلموا عشر آيات لم يخلفوها حتى يعملوا بما فيها من العمل، فتعلمنا القرآن والعمل جميعاً "....
فإذا لم تجد التفسير في القرآن ولا في السنة ولا وجدته عن الصحابة، فقد رجع كثير من الأئمة في ذلك إلى أقوال التابعين كمجاهد بن جبر، وسعيد ابن جبير. وعكرمة مولى ابن عباس، وعطاء بن أبي رباح، والحسن البصري وغيرهم " ( ١٠ ).
هذا، وأنت إذا سرحت طرفك في المكتبة الإسلامية ترى العشرات من كتب التفسير، منها القديم والحديث، وترى منها الكبير والوسيط والوجيز، وترى منها ما يغلب عليه طابع التفسير بالمأثور، وترى ما يغلب عليه طابع التفسير بالرأي، وترى منها ما تغلب عليه الصبغة الفقهية، أو البلاغية، أو الفلسفية، أو الصوفية، أو العلمية، أو الاجتماعية، أوالطائفية.... أو غير ذلك من الاتجاهات والميول التي تختلف باختلاف أفكار الكاتبين وثقافتهم ومذهبهم...
وترى منها المحرر أو شبه المحرر من الخرافات، والأقوال السقيمة، والقصص الباطلة... كما
١ - سورة إبراهيم: الآية ١..
٢ - سورة الإسراء. الآية ٩..
٣ - سورة المائدة: الآيتان ١٥، ١٦..
٤ - سورة الجن: الآيتان ١، ٢..
٥ - سورة البقرة: الآيتان ٢٣، ٢٤..
٦ - الأترجة: ثمرة حلوة الطعم، طيبة الرائحة، جميلة اللون، تشبه التفاحة..
٧ - تفسير القرطبي: ج١ ص٤ وما بعدها..
٨ - سورة الحجر. الآية ٩..
٩ - تفسير القرطبي ج١ ص٢٦..
١٠ - تفسير ابن كثير ج١ ص٤ وما بعدها –بتصرف وتلخيص-..
سورة الفاتحة
[سورة الفاتحة (١) : الآيات ١ الى ٧]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (١)
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٢) الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٣) مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (٤) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (٥)
اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (٦) صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ (٧)
سورة الفاتحة هي السورة الوحيدة التي أمر الإسلام أتباعه أن يقرءوها في كل صلاة. وفي جميع الركعات، وفي كل الأوقات، ولهذا أصبح حفظها ميسورا لكل مؤمن.
وهذه السورة على صغر حجمها، وقلة آياتها، قد اشتملت بوجه إجمالى على مقاصد الدين من توحيد، وتعبد، وأحكام، ووعد ووعيد.
ونرى من الخير قبل أن نبدأ في تفسيرها بالتفصيل، أن نمهد لذلك بالكلام عما يأتى:
أولا: متى نزلت سورة الفاتحة؟
للإجابة على هذا السؤال نقول: إن الرأى الراجح بين المحققين من العلماء أنها نزلت بمكة، بل هي من أوائل ما نزل من القرآن بمكة.
وقيل: إنها مدنية. وقيل: إنها نزلت مرتين مرة بمكة حين فرضت الصلاة ومرة بالمدينة حين حولت القبلة.
قال القرطبي: الأول أصح لقوله- تعالى- في سورة الحجر: وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ وسورة الحجر مكية بالإجماع. ولا خلاف في أن فرض الصلاة كان بمكة، وما حفظ أنه لم يكن في الإسلام قط صلاة بغير الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ «يدل على ذلك قوله
11
صلّى الله عليه وسلّم: «لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب». وهذا خبر عن الحكم لا عن الابتداء» «١».
ثانيا: عدد آياتها: وهي سبع آيات لقوله- تعالى-: وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ. قال العلماء: السبع المثاني هي الفاتحة.
وقال ابن كثير: هي سبع آيات بلا خلاف. وقال عمرو بن عبيد: هي ثماني آيات لأنه جعل إِيَّاكَ نَعْبُدُ آية. وقال حسين الجعفي: هي ست آيات وهذان القولان شاذان» «٢».
ثالثا: اسماؤها: لسورة الفاتحة أسماء كثيرة من أشهرها:
١- «الفاتحة أو فاتحة الكتاب، وسميت بذلك لأنه تفتتح قراءة القرآن بها لفظا. وتفتتح بها الكتابة في المصحف خطا، وتفتتح بها الصلوات، وإن لم تكن هي أول ما نزل من القرآن. وقد اشتهرت بهذا الاسم في أيام النبوة.
وقد أصبح هذا الاسم علما بالغلبة لتلك الطائفة من الآيات التي مبدؤها الْحَمْدُ لِلَّهِ..
ونهايتها.. وَلَا الضَّالِّينَ.
٢- «أم القرآن أو الكتاب»
وسميت بذلك لاشتمالها إجمالا على المقاصد التي ذكرت فيه تفصيلا، أو لاشتمالها على ما فيه من الثناء على الله بما هو أهله، والتعبد بأمره ونهيه، وبيان وعده ووعيده، أو على جملة معانيه من الحكم النظرية، والأحكام العملية التي هي سلوك الصراط المستقيم، والاطلاع على معارج السعداء ومنازل الأشقياء.
قال ابن جرير: «والعرب تسمى كل أمر جامع أمّا، وكل مقدم له توابع تتبعه «أما» فتقول للجلدة التي تجمع الدماغ: «أم الرأس». وتسمى لواء الجيش ورايتهم التي يجتمعون تحتها «أما» «٣».
٣- «السبع المثاني» جمع مثنى كفعلى اسم مكان. أو مثنى- بالتشديد- من التثنية على غير قياس. وسميت بذلك لأنها سبع آيات في الصلاة، أى تكرر فيها أخرج الإمام أحمد، عن أبى هريرة، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «هي أم القرآن، وهي السبع المثاني، وهي القرآن العظيم» «٤».
٤- وتسمى- أيضا- سورة «الحمد». ٥- و «الكنز». ٦- و «الواقية».
(١) تفسير القرطبي. ج ١ ص ١١٥ طبعة دار الكاتب العربي.
(٢) تفسير ابن كثير ج ١ ص ٨ طبعه عيسى الحلبي.
(٣) تفسير ابن جرير ج ١ ص ١٠٧ طبعة دار المعارف. [.....]
(٤) تفسير ابن كثير ج ١ ص ٩.
12
٧- و «الشفاء»، لحديث. هي الشفاء من كل داء.
٨- و «الكافية» لأنها تكفى عن سواها ولا يكفى سواها عنها.
٩- و «الأساس». ١٠- و «الرقية».
هذا، وقد ذكر القرطبي للفاتحة اثنى عشر اسما، كما ذكر السيوطي لها في كتابه «الإتقان» خمسة وعشرين اسما.
رابعا: فضلها: ورد في فضل سورة الفاتحة أحاديث كثيرة منها:
ما رواه البخاري في صحيحه عن أبى سعيد بن المعلى- رضي الله عنه- قال:
كنت أصلى في المسجد، فدعاني النبي صلّى الله عليه وسلّم فلم أجبه فقلت: يا رسول الله، إنى كنت أصلّى.
فقال: ألم يقل الله: اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ.
ثم قال لي: «لأعلمنك سورة هي أعظم السور في القرآن قبل أن تخرج من المسجد». ثم أخذ بيدي، فلما أراد أن يخرج، قلت: يا رسول الله. ألم تقل: لأعلمنك سورة هي أعظم سورة في القرآن. قال: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ، هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته» «١».
وروى مسلّم والنسائي، عن ابن عباس، قال:
بينما جبريل قاعد عند النبي صلّى الله عليه وسلّم سمع نقيضا من فوقه- أى: صوتا- فرفع رأسه فقال:
هذا باب من السماء فتح اليوم لم يفتح قط إلا اليوم. فسلّم وقال: أبشر بنورين قد أوتيتهما، ولم يؤتهما نبي قبلك: فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة، لم تقرأ بحرف منهما إلا أعطيته» «٢».
وروى مسلّم عن أبى هريرة- رضي الله عنه- عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال:
«من صلّى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج (ثلاثا) : غير تمام» فقيل لأبى هريرة: إنا نكون وراء الإمام؟ فقال: اقرأ بها في نفسك فإنى سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: قال الله- تعالى-: «قسمت الصلاة بيني وبين عبدى نصفين، ولعبدي ما سأل»، فإذا قال العبد:
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ. قال الله: حمدنى عبدى، وإذا قال: الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. قال الله تعالى: أثنى على عبدى. وإذا قال: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ قال الله: مجدنى عبدى. فإذا قال:
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ. قال الله: هذا بيني وبين عبدى ولعبدي ما سأل. فإذا قال:
(١) صحيح البخاري. كتاب التفسير. باب ما جاء في فاتحة الكتاب ج ٦ ص ٢١.
(٢) أخرجه مسلّم في كتاب: صلاة المسافرين وقصرها ج ٢ ص ١٩٨.
13
اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ. صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ.
قال الله: «هذا لعبدي ولعبدي ما سأل» «١».
وأخرج الإمام أحمد في مسنده، عن عبد الله بن جابر، أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال له: ألا أخبرك بأخير سورة في القرآن؟ قلت: بلى يا رسول الله. قال: اقرأ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ حتى تختمها «٢».
تلك هي بعض الأحاديث التي وردت في فضل هذه السورة الكريمة.
وقد ذكر العلماء أنه يسن للمسلّم قبل القراءة أن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، استجابة لقوله- تعالى- فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ «٣».
ومعنى «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم» : ألتجئ إلى الله وأتحصن به، واستجير بجنابه من الشيطان الرجيم أن يضرني في ديني أو دنياى.
قال ابن كثير: «والشيطان في لغة العرب كل متمرد من الجن والإنس والدواب وكل شيء.
وهو مشتق من شطن إذا بعد، فهو بعيد بطبعه عن طباع الشر، وبعيد بفسقه عن كل خير.
وقيل: مشتق من شاط لأنه مخلوق من نار. والأول أصح إذ عليه يدل كلام العرب، فهم:
يقولون تشيطن فلان إذا فعل أفعال الشيطان، ولو كان من شاط. لقالوا: تشيط، فالشيطان مشتق من البعد على الصحيح»
«٤».
والرجيم: فعيل بمعنى مفعول أى أنه مرجوم مطرود من رحمة الله ومن كل خير، وقيل:
رجيم بمعنى راجم لأنه يرجم الناس بالوساوس والشكوك.
قال بعض العلماء: «وإنما خصت القراءة بطلب الاستعاذة مع أنه قد أمر بها على وجه العموم في جميع الشئون، لأن القرآن مصدر الهداية والشيطان مصدر الضلال، فهو يقف للإنسان بالمرصاد في هذا الشأن على وجه خاص، فيثير أمامه ألوانا من الشكوك فيما يقرأ، وفيما يفيد من قراءته، وفيما يقصد بها، فيفوت عليه الانتفاع بهدى الله وآياته، فعلمنا الله أن نتقي ذلك كله بهذه الاستعاذة التي هي في الواقع عنوان صدق، وتعبير حق، عن امتلاء قلب المؤمن بمعنى اللجوء إلى الله، وقوة عزيمته في طرد الوساوس والشكوك، واستقبال الهداية بقلب طاهر،
(١) أخرجه مسلّم في كتاب الصلاة ج ٢ ص ٩.
(٢) تفسير ابن كثير ج ١ ص ١٠.
(٣) سورة النحل الآية ٩٨.
(٤) تفسير ابن كثير ج ١ ص ١٤.
14
وعقل واع، وإيمان ثابت» «١».
قال القرطبي: وقد أجمع العلماء على أن التعوذ ليس من القرآن ولا آية منه، وهو قول القارئ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم «٢».
والآن وبعد هذا التمهيد الموجز الذي تكلمنا فيه عن نزول سورة الفاتحة، وعن عدد آياتها، وعن أشهر أسمائها، وعن بعض الأحاديث التي وردت في فضلها نحب أن نبدأ في تفسير السورة الكريمة فنقول- وبالله التوفيق-:
«بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» الاسم: اللفظ الذي يدل على ذات أو معنى. وقد اختلف النحويون في اشتقاقه على وجهين، فقال البصريون: هو مشتق من السمو، وهو العلو والرفعة، فقيل: اسم، لأن صاحبه بمنزلة المرتفع به.
وقال الكوفيون: إنه مشتق من السمة وهي العلامة، لأن الاسم علامة لمن وضع له، فأصل اسم على هذا «وسم».
ويرى المحققون أن رأى البصريين أرجح، لأنه يقال في تصغير «اسم» سمى، وفي جمعه أسماء، والتصغير والجمع يردان الأشياء إلى أصولها. ولو كان أصله وسم- كما قال الكوفيون- لقيل في جمعه: أوسام، وفي تصغيره وسيم.
ولفظ الجلالة وهو «الله» علم على ذات الخالق- عز وجل- تفرد به- سبحانه- ولا يطلق على غيره، ولا يشاركه فيه أحد.
قال القرطبي: قوله «الله» هذا الاسم أكبر أسمائه- سبحانه- وأجمعها حتى قال بعض العلماء: إنه اسم الله الأعظم ولم يتسم به غيره، ولذلك لم يثن ولم يجمع: فالله اسم للموجود الحق الجامع لصفات الإلهية، المنعوت بنعوت الربوبية، المنفرد بالوجود الحقيقي، لا إله إلا هو- سبحانه-».
والرَّحْمنِ الرَّحِيمِ صفتان مشتقتان من الرحمة. والرحمة في أصل اللغة: رقة في القلب تقتضي الإحسان، وهذا المعنى لا يليق أن يكون وصفا لله- تعالى- ولذا فسرها بعض العلماء بإرادة الإحسان. وفسرها آخرون بالإحسان نفسه.
(١) تفسير القرآن الكريم ص ١٦ لفضيلة الإمام الأكبر المرحوم محمود شلتوت.
(٢) تفسير القرطبي ج ١ ص ٨٦.
(٣) تفسير القرطبي ج ١ ص ١٠٢.
15
والموافق لمذهب السلف أن يقال: هي صفة قائمة بذاته- تعالى- لا نعرف حقيقتها، وإنما نعرف أثرها الذي هو الإحسان.
وقد كثرت أقوال المفسرين في العلاقة بين هاتين الصفتين، فبعضهم يرى أن الرَّحْمنِ هو المنعم على جميع الخلق. وأن الرَّحِيمِ هو المنعم على المؤمنين خاصة. ويرى آخرون أن الرَّحْمنِ هو المنعم بجلائل النعم، وأن الرَّحِيمِ هو المنعم بدقائقها.
ويرى فريق ثالث أن الوصفين بمعنى واحد وأن الثاني منهما تأكيد للأول. والذي يراه المحققون من العلماء أن الصفتين ليستا بمعنى واحد، بل روعي في كل منهما معنى لم يراع في الآخر، فالرحمن بمعنى عظيم الرحمة، لأن فعلان صيغة مبالغة في كثرة الشيء وعظمته، ويلزم منه الدوام كغضبان وسكران. والرحيم بمعنى دائم الرحمة، لأن صيغته فعيل تستعمل في الصفات الدائمة ككريم وظريف. فكأنه قيل: العظيم الرحمة الدائمة «١».
أو أن الرَّحْمنِ صفة ذاتية هي مبدأ الرحمة والإحسان. والرَّحِيمِ صفة فعل تدل على وصول الرحمة والإحسان وتعديهما إلى المنعم عليه.
ولعل مما يؤيد ذلك أن لفظ الرحمن لم يذكر في القرآن إلا مجرى عليه الصفات كما هو الشأن في أسماء الذات. قال- تعالى-: الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ والرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى، قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ، وهكذا...
أما لفظ الرحيم فقد كثر في القرآن استعماله وصفا فعليا، وجاء في الغالب بأسلوب التعدية والتعلق بالمنعم عليه. قال- تعالى- إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ- وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً، إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً إلخ.
قال بعض العلماء «وهذا الرأى في نظرنا هو أقوى الآراء، فإن تخصيص أحد الوصفين بدقائق النعم أو ببعض المنعم عليهم لا دليل عليه، كما أنه ليس مستساغا أن يقال في القرآن:
إن كلمة ذكرت بعد أخرى لمجرد تأكيد المعنى المستفاد منها»
«٢».
والجار والمجرور «بسم» متعلق بمحذوف تقديره ابتدئ.
والمعنى: ابتدئ قراءتي متبركا ومتيمنا باسم الله الذي هو الأول والآخر، والظاهر والباطن، والذي رحمته وسعت كل شيء، وأتبرأ مما كان يفعله المشركون والضالون، من ابتدائهم قراءتهم وأفعالهم باسم اللات أو باسم العزى أو باسم غيرهما من الآلهة الباطلة.
(١) تفسير سورة الفاتحة لفضيلة المرحوم الشيخ محمد الخضر حسين. مجلة لواء الإسلام العدد الأول من السنة الأولى ص ٨.
(٢) تفسير القرآن العظيم ص ٢٤ لفضيلة المرحوم الشيخ محمود شلتوت.
16
هذا وقد أجمع العلماء على أن البسملة جزء آية من سورة النمل في قوله- تعالى- إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ.
ثم اختلفوا بعد ذلك في كونها آية مستقلة أنزلت للفصل بين السور مرة واحدة، أو هي آية من سورة الفاتحة ومن كل سورة إلخ.
فبعضهم يرى أن البسملة آية من الفاتحة ومن كل سورة، ومن حججهم أن السلف قد أثبتوها في المصحف مع الأمر بتجريد القرآن مما ليس منه، ولذا لم يكتبوا «آمين». فثبت بهذا أن البسملة جزء من الفاتحة ومن كل سورة.
وبهذا الرأى قال ابن عباس وابن عمر وأبو هريرة وسعيد بن جبير والشافعى، وأحمد في أحد قوليه.
ويرى آخرون أن البسملة ليست آية من الفاتحة ولا من غيرها من السور، وقالوا: إنها آية فذة «١». من القرآن أنزلت للفصل والتبرك للابتداء بها، ومن حججهم أنها لو كانت آية من الفاتحة ومن كل سورة، لما اختلف الناس في ذلك، ولما اضطربت أقوالهم في كونها آية من كل سورة أو من الفاتحة فقط.
وكما وقع الخلاف بين العلماء في كونها آية مستقلة أو آية من كل سورة، فقد وقع الخلاف بينهم- أيضا- في وجوب قراءتها في الصلاة، وفي الجهر بها أو الإسرار إذا قرئت.
وتحقيق القول في ذلك مرجعه إلى كتب الفقه، وإلى كتب التفسير التي عنيت بتفسير آيات الأحكام.
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ. الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ هو الثناء باللسان على الجميل الصادر عن اختيار من نعمة أو غيرها.
رَبِّ الْعالَمِينَ أى: مالكهم، إذ الرب مصدر «ربه يربه» إذا تعاهده بالتربية حتى يبلغ به شيئا فشيئا درجة الكمال. وهو اسم من أسماء الله- تعالى- ولا يطلق على غيره إلا مقيدا فيقال: رب الدار، ورب الضيعة أى: صاحبها ومالكها.
والعالمين: جمع عالم، وهو كل موجود سوى الله- تعالى- قال القرطبي: «وهو مأخوذ من العلم والعلامة لأنه يدل على موجده» وقيل: المراد بالعالمين أولو العلم من الإنس والجن والملائكة.
(١) فذة: مفردة مستقلة.
17
وقد افتتحت سورة الفاتحة بهذه الجملة الكريمة الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ لأنه سبحانه أول كل شيء وآخر كل شيء، ولكي يعلمنا- سبحانه- أن نبدأ كتبنا وخطبنا بالحمد والثناء عليه، حتى نبدأ ونحن في صلة بالله تكشف عن النفوس أغشيتها، وتجلو عن القلوب أصداءها.
والمعنى- كما قال ابن جرير- «الشكر خالصا لله- جل ثناؤه- دون سائر ما يعبد من دونه، ودون كل ما برأ من خلقه بما أنعم على عباده من النعم التي لا يحصيها العدد. ولا يحيط بعددها غيره أحد، في تصحيح الآلات لطاعته، وتمكين جوارح أجسام المكلفين لأداء فرائضه، مع ما بسط لهم في دنياهم من الرزق، وغذاهم به من نعيم العيش، عن غير استحقاق لهم عليه، ومع ما نبههم عليه ودعاهم إليه، من الأسباب المؤدية إلى دوام الخلود في دار المقام في النعيم المقيم. لربنا الحمد على ذلك كله أولا وآخرا «١».
فالآية الكريمة قد قررت بصراحة ووضوح ثبوت الثناء المطلق الذي لا يحد لله- تعالى- وإنه ليس لأحد أن ينازعه إياه- سبحانه- هو رب العالمين.
وجملة الْحَمْدُ لِلَّهِ مفيدة لقصر الحمد عليه- سبحانه- نحو قولهم: «الكرم في العرب».
كما أن أل في «الحمد» للاستغراق. أى: أن جميع أجناس الحمد ثابتة لله رب العالمين.
وإنما كان الحمد مقصورا في الحقيقة على الله، لأن كل ما يستحق أن يقابل بالثناء فهو صادر عنه ومرجعه إليه، إذ هو الخالق لكل شيء، وما يقدم إلى بعض الناس من حمد جزاء إحسانهم، فهو في الحقيقة حمد لله، لأنه- سبحانه- هو الذي وفقهم لذلك وأعانهم عليه.
ولم تفتتح السورة بصيغة الأمر بأن يقال: احمدوا الله، وإنما افتتحت بصيغة الخبر الْحَمْدُ لِلَّهِ، لأن الأمر يقتضى التكليف: والتكليف قد تنفر منه النفوس أحيانا، فأراد- سبحانه- وهو يبادئهم بشرعة جديدة وتكاليف لم يعهدوها، أن يؤنس نفوسهم، ويؤلف قلوبهم، فساق لهم الخطاب بصيغة الخبر، ترفقا بهم، حتى يديموا الإصغاء لما سيلقيه عليهم من تكاليف.
وقد تكلم بعض المفسرين عن الحكمة في ابتداء السورة الكريمة بقوله- تعالى- الْحَمْدُ لِلَّهِ، دون قوله- تعالى-: المدح لله، أو: الشكر لله. فقال:
اعلم أن المدح أعم من الحمد، والحمد أعم من الشكر. أما بيان أن المدح أعم من الحمد فلأن المدح يحصل للعاقل وغير العاقل، ألا ترى أنه كما يحسن مدح الرجل العاقل على أنواع فضائله، فكذلك قد يمدح اللؤلؤ لحسن شكله. أما الحمد فإنه لا يحصل إلا للفاعل المختار على ما يصدر منه من الإنعام والإحسان، فثبت أن المدح أعم من الحمد.
(١) تفسير ابن جرير ج ١ ص ١٣٥ طبعة دار المعارف. [.....]
18
وأما بيان أن الحمد أعم من الشكر، فلأن الحمد عبارة عن تعظيم الفاعل لأجل ما صدر عنه من الإنعام. سواء أكان ذلك الإنعام وأصلا إليك أم إلى غيرك. وأما الشكر فهو عبارة عن تعظيمه لأجل إنعام وصل إليك، فثبت بما ذكرنا أن المدح أعم من الحمد، وأن الحمد أعم من الشكر.
إذا عرفت هذا فنقول: إنما لم يقل: المدح لله، لأننا بينا أن المدح كما يحصل للفاعل المختار فقد يحصل لغيره. وأما الحمد فإنه لا يحصل إلا للفاعل المختار. فكان قوله «الحمد لله» تصريحا بأن المؤثر في وجود هذا العالم فاعل مختار خلقه بالقدرة والمشيئة... وإنما لم يقل: الشكر لله، لأننا بينا أن الشكر عبارة عن تعظيمه بسبب إنعام صدر منه ووصل إليك، وهذا يشعر بأن العبد إذا ذكر تعظيمه بسبب ما وصل إليه من النعمة. فحينئذ يكون المطلوب الأصلى له وصول النعمة إليه. وهذه درجة حقيرة. فأما إذا قال «الحمد لله»، فهذا يدل على أن العبد حمده لأجل كونه مستحقا للحمد لا لخصوص أنه- سبحانه- أوصل النعمة إليه، فيكون الإخلاص أكمل، واستغراق القلب في مشاهدة نور الحق أتم، وانقطاعه عما سوى الحق أقوى وأثبت «١».
وقد أجرى- سبحانه- على لفظ الجلالة نعت الربوبية للعالمين، ليكون كالاستدلال على استحقاقه- تعالى- للحمد وحده، وفي ذلك إشعار لعباده بأنهم مكرمون من ربهم، إذ الأمر بغير توجيه فيه إيماء إلى إهمال عقولهم، أما إذا كان موجها ومعللا فإنه يكون فيه إشعار لهم برعاية ناحية العقل فيهم، وفي تلك الرعاية تشريف وتكريم لهم.
فكأنه- سبحانه- يقول لهم: اجعلوا حمدكم وثناءكم لي وحدي. لأنى أنا رب العالمين.
وأنا الذي تعهدتكم برعايتي وعنايتي وتربيتي منذ تكوينكم من الطين حتى استويتم عقلاء مفكرين.
وقد أتبع- سبحانه- هذا الوصف وهو رَبِّ الْعالَمِينَ، بوصف آخر هو الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ لحكم سامية من أبرزها: أن وصفه- تعالى- رَبِّ الْعالَمِينَ أى: مالكهم، قد يثير في النفوس شيئا من الخوف أو الرهبة، فإن المربى قد يكون خشنا جبارا متعنتا، وذلك مما يخدش من جميل التربية، وينقص من فضل التعهد.
لذا قرن- سبحانه- كونه مربيا، بكونه الرحمن الرحيم، لينفى بذلك هذا الاحتمال، وليفهم عباده بأن ربوبيته لهم مصدرها عموم رحمته وشمول إحسانه، فهم برحمته يوجدون، وبرحمته يتصرفون ويرزقون، وبرحمته يبعثون ويسألون.
(١) تفسير الفخر الرازي ج ٤ ص ٣ طبعة المطبعة الشرقية سنة ١٣٣٤ هـ.
19
ولا شك أن في هذا الإفهام تحريضا لهم على حمده وعبادته بقلوب مطمئنة، ونفوس مبتهجة، ودعوة لهم إلى أن يقيموا حياتهم على الرحمة والإحسان، لا على الجبروت والطغيان، فالراحمون يرحمهم الرحمن.
مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ بعد أن بين- سبحانه- لعباده موجبات حمده، وأنه الجدير وحده بالحمد، لأنه المربى الرحيم، والمنعم الكريم، أتبع ذلك ببيان أنه- سبحانه- مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ.
والمالك وصف من الملك- بكسر الميم- بمعنى حيازة الشيء مع القدرة على التصرف فيه.
واليوم في العرف: ما يكون من طلوع الشمس إلى غروبها، وليس هذا مرادا هنا، وإنما المراد مطلق الزمن وهو يوم القيامة.
والدين: الجزاء والحساب، يقال: دنته بما صنع، أى: جازيته على صنيعه، ومنه قولهم.
كما تدين تدان. أى: كما تفعل تجازى، وفي الحديث (الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت) أى: حاسب نفسه: والمعنى: أنه- تعالى- يتصرف في أمور يوم الدين من حساب وثواب وعقاب، تصرف المالك فيما يملك، كما قال- تعالى- يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ.
وهناك قراءة أخرى للآية وهي ملك يوم الدين من الملك- بضم الميم- وعليها يكون المعنى: أنه- تعالى- هو المدبر لأمور يوم الدين، وأن له على ذلك اليوم هيمنة الملوك وسيطرتهم، فكل شيء في ذلك اليوم يجرى بأمره، وكل تصرف فيه ينفذ باسمه، كما قال- تعالى- لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ.
قال الإمام ابن كثير: «وتخصيص الملك بيوم الدين لا ينفيه عما عداه، لأنه قد تقدم الإخبار بأنه رب العالمين، وذلك عام في الدنيا والآخرة. وإنما أضيف إلى يوم الدين، لأنه لا يدعى أحد هنالك شيئا، ولا يتكلم أحد إلا بإذنه، كما قال- تعالى- يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا. لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً.
والملك في الحقيقة هو الله، قال- تعالى- هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ وفي الصحيحين عن أبى هريرة، عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «يقبض الله الأرض، ويطوى السماء بيمينه ثم يقول: أنا الملك أين ملوك الأرض؟ أين الجبارون، أين المتكبرون»
ثم قال: وأما تسمية غيره في الدنيا بملك فعلى سبيل المجاز كما قال- تعالى- إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً «١».
(١) تفسير ابن كثير ج ١ ص ٢٥.
20
وفي هذه الأوصاف التي أجريت على الله تعالى، من كونه ربا للعالمين وملكا للأمر كله يوم الجزاء، بعد الدلالة على اختصاص الحمد به في قوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ في كل ذلك دليل على أن من كانت هذه صفاته لم يكن أحد أحق منه للحمد والثناء عليه، بل لا يستحق ذلك على الحقيقة سواه، فإن ترتب الحكم على الوصف مشعر بعليته له» «١».
والمتدبر لهذه الآية الكريمة يراها خير وسيلة لتربية الإنسان وغرس الإيمان العميق في قلبه، لأنه إذا آمن بأن هناك يوما يظهر فيه إحسان المحسن وإساءة المسيء، وأن زمام الحكم في ذلك اليوم لله الواحد القهار، فإنه في هذه الحالة سيقوى عنده خلق المراقبة لخالقه، ويجتهد في السير على الطريق المستقيم.
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ كانت الآيات الثلاث التي تقدمت هذه الآية تقريرا للحقيقة في جانب الربوبية وعظمتها وعموم سلطانها وسعة رحمتها تقريرا جمع أمور الدنيا والآخرة ثم جاءت هذه الآية لتقرر أن الذي يجدر بنا أن نعبده وأن نستعين به إنما هو الله الذي تجلت أوصافه، ووضحت عظمته، وثبتت هيمنته على هذا الكون.
ولفظ «إيا» ضمير منفصل، و «الكاف» الملحقة به للخطاب.
والعبارة تفيد أن الطاعة البالغة حد النهاية في الخضوع والخشوع والتعظيم، والعبادة الصحيحة تتأتى للمسلّم بتحقق أمرين: إخلاصها لله، وموافقتها لما جاء به النبي صلّى الله عليه وسلّم.
قال ابن جرير: «لأن العبودية عند جميع العرب أصلها الذلة، وأنها تسمى الطريق المذلل الذي وطئته الأقدام وذللته السابلة معبدا» «٢».
والاستعانة: طلب المعونة، من أجل الاقتدار على الشيء والتمكن من فعله.
والمعنى: لك يا ربنا وحدك نخشع ونذل ونستكين، فقد توليتنا برعايتك وغمرتنا برحمتك، فنحن نخصك بطلب الإعانة على طاعتك وعلى أمورنا كلها، ولا نتوجه بهذا الطلب إلى أحد سواك، فأنت المستحق للعبادة، وأنت القدير على كل شيء، والعليم ببواطن الأمور وظواهرها، لا تخفى عليك طوية، ولا تتوارى عنك نية.
وقدم- سبحانه- المعبود على العبادة فقال: إِيَّاكَ نَعْبُدُ، لإفادة قصر العبادة عليه، وهو ما يقتضيه التوحيد الخالص.
(١) «فتح البيان ج ١ ص ٢٩. الشيخ صديق حسن خان.
(٢) تفسير ابن جرير ج ١ ص ١٩١.
21
وقال: نَعْبُدُ بنون الجماعة ولم يقل أعبد، ليدل على أن العبادة أحسن ما تكون في جماعة المؤمنين، وللإشعار بأن المؤمنين المخلصين يكونون في اتحادهم وإخائهم بحيث يقوم كل واحد منهم في الحديث عن شئونهم الظاهرة وغير الظاهرة مقام جميعهم، فهم كما قال النبي صلّى الله عليه وسلّم:
«المؤمنون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم».
وقدمت العبادة على الاستعانة، لكون الأولى وسيلة إلى الثانية. وتقديم الوسائل سبب في تحصيل المطالب، وليدل على أنهم لا يستقلون بإقامة العبادات، بل إن عون الله هو الذي ييسر لهم أداءها.
ولم يذكر المستعان عليه من الأعمال، ليشمل الطلب كل ما تتجه إليه نفس الإنسان من الأعمال الصالحة.
وجاءت الآية الكريمة بأسلوب الخطاب على طريقة الالتفات، تلوينا لنظم الكلام من أسلوب إلى أسلوب. وقد وضح هذا المعنى صاحب الكشاف فقال: «فإن قلت: لم عدل عن لفظ الغيبة إلى لفظ الخطاب؟ قلت: هذا يسمى الالتفات في علم البيان. وهو قد يكون من الغيبة إلى الخطاب، ومن الخطاب إلى الغيبة، ومن الغيبة إلى التكلم... وذلك على عادة العرب في افتنانهم في الكلام وتصرفهم فيه. لأن الكلام إذا نقل من أسلوب إلى أسلوب، كان ذلك أحسن تطرية لنشاط السامع، وإيقاظا للإصغاء إليه من إجرائه على أسلوب واحد: وقد تختص مواضعه بفوائد. ومما اختص به هذا الموضع: أنه لما ذكر الحقيق بالحمد، وأجرى عليه تلك الصفات العظام، تعلق العلم بمعلوم عظيم الشأن، حقيق بالثناء وغاية للخضوع والاستعانة في المهمات، فخوطب ذلك المعلوم المتميز بتلك الصفات فقيل: إياك يا من هذه صفاته نخصك بالعبادة والاستعانة، ولا نعبد غيرك ولا نستعينه... » «١».
هذا، وقد جاءت في فضل هذه الآية الكريمة آثار متعددة، ومن ذلك قول بعض العلماء:
الفاتحة سر القرآن، وسرها هذه الكلمة إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ فالأول تبرؤ من الشرك، والثاني تبرؤ من الحول والقوة والتفويض إلى الله» «٢».
ثم بين- سبحانه- أن أفضل شيء يطلبه العبد من ربه، إنما هو هدايته إلى الطريق الذي يوصل إلى أسمى الغايات، وأعظم المقاصد، فقال- تعالى-:
اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ. صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ. غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ،
(١) تفسير الكشاف ج ١ ص ١٣ طبعة بيروت.
(٢) تفسير ابن كثير ج ١ ص ٢٥ طبعة الحلبي.
22
والهداية: هي الإرشاد والدلالة بلطف على ما يوصل إلى البغية، وتسند الهداية إلى الله وإلى النبي وإلى القرآن، وقد يراد منها الإيصال إلى ما فيه خير، وهي بهذا المعنى لا تضاف إلى الله- تعالى-.
قال أبو حيان في البحر ما ملخصه: وقد تأتى بمعنى التبيين كما في قوله- تعالى- وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ أى بينا لهم طريق الخير. أو بمعنى الإلهام كما في قوله تعالى. قالَ: فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى؟ قالَ: رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى. قال المفسرون معناه: ألهم الحيوانات كلها إلى منافعها، أو بمعنى الدعاء كما في قوله. تعالى: وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ أى: داع.
والأصل في هدى أن يصل إلى ثانى معموليه باللام كما في قوله. تعالى. إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ أو بإلى كما في قوله تعالى: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ثم يتسع فيه فيعدى إليه بنفسه ومنه: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ «١».
والصراط: الجادة والطريق، من سرط الشيء إذا ابتلعه، وسمى الطريق بذلك لأنه يبتلع المارين فيه، وتبدل سينه صاد على لغة قريش.
والمستقيم: المعتدل الذي لا اعوجاج فيه.
وأنعمت عليهم: النعمة لين العيش وخفضه، ونعم الله كثيرة لا تحصى غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ الغضب هيجان النفس وثورتها، عند الميل إلى الانتقام، وهو ضد الرضا. وإذا أسند إلى الله فسر بمعنى إرادة الانتقام أو بمعنى الانتقام نفسه.
والموافق لمذهب السلف أن يقال: هو صفة له- تعالى- لائقة بجلاله لا نعلم حقيقتها مجردة عن اللوازم البشرية وإنما نعرف أثرها وهو الانتقام من العصاة، وإنزال العقوبة بهم.
والمعنى: اهدنا يا ربنا إلى طريقك المستقيم، الذي يوصلنا إلى سعادة الدنيا والآخرة، ويجعلنا مع الذين أنعمت عليهم من خلقك، وجنبنا يا مولانا طريق الذين غضبت عليهم من الأمم السابقة أو الأجيال اللاحقة بسبب سوء أعمالهم وطريق الذين هاموا في الضلالات، فانحرفوا عن القصد، وحق عليهم العذاب.
وفي هذا الدعاء أسمى ألوان الأدب، لأن هذا الدعاء قد تضرع به المؤمنون إلى خالقهم بعد أن اعترفوا له- سبحانه- قبل ذلك بأنه هو المستحق لجميع المحامد، وأنه هو رب العالمين، والمتصرف في أحوالهم يوم الدين.
قال الإمام ابن كثير: وهذا أكمل أحوال السائل. أن يمدح مسئوله ثم يسأل حاجته وحاجة
(١) تفسير البحر المحيط لأبى حيان ج ١ ص ٢٥.
23
إخوانه المؤمنين بقوله: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ لأنه أنجح للحاجة، وأنجع للإجابة، ولهذا أرشدنا الله إليه لأنه الأكمل «١».
وقد تكلم المفسرون كلاما كثيرا عن المراد بالصراط المستقيم الذي جعل الله طلب الهداية إليه في هذا السورة أول دعوة علمها لعباده. والذي نراه: أن أجمع الأقوال في ذلك أن المراد بالصراط المستقيم، هو ما جاء به الإسلام من عقائد وآداب وأحكام، توصل الناس متى اتبعوها إلى سعادة الدنيا والآخرة، فإن طريق السلام هو الطريق الذي ختم الله به الرسالات السماوية، وجعل القرآن دستوره الشامل، ووكل إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم أمر تبليغه وبيانه.
وقد ورد في الأحاديث النبوية ما يؤيد هذا القول، ومن ذلك ما أخرجه الإمام أحمد في مسنده، عن النواس بن سمعان، عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «ضرب الله مثلا صراطا مستقيما، وعلى جنبتي الصراط سوران فيهما أبواب مفتحة، وعلى الأبواب ستور مرخاة، وعلى باب الصراط داع يقول: يا أيها الناس ادخلوا الصراط جميعا ولا تعوجوا، وداع يدعو من فوق الصراط، فإذا أراد الإنسان أن يفتح شيئا من تلك الأبواب قال له: ويحك لا تفتحه، فإنك إن تفتحه تلجه، فالصراط الإسلام، والسوران حدود الله، والأبواب المفتحة محارم الله، وذلك الداعي من فوق الصراط واعظ الله في قلب كل مسلّم».
والمراد بقوله- تعالى- اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ أى: ثبتنا عليه، واجعلنا من المداومين على السير في سبيله، فإن العبد مفتقر إلى الله في كل وقت لكي يثبته على الهداية، ويزيده منها، ويعينه عليها. وقد أمر سبحانه المؤمنين أن يقولوا: رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ.
وجملة صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ بدل من الصراط المستقيم.
ولم يقل: اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم مستغنيا عن ذكر الصراط المستقيم، ليدل أن صراط هؤلاء المنعم عليهم هو الصراط المستقيم.
وقال: صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ولم يقل صراط الأنبياء أو الصالحين، ليدل على أن الدين في ذاته نعمة عظيمة، ويكفى للدلالة على عظمتها إسنادها إليه- تعالى- في قوله:
أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ لأن المراد بالإنعام هنا- على الراجح- الإنعام الديني. فالمنعم عليهم هم من عرفوا الحق فتمسكوا به، وعرفوا الخير فعملوا به.
قال بعض العلماء: (وإنما اختار في البيان أن يضيف الصراط إلى المنعم عليهم لمعنيين:
(١) تفسير ابن كثير ج ١ ص ٢٦.
24
أولهما: هو إبراز نفسية المحب المخلص، وأنه يكون شديد الاحتياط دقيق التحري عن الطريق الموصل إلى ساحة الرضا في ثقة تملأ نفسه، وتفعم قلبه، ولا يجد في مثل هذا المقام ما يملأ نفسه ثقة إلا أن يبين الطريق، بأنه الطريق الذي وصل بالسير عليه من قبله الأنبياء والصديقون والشهداء والصالحون.
وثانيهما: أن من خواطر المؤمل في نعيم ربه أن يكون تمام أنسه في رفقة من الناس صالحين، وصحب منهم محسنين «١».
وقوله- تعالى- غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ بدل من الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ وأتى في وصف الإنعام بالفعل المسند إلى الله- تعالى- فقال: أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ وفي وصف الغضب باسم المفعول فقال: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وفي ذلك تعليم لأدب جميل، وهو أن الإنسان يجمل به أن يسند أفعال الإحسان إلى الله، ويتحامى أن يسند إليه أفعال العقاب والابتلاء، وإن كان كل من الإحسان والعقاب صادرا منه، ومن شواهد هذا قوله- تعالى- حكاية عن مؤمنى الجن وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً «٢».
وحرف (لا) في قوله وَلَا الضَّالِّينَ جيء به لتأكيد معنى النفي المستفاد من كلمة غير.
والمراد بالمغضوب عليهم اليهود. وبالضالين النصارى. وقد ورد هذا التفسير عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في حديث رواه الإمام أحمد في مسنده وابن حبان في صحيحه.
ومن المفسرين من قال بأن المراد بالمغضوب عليهم من فسدت إرادتهم حيث علموا الحق ولكنهم تركوه عنادا وجحودا، وأن المراد بالضالين من فقدوا العلم فهم تائهون في الضلالات دون أن يهتدوا إلى طريق قويم.
وقدم المغضوب عليهم على الضالين، لأن معنى المغضوب عليهم كالضد لمعنى المنعم عليهم، ولأن المقابلة بينهما أوضح منها بين المنعم عليهم والضالين، فكان جديرا بأن يوضع في مقابلته قبل الضالين.
قال العلماء: ويستحب لمن يقرأ الفاتحة أن يقول بعدها (آمين) ومعناه اللهم استجب وليس هذا اللفظ من القرآن بدليل أنه لم يثبت في المصاحف والدليل على استحباب التأمين ما رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي عن وائل بن حجر قال: سمعت النبي صلّى الله عليه وسلّم قرأ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ فقال: (آمين) مد بها صوته.
(١) تفسير سورة الفاتحة لفضيلة الأستاذ الشيخ حامد محيسن بمجلة الأزهر السنة ٢٢ العدد ١٣ ص ٨٨٥
(٢) تفسير سورة الفاتحة لفضيلة الإمام الأكبر المرحوم محمد الخضر حسين بمجلة لواء الإسلام العدد الأول من سنة الأولى ص ١٠.
25
وفي الصحيحين عن أبى هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا أمن الإمام فأمنوا، فإن من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر الله له ما تقدم من ذنبه».
هذا، وقد أفاض العلماء في الحديث عما اشتملت عليه سورة الفاتحة من آداب وعقائد وعبادات وأحكام، ومن ذلك قول ابن كثير.
(اشتملت هذه السورة الكريمة، وهي سبع آيات- على حمد الله وتمجيده والثناء عليه بذكر أسمائه الحسنى المستلزمة لصفاته العليا، وعلى ذكر المعاد وهو يوم الدين، وعلى إرشاد عبيده إلى سؤاله والتضرع إليه والتبري من حولهم وقوتهم، إلى إخلاص العبادة له وتوحيده بالألوهية، وتنزيهه عن أن يكون له شريك أو نظير، وإلى سؤالهم إياه الهداية إلى الصراط المستقيم، وهو الدين القويم وتثبيتهم عليه، واشتملت على الترغيب في الأعمال الصالحة ليكونوا مع أهلها يوم القيامة، والتحذير من مسالك الباطل لئلا يحشروا مع سالكيها يوم القيامة، وهم المغضوب عليهم والضالون) «١».
وقال بعض العلماء: سورة الفاتحة مشتملة على أربعة أنواع من العلوم هي مناط الدين.
أحدها: علم الأصول وإليه الإشارة بقوله الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ. الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، ومعرفة النبوات وإليه الإشارة بقوله: أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ومعرفة المعاد وإليه الإشارة بقوله مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ.
وثانيها: علم الفروع وأعظمه العبادات وإليه الإشارة بقوله إِيَّاكَ نَعْبُدُ.
وثالثها: علم الأخلاق، وإليه الإشارة بقوله وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ. اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ.
ورابعها: علم القصص والأخبار عن الأمم السابقة السعداء منهم والأشقياء، وهو المراد بقوله صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ.
وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم.
(١) تفسير ابن كثير ج ١ ص ٣٠.
26
سورة البقرة
سورة البقرة أطول سورة في القرآن الكريم، فقد استغرقت جزءين ونصف جزء تقريبا من ثلاثين جزءا قسم إليها القرآن. وتبلغ آياتها ستا وثمانين ومائتي آية. وقيل سبع وثمانون ومائتا آية.
وسميت بذلك لأنها انفردت بذكر قصة البقرة التي كلف قوم موسى بذبحها بعد أن قتل فيهم قتيل ولم يعرفوا قاتله.
وهي مدنية بإجماع الآراء، وقد ابتدأ نزولها بعد هجرة النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة، وقد نزل معظمها في السنوات الأولى من الهجرة، واستمر نزولها إلى قبيل وفاة النبي صلّى الله عليه وسلّم بفترة قليلة.
وكانت آخر آية من القرآن نزولا منها، هي قوله- تعالى-:
وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ.
مناسبتها لسورة الفاتحة: هناك مناسبة ظاهرة بين السورتين، لأن سورة الفاتحة قد اشتملت على أحكام الألوهية والعبودية وطلب الهداية إلى الصراط المستقيم اشتمالا إجماليا، فجاءت سورة البقرة ففصلت تلك المقاصد، ووضحت ما اشتملت عليه سورة الفاتحة من هدايات وتوجيهات.
فضلها: وقد ورد في فضل سورة البقرة أحاديث متعددة، وآثار متنوعة منها ما جاء في مسند أحمد وصحيح مسلّم والترمذي والنسائي عن أبى هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: لا تجعلوا بيوتكم قبورا، فإن البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة لا يدخله الشيطان.
وروى ابن حبان في صحيحه عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم (إن لكل شيء سنام وإن سنام القرآن البقرة، وإن من قرأها في بيته لم يدخله الشيطان ثلاث ليال، ومن قرأها في بيته نهارا لم يدخله الشيطان ثلاثة أيام).
وروى الترمذي والنسائي وابن ماجة عن أبى هريرة قال: (بعث النبي صلّى الله عليه وسلّم بعثا، وهم ذوو عدد فاستقرأ كل واحد منهم عما معه من القرآن، فأتى على رجل من أحدثهم سنا فقال:
ما معك يا فلان؟ فقال: معى كذا وكذا وسورة البقرة. فقال: أمعك سورة البقرة؟ قال:
نعم. قال. اذهب فأنت أميرهم. فقال رجل من أشرافهم: والله ما منعني أن أتعلم سورة البقرة إلا أنى خشيت ألا أقوم بها. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اقرءوا القرآن وتعلموه، فإن مثل القرآن
27
لمن تعلمه فقرأه وقام به كمثل جراب أوكى أى أغلق- على مسك.
قال القرطبي: وهذه السورة فضلها عظيم، وثوابها جسيم، ويقال لها فسطاط القرآن، وذلك لعظمها وبهائها وكثرة أحكامها ومواعظها «١».
مقاصدها: عند ما نفتح كتاب الله فنطالع فيه سورة البقرة بتدبر وعناية، نراها في مطلعها تنوه بشأن القرآن الكريم، وتصرح بأنه حق لا ريب فيه، وتبين لنا أن الناس أمام هدايته على ثلاثة أقسام:
قسم آمن به وانتفع بهداياته فكانت عاقبته السعادة والفلاح.
أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وقسم جحد واستكبر واستحب العمى على الهدى، فأصبح لا يرجى منه خير ولا إيمان، فكانت عاقبته الحرمان والخسران.
خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ.
ثم فصلت السورة الحديث عن قسم ثالث هو شر ما تبتلى به الأمم وهم المنافقون الذين يظهرون خلاف ما يبطنون. وقد تحدثت السورة عنهم في ثلاث عشرة آية، كشفت فيها عن خداعهم، وجبنهم، ومرض قلوبهم، وبينت ما أعده الله لهم من سوء المصير، ثم زادت في فضيحتهم وهتك سرائرهم فضربت مثلين لحيرتهم واضطرابهم، قال- تعالى-:
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ. يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ.
إلى أن يقول: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
ثم وجهت السورة نداء إلى الناس جميعا دعتهم فيه إلى عبادة الله وحده وأقامت لهم الأدلة الساطعة على صدق هذه القضية، وتحدتهم- إن كانوا في ريب من القرآن- أن يأتوا بسورة من مثله. وبينت لهم أنهم لن يستطيعوا ذلك لا في الحاضر ولا في المستقبل.
ثم ختم الربع الأول منها ببشارة الذين آمنوا وعملوا الصالحات بأن لهم جنات تجرى من تحتها الأنهار، جمعت لذائذ المادة والروح، وهم فيها خالدون. ثم قررت السورة الكريمة أن الله- تعالى- لا يمتنع عن ضرب الأمثال بما يوضح ويبين دون نظر إلى قيمة الممثل به في ذاته أو عند
(١) تفسير القرطبي ج ١ ص ١٥٢.
28
الناس، كما قررت أن المؤمنين يقابلون هذه الأمثال بالإيمان والإذعان، أما الكافرون فيقابلونها بالاستهزاء والإنكار.
وقد وبخت السورة بعد ذلك أولئك الكافرين على كفرهم، مع وضوح الدلائل على وحدانية الله في أنفسهم وفي الآفاق فقالت:
كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ، ثُمَّ يُحْيِيكُمْ، ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ. هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً، ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ.
ثم ذكرت السورة بعد ذلك جانبا من قصة آدم، وقد حدثتنا فيه عن خلافة آدم في الأرض، وعما كان من الملائكة من استفسار بشأنه- وعن سكن آدم وزوجه الجنة، ثم عن خروجهما منها بسبب أكلهما من الشجرة المحرمة.
وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً، قالُوا: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ، قالَ: إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ.. إلخ الآيات الكريمة.
هذا، وقد عرفنا قبل ذلك أن سورة البقرة نزلت بالمدينة بعد أن هاجر المسلمون إليها، وأصبحت لهم بها دولة فتية، وكان يجاورهم فيها عدد كبير من اليهود الذين كان أحبارهم يبشرون. بمبعث النبي صلّى الله عليه وسلّم. فأخذت السورة الكريمة تتحدث عنهم- في أكثر من مائة آية- حديثا طويلا متشعبا..
فنراها في أواخر الربع الثاني توجه إليهم نداء محببا إلى نفوسهم، تدعوهم فيه إلى الوفاء بعهودهم، وإلى الإيمان بنبي الله محمد صلّى الله عليه وسلّم فتقول:
يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ، وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ. وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ، وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ.
ثم تذكرهم في الربع الثالث بنعم الله عليهم، وبموقفهم الجحودى من هذه النعم، تذكرهم بنعمة تفضيلهم على عالمي زمانهم، وبنعمة إنجائهم من عدوهم، وبنعمة فرق البحر بهم، وبنعمة عفو الله عنهم مع تكاثر ذنوبهم، وبنعمة بعثهم من بعد موتهم، وبنعمة تظليلهم بالغمام، وبنعمة إنزال المن والسلوى عليهم. إلخ.
29
ولقد كان موقف بنى إسرائيل من هذه النعم يمثل الجحود والعناد والبطر، فكانت نتيجة ذلك أن.
ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ، وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ.
ثم تحدثت السورة بعد ذلك حديثا مستفيضا عن رذائلهم وقبائحهم ودعواهم الباطلة، والعقوبات التي حلت بهم جزاء كفرهم وجحودهم.
فنراها في الربع الرابع تذكر لنا تنطعهم في الدين وإلحافهم في المسألة عند ما قال لهم نبيهم موسى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً. ثم تذكر قسوة قلوبهم فتقول على سبيل التوبيخ لهم:
ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً، وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ، وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ. وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ.
ونراها في الربع الخامس تحدثنا عن تحريفهم للكلم عن مواضعه عن تعمد وإصرار، وتتوعدهم على ذلك بسوء المصير:
فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا، فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ.
ثم تحدثنا عن قولهم الباطل: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً.
وترد عليهم بما يبطل حجتهم، وعن نقضهم لعهودهم ومواثيقهم مع الله ومع الناس ومع أنفسهم، وعن عدائهم لرسول الله، وعن جحودهم للحق بدافع الحسد والعناد فتقول:
وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا، فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ. بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً، أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ، فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ.
ثم نراها في الربع السادس تحكى لنا نماذج من مزاعمهم الباطلة، ومن ذلك زعمهم أن الجنة خالصة لهم من دون الناس، ثم ترد عليهم بما يخرس ألسنتهم، وبصور جبنهم وحرصهم المشين على أية حياة حتى لو كانت ملطخة بالذل والهوان.
استمع إلى القرآن الكريم وهو يحكى ذلك بأسلوبه البليغ فيقول:
قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ
30
صادِقِينَ. وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ، وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا، يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ، وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ.
ثم تسوق لنا نماذج من سوء أدبهم مع الله، وعداوتهم لملائكته ونبذهم كتاب الله، واتباعهم للسحر والأوهام.
ثم نراها في الربع السابع تقص علينا بعض الصور من المجادلات الدينية، والمخاصمات الكلامية، التي استعملوها مع النبي صلّى الله عليه وسلّم لحرب الدعوة الاسلامية، كجدالهم في قضية النسخ، وفي كون الجنة لن يدخلها لا من كان هودا أو نصارى، وفي كون القرآن ليس معجزة- في زعمهم- وإنما هم يريدون معجزة كونية.. إلخ.
وقد رد القرآن عليهم بما يزهق باطلهم، ويزيد المؤمنين إيمانا على إيمانهم.
وكما ابتدأ القرآن الحديث معهم ابتداء محببا إلى نفوسهم يا بَنِي إِسْرائِيلَ، فقد اختتمه- أيضا- بالنداء نفسه، لكي يستحثهم على الإيمان فقال:
يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ. وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً، وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ، وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ، وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ.
ثم أخذت السورة بعد ذلك في الربع الثامن منها تحدثنا عن الكلمات التي اختبر الله بها نبيه إبراهيم، وعن قصة بناء البيت الحرام، وعن تلك الدعوات الخاشعات التي كان إبراهيم وإسماعيل يتضرعان بها إلى خالقهما وهما يقومان بهذا العمل الجليل.
رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ. رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ، وَأَرِنا مَناسِكَنا، وَتُبْ عَلَيْنا، إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ.
ثم أخذت تقيم الحجج الباهرة، والأدلة الساطعة على أن إبراهيم ما كان يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما، وعلى أن يعقوب قد وصى ذريته من بعده أن يعبدوا الله وحده ولا يشركوا به شيئا.
ثم ختمت تلك المحاورات والمجادلات التي أبطلت بها دعاوى أهل الكتاب الباطلة، ببيان سنة من سنن الله في خلقه، هذه السنة تتلخص في بيان أن كل إنسان سيجازى بحسب عمله يوم القيامة، إن خيرا فخير وإن شرا فشر، وأن اتكال اليهود- أو غيرهم- على أنهم من نسل الأنبياء أو الصالحين دون أن يعملوا بعملهم لن ينفعهم شيئا. فقال- تعالى-:
تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ، لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ، وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ.
31
ثم عادت السورة في الربع التاسع منها إلى الحديث عن الشبهات التي أثارها اليهود عند تحويل القبلة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام، وقد رد القرآن عليهم بما يدحض هذه الشبهات، ويهوى باليهود ومن حذا حذوهم في مكان سحيق، قال- تعالى-:
سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها، قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ إلى أن يقول: وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ، وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ، لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ، إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي، وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ.
وإلى هنا تكون السورة الكريمة قد فصلت الحديث عن بنى إسرائيل تفصيلا يحمل المسلمين على العظة والاعتبار، ويعرفهم طبيعة أولئك القوم الذين خسروا أنفسهم حتى يأخذوا حذرهم منهم، وينفروا من التشبه بهم.
أما المقدار الباقي من السورة الكريمة- وهو أكثر من نصفها بقليل- فعند ما نراجعه بتفكر وتدبر، نراه زاخرا بالتشريعات الحكيمة، والآداب العالية، والتوجيهات السامية.
نرى السورة الكريمة في هذا المقدار منها تحدثنا في الربع العاشر منها عن بعض شعائر الله التي تتعلق بالحج، وعن الأدلة على وحدانية الله.
إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ. إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ، وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ، وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ، وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ.
ثم بعد أن تصور لنا بأسلوب بليغ مؤثر حسرة المشركين يوم القيامة وهم يتبادلون التهم، ويتبرأ بعضهم من بعض، بعد كل ذلك توجه نداء عاما إلى الناس، تأمرهم فيه أن يقيدوا أنفسهم بما أحل الله.. وأن يبتعدوا عن محارمه فتقول:
يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ. إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ.
فإذا ما وصلنا إلى الربع الحادي عشر منها، رأيناها تسوق لنا في مطلعه آية جامعة لألوان البر، وأمهات المسائل الاعتقادية والعملية وهي قوله- تعالى-:
لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ. إلخ.
32
ثم أتبعت ذلك بالحديث عن القصاص، وعن الوصية، وعن الصيام وحكمته، وعن الدعاء وآدابه، ونهت المسلمين في ختامها عن مقارفة الحرام في شتى صوره وألوانه فقالت:
وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ، لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ.
وفي مطلع الربع الثاني عشر حكت بعض الأسئلة التي كان المسلمون يوجهونها إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، وأجابت عنها بطريقة حكيمة تدعوهم إلى التدبر والاتعاظ، ثم حضت المسلمين على الجهاد في سبيل الله، ونهتهم عن البغي والاعتداء. استمع إلى القرآن وهو يحرض المؤمنين على القتال ويرسم لهم حدوده وآدابه فيقول:
وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ. وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ، وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ، وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ، فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ. كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ. فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ، فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ.
ثم فصلت السورة الحديث عن الحج، فتحدثت عن جانب من آدابه وأحكامه، وحضت المسلمين على الإكثار من ذكر الله، وأن يتجنبوا التفاخر بالأحساب والأنساب، وأن يرددوا في دعائهم قوله- تعالى-:
رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ.
وفي الربع الثالث عشر نراها تبين لنا ألوان الناس في هذه الحياة، وأن منهم من يسعى في الإفساد وإهلاك الحرث والنسل، فإذا ما نصح أخذته العزة بالإثم، وتمادى في طغيانه وإفساده، وأن منهم من يبيع نفسه عن طواعية واختيار ابتغاء مرضاة الله.
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ، وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ.
ثم تبين لنا بأن الناس جميعا كانوا أمة واحدة، وأن هذه الحياة مليئة بالمصائب والمحن والفتن، وأن العاقل هو الذي يقابل كل ذلك بإيمان عميق، وصبر جميل، حتى يفوز برضى الله يوم القيامة، ويظفر بنصره في الحياة الدنيا.
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ: مَتى نَصْرُ اللَّهِ؟ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ.
ثم تحدثنا السورة الكريمة في الربعين الرابع عشر والخامس عشر حديثا جامعا عن النكاح
33
وما يتعلق به من أحكام، فحدثتنا عن الإيلاء وعن الطلاق. وعن الرضاع، وعن العدة، وعن الخطبة، وعن غير ذلك مما يتعلق بهذا الشأن، ثم ختمت حديثها بهذه الآية الكريمة:
كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ.
ثم عادت السورة في الربع السادس عشر منها إلى الحديث عن الملأ من بنى إسرائيل:
.. قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ: ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ.
فساقت لنا قصتهم بأسلوب زاخر بالعظات والعبر، التي من أهمها أن الدين هو أساس العزة والمنعة، وأن الشدائد من شأنها أن تصهر النفوس فتجعلها تتجه إلى معالى الأمور، وأن الأمير يجب أن يكون له من قوة العقل وقوة الجسم وسعة العلم، وكمال التجربة- ما يقود به أمته إلى صالح الأمور، وأن العاقل هو الذي يسلك الوسائل السليمة لبلوغ غايته الشريفة، ثم يفوض الأمور بعد ذلك إلى الله.
وفي الربع السابع عشر منها أفاضت في الحديث عن مظاهر قدرة الله ووحدانيته، وأقامت على ذلك من الأدلة ما يشفى الصدور، ويطمئن القلوب، ويزيد المؤمنين إيمانا، استمع إلى آية الكرسي وهي تصور عظمة الله وقدرته فنقول.
اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ، لَهُ ما فِي السَّماواتِ، وَما فِي الْأَرْضِ، مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ، يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ، وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ، وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ.
وبعد هذا الحديث عن مظاهر قدرة الله ساقت السورة في أواخرها أنماطا من التوجيهات التي تسعد المجتمع، وتنزع الأحقاد من قلوب الأفراد، فقد حضت المسلمين في جملة من آياتها على الإنفاق والإحسان، وضربت لذلك أروع الأمثال ونهتهم عن المن والأذى، وصرحت بأن الكلمة الطيبة للسائل خير من العطاء الذي تتبعه الإساءة.
قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ.
ثم بعد أن عقدت مقارنه مؤثرة بين من ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله، وبين من ينفقونها رئاء الناس، بعد كل ذلك مدحت الفقراء الذين يتعففون عن السؤال، ولا يلجئون إليه إلا عند الضرورة القصوى فقالت:
لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ، وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ، وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ، وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ. لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ، تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً، وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ.
34
ثم حذرت السورة بعد ذلك المؤمنين من التعامل بالربا، ووصفت آكليه بصفات تنفر منها القلوب، وتعافها النفوس، ووجهت إلى المؤمنين نداء أمرتهم فيه بتقوى الله، وأنذرتهم بحرب من الله لهم إن لم يتوبوا عن التعامل بالربا فقالت:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ.
ثم تحدثت بعد ذلك عن الديون والرهون، فصاغت للمؤمنين دستورا هو أدق الدساتير المدنية في حفظ الحقوق وضبطها وتوثيقها بمختلف الوسائل، ثم ختمت السورة حديثها الجامع عن العقائد والشرائع والآداب والمعاملات، بذلك الدعاء الخاشع:
رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا، رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا، رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ، وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا، أَنْتَ مَوْلانا، فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ.
تلك هي سورة البقرة، أرأيت وحدتها في كثرتها؟ أعرفت اتجاه خطوطها في لوحتها؟ أرأيت كيف التحمت لبناتها وارتفعت سماؤها بغير عمد تسندها؟ أرأيت كيف ينادى كل عضو فيها بأنه قد أخذ مكانه المقسوم وفقا لخط جامع مرسوم، رسمه مربى النفوس ومزكيها، ومنور العقول وهاديها ومرشد الأرواح وحاديها. فتالله لو أن هذه السورة رتبت بعد تمام نزولها، لكان جمع أشتاتها على هذه الصورة معجزة، فكيف وكل نجم منها كان يوضع في رتبته من فور نزوله، وكان يحفظ لغيره مكانه انتظارا لحلوله. وهكذا كان ما ينزل منها معروف الرتبة، محدد الموقع قبل أن ينزل.
لعمري لئن كانت للقرآن في بلاغة تعبيره معجزات، وفي أساليب ترتيبه معجزات، وفي نبوءاته الصادقة معجزات، وفي تشريعاته الخالدة معجزات، وفي كل ما استخدمه من حقائق العلوم النفسية والكونية معجزات لعمري إنه في ترتيب آياته على هذا الوجه لهو معجزة المعجزات «١».
وبعد: فهذا عرض سريع لأهم مقاصد سورة البقرة، قدمناه بين يديها لنعطى القارئ الكريم صورة متميزة عنها. ومن هذا العرض نرى أنها بجانب احتوائها على أصول العقائد، وعلى كثير من أدلة التوحيد، قد وجهت عنايتها إلى أمرين اقتضتهما حالة المسلمين، بعد أن
(١) من كتاب «النبأ العظيم» ص ٢٠٨ لفضيلة الدكتور محمد عبد الله دراز.
35
أصبحت لهم دولة بالمدينة يجاورهم فيها عدد كبير من اليهود.
أما الأمر الأول فهو توجيه الدعوة إلى بنى إسرائيل، ومناقشتهم فيما كانوا يثيرونه حول الرسالة الإسلامية من مؤامرات. وإماطة اللثام عن تاريخهم المظلم، وأخلاقهم المرذولة حتى يحذرهم المسلمون.
وأما الأمر الثاني فهو التشريع للدولة الإسلامية الفتية، وقد رأينا أن سورة البقرة في النصف الثاني منها قد تحدثت عن تلك الجوانب التشريعية حديثا مفصلا منوعا تناول أحكام القصاص، والوصية، والصيام والاعتكاف والحج، والعمرة، والقتال، والنكاح، والإنفاق في سبيل الله.
والمعاملات المالية. إلى غير ذلك من التشريعات التي سبق الحديث عنها. والآن فلنبدأ في تفسير السورة الكريمة فنقول- وبالله التوفيق-.
36
Icon